الثلاثاء، 19 مارس 2013

خيط المسبحة بين المواطن والمسؤول

   لولا تمسك هذه الدولة بدعوة التوحيد وفقه السلف لما تجاوزت يوما من الأيام قرية الدرعية التي التي تأسست فيها إمارتها مطلع القرن التاسع الهجري

·       أي محاولة تغييير في هذا الوقت الحرج بالطرق التي رأيناها في الدول من حولنا سيكون هذا المكتسب أول ضحاياها , وها نحن نرى الدول الغربية لا تدعم ولا تقف مع أي تحرك شعبي حتى تضمن عدم إدراجه الشريعة والدين في مطالبه

·       فحين ندعو إلى السمع والطاعة في غير معصية الله فإن ذلك لا يعني توقف المطالب الإصلاحية , لكننا نسير بالمطالب الإصلاحية مع التوجيه النبوي الكريم وذلك بإصلاح المجتمع وتربيته على الإيمان

·       مصائر الأمم والشعوب لا ينبغي أن تكون رهينة مغامرات غير مدروسة وتقليد لتجارب لم تتحقق نتائجها بعد , وإن الوقوف مع هذه الفتن مجانف لتوجيه الرسول الأمين

ملاحظة:

كتبت هذا المقال قبل أكثر من عامين لكنني أرى مناسبته لم تنته بعد

 في حوار هاتفي مع الدكتور محمد الهاشمي الحامدي حول الأوضاع في العالم العربي وفي بلاده وبلادنا قال لي إن الدولة السعودية تشبه في تصوره خرزات المسبحة التي ينظمها خيط واحد ولولا وجوده لم تتمكن من الانتظام , من هذه المكالمة بدأ المقال وبدأت معه فكرة الدكتور الهاشمي في فتح هذا الموضوع في أحد برامجه وكنت أحد ضيوفه وتحدثت هناك بشئ مما في هذا المقال .
 الجمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين    وبعد :

 خيار الدولة
 تلك الصدفات أو كسرات الأحجار الكريمة تظل غير قابلة للاجتماع أو الانتظام أو الترادف فأشكالها الهندسية وصغر أحجامها تقف مانعا أمام أي نوع من أنواع التآلف أو الانتظام , وحين تثقبها يد الصانع الخبير وتسلكها جميعا في خيط يجتمع رأساه في صدفة كبيرة يظهر جمال هذه القطع منتظمة في هذا الخيط الرفيع وتعظم مكانتها فتتزين بها الأيدي والنحور وتعبن العُبَّاد على ذكر الله سبحانه وتعالى .

 كان شعب الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر وما قبله يشبه كثيرا تلك الخرزات في تناثرها وعدم وجود ما يجمعها ناهيك عمّا بين أهل أهلها حاضرة وبادية من تناحر وتنازع , وكانت دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب التي أظهرها الله تعالى في أواسط القرن الثاني عشر بمثابة ذلك الخيط الذي كانت الجزيرة العربية تحتاج إليه لينتظم حواضرها وقبائلها في سلك واحد ويلائم بين مكوناتها الجغرافية والاجتماعية .

 فقد كانت العقيدة الإسلامية كما جاء بها نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام هي خلاصة دعوته رحمه الله , ويسر هذه العقيدة ومناسبتها لحاجات الروح جعل لهذه الدعوة ألقا وقبولا في الأنفس تغلب على أهوائها ومطامحها مما جعل الجزيرة كلها تختارها وتنبذ من أجلها كل ما يتنافى معها من عادات جاهلية وقيم منحرفة عن نهج الدين القويم .

وكان من حسن طالع أسرة آل سعود ومن سعودها الدنيوي والأخروي إن شاء الله أن كانت دولتها هي عَلَمُ هذه الدعوة ورايتها والقائمة بها , فصار لهذه الإمارة الصغيرة من القبول والإذعان ما لم يكن مُتَصَوراً لولا قيامها بهذه الدعوة وإقدامها على تحمل عبء نشرها, فبلغت في زمن يسير من قيامها مالم تبلغه مملكة في هذه الجزيرة على مر التاريخ خلا دولة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم .

 ولعله لولا تمسك هذه الدولة بدعوة التوحيد وفقه السلف لما تجاوزت يوما من الأيام قرية الدرعية التي التي تأسست فيها إمارتها مطلع القرن التاسع الهجري , وعلى عكس ذلك حين تمسكت بهذه الدعوة كانت لديها الفرصة  لولا مارافق قيامها من ظروف دولية وتكالب عليها أن تعيد العالم الإسلامي إلى ما كان عليه من الوحدة السياسية في العصر العابسي الأول .

 وحين قام الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى بمشروع إعادة تكوين الدولة في عهدها الثالث استطاع بفضل حمله لواء هذه الدعوة أن يتم توحيد معظم أجزاء الجزيرة العربية ولمَّا يتجاوز سنه الثالثة والأربعين عاماً .

 إذاً فهناك حقيقة لا يمكن تجاوزها عند النظر إلى واقعنا السياسي والاجتماعي في المملكة العربية السعودية , وهي التلازم الذي لا يمكن فكه أو الانفكاك منه بين الدولة والدعوة , وهذه المسلمة وجدتها من خلال متابعاتي الكثيرة مُدركة بشكل لا لبس فيه لدى أعمدة الأسرة المالكة فالكل منهم يتحدث في مجالسه الخاصة ولقاءاته العامة بما يفيد أن الشريعة والمنهج السلفي في تلقي النصوص هما الخيار الوحيد للدولة في حاضرها ومستقبلها .

 هي خيار الدولة الوحيد لأنها الدين القويم الذي لا يرضى الله تعالى إلا به يحقق إخلاص  التوحيد لله تعالى في العبادة والدعاء , ويحقق ‘خلاص الاتباع بتقديم النص على كل اعتبار آخر  واعتبار منهج الصحابة رضي الله عنهم في تلقي النصوص وفهمها وطرح ما سواه من مناهج مبتدعة تذهب بالدين بعيدا عمَّا أحكمه الله من أجله , وهو الطريق الذي أثبتت الوقائع المتلاحقة غربته بين عشرات الدعاوى التي انساق الناس إليها وراء الأهواء فطوبى للغرباء .

 وهي خيار الدولة الوحيد لأنها مبتغى الأمة وأساس مطالبها ومعشوقها الذي تتنازل عن كل شيء من أجله ولا تتنازل عنه من أجل أي شيء.

  المسؤول والخيار الوحيد:
 لكن هذا الخيار يبدو لي أنه بات غير مفهوم لدى بعض المؤثرين إعلاميا وربما إداريا  من كتاب ومفكرين ومثقفين ومستشارين ورجال أعمال وقياديين , فأصبحنا نسمع الكثير عن محاولات الضغط في سبيل ثني قرارات الدولة ومشاريعها التنموية والثقافية والإعلامية والاجتماعية إلى ما يخالف هذا الخيار , بل إن هناك بعض التوجهات للتشكيك في البعد الديني للدولة السعودية من خلال طرح الوطنية كبديل للإسلامية ومحاولة تفسير النظام الأساسي للحكم بما يخالف منطوقه الذي لا جدال في دلالته على المرجعية الوحيدة للكتاب والسنة وأنهما المصدر المهيمن على جميع أنظمة الدولة والحاكمان عليها .

 هذا التوجه الثقافي والإداري في فهم الدولة السعودية أخشى أن يكون من جملة المحاولات التي ربما تكون غير مقصودة لفك الخيط الذي ينتظم خرزات هذه المسبحة الرائعة .

 فمثلا هذه المعاندة الواضحة من الإعلام السعودي لتطلعات الجماهير وتقاليدهم وقيمهم ومفاهيمهم من أجل أن الوزير يرى أنها خاطئة يسبب الآن وسوف يسبب لاحقا احتقانات كبيرة ليست في صالح الوطن كما أنها ليست في صالح استدامة الولاء للأسرة المالكة التي يحبها الجمهور من أجل كونها معبرة عن هذه الدعوة التي انتظم آباؤهم في هذا الوطن من أجلها .

 ومثل هذه المعاندة تجري في وزارة العمل أيضا , ويزيد الطين بلة أن بعض المسؤولين لا يتورعون حين يُحاصرهم المناصحون بالمواد النظامية التي تتعارض وبعض خطوات دوائرهم أن يصرحوا بأنهم يتلقون بذلك توجيهات شفهية من خادم الحرمين الشريفين.

 ولا يقل عن المعاندة أثرا ما يمارسه آحاد المسؤولين من تجاهل أو تعالي على بعض المطالبات بالإصلاحات المالية والإدارية والإسراع في تفعيل نشاط الأجهزة الرقابية المناط بها حماية المشاريع والأموال العامة , هذا الصد من بعض المسؤولين  يتنافى مع ما هو مُلقى على عواتقهم من إشاعة طمأنة الناس على بلادهم ومقدراتهم , ولا يخفى أن الشعور بالطمأنينة هو أول وأعظم مقومات الأمن الفكري الذي نحتاج إليه في بلادنا لاسيما في هذه الأيام العصيبة نسأل الله أن يعجل بتجاوزنا لها , وأن لا تزيدنا إلا قوة ومنعة , كما أن هذا الشعور الرائع هو من أعظم المكاسب التي جناها آباؤنا بانضمامهم إلى هذا الخيط المزدوج - الدولة الدعوية-.


 خيار المواطن:

 أثبتت الأحداث الأخيرة أن عداوة الدول الغربية والشرقية المهيمنة على العالم للإسلام ليس حديث خرافة أو كابوسا يدعيه المهووسون , وقد بلغ من ظهور هذه الحقيقة التي كذَّب بها المبطلون زمنا طويلا  أن رأينا الجماعات التي طالما رفعت شعار الإسلام هو الحل والحاكمية لله وكتب منظروها المطولات في تكفير من لم يحكم بما أنزل الله تُقَرِّر اليوم في ظل الإرهاب الفكري الغربي :أن الحرية مقدمة على الشريعة ,وتتنادى بأنها تطالب بدولة مدنية لا دينية , ورفع منظروها عقائرهم بأن الدولة الدينية غريبة على الإسلام مستخدمين ترهات من التلبيس ومجاراة الأهواء لا مثيل لها إلا في الفكر العلماني النفعي الانتهازي .

أما في بلادنا فإن الدولة الدينية واقع معاش ومكتسب قديم , عجزت الأقوام الأخرى وهي تناضل من أجل مثله أو قريب منه , وأعلنت اليوم وفي هذه الأحداث خورها واستسلامها الكامل وتنازلها عن هذا المطلب بحجج قد تكون مقبولة عند البعض من عقلانية التدرج وأن ما لا يدرك كله لا يترك كله , لكننا في بلادنا هنا ولله الحمد في غنى عن الاحتيال من أجل الوصول لدولة دينية بالمفهوم الإسلامي للدولة الدينية لا بالمفهوم الكنسي الثيوقراطي , فالنظام الأساسي للحكم تتوارد مواده الواحدة بعد الأخرى على تقرير هذا الأمر بوضوح وصراحة وقطعية لا توجد في أي دستور قائم أو مقترح .

وأي محاولة تغييير في هذا الوقت الحرج بالطرق التي رأيناها في الدول من حولنا سيكون هذا المكتسب أول ضحاياها , وها نحن نرى الدول الغربية لا تدعم ولا تقف مع أي تحرك شعبي حتى تضمن عدم إدراجه الشريعة والدين في مطالبه .

ونحن نعلم أن هناك من الأوضاع التنظيمية مالا يتماشى مع هذه القيمة العظيمة في نظام الدولة , لكنها أوضاع محكوم عليها بالفساد بموجب المادة السابعة للنظام الأساسي للحكم والتي تقول (الكتاب والسنة حاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة) ولهذا فنحن لا نحتاج إلى ثورات أو انتفاضات بل إلى دعوات قوية من الغيورين على هذه البلاد ونظامها الأساسي من علماء وأمراء ومفكرين وفاعلين إلى إعادة الأمور إلى نصابها وتصحيح ما يحتاج إلى تصحيح , وهي أمور وإن احتاجت منا إلى صبر إلا أنها لا تستدعي انتفاضا أو تظاهرا لا يعلم من يحركه ولا ما هي نتيجته.

وماذا عن الفساد الإداري ؟

حديث الناس في مجالسهم أن هناك أخطاء مالية أوجدها عدم الرقابة الدقيقة على المال العام وخلل إداري في بعض جوانب المؤسسات العامة وهناك أيضا قصور في بعض الأنظمة عن الوفاء بحاجات الأمة , لكن أي قصور من هذا النوع مهما اختلفنا في حجمه لا يعالج بانتهاج تجارب غير محسوبة العواقب كالدعوة إلى تظاهرات نجهل أصلا القائمين عليها ولا نعلم بدقة إلى أين ستنتهي مطالبها .

نحن هذه الأيام في مرحلةٍ حقَّقَ المواطن فيها بتوفيق الله تعالى تقدما كبيرا في إيصال صوته للمسؤولين في كشف التقصير المالي والإداري ساعد على ذلك ما كشفه الله تعالى من عوار كثير من المشاريع عبر ترادف السيول على مدينة جدة والتي فضحت كثيرا من المستور للقاصي والداني والكبير والصغير , وقد استغل المحتسبون من طلبة العلم وشرفاء الكتاب والمثقفين هذه الحوادث أروع استغلال , وما زالت المطالبات والاحتسابات قائمة والمتوقع أن تؤتي ثمارها في حين قريب بإذن الله تعالى إن صبر القائمون عليها في السعي وراء مطالبهم بطرق تتناسب مع نظام الدولة والحرص على استقرارها .

أما إن اختل هذا السعي فسلك به المتعجلون والغاضبون مسلك التقليد للأمم المجاورة فالمتصور أن هذا المسلك سيدخل فيه الكثير من أعداء الوحدة والمذهبيين الذين لا يريدون حقيقة الإصلاح وإنما يتبنون مطالب انفصالية أو علمانية وبذلك سوف تضيع علينا فرصة الإصلاح ونصبح في واقع الدفاع عن المكتسبات وهذا ما سيؤدي إلى تعثر المسيرة نحو مستقبل أفضل .

عودة للمسؤول

نُقِل عن بعض المسؤولين عبارات استهجان لمطالبات المحتسبين من طلبة العلم الشرعي في مجال الإصلاح المالي والإداري والتنظيمي , وهذه العبارات لا تتناسب مع ما جعله الله تعالى من مكانة لأهل العلم الشرعي فقد رفعهم الله تعالى بما يحملونه من علم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) كما أنه لا يتناسب مع مقتضى القسم الذي أقسموه بالله تعالى أمام ولي الأمر كما لا تتناسب مع الأسلوب الحضاري الذي انتهجه هؤلاء المحتسبون ,وليس المطلوب من المسؤول مجرد الاستماع , بل الواجب عليه تلبية ما يتوافق مع النظام الأساسي للدولة من مطالب تتفق مع خططها وطموحات شعوبها , وإشعار هؤلاء المناصحين بالمبادرة إلى رفع ما يبلغون عنه من منكرات أو احتياجات , فإن أي مسؤول لن يجد أصدق لهجة من هؤلاء الذين يفدون إليه ويبذلون أوقاتهم من أجل النصح بالحسنى , وليعلم كل مسؤول أن هذا النوع الناصح الصادق من العلماء وطلبة العلم الشرعي لا يوجد أمثالهم في أي بلد من بلدان العالم  وينبغي حفظ كرامتهم والاستفادة منهم كحلقة وصل بين المواطن والمسؤول , وكف الإعلام عن الستهانة بمواقفهم ومكانتهم بين الناس .

والاستهتار بهم وبمطالباتهم وإطلاق عبارات ينقلها الإعلام تغيض الشارع السعودي ليست من العقل في شيء لاسيما في هذه الأيام الخطرة التي نعلم أن فيها أن الكلمة تقوم مقام ألف سيف .

في الثورة الفرنسية إنما أوغر صدور الثوار على الملك عبارة نقلها بعض الناس عم الملكة ماري إنوانيت لا يعلم أحد هل قالتها حقا أم هي مكذوبة عليها , قالت : بماذا يطالب الشعب ؟

قالوا لها بالخبز .

قالت : لماذا لا يأكلون الباسكويت إذا انعدم الخبز .

وفي عصرنا هذا كان من وقود الثورة كلمة منسوبة للرئيس مبارك , قال سيبوهم يتسلوا .

فالمسؤول يجب عليه أن يحفظ لسانة وأن لا ينقل عنه الإعلام إلا كلمات راقية محترمة في حق كل ناصح  صغيرا كان أم كبيرا .

  لماذا يجب السمع والطاعة

العبد المؤمن مأمور بالتعبد لله تعالى باتباع النصوص عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم والاستسلام لها سواء أوافقت هواه وعقله وما يرى أنه المصلحة أم خالفت ذلك كله , والقرآن الكريم فيه كل ما يهم المسلم في حاضره ومستقبله فهو كما قال عنه منزله سبحانه تبيانا لكل شي ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) وقد أمر سبحانه باتباع أمره تعالى وأمر رسوله اتباعا مطلقا تاما فقال سبحانه (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) وقد أمر سبحانه بطاعة أولي الأمر في وهم الأمراء والعلماء الآخذين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ).

ولا يختلف العلماء في وجوب طاعة الحاكم الذي يحكم شرع الله تعالى , ومستندهم في ذلكأحاديث كثيرة صحيحة وصريحة تنص على وجوب الطاعة في غير معصية .

وهذه النصوص تواجه اليوم بكثير من التشكيك أو التأويل على ظن أنها تسوغ الظلم وتبرر لأهله , والحقيقة أن هذا الظن ينقصه الكثير من التأمل .

فالله تعالى هو الذي أنزل النصوص وهو سبحانه مقدر الأقدار وكان من قدره الكوني لهذه الأمة أنها لا تفلح إلا حين تعود لكتاب ربها وسنة نبيها وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القدر الكوني في الحديث المعروف : (إذا ظن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله سلط الله عليهم ذلا لا ينزعه حتى يراجعوا دينهم ) فكل محاولات التغيير لن ينتج عنها عز للأمة ما لم يسبقها تغيير في حالة الناس مع الله تعالى ومع تعاليم دينه .

وبهذا نعلم أن الأمر بالسمع والطاعة في غير معصية إنما هو نتاج علم رباني بقدر كوني سلطه الله على هذه الأمة وهي أنها لا تنال العز إلا بمراجعة الدين , أما دون ذلك فإن كل محاولات التغيير لا ينتج عنها إلا وضع أسوأ مما كان عليه الأمر من قبل , ولهذا كان جواب أنس بن مالك رضي الله عنه شافيا عندما شكى إليه بعض التابعين ما ينالهم من الحجاج بن يوسف حيث قال (لا يأتي على الناس زمان إلا والذي قبله خير منه سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم ) ولا يمكن أن يقال إن أنسا رضي الله عنه عميل للسلطان أو مرسخ للجور , ولكنه مستسلم للنص النبوي فقيه بما يخبئه التاريخ من ويلات ومصائب , فكانت دعوته للتغيير والإصلاح تبدأ من المجتمع لا من السلطة , أي من قاعدة الهرم لا من أعلاه .

وهذا هو المنهج القرآني في الإصلاح والتغيير , فالله سبحانه وتعالى رتب وعده بالتمكين في الأرض على صلاح الأمة أولا , فقال سبحانه (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) فوعد الله بالتمكين والاستخلاف مرتب على الإيمان وعمل الصالحات وإخلاص العبادة لله وحده , .

فحين ندعوا إلى السمع والطاعة في غير معصية الله فإن ذلك لا يعني توقف المطالب الإصلاحية , لكننا نسير بالمطالب الإصلاحية مع التوجيه النبوي الكريم وذلك بإصلاح المجتمع وتربيته على الإيمان والعمل وحسن الاعتقاد , ويصاحب ذلك نصيحة الحكام سرا وهو الأصل أو علنا حين يقتضي الأمر النصح في العلن , وقد ورد عن السلف النصح في السر والعلن .

أما المجازفة بالأمة في خروج غير معروف العواقب وتحت رايات إعلامية مجهولة فهذا ما لايمكن تسميته إصلاحا أبدا , بل هو الإلقاء بالتهلكة وإضاعة النفس والمال والمقدرات في مغامرات مجهولة العاقبة والمصدر

هل نجحت تجارب الأمم من حولنا

  لا يمكن الجزم بنجاح التجربتين التونسية والمصرية حتى تتحقق مطامح الشعوب الدينية والاجتماعية والاقتصادية , ورؤية تحققها على الساحة غير ممكنة في أسابيع مضت , وأرجوا أن تكون قريبة المنال وأن يتحقق للشعبين المصري والتونسي ما يصبوان إليه في السنوات القريبة القادمة , وحين ينجح الشعبان في مسيرتهما دون أن تتكشف الأمور عن وجود مؤامرة دولية وراء هاتين الثورتين ودون أن نشاهد في هذين البلدين حكومات ضعيفة غير مستقرة لا تستطيع إحداها حتى الوصول إلى نهاية مدتها , ودون أن نشاهد مشاريع تقسيم في هذه البلاد تأتي لمصلحة العدو أو وفقا لمخطط الشرق الأوسط الجديد , ودون أن نرى فيهما إبعادا للشريعة على أي نحو من الأنحاء أو محاربة لحق الناس في التدين .

إذا تم للمصريين والتونسيين استقرارهم دون هذه الافتراضات التي ما زالت تهددهم فهنالك يمكن للشعوب أن تفكر في اتخاذ الخطوة نفسها , أما ما نشاهده من التسارع في تقليد تجارب مصيرية لم يثبت نجاحها بعد فإن هذا  مما يعمق الشعور بأن ما يحصل من الشعوب ليس تسارعا , وإنما تسريعا من جهات معينة ذات مصلحة في أن لا تدع للشعوب الفرصة في أن تلتقط أنفاسها .


الثورة الليبية وبرهان المؤامرة

وهذا الحديث عن المؤامرة أصبح رائجا في كثير من الملتقيات الثقافية وزاد من انتشاره صدمة الشعوب العربية بالموقف الأمريكي من ثورة الشعب في ليبيا الذي تناقض بشكل فج مع موقف الولايات المتحدة من ثورة الشعب المصري , ففي حين جاء تهديد مبارك من أوباما شخصيا بأن لا يستخدم العنف ضد الشعب , كانت التصريحات الأمريكية على مستوى وزيرة الخارجية باردة حتى انتهى الأمر بالقذافي إلى استخدام القصف الجوي وقتل آلاف المدنيين .

عندما تساءلتُ في مقال سابق لي (لا تخونوا الأمة باسم الحرية ) عن سر التدخل الأمريكي العاجل لحماية الثورة , أجاب الكثيرون إن الغرب في مثل هذه الثورات لا يمكنه إلا أن يكون مع خيار الشعب ,  وقد ثبت فساد هذا الجواب من موقف الغرب بكاملة من الشعب الليبي , ولم يبق من جواب مقنع إلا أن الثورة المصرية ومن قبلها التونسية كانتا مطلوبتين غربياً , ثورة تونس كتجربة إيقاض عصبي , وثورة مصر كخطوة لإيجاد حكومات ديمقراطية غير مهيبة من شعوبها تتغير كل ساعة كشأن الحكومات الأردنية المتعاقبة والتي لا تستطيع من سرعة تعاقبها أن تقدم على تأسيس خطة تنموية طويلة الأمد فضلا عن تنفيذها

كما أن تقسيم المملكة العربية السعودية إلى ثلاث دول لا يزال حلما يراود الساسة الأمريكيين منذ خمسين سنة حين قدم المقترح برنارد لويس وقد قامت سيئة الصيت كوندليسا رايس بالتذكير به إبان رئاسة القذافي الأمريكي (بوش الإبن ) .

ولا يزال عدم دعم الإعلام الغربي والعربي لثورة الشعب الإيراني شاهدا على معالم المؤامرة .

وفي هذه الأيام ينتفض الشعب العراقي على الحكومة الإيرانية ومع ذلك تتعامل وسائل الإعلام معه بكل برود ولا تقيم له محطات التلفزة ما يستحقه من اعتبار  فلماذا .

عودة إلى خيط المسبحة

خاتمة المقال : إن مصائر الأمم والشعوب لا ينبغي أن تكون رهينة مغامرات غير مدروسة وتقليد لتجارب لم تتحقق نتائجها بعد , وإن الوقوف مع هذه الفتن مجانف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير الماشي والماشي فيها خير  من الساعي من تشرف لها تستشرفه فمن وجد منها معاذا أو ملاذا فليعذ به) فقف أخي المؤمن حيث أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تضع قلمك أو لسانك أو يدك في هذا الزمان إلا مع ما كان مثل الشمس أو أبين من ذلك .



بقلم: د. محمد بن إبراهيم السعيدي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..