السبت، 16 فبراير 2013

نظرة اقتصادية متعمقة في قوله - تعالى -: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾

[1]
الحمد الله الذى أنزل الكتاب لهداية الخلق أجمعين، وبعث سيد المرسلين سيدنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على الصراط المستقيم؛ ليَهدي الخلق إلى الطريق القويم.

إن الأزمات الاقتصادية التي تَعصِف بكثير من بلاد المسلمين الآن هي حقًّا مشكلات مزمنة، تركت في نفوس المسلمين آثارًا سيئة؛ بسبب طول زمانها المتعاقب على الحكومات المتعدِّدة والمتنوعة، وكانت كل حكومة تأتي تطلق الوعود للشعوب بأنها هي الحكومة التي في يدها الحل السحري للمشكلات الاقتصادية المُزمنة، ثم تذهب حكومة تلو الأخرى ولا تُصلح شيئًا، بل يزيد الأمر سوءًا.

وكانت تلك الحكومات تتَّجه يمينًا تارةً، ويسارًا تارة؛ لعلها تصادف حلولاً،؛ فمنهم من اتجه ناحية النظرية الاقتصادية الاشتراكية ولم يُفلح، ومنهم مَن اتجه نحو الليبرالية الرأسمالية ولم يفلح، ومنهم من يريد أن يثبت نجاح النظرية الرأسمالية السوقية، مع أنها كلما يمر الوقت تزيد احتمالات فشلها.

وقد أثبت التاريخ الإسلامي أن تقديم العدالة الاجتماعية - وهى جزء أصيل في أيِّ نظرية اقتصادية - وجعلها أولى الخطوات في أيِّ نظرية، هو الأساس لبناء اقتصاد قويٍّ قائم على العدل في الحقوق والواجبات، فأول بند في العدالة الاجتماعية أن يعرف الناس ما لهم مِن حقوق، وأنهم متساوون تمامًا في ذلك، وقد أرسى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه القاعدة في قوله: ((لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى))، وما عليهم من واجبات، وهذا ما قصدناه مِن قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 10].

[ 2 ]
وانظر إلى الآيتَين 8، 9 من نفس السورة، وكيف أن الله أعطى الأدوات التي يستطيع بها الإنسان أن يختار بين البدائل والاقتصاد في معناه الحقيقي، هو الاختيار بين البدائل، والإنسان عندما يعرف ما له وما عليه، فسوف يجتهد في تحصيل ما له بأعلى قدر مِن المجهود حتى يستطيع أن يَحصد نتائج مُرضيَة لطموحه، ويحاول أن يتجنَّب ما يؤثر في هذا المجهود أو النتائج تأثيرًا لا يُرضيه تمامًا، كالمؤمن الذى يعرف أن نتيجة عمله الصالح ستكون ثمرته الجنة، ونتيجة عمله السيئ ستكون ثمرته النار.

فالإنسان الذى يعلم ما له وما عليه يرجو الثمرة الصالحة، ويتجنب الثمرة الطالحة، ولنضرب مثالاً:
إذا ذهب إنسان ليعمل في شركة أو خلافه، أول ما يريد أن يعرف هو ماذا سيعمل، وكم سيأخذ، وهذا هو الحق والواجب، ثم سيَسأل نفسه سؤالاً معتادًا: هل هذا الراتب أو الحق مُكافئ للمجهود المبذول في العمل أو الواجب؟ وهل هذا الراتب سيَفي باحتياجاتي من متطلبات الحياه أم لا؟ ثم يكون القرار النهائي بالقبول أو الرفض، فإن قبل وإلا فسينظر في بديل آخَر، وهكذا.

في هذا المثال عندما قامت الشركة بتوضيح الحق والواجب للعامل، فقد بيَّنت طريقها، فإن وافق فقد سار معها في طريقها، وإن رفض فسوف يذهب إلى شركة أخرى لتُبيِّن له أيضًا طريقها، وهكذا كل شركة قالت هذا طريقي، وبناءً على هذا التوضيح، قام هذا العامل بالاختيار بين الطريقَين، بعدما عرف ما له من حقوق، وما عليه من واجبات.

ومن هذه المقدِّمة نخلص إلى أن الحافز على العمل والإنتاج، ومعرفة الحقوق والواجبات، والمساواة بين الناس جميعًا، وعدم المفاضلة بينهم إلا بالإنتاج والعمل؛ كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إلا بالتقوى))، والتقوى هنا هي العمل والإنتاج.

والوعود البرَّاقة لا تصلح لرفع مستوى معيشة الناس أو رفع مُعدَّلات النمو الاقتصادي، وقد فشلت النظرية الاشتراكية بسبب أنها كانت تقول للناس: نرفع معدَّل النمو، ثم نقوم بالتوزيع عليكم، وهذا ليس صوابًا، وإنما الصواب أن توزَّع ثمارُ النمو أولاً بأول، مهما كانت ضئيلة وبسيطة؛ فأول الغيث قطرة، وهذه هي النظرية التي تقوم على أن الشعور بالعدالة يحفز على العمل والإنتاج، وبالتالي زيادة معدلات النمو الاقتصادي.

[3]

والمشاكل الاقتصادية لا تُحل بين يوم وليلة، وخصوصًا إذا كانت مُزمِنة ومستعصية، ولكن كل مشكلة لها حلٌّ، وكل داءٍ له دواء؛ ألم يقل الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أنزل الله داءً إلا وأنزل له دواء))، والأدواء ليست مادية وحسب؛ بل هي معنوية أيضًا، وهما يؤثِّران في بعضهما البعض.

ولننظر إلى مشكلتَين مِن أهمِّ المشاكل في أي اقتصاد معاصر، وهما الفقر والبطالة، وكيف أن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - لم يتركهما لاقتصاد السوق يحلُّهما أو يَزيدهما سوءًا، بل واجَههما في مجتمع المدينة الذي كان يُمثِّل نصفه من الفقراء، وهم المهاجرون الذين لا يملكون بيتًا أو عملاً، أو حتى مالاً، وقد أرسى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبدأ قامت عليه العدالة الاجتماعية بعد ذلك، وهو مبدأ المؤاخاة، وقد كان هذا المبدأ سببًا في الاستقرار الاقتصادي، ومع إرساء هذا المبدأ لم يترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالعمل والإنتاج، فعندما جاءه الصحابي ليسأله الحاجه قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ماذا عندك في بيتك؟ قال: أشياء تافهة، قال: ائتني بها، فجاءه بها ثم أقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - مزادًا عليها، كانت نتيجته درهمين، قال: اشتر قادومًا بدرهم، واحتطب، واشتر بالآخر طعامًا لأهلك، ولا أرى وجهك خمسة عشر يومًا.

وهذا مثال على شدة الفقر، ومع ذلك لم يفرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضرائب على أغنياء المدينة، ولم يُؤمِّم ممتلكاتهم بحجه أنه يوزعها على الفقراء؛ بل هي العدالة الاجتماعية ثم المؤاخاة في الحالات الشديدة الفقر، وهي في عصرنا هذا تُسمى بالجمعيات الخيرية، وهي صورة من صور المؤاخاة، ثم العمل والإنتاج، وهذا نظام اقتصادي أقامه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشرعه، ولم يكن موجودًا من قبل، وقد نجح نجاحًا باهرًا في التوِّ واللحظة.

ثم بدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إرساء المبادئ الأخلاقية للنشاط الاقتصادي، وهى ممثلة في مجموعة الأحاديث التي تحثُّ التجار على عدم الجشَع وعدم الاحتكار للسلع، وعدم الغشِّ والتزام الحق والعدل في التعامل والأمانة ... إلى آخِره، ثم أرسى المبادئ التي تحثُّ على النشاط والعمل والإنتاج فقال: ((مَن كان في يدَيه فسيلة وقامت عليه القيامة وليزرعها))، ثم حدَّد الهدف من العمل الذى أمره الله به في قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]، ثم أرسى مجموعة القيم التي تحكم هذا النشاط الاقتصادي، والأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا، بل تستطيع أن تجزم أن سنته - صلى الله عليه وسلم - كلها ما هي إلا مجموعة قيم في جميع الاتجاهات التي يسلكها الإنسان.

[4]

ثم بعد أن أرسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأسُس والقواعد التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي وأخذ بالأسباب، وأقام الدولة الإسلامية الناشئة، حذَّر من الركون إلى الراحة والدَّعة؛ لأن الدنيا ستفتح علينا وقد كان، فُتحت علينا الدنيا فتركْنا العمل وأصبحنا نَستورِد كل شيء حتى ما تَقوم به حياتنا الأساسية، والله إنه لعار على المسلمين أن يأكلوا من إنتاج غيرهم مِن غير المسلمين.

والدولة يجب أن تكون راعية لأبنائها؛ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كلكم راعٍ، وكل راع مسؤول عن رعيته))، فيجب على الدولة أن تُنشئ المشاريع العملاقة، وأن تتيح فرص العمل بشرط أن يكون العدل هو الحاكمَ للعلاقات بين الدولة وأبنائها؛ فإن العدل يُقيم الدولة ولو كانت كافرة، والظلم يُسقِط الدولة ولو كانت مسلمة.

فإن كانت الدولة فقيرة فلتحثَّ أبناءها على تقوى الله، ولا تخش الحاجة؛ فإن الله يقول: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 28]، وهذا بالنسبة للدولة، ويقول: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، وهذا بالنسبة للفرد، ومجموع الأفراد يُساوي مجموعة الدولة، ويقول: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]، والتمكين يأتي بعد الإيمان والعمل الصالح والإنتاج، وبذل المجهود وإنكار الذات واستغلال الطاقات المُعطَّلة في المجتمع، والإنفاق على الحاجات الأساسية فقط، وترك الحاجات الاستهلاكية والترفيهية حتى تنهض الدولة، وتزداد معدلات النمو، وتتبوَّأ الدولة المسلمة مكانتها كما كانت في عهد أسلافنا العظام الذين علَّموا الدنيا، ألا نتعلم منهم؟!

[5]

وكل ما ذكرناه في هذا المقال إنما مبعثه قوله - سبحانه -: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10]؛ حيث إن هذه الآية التي تتكوَّن من كلمتين، إنما شملت كتاب الله كله؛ فجميع آيات القرآن تتكلم عن هذَين الطريقَين، تدعو إلى طريق الخير وتحثُّ عليه، وتُحذِّر من طريق الشر وتُنفِّر منه، فسبحان الله! أرى في كلام الله ما يعجز اللسان عن وصفه.
خالد الدرملي
 

تاريخ الإضافة: 12/2/2013 ميلادي - 1/4/1434 هجري

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..