بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
نشرت الدكتورة سهيلة زين العابدين حماد في صحيفة المدينة مقال بتاريخ (16-4-2013م)، تحت عنوان: "قراءة متأنية لوثيقة الأمم المتحدة عن وقف العنف ضد المرأة “1”"، وتاريخ (23-4-2013م) "قراءة متأنية لوثيقة الأمم المتحدة عن وقف العنف ضد المرأة “2”"، تناقش فيه وثيقة الأمم المتحدة عن العنف ضد المرأة، وأعلم أن مقالين سيتبعهما غيرهما ولن انتظر، فما سأعلق به هنا لن يتغير بما ستلحقه من مقالات كما سيتضح للقارئ إن شاء الله.
وسأعتبر أن مرجع د. سهيلة الوثيقة الأخيرة في دورة المجلس رقم (57) بتاريخ (4 – 15 March 2013)، وسأناقش ما كتبت د. سهيلة على شكل نقاط مع تعليق مختصر يبين وجه الإعتراض:
أولاً: ابتدأت الدكتورة بتصدير مقاليها بإقصاء من لا يتفق معها في رؤيتها للوثيقة بقولها: "أليست هذه النقاط تمثل مطالبنا كعلماء دين معتدلين"، وفي المقال الثاني: "والتي تمثِّل مطالبنا كعلماء دين معتدلين, وحقوقيين, ومؤسسات مجتمع مدني, وهيئات ومنظّمات نسائية"، وأنا أستغرب لماذا إقحام وإدراج كلمة معتدلين هنا؟!
توحي
لنا هذه الكلمة أن من يرى الوثيقة لا تمثل مطالبه ما هو إلا عالم متشدد، والدكتورة
جعلت من رؤيتها للوثيقة وانطباعها عنها مركزاً يُصنَّف من خلاله مدى تشدد العلماء
واعتدالهم، كما يوحي خطابها بذلك! وأنا أقول إنها لا تمثل مطالبنا يا د. سهيلة،
وإن فيها من الغش للإسلام والمسلمين والأجيال القادمة ما الله به عليم!
ثانياً: ذكرت الكاتبة أن من أسباب العنف ضد المرأة والتي نصت عليه الوثيقة، الحرمان من العمل، ولو قيل أن عدم توفر عمل ذا بيئة صالحة للمرأة حين تحتاجه هو أحد أهم الأسباب التي قد تعرضها للعنف، لكان هذا محل موافقة إن شاء الله. لكن الحقيقة أنها تقول مجرد الحرمان هو سبب من أسباب العنف لا عدم توفر العمل أو بيئة صالحة.
فالزوج الذي لا يقبل أن تعمل زوجته، هو بحد ذاته أحد أسباب العنف! ما يعني وجوب تجريم مثل هذا السلوك ومحاصرته بالتشريعات والأنظمة والقوانين الدولية والمحلية، وإعادة أدلجة العقول وتغييرها لتتوافق مع المفاهيم الغربية للأسرة ونظرتها للمرأة والرجل، وهذا كله هدم لكيان الأسرة وتدمير لبنيتها الإسلامية والفطرية، ونزع لقوامة الرجل التي هيأه الله لها، بدل المنادة بتقويم وتهذيب ما انحرف منها، وإعادة توجيهها وغرسها في الرجل بالشكل الصحيح كواجب شرعي وفطري، حتى تكون هذه القوامة أحد أهم أسباب حماية المرأة من أن تتعرض للعنف، فيكون الأصل في الرجل أنه جزء من الحل، لا أنه أصل المشكلة كما تتمسك به الحركات النسوية المتطرفة.
والغريب أن الدراسات المعروضة في ورش هذه الوثاق تئن وتتألم من حجم العنف الذي تتعرض له المرأة وارتفاع نسبته في أماكن العمل سنة بعد سنة، ثم يزعمون أن حل مشاكلها هو بوضعها بين رجال غرباء الدافع عندهم للتحرش بها وتعنيفها أكبر من أبيها وأخيها وزوجها، فكان علاجهم للعنف المنزلي بتحويله وتوسيع دائرته، وتعريضها للعنف في أماكن العمل أيضاً، فأعانها الله.
والواجب أن ينتبه المجتمع الإسلامي من أن يسلك مسلكهم الفاسد، وأن يأخذ حذره في مسألة الإختلاط في أماكن العمل، وأن يبتر الشر من أوله، وأن يعمل على سن الأنظمة التي تجرمه وتمنعه وتعاقب مرتكبيه، وفي السعودية الآن نرى تساهل الجهات المسؤولة عن منعه وغض الطرف عنه في القطاع الخاص وهو منتشر فيها، وسنرى التباكي غداً من التحرشات ضد المرأة ومن ثم المطالبة بسن قوانين التحرش وغيرها، وهذا إعوجاج في فهم المشكلة وعلاجها وتقليد أعمى للغرب.
ثالثاً: المضحك المبكي أن يصل بالأمم المتحدة الحرص بأن توصي بإضاءة الشوارع بالأنوار؛ لتعلق ثقافتهم كثيراً بالأسباب المادية دون الروحية والأخلاقية، والحق أن القلوب أحق بالإنارة منها! والله تعالى يقول في سورة النور (40): (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).
ولشديد انحراف المفاهيم عندهم، لا يتجرأ أحدهم أن يناقش المرأة ذاتها حول مسؤوليتها تجاه نفسها، وتوصيتها بالحشمة في اللباس والقول والأخلاق، والقرار في البيوت إلا لحاجة حقيقية، واجتناب الرجال ومجالسهم والاختلاط بهم وإثارة غرائزهم، وحثِّهن على المطالبة بالفصل التام في العمل والتعليم والنقل العام، كحالهم مع دورات المياه –أجلَّكم الله-، والألعاب الرياضية، وكذا السجون، التي لا قِبَلَ لاعتبارات المساواة بين الجنسين فيها؛ لوضوح الفارق الفطري الطبيعي الذي لا يمكن إخفاؤه برفع الشعارات الموهمة والتغني بها!
رابعاً: ما كتبته د. سهيلة لا يتوافق في كثيرٍ مما هو موجود في الوثيقة، فما فعلته د. سهيلة هو إعادة صياغة أسلوب الوثيقة مع التنقيح والتجميل والتحسين، وبمثل هذا العمل يتغير المعنى الحقيقي والمقصود في نصوص الوثيقة، والتي يدور عليها أكثر اعتراضات أهل العلم، فأرجوا من الله أني أخطأت فقرأت وثيقة غير الذي قرأت، وهي كما يلي:
1-
نقلت الكاتبة
ما نصه في تعليقها رقم (1): "مع إجراء التدابير
التشريعية والإدارية والمالية وغيرها لوصول المرأة إلى الموارد الاقتصادية، بما في
ذلك الحق في الميراث"، وأُسقط هنا كلمتين من نص الوثيقة باللغة الإنجليزية،
حيث جاءت المادة رقم (hh):
"… to give women full and equal
access to economic resources, including the right to inheritance…".
فيصبح
معناها على النحو التالي: "لإعطاء
النساء وصول ]كامل ومتساوي -أو متكافيء-[ إلى
الموارد الاقتصادية، بما في ذلك الحق في الميراث"،
وبهذا يختفي عند القارئ أحد أهم الأسباب المشروعة لاعتراض العلماء، فما المغزى
والهدف من إرفاق الميراث في هذا السياق، وماذا عن احتمالية تدخل هذا النص مستقبلاً
في التدخل في تقسيم الميراث المحدد شرعاً، بدل تصويرهم أمام القارئ بغير المعتدلين
تحت هذا النقل الغير دقيق.
2-
نقلت الكاتبة
في النقطة رقم (3) ما يلي: "التأكيد على التزام
الدول بتعزيز وحماية كافة حقوق الإنسان والحريات الأساسية مع احترام الخصائص
القومية والإقليمية والخلفيات التاريخية والثقافية والدينية لكل دولة."، وفي
هذا النقل يغيب مغزى وهدف المادة المذكورة والمراد منها، والصحيح أنها جاءت على
النحو التالي:
"14- .... and stresses
that,
while the significance of national and regional particularities and various
historical, cultural and religious backgrounds must be borne in mind, it is
the duty of States regardless of their political, economic and cultural
systems to promote and protect all human rights and fundamental freedoms ".
"وتشدد –أي اللجنة- أنه، على الرغم من أهمية
الخصائص القومية والإقليمية ومختلف
الخلفيات التاريخية والثقافية والدينية
التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، إلا أنه من واجب
الدول بغض النظر عن أنظمتها السياسية والإقتصادية والثقافية حماية وتعزيز حقوق
الإنسان والحريات الأساسية".
فسياق د. سهيلة يعني أن اللجنة حينما تأكد على التزام
الدول بتعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات العامة، فهي مع هذا تحترم الخصائص
القومية والإقليمية والخلفيات التاريخية والثقافية والدينية لكل دولة، والتي قد تؤثر
على مفاهيمهم لحقوق والحريات الأساسية وطريقة تشكيلها والعمل بها، فتكون الحقوق
والحريات نسبية ومرنة لا قوالب -غربية- جاهزة ملزمة، وهذا بالتأكيد معنى غير دقيق
إطلاقاً.
بل الصحيح في ترجمة نص اللجنة، أنها تذهب إلى أن
حقوق الإنسان والحريات الأساسية مقدمتان على أي نوع من الخصائص والاعتبارات
القومية والإقليمية والثقافية والسياسية والدينية مع كامل احترامها لتلك
الاعتبارات! وأن المرجعية العليا في تحديد ما هو حق وما هو ليس بحق مواثيق الأمم
المتحدة ونصوصها.
3-
أعتقد أن هذه
الملاحظة تابعة لما قبلها وشارحة لها ومبيِّنة لتوجُّهات الأمم المتحدة ولجانها،
وسأرفقها كنقطة مستقلة لأهميتها، فقد غابت المادة رقم (14) في الوثيقة عن مقال د.
سهيلة، ونصها كما يلي:
"The Commission urges States to
strongly condemn all forms of violence against women and girls and to refrain
from invoking any custom, tradition or religious
consideration to avoid their obligations with respect to its
elimination as set out in the Declaration on the Elimination of Violence
against Women."
"تحث اللجنة الدول على أن تدين بشدة
جميع أشكال العنف ضد النساء والفتيات والكف عن التذرع بأي عرف أو تقليد أو اعتبارات
دينية للتهرب من التزاماتها كما هو مقرر في إعلان القضاء على العنف ضد المرأة".
وهذه المادة تسقط الانطباع الذي أرادت د. سهيلة في
النقطة الثالثة من مقالها ايصاله للقارئ، فمعنى هذا الكلام أن الاعتبارات الدينية
ليست عذر ويجب أن تتوقف الدول عن التذرع بها في ردع العنف ضد المرأة –حسب تعريف
الأمم المتحدة للعنف-.
وبمعنى آخر
فإن تحديد ماهية العنف ضد المرأة حق للأمم المتحدة وأن الاعتبارات الدينية إن
خالفتها فيجب على الدول إسقاطها أو تأويلها بدل التذرع بها، وأن تسعى في تغيير
عقائد الناس وثوابتهم بتسليط وسائل الإعلام عليهم، وإعادة أدلجة ورسم عقول وتفكير
أجيالهم من خلال التعليم؛ ليتوافق مع الديانة العالمية الجديدة وكتابها المقدس
الذي يُكتب في دوراتهم ومجالسهم!
فجعلوا من مواثيقهم حق ونص ثابت يُغيِّر ما سواه
ولا يتغير، له السيادة حتى على الأديان! وهم يعملون على فرض مواثيقهم وإلزام الخلق
بها شيئاً فشيئاً، والحق أن الأمم المتحدة كلها ونصوصها هي التي يجب أن تعرض على
الاعتبارات الدينية الإسلامية الثابتة والمقدسة عندنا، فإن وافقت الإسلام وإلا
أسقطناها، وهذا جانب من جوانب العبودية الواجب على المسلم المؤمن تحقيقها لله وحده
لا شريك له.
4-
ذكرت د. سهيلة
في مقالها في النقطة رقم (7) ما يلي: "مراجعة
القوانين واللوائح المتعلقة بالعمل على إنهاء التزويج المبكر والقسري للأطفال،
...، والزنا [!!!!!!!!!]، والاغتصاب والاختطاف. (وهذا من المطالب التي طالبتُ بها)"
وهنا
نلاحظ عملية إقحام للكلمات لمحاصرة أي نوع من الاعتراضات المنطقية التي قد تتبادر
في ذهن القارئ، فالزواج "المبكر"
وُضِع بجانب "القسري" وزِيد عليه بكلمة "الطفولة"، وهذا عمل ومحاولة
لتشويه صورة الزواج المبكر في أذهاننا والذي تسعى الأمم المتحدة لتجريمه ثقافياً
ثم قانونياً. والمعروف ضورورة أن الأمم المتحدة لا تقبل الزواج المبكر ولا المتأخر
للطفل، كان بالرضا أو قسراً، فما معنى الزواج المبكر إذن؟
وللإجابة
على هذا السؤال أود أن ينتبه القارئ أن الزواج في سن الطفولة شيء، والزواج المبكر
شيء آخر غيره، والأمم المتحدة تريد أن تجرم كلاهما بمثل هذا النوع من الخلط، فقد
ترسخ عند المسلمين أن الطفولة هي مرحلة ما قبل البلوغ، وفي هذه المرحلة نشترك مع
الأمم المتحدة في إدراجها تحت لفظ "الطفولة"، أمَّا بعد البلوغ إلى السن
القانوني -المعتبر في تركيبتهم النفسية والثقافية والذوقية- فهو محل الخلاف الذي
يحاصروننا فيه بمصطلح "الزواج المبكر"، فلا يجب الانسياق خلفهم في هذا
ولا ترويجه بين مجتمعاتنا.
أمَّا ما يخص الزنا فادراجه هنا غريب جداً، ولا
أجد نفسي تتقبل مثل هذا الخطأ! فمن أين جاءت الدكتورة بأن الأمم المتحدة تعتبر
ممارسة الزنا عنف ضد المرأة؟! أين وجدت هذا، وفي أي وثيقة؟! هذا خطأ كبير من
الدكتورة أتت بنقيضه في المقال الثاني حين كتبت: "ومعروف
أنّ مصطلح العشير أو الشريك في الاتفاقيات الدولية لا يقتصر على الزوج, وإنّما
يشمل أي شخص تعاشره المرأة معاشرة الأزواج بلا زواج شرعي, وهذا مرفوض في كل
الأديان السماوية, بل مرفوض بالفطرة،...بل نجد الوثيقة هنا بإيرادها عبارة والعنف
الجنسي على يد شخص غير العشير, كأنّها تقر ممارسة المرأة لذلك مع غير العشير إن لم
يمارس معها عنفًا". والصحيح أن الأمم المتحدة ترى الزنا واللواط حرية
شخصية يجب على الدول احترامها وحمايتها بالقانون، وهذا جانب من جوانب الفساد
الفكري والقيح الأخلاقي في الحضارة الغربية المعاصرة.
وهذا
والله فيض من غيض، وعلى الأمة الإسلامية أن توصل إلى العقلية الغربية مفاهيم وآداب
الخلاف والإختلاف، وتوضيح أننا نختلف عنهم في نظرتنا للحياة ومآلها ومسؤولية
الدولة والأسرة والفرد ذكراً أو أنثى وتعريف المصطلحات والقيم الأخلاقية ومعايير
الخطأ والصواب والسعادة والتعاسة وغيرها، وعليه فإن منبع الحلول لمشاكلنا يختلف عن
منبعهم، وأن محاولة فرض رؤيتهم كقوالب نهائية على الجميع والتجريم بناءً على
الآراء أوالذوق أوالثقافة هو وصاية على الامم كوصاية الكنيسة ومحاكم تفتيشها مجتمعهم،
ويناقض ما يزعمونه من حرية وتعددية وغيرها من القيم التي يعتبرونها أساسية، أو قل
على الأقل ما يزعمونه من حقوق الأقليات!
وصلى
الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه/
يوسف سليمان الدريهم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..