مصر والسعودية بلدان محوريان في إحداث الفارق في العالم العربي،
ومن ثم فإن العلاقة بين هذين البلدين الكبيرين ليست مسألة وطنية أو قطرية،
بل هي قومية بامتياز. ومما لا شك فيه أن أمتنا العربية شهدت وتشهد تغييرات
ديناميكية هائلة في حقبة "الربيع العربي" في السياقات كافة، ومما لا نريده
وجود فتور في العلاقات بين هذين البلدين المحوريين قد يفضي إلى لون من
الاستقطاب أو المواجهة أو حتى الصراع، بطريقة جلية أو خفية، وتلك كارثة
ماحقة بالمصالح القومية على المستويين القريب والبعيد.
أنا لا أحب المبالغة في تحليل الأحداث والأوضاع السياسية والمجتمعية،
ولذا فإنني -وبلا مواربة- لا أقر بوجود أي صراع "حقيقي" بين هذين البلدين
في هذه الفترة، وفي الوقت نفسه لا أحب اللامبالاة والركون إلى نوع من
الدروشة السياسية أو القفز على الحقائق التي تحكم مثل تلك الأحداث والأوضاع
أو التكتم عليها في عصر المعلوماتية والانكشافية، خاصة أننا بتنا نستوعب
بعض أبعاد "الديناميكيات العلائقية" بين الدول والمجتمعات والجماعات،
انطلاقاً من حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية.
ماذا يفيدنا هذا الأمر في تحليلنا للمسألة؟ يعني أن الصراع قد يحدث بين طرفين بناءً على إدراك مترسخ لدى طرف أو لدى طرفين بأن هناك تهديداً للأهداف أو للمصالح، حتى لو كان هذا الإدراك غير دقيق تماماً أو حتى غير صحيح بالمطلق، وبخاصة أن هنالك أطرافاً سياسية أخرى تقتات على توتير العلاقات بين الدول العربية.
الفهم المعمق لماهية الصراع يقودنا إلى القول إن ثمة احتمالاً بنشوب صراعات بناء على "إدراكات غير دقيقة" هنا أو هناك، وهذا ما يوجب على الأطراف تفهمه والعمل على إزالة أسبابه ودواعيه، دون إبطاء ولا تلكؤ.
ومن هنا، فإنني أقول إن على السعودية ومصر مراجعة "خريطة الإدراكات" لدى كل منها، والنقاش الشفيف حول مفرداتها ومفاصلها، والاتفاق على التخلص من كل ما يعكر صفو العلاقات ويخلق سحائب الارتياب، بما قد ينقل الوضع من وضع "الفتور العلائقي" إلى "الصراع العلائقي". ولكي لا يكون الحديث مرسلاً، سأضع بعض النقاط التي أحسب أن من الضروري معالجتها ذهنياً في هذا التحليل، كي نستوعب مراميه وسياقاته:
• وفي المقابل، الحكومة المصرية تتخوف من تاريخية تحالف الدول الخليجية،
ومنها السعودية، مع نظام مبارك طيلة العقود الماضية، مع امتزاج هذا التحالف
بنظرات ارتياب بحكومة مصرية مشكّلة من قبل الإخوان المسلمين. وهذا الأمر
يكشف أن على الدول الخليجية التأكيد "الفعلي" على أنها تتعامل مع مصر
الكيان التاريخي الحضاري، الذي يتعالى على الأحزاب والشخصيات، وهي قادرة
على فعل ذلك.
ولكي نعين الطرفين على الاندفاع صوب التكتل الإستراتيجي في إطار العمل
العربي المشترك، لا بد من التذكير بجملة من الحقائق أو ما يشبهها، ولعل في
ذلك تعرية -وإن بطريقة غير مباشرة- لجملة من الأوهام أو ما يشبهها.
هنالك حزمة من الحقائق التي أعتقد أن على الطرفين تبنيها والعمل في ضوئها، كما أن هنالك حزمة مما يشبه الحقائق التي تستلزم تقويتها أو إيصالها للطرف الآخر بطريقة مقنعة، ودفعها من ثم لتصبح ضمن دوائر الحقائق و"خريطة الإدراكات" لدى الطرفين. من تلك الحقائق أو ما يشبهها ما يلي:
1- تقوم علاقات الدول على احترام سيادة كل بلد، وضمان عدم التدخل فيه، بأي شكل كان، مع ترسخ حقيقة أن كل دولة هي أكبر من أي شخص أو كيان سياسي، أياً كان.
2- لا يمكن بناء علاقات إستراتيجية وثيقة على نوع من الابتزاز السياسي أو المالي، بأي قالب كان، مع إعادة تأكيدي على أن كل طرف يجب أن يتفهم كيف يدرك (perceive) الطرف الآخر هذا التصرف أو ذاك. وهذا يعني احتمالية أن طرفاً قد يفهم من تصرف ما أنه ابتزاز حتى لو لم يكن الطرف الآخر قد قصد الابتزاز في الحقيقة. وهذا له شواهد وأمثلة، أحسبها معروفة للجميع.
3- أي تقارب مصري إيراني لن يكون في صالح مصر ولا في صالح دول الخليج العربي، مما يوجب على الطرفين دفع كلفة عدم التورط به، خاصة أنه تورط متوسط أو طويل المدى، فالمخالب الفارسية الصفوية يصعب إزالتها بسهولة كما يعلمنا التاريخ.
4- مصر لا تنعم بمعارضة سياسية صحية بشكل عام، حيث يغلب على المعارضة المصالح الحزبية بل الشخصية الضيقة (وأنا لا أعمم)، ونحن نعلم أن بعض أطراف المعارضة يجيّش الداخل والخارج ضد الحكومة المصرية الحالية لاعتبارات سياسية مؤدلجة. كيف لنا أن نثق بمعارضة سياسية تتفرج بل تبتهج بتدمير البنى التحتية في مصر؟ هذه الأطراف السياسية لا يجب التعويل عليها في شيء، فهي متحيزة لغاياتها الصغيرة، مع التأكيد على أن مصر أكبر من الجميع، بمن فيهم الحكومة الحالية والمستقبلية، أياً كانت.
5- دعم السعودية لمصر والوقوف معها في أزمتها الاقتصادية الراهنة هو دعم للمشروع العربي ككل، فمصر دولة ناهضة بهذا المشروع، بمقوماتها التاريخية والحضارية والسياسية والسياحية والبشرية وبنيتها البحثية والعلمية والفكرية وترسانتها الصحافية والإعلامية.
6- يمر العالم العربي بمرحلة حرجة، وبأخطار محدقة متنوعة، وعلى رأسها ما يصدر بشكل متواصل من الكيان الصهيوني البغيض، ومن إيران تجاه دول الخليج العربي على وجه التحديد، فضلاً عن تدخلات إيران في لبنان وسوريا والعراق ودول عربية أخرى.
7. مثل تلك الأخطار تجعل من دعم العلاقات والثقة الإستراتيجية المتبادلة بين السعودية ومصر ضرورة حتمية للطرفين، وذلك لاعتبارات عديدة، وعلى رأسها حاجة كل طرف للآخر:
- فمصر تحتاج إلى العون الاقتصادي العاجل والدعم السياسي، كي لا تنهار الحكومة ومن ثم تعرض مصر لاحتمالات الدخول في نفق مظلم، نعرف بدايته ولا ندرك منتهاه، في سيناريوهات خطرة للغاية، ليس على مصر وحدها بل على عالمنا العربي برمته.
- والدول الخليجية تتعرض لتهديدات متنامية من قبل "دولة الملالي"،
وبخاصة أننا نشهد تحريك "الأذرع الشيعية الصفوية" في بعض الدول الخليجية،
ومصر يجب أن تكون السند الإستراتيجي لدول الخليج لمقاومة هذا المد الصفوي
الفارسي التوسعي الخطر، في ظل سيناريوهات محتملة لتحريك مثل هذه الأذرع
وربما أكبر في أكثر من بلد خليجي في وقت واحد، بغية التشتيت والإرباك
وتوسيع الجبهة، مما يؤكد ضرورة الدور المحوري لمصر في دعم أشقائها
الخليجيين.
هذا تحليل هادئ، وأحسب أن البلدين الكبيرين مطالبان بأن يجلسا مع بعضهما بعضا ويتصارحا ويتكاشفا، ليس ذلك فحسب، بل عليهما أن يتسابقا على دعم المشترك العربي والإسلامي بينهما، وهو كبير وقابل للنمو والزيادة، رأسياً وأفقياً، مع ضرورة الاتفاق على وقف التروس الإعلامية التي تصب نار الصراع على زيت القطيعة.
الشعوب العربية باتت مدركة للكثير من الحقائق، وتتطلع إلى أن تسلك الحكومات سبل التنسيق والتعاون والشراكة والتعاضد القومي والتكتل والتحاشد، فنحن إخوة وجسد واحد، والاتحاد قوة وعزة وأمان. الأيام القادمة حرجة، فما أحوج بعضنا إلى البعض الآخر.
ثمة مخاوف من أن يتطور "الفتور العلائقي" بين السعودية ومصر في الفترة الحالية إلى نوع من الصراع، لا سيما بعد ظهور أخبار أو مؤشرات تقارب مصري إيراني |
ولذلك، فإنني أتوسط بين هذا وذاك، وألوذ بما أزعمه تحليلا علميا صرفا
لهذه المسألة الخطيرة التي تتمثل في هذا "الفتور العلائقي" بين السعودية
ومصر في الفترة الحالية، والخشية أن يتطور إلى نوع من الصراع بصورة علنية
أو خفية، ولا سيما بعد ظهور أخبار أو مؤشرات تقارب مصري إيراني. سيكون
تحليلي مشدوداً ببعض الحقائق أو ما يشبهها بجانب بعض المفاهيم العلمية، دون
أن يتوجه التحليل إلى التصويب أو التخطئة، فالقضية أخطر وأكبر من هذا
اللون من التفكير الصغير.
البعض قد يستعجل ويصدر حكماً بأنني أمارس نوعاً من المبالغة التي
تبرأت منها سالفاً، ومثل هذا الحكم ناتج عن عدم استيعاب ماهية الصراع
وحقيقته. لا تستعجلوا علي، وأمهلوني بعض الوقت كي تتضح أبعاد المسألة، ولن
أطيل عليكم في هذا التحليل، فقط أكملوه إلى الآخر، مع وجوب إحسان الظن.
يُعرّف الصراع علمياً بأنه "إدراك طرف بأن أهدافه أو مصالحه العليا مهددة
من قبل طرف آخر".
اللبس لدى الكثيرين ينبثق بصورة جوهرية من عدم استيعاب مصطلح إدراك
(Perception). الإدراك يشير إلى عملية ذهنية نفسية يعمل الإنسان فيها على
التقاط مثيرات معينة من حوله وتفسيرها في ضوء معطياته التاريخية والحالية
والمستقبلية. إذن، الإدراك لا يمثل الحقيقية المطلقة، أي أنه لا يمكن الزعم
بأن إدراكنا يقودنا دائماً إلى الحقائق كما هي في الواقع، بل قد يوصلنا
إلى أنصاف أو أرباع حقائق أو حتى إلى أوهام خالصة.ماذا يفيدنا هذا الأمر في تحليلنا للمسألة؟ يعني أن الصراع قد يحدث بين طرفين بناءً على إدراك مترسخ لدى طرف أو لدى طرفين بأن هناك تهديداً للأهداف أو للمصالح، حتى لو كان هذا الإدراك غير دقيق تماماً أو حتى غير صحيح بالمطلق، وبخاصة أن هنالك أطرافاً سياسية أخرى تقتات على توتير العلاقات بين الدول العربية.
الفهم المعمق لماهية الصراع يقودنا إلى القول إن ثمة احتمالاً بنشوب صراعات بناء على "إدراكات غير دقيقة" هنا أو هناك، وهذا ما يوجب على الأطراف تفهمه والعمل على إزالة أسبابه ودواعيه، دون إبطاء ولا تلكؤ.
ومن هنا، فإنني أقول إن على السعودية ومصر مراجعة "خريطة الإدراكات" لدى كل منها، والنقاش الشفيف حول مفرداتها ومفاصلها، والاتفاق على التخلص من كل ما يعكر صفو العلاقات ويخلق سحائب الارتياب، بما قد ينقل الوضع من وضع "الفتور العلائقي" إلى "الصراع العلائقي". ولكي لا يكون الحديث مرسلاً، سأضع بعض النقاط التي أحسب أن من الضروري معالجتها ذهنياً في هذا التحليل، كي نستوعب مراميه وسياقاته:
• دول الخليج، وليست السعودية وحدها، تتخوف من تحريك جماعة الإخوان
المسلمين لأذرعها الحركية للقيام بحراك شعبي وتسخين القدر المجتمعي، ولا
سيما أن الإخوان يتوفرون على تنظيم دولي ناشط، ولا يمكن إنكاره. وما سبق
يوجب على الحكومة المصرية ليس فقط إرسال رسائل طمأنة لفظية، بل ضمان عدم
التدخل في شؤون الدولة الخليجية ومنها السعودية، والحكومة المصرية تعرف كيف
تفعل ذلك.
على الحكومة المصرية ليس فقط إرسال رسائل طمأنة لفظية، بل ضمان عدم التدخل في شؤون الدول الخليجية، |
هنالك حزمة من الحقائق التي أعتقد أن على الطرفين تبنيها والعمل في ضوئها، كما أن هنالك حزمة مما يشبه الحقائق التي تستلزم تقويتها أو إيصالها للطرف الآخر بطريقة مقنعة، ودفعها من ثم لتصبح ضمن دوائر الحقائق و"خريطة الإدراكات" لدى الطرفين. من تلك الحقائق أو ما يشبهها ما يلي:
1- تقوم علاقات الدول على احترام سيادة كل بلد، وضمان عدم التدخل فيه، بأي شكل كان، مع ترسخ حقيقة أن كل دولة هي أكبر من أي شخص أو كيان سياسي، أياً كان.
2- لا يمكن بناء علاقات إستراتيجية وثيقة على نوع من الابتزاز السياسي أو المالي، بأي قالب كان، مع إعادة تأكيدي على أن كل طرف يجب أن يتفهم كيف يدرك (perceive) الطرف الآخر هذا التصرف أو ذاك. وهذا يعني احتمالية أن طرفاً قد يفهم من تصرف ما أنه ابتزاز حتى لو لم يكن الطرف الآخر قد قصد الابتزاز في الحقيقة. وهذا له شواهد وأمثلة، أحسبها معروفة للجميع.
3- أي تقارب مصري إيراني لن يكون في صالح مصر ولا في صالح دول الخليج العربي، مما يوجب على الطرفين دفع كلفة عدم التورط به، خاصة أنه تورط متوسط أو طويل المدى، فالمخالب الفارسية الصفوية يصعب إزالتها بسهولة كما يعلمنا التاريخ.
4- مصر لا تنعم بمعارضة سياسية صحية بشكل عام، حيث يغلب على المعارضة المصالح الحزبية بل الشخصية الضيقة (وأنا لا أعمم)، ونحن نعلم أن بعض أطراف المعارضة يجيّش الداخل والخارج ضد الحكومة المصرية الحالية لاعتبارات سياسية مؤدلجة. كيف لنا أن نثق بمعارضة سياسية تتفرج بل تبتهج بتدمير البنى التحتية في مصر؟ هذه الأطراف السياسية لا يجب التعويل عليها في شيء، فهي متحيزة لغاياتها الصغيرة، مع التأكيد على أن مصر أكبر من الجميع، بمن فيهم الحكومة الحالية والمستقبلية، أياً كانت.
5- دعم السعودية لمصر والوقوف معها في أزمتها الاقتصادية الراهنة هو دعم للمشروع العربي ككل، فمصر دولة ناهضة بهذا المشروع، بمقوماتها التاريخية والحضارية والسياسية والسياحية والبشرية وبنيتها البحثية والعلمية والفكرية وترسانتها الصحافية والإعلامية.
6- يمر العالم العربي بمرحلة حرجة، وبأخطار محدقة متنوعة، وعلى رأسها ما يصدر بشكل متواصل من الكيان الصهيوني البغيض، ومن إيران تجاه دول الخليج العربي على وجه التحديد، فضلاً عن تدخلات إيران في لبنان وسوريا والعراق ودول عربية أخرى.
7. مثل تلك الأخطار تجعل من دعم العلاقات والثقة الإستراتيجية المتبادلة بين السعودية ومصر ضرورة حتمية للطرفين، وذلك لاعتبارات عديدة، وعلى رأسها حاجة كل طرف للآخر:
- فمصر تحتاج إلى العون الاقتصادي العاجل والدعم السياسي، كي لا تنهار الحكومة ومن ثم تعرض مصر لاحتمالات الدخول في نفق مظلم، نعرف بدايته ولا ندرك منتهاه، في سيناريوهات خطرة للغاية، ليس على مصر وحدها بل على عالمنا العربي برمته.
ما بين السعودية ومصر كبير وقابل للنمو والزيادة، رأسياً وأفقياً، مع ضرورة الاتفاق على وقف التروس الإعلامية التي تصب نار الصراع على زيت القطيعة |
هذا تحليل هادئ، وأحسب أن البلدين الكبيرين مطالبان بأن يجلسا مع بعضهما بعضا ويتصارحا ويتكاشفا، ليس ذلك فحسب، بل عليهما أن يتسابقا على دعم المشترك العربي والإسلامي بينهما، وهو كبير وقابل للنمو والزيادة، رأسياً وأفقياً، مع ضرورة الاتفاق على وقف التروس الإعلامية التي تصب نار الصراع على زيت القطيعة.
الشعوب العربية باتت مدركة للكثير من الحقائق، وتتطلع إلى أن تسلك الحكومات سبل التنسيق والتعاون والشراكة والتعاضد القومي والتكتل والتحاشد، فنحن إخوة وجسد واحد، والاتحاد قوة وعزة وأمان. الأيام القادمة حرجة، فما أحوج بعضنا إلى البعض الآخر.
المصدر:الجزيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..