د. حسن بن فهد الهويمل |
تَمْتحِن هذه المقالة ظواهرَ, لم نألفها من قبل، تحف بها نوابت سوء، لا تراعي بمكتسبات الوطن إلاًّ ولا ذمة.
ولأن أطياف المجتمع في النهاية مستهمون على سفينة، تمخر عباب بحر لُجِّي من الفتن، فإن من واجب المقتدرين الأخذ على أيدي المتسرعين, الذين
يُنكِّبونَ عن ذكر العواقب جانباً، وذلك هو الإصلاح الذي نفى الله أن يعذب ذويه {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117].
ولربما صَوَّرَتْ لي نفسي أنَّني في زمن رَعْيِ الشُّويْهات في الشعاب، أو العضّ على جذوع الشجر، أو القبض على الجمر. ولست أدري أي النفوس تلك: أهي الأمَّارة، أم اللوَّامة, أم المطْمَئِنَّة؟.
وعلى كل الأحوال، فَضَّلت - من قبل - الحياد، ولزوم الصمت, وأقنعت نفسي بأنه حياد إيجابي, ولم أتردد في تقويم المواقف, ونثر كنانة الاحتمالات، والاختيارات، والتأمل فيها، بحثاً عن السهم الذي يمرق من الرمية. ولم أجد وقْتها أفضل من مقولة: [عليك بِخُويْصة نفسك]، لكن ذلك الخيار لم يُتَح، ومن ثم كنت المقصود بالمثل: [مُكْرهٌ أخاك لا بطل]. ووجدت نفسي من حيث لا أدري, ولا أريد وسط المعمعة. وكنت كواحدٍ من جيش “طارق بن زياد” حين قال للمجاهدين بعد إحراق سفنه: [العَدُوُّ أمامكم، والبحر خلفكم] إن صدقت تلك الفرية.
والعقلاء الذين يَشْقون في النعيم بعقولهم وسط أحداث أمتهم العربية والإسلامية، يعيشون حالة من الذعر والترقب، ودعاؤهم المتلاحق: اللهم سلم، سلم. فهم كمن قامت قيامته, حتى لقد صوّر القرآن الكريم تلك اللحظات أدق تصور: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
إن الوضع العربي والعالمي قاب قوسين، أو أدنى من تلك الأوضاع العصيبة. والخليون المترفون هم الذين تشغلهم [الكرة] و[مزايين الإبل] و[الأرقام المميزة] ويسرق وقتهم الركض وراء المواقع، والمنتديات, والمجازفة في الأقوال، وافتراء الكذب، والتّشفي بتجريح الأبرياء, واتّهام الأوفياء, دون تبين أو تثبت. وكل أولئك يُصْبحون على ما فَعَلوا نادمين, ولكنه ندم بعد فوات الأوان. [ولات ساعة مَنْدَم].
وطني المعطاء، ورجالات وطني الأوفياء، ككل الأوطان، وككل الرجال، لا أحد منهم يَدَّعي العصمة، ولا التفوق، ولا التّسامي فوق المساءلة، والنقد، والمناصحة، كما لا يدّعيها لهم عاقل. ومن طاوع نفسه الأمارة بالسوء، وتصورها فوق الشبهات, عرضها للاغتياب. وكيف يُزَكِّي أحدٌ منَّا نفسه، والرسول صلى الله عليه وسلم، حين مَرَّ به الصحابة رضوان الله عليهم، وهو يكلم امرأة من محارمه، بادر إلى القول: [إنها فلانة], ولما استغرب الصحابة هذا التحفظ قال: [إن الشيطان يَجْري من ابن آدم مجرى الدم]. وحين لا أُزَكِّي على الله أحدًا, لا أطاوع المداهنين فأدهن, ولا المخذِّلين فأخذِّل.
لم يكن بودي أن أحوم حول الحمى، فالواقع المخيف يتطلب المكاشفة، والشفافية، والمواجهة، كما وَجَّه إلى ذلك وليُّ الأمر. إذ لا مكان للتلميح، ما أمكن التصريح.
ومن أعلن [سلفيته] غير [المؤدلجة] وغير المُسَيَّسَة، وأكدَّ على التزامه بمحققاتها، وعُرِف أنه مُتمَسِّكٌ بمقتضيات البيعة الإسلامية، وبالسمع، والطاعة، في المنشط، والمكره، والعسر، واليسر، وحتى - لا سمح الله - مع الأثرة. فإنه - والحالة تلك - مُلْزم بأن يكون ناصحاً لله, ولرسوله، ولأئمة المسلمين, وعامتهم، وأنه ملزم بأن يقول خيراً أو ليصمت. وتلك من البدهيات التي لا يختلف حولها اثنان.
لقد ساءتني، كأي عاقل رشيد, يُؤْثر مصلحة الأمة على هواه تلك الظواهر التي انتابت مسقط رأسي، ومرتع صباي [بريدة] مدينة الوفاء، والولاء. وحاولت جاهداً احتمال الموقف، واحتساب الأداء من فروض الكفاية، ولا سيما أنني واثق بالسلطات الأمنية والقضائية، ومطمئن إلى حلم الدولة، وأخذها الأمور بالقوة الناعمة, وتوخي أيسر الحلول. ولم أشأ التعرف على مجمل الأحداث.
أعرف كغيري أن هناك موقوفين، تختلف جرائرهم, وتتفاوت قضاياهم، وأنهم أمضوا سنوات وراء القضبان, وأبطأ القضاء في حسم شأنهم. وكان بودي ألا يكون لذوي الموقوفين حجة تحدوهم إلى مخالفة الأنظمة، والتعليمات، وفتح شهية الأعداء المتربصين, لسرقة هذه الظواهر لحسابهم، وتضخيمها، والادعاء بأنها مؤشرات الربيع العربي: {أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:59].
كما كان بودي ألا يكون أحدٌ من أبناء الوطن موقوفاً تحت ذمة التحقيق، فهم في النهاية إخواننا، وأبناؤنا, وأبناء عمومتنا, يسوؤنا ما يسوؤهم، ويسرنا ما يسرهم. وأعرف جيداً أن وراءهم أباءً وأمهاتٍ وأبناءً وبنات وأزواجًا وإخوة وأخوات، يَصْطرع في نفوسهم حُبُّ الوطن، وعاطفةُ القرابة. ولا غَرْو فقد ضجر الرسول صلى الله عليه وسلم، وسهر، وبانَ عليه أثر الحزن, عندما سمع أنين عمه [العباس] في القيد، وهو - إذاك - مشركٌ محارب من أسراء بدر, وحين رأى الصحابة منه ذلك، بادروا إلى حل قيده، شفقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء المتظاهرون, أو بَعْضُهم - على الأقل - موالون، وحريصون على مكتسبات الوطن. وهم حين يستاؤون من التحفظ على من تربطهم بهم قرابة، ممن استزلهم الشيطان، لا يمس استياؤهم نظامَ الحكم, ولا رموز الوطن، هكذا نحسبهم، والله حسيبهم.
ونحن نشاطرهم الألم، ونخالفهم في التصرف، على حد: [ويلي عليك, وويلي منك يا رجل]، ونتمنى سرعة البت في شأن الموقوفين من أقاربهم. ولن ندخل في التفاصيل، فنحن نجهل الحقائق, ولا يجوز لنا أن نحكم على شيء لم نتصوره.
لقد تَدَخَّلْتُ من قبل في بعض القضايا كشافع, يَطْلُبُ الأجر، وكنت أظن الأمر كما يرويه لي المُسْتَشْفِع. وحين وَصَلْتُ إلى المسؤول، تبين لي أن بعض الحقائق غائبة، وأننا نَرْجُم بالغيب, ونجتر الشائعات. ومن ثم عَدَلْت عن التدخل, واكتفيت بامتصاص الاحتقانات، وإقناع المتظلمين, وتسهيل وصولهم إلى من يملك البت في قضاياهم.
ولا أظن أن لدى وزارة الداخلية رغبةً في التحفظ على أي موقوف، ولكنها العواطف الجياشة، تضخم الأمور. ولست هنا متهمًا لأحد، ولا محرضًا على أحد، ولا مبرئًا لأحد. فأنا أجهل هذا الملف, وليس من حقي القطع في شيء منه, وأجهزة الأمن كفتنا مؤونة الاشتغال بما لا يعنينا، وواجبنا الدعاء لها بالتوفيق والسداد، وحثّها على قفل هذا الملف بأسرع وقت.
وقضيتي الملحة هي أن تبقى مثمّنات وطني في منأى عن الزوابع، فمصلحة الوطن فوق الجميع، وليس من حق أحدٍ كائنًا من كان أن يزايد عليها. ولما كان من قواعد الأصوليين: [الحكم على الشيء فرع عن تصوره] كان لزاماً على كل فضولي [أن يسعه بيته، وأن يبكي على خطيئته] وألا يزيد على حثّ المسؤول, لقفل هذه الملفات الساخنة.
يتبع...
.......
الجزيرة السعودية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..