كان سلف هذه الأمة يتهيبون من الفتوى ويخشونها خوفاً من قوله تعالى:
{سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (19) سورة الزخرف؛ وكان الواحد من أهل
العلم يتمنى أن يكفيه الفتوى غيره، لذلك قال ابن عيينة: (أعلم الناس بالفتوى
أسكتهم فيها وأجهل الناس بالفتوى أنطقهم فيها). وقال آخر: (أشقى الناس من باع آخرته
بدنياه وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره). وكان ابن عمر رضي الله عنه لا يتردد
إذا ما سُئل عن أمر لم يقطع فيه بالحل أو الحرمة أن يقول (لا أدري)؛ ويواصل:
(أتريدون أن تجعلوا ظهورنا لكم جسوراً في جهنم أن تقولوا: أفتانا ابن عمر بهذا؟)
هؤلاء هم أسلافنا الأبرار الأطهار الذين لم يتسلل حب الدنيا والبحث
عنها وعن بهرجها وملذاتها إلى نفوسهم فيُفسدها.
طيب.. ماذا عن مشايخنا، وبعضهم مشاهير أيضاً، الذين لا يتسابقون على
الفتوى وحسب، بل (ويقبضون) مقابل فتاواهم من جهات خاصة وليست حكومية (مكافأة
مالية) أو أجراً أو قيمة لقاء ما يفتون به؛ وأشهر هؤلاء من يُسمّون هذه الأيام
(مشايخ البنوك)؛ حيث تُخصص لهم البنوك مبالغ كبيرة كمكافآت مقابل أن يُوقعوا على
هذه المعاملة أو تلك بالحل.
والسؤال: أليس ذلك ضرباً من ضروب بيع الفتوى بدراهم معدودات أيها
السادة؟
ما يُسمى بالصيرفة الإسلامية قضية خلافية كما هو معروف، تعتمد في
أُسها الأول على ما يُسمى (التورق)، و(التورق) معاملة تقوم على شراء سلعة بثمن
مؤجل ليبيعها المشتري إلى آخر غير بائعها الأول بثمن حال للحصول على النقد؛ شريطة
ألا يبيعها على من اشتراها منه كي لا يقع في بيع (العِينة) المُجمع على تحريمه. أي
أنها بالمختصر المفيد تلتف على حرمة الربا لتصل إلى إباحة المعاملات البنكية في
المحصلة. والذي يجهله كثيرون أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الذي يعتبره
فقهاؤنا حجة، تُوفي وهو يُحرمها؛ يقول في الفتاوى: (وأما إن كان مقصوده الدراهم
فيشتري بمائة مؤجلة ويبيعها في السوق بسبعين حالة فهذا مذموم منهي عنه في أظهر
قولي العلماء). ويقول تلميذه ابن القيم رحمه الله: (وكان شيخنا رحمه الله - يقصد
ابن تيمية - يمنع من مسألة التورق وروجع فيها مراراً وأنا حاضر فلم يرخص فيها وقال
المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة).. غير أن هناك من
الفقهاء خاصة من الحنابلة من يرى إباحتها ولكن بشروط وضوابط.
هذه الشروط والضوابط هي التي فتحت حيزاً واسعاً لمشايخ البنوك كي
يقفون في المنتصف بين البنك والعميل، ويُمررون بعض المعاملات البنكية لقاء مكافآت
تدفع لهم؛ حتى أصبحت أجرة العضو في هذه اللجان الشرعية أضعاف أجرة أكبر مدراء
البنوك، خاصة وأن بعض هؤلاء المشايخ يبيع الفتوى لأكثر من بنك داخل المملكة
وخارجها. وهذا بصراحة أمر يثير الشكوك في أعضاء هذه اللجان مؤداه أنهم (قد)
يُمررون ما تريد البنوك تمريره رغبة وطمعاً في المكافآت سيما وأن البنوك تجني من
وراء هذه الفتاوى مئات الملايين تقتطع لمن يفتون بها جزءاً يسيراً منها.
القضية شائكة وتمس أغلى ما يملكه الإنسان في حياته وهو دينه الذي فيه
صلاح أمره وصلاح مجتمعه؛ لذلك فإنني أقترح أن تتولى مهمة لجان الفتاوى البنكية، أو
فتاوى التورق (لجنة مركزية) في مؤسسة النقد، يكون فيها مستشارون شرعيون متخصصون
و(موظفون) من قبل الحكومة، بحيث تقوم هذه اللجنة بمهمة الفتاوى بدلاً من هذه
الممارسات المنفردة - (كل بنك على حدة) - والتي تثير مكافآت أعضاء لجانها الشرعية
الشكوك.. ويبدو بعد ظاهرة (ببلي) وشركات الاتصالات، وتهافت بعض طلبة العلم عليها
نظراً لعوائدها المالية الضخمة، أن الفتوى أو الموعظة ستصبحان مع الزمن سلعة تباع
وتشترى للأسف الشديد.
إلى اللقاء.
محمد بن عبد اللطيف ال الشيخhttp://www.al-jazirah.com/2013/20130423/lp2.htm
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..