وسط زحام وصخب مهرجان الجنادرية وموجات الغبار المتلاحقة المصاحبة له
اخترت أن أذهب إلى البيت
الحرام في رحلة روحية منفردة وبأقل قدر من شواغل
الدنيا.
غير أن صورة مهرجان الجنادرية ظلت تلاحقني وتلح علي كلما شاهدت غابة آلات
الرفع والحفر التي تحيط بالمسجد الحرام، وصورة الأبراج الحديثة التي تكاد
تحيل مكة إلى مدينة بلا تاريخ.
جميل وضروري أن يحدث التطوير وأن تتلاحق التوسعات لاستيعاب الحجاج
والمعتمرين والزوار، لكن غير الجميل وغير الضروري أن يكون ثمن التطوير هو
محو ذاكرة المكان وعبقه التاريخي وشواهده وبقاياه، في الوقت الذي يتم فيه
تجنيد مختلف الجهود والمؤسسات وضخ مئات الملايين سنوياً وإطلاق الأوبريتات
واستحضار الفرق من كل مكان لإحياء "تراث" الجنادرية الفقير والقريب والمغرق
في محليته وهامشيته.
يكاد المرء يحتاج إلى أدوات جديدة للتحليل النفسي والاجتماعي والسياسي
لفهم هذا التناقض الصارخ بين الاندفاع الهائل نحو محو "آثار" مكة والمدينة،
بكل أبعادها الإسلامية والإنسانية وبكل قيمتها التاريخية، وبين الحماس
الجارف نحو إحياء "تراث" الجنادرية بكل أبعاده المحلية وفقره التاريخي.
في مكة لم يعد ممكناً أن تشعر بعبق التاريخ وذاكرة المكان كلما كنت قريباً
من المسجد الحرام، بل ستشعر بأجواء المدن الاصطناعية الحديثة الطارئة على
التاريخ والخالية من الروح. وقد كنت خلال الرحلة أتابع تغريدات الأستاذ
عبدالوهاب الطريري حول رحلته في المدينة المنورة ورصده المصور لما يحدث
هناك من عدوان مماثل على بقايا التاريخ وشواهده.
لماذا يحدث كل هذا المحو لآُثار تربط المسلمين بصرياً وروحياً ووجدانياً بأعظم المراحل وخير القرون؟
هل آثار مكة والمدينة ثروة محلية يصح وضعها بين أيدي المقاولين
الاحتكاريين والمستثمرين الانتهازيين والموظفين السطحيين دون أي اعتبار
لأبعاد المكان وتراثه وتاريخه، أم إنها ثروة إسلامية ينبغي الحفاظ عليها
وتوظيف التطوير بما لا يهدمها وينسفها؟!
المعضلة أن هذا المحو للتاريخ يحدث في مجتمع يكاد يتفوق على جميع أمم
الأرض في إحياء بعض التراث الفقهي الذي يستحق التجديد وبعض صراعات الفرق
التي تستحق التجاوز.
إن جزءاً من التعويضات التي تصرف في مكة والمدينة يمكن أن تكفي لتزويد
المدينتين بشبكات مترو تحل أزمة النقل فيهما وتزيل الحاجة إلى معظم
السيارات التي تزحم الشوارع والمواقف، وترحم الحجاج والمعتمرين والزائرين
من كل ألوان الاستغلال والعناء الذي يكابدونه مع كل رحلة انتقال من مكان
إلى مكان ومن موضع إلى موضع.
كما إن التطوير يمكن أن يحدث دون أي عدوان على آثار التاريخ وشواهده
وبقاياه. ولعل أي زائر لمنطقة السلطان أحمد في استانبول قد شاهد كيف أمكن
الجمع بين التطوير وبين الحفاظ على التراث وحمايته وحسن استثماره ثقافياً
واقتصادياً.
ولا شك في أن أوضاع مكة والمدينة تحتاج إلى حديث طويل. غير أن أهم ما في
الأمر حالياً هو محاولة تنبيه هؤلاء الذين أشغلوا الدنيا وفتحوا الخزائن
لإحياء تراث الجنادرية بأنه يوجد تراث أهم وأولى بالرعاية والاهتمام
والحماية ووقف العدوان، وهو تراث مكة والمدينة التاريخي.
العصر
| إبراهيم الخليفة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..