بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله قدّر فهدى؛ وخلق فسوى؛ وله المثل الأعلى, ثم الصلاة والسلام الأتمان على نبي الرحمة؛ المبعوث بالهدى بشرا ونذرا.
أما بعد:|فلن أكون في كلمتي هذه ..
أما بعد:|فلن أكون في كلمتي هذه ..
- كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ * والماء فوق ظهورها محمولُ !
لن أبحث في غير القرآن والسنة علاجا لهذه المشكلة؛ ولن أواجهها بأفضلَ مما واجه به محمد r عتبة بن ربيعة حتى استمع لحجته بتمامها؛ وأمهله, حتى إذا أعلن الفراغ؛ وأقر بنهاية الشبهة -التي اعتنقها هو وقريش دينا- تلا عليه قول الله تعالى: "حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)" إلى قوله "فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)" فما اسطاع عتبة أن يتمالك نفسه؛ حتى وضع يده على فيّ النبي r لئلا يكمل؛ فينزل عليهم العذاب؛ واعتزل في بيته ولم يخرج وقِصته معروفة.
إنني لن أجد في هذا المقام خيرا من أن أقف وإياكم على المعالجة الربانية لهذه المشكلة التي عانى منها الأنبياء ومن أجلها بعثت الرسل .
لن أجمع حجج القرآنِ في الرد على هذه الشبهة؛ فتكاد لا تفوت سورة إلا طرحتها من قريب أو بعيد -خاصة السور المكية- لكني سأتوقف على سبب اختيار النبي r "لسورة فصلت" التي يكفي اسمها في إثارة الفكر لفَهم القضية من أساسها، ومعالجة كنهها، الفصل بين الحق والباطل؛ لن يكون بتناول الشبهات بالمنطقيات البشرية؛ التي لم تعرف خفايا النفوس, ولم تصل بعد إلى فهم تقلباتها.
لقد نزلت فصلت بحجج؛ وقرأت على أوباش من الناس؛ يموجون بين فكرة الشرك والإلحاد, فتارة يقولون: "وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَا الدَهْرُ" ، وتارة يقولون "إِلَا اْعْتَرىَكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ"؛ فيكون الرد الحاسم .
سأقف على علاج السورة لهذه القضية على محاور في هذه العجالة:-
الأول: أن الحجة البالغة هي الحجج القرآنية لا سواها؛ فلابد من التمسك بها؛ وعدمِ الخروجِ منها أو البحثِ في أعطان الكتب والحواراتِ؛ فإنها لو أثبتت نجاحها مع أفراد فهي غيرُ معصومة ولا مضمونةِ النتائج؛ ولهذا جاء افتتاح السورة بقوله تعالى: "تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)" ؛لئلا يبحث عن سواه؛ مع حمل لواء الرحمة؛ ومنطق الإنقاذ؛ الذي تستشرفه النفوس دون التواء إلا إذا لم تكن سوية.
الثاني: أن لا يتخيل المحاجُّ بالقرآن والمستدلُ به أن الملحدين والمشركين على حد سواء؛ لا يعلمون الحجج ولا يدينون بها, فهم جميعا على فطرة واحدة, يعلمون القول الفصل والمنطق المستقيم, لكنهم يختلفون في الاعتراف به.
الثالث: أن الذين يحيدون عن الحجج إنما يستكبرون عنها استكبارا, ويرفضون الدينونة تعاليا، أو خشية أن تلزمهم بلوازمَ تقصر عنها هممهم، وتستعلي عليها أهواؤهم؛ لذا فدعواهم عدمُ وضوحِ الحجةِ غيرُ صحيح, وقد قال أسلافهم من قبل "قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ" فواحدة من هذه الحجج كافية لو كانوا مقتنعيين بها؛ لكنهم يعلمون ضعفها وهشاشتها؛ لذا ركموا من الأعذار ما أمكنهم ونسوا أنهم ألحقوا العيب بأنفسهم ابتداء وانتهاء, وذلك لضعف العقل وإغلاقه عن المنطق الصحيح .
كذا اليوم تتكرر نفس الحجج؛ وتتردد بنفس الآلية؛ فاللازم التصدي لها بنفس الطريقة, مع جلالةِ الحجةِ وبلوغِها وقداستِها في نفس قائِلها، والمؤمنِ بها، مع ما تدخله من الرعبِ في قلبِ مكذبها وإن أ ظهر سوى ذلك.
المحورالرابع: وقَفَ العلاج القرآنيُّ لهذه المشكلة على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: درجة التحريض والحث على الإيمان واستعمل له أسلوبين :-
الأول: إعلان البشريةِ في البلاغ، والربانيةِ في الحجة. "أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ"
الأسلوب الثاني: التحريض على الإيمان؛ و العمل الصالح بالوعد بالثواب. "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)"
الدرجة الثانية : درجة الحوار بالمنطق لذات الملحد والمشرك؛ " قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا" والآيات بعدها, ليقف عاجزا محجوجا، أو مفندا ممجوجا.
الدرجة الثالثة: درجة التهديد والوعيد؛ بعد اليأسِ من المكابرِ والمعاندِ، ولفتُ نظره لمن سبقه في الإلحاد كيف تعرض للعقاب!؟ وهذا العقاب شاهد؛ محسوس؛ مضى ولا يزال أثره. "وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ"
الدرجة الرابعة: الالتفات لمن لم يتخذوا ذات الموقف؛ بل التزموا النظر في العواقب؛ فيطرحُ لهم الإيمان بنصاعته، بعيدا عن شبه أولئك الملحدين؛ ليروا الحق متجردين من أحوال أولئك ومواقفهم؛ فيكونون أقربَ لأهل الإيمان وأكثرَ قناعةً بصدق مواقفهم، خاصة إذا كان أولاءِ من دهْماء الناس وعامتهم.
الدرجة الخامسة: التوجه لأهل الإيمان؛ لدعمهم وتعزيزِ مواقفهم الإيمانيةِ؛ وحثِهم على المضي قدما في رفع راية الحق، والمضي بها؛ دمغا للباطل وأهله وهؤلاء هم "الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا" فلا تسل عن توفيقهم وطمأنيتهم؛ فهذا الإيمان الذي سبق العلمَ في قلوبهم، فلما نزل العلمُ صار نورا على نور فهم "تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ" وهم بهذا منصورون مؤيدون؛ يقال لهم "نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١)"
هذه السورة (فصلت ) حقيقةٌ بأن تستحضر في مثل هذا الميدان بكل معانيها الباطنة والظاهرة.
ولنعلم أنه كما أن علينا أن نقف من الملحد موقف النبي r من عتبةَ بنِ ربيعةَ، كذا فإننا نقف الموقف ذاته من أشباهِهِ ونظائرِه؛ ممن تمادى في التحدي؛ ودخل في تفاصيلَ لا يستطيع هو ذاته أن يماري فيها؛ لأنه لا يدرك كنهها؛ ولو ماددناه المجادلة فتنا قوما آخرين، وانشغلنا به وقد أعياه المرض وألم به حتى آيسنا منه, فهنا نفعل ما أمرنا به من الالتفات والإعراض عنه بالكلية، و تركِه لينكشف له مع الأيام خطؤه فيؤوب إلى رشده أو يأخذه الله على ظلمه وما هو بمعجز "فأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (30) ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ"
وثمة قومٌ ليس لهم في العلم ولا في الحوار؛ وإنما هم على الفطرة السوية كالجارية التي سألها رسول الله r: (أين الله) فتقول: في السماء, فيحكم لها بالإسلام ويلحقها بأهله، فهولاء أولى بالالتفات والحيطة.
ولربما آذانا أن بعض هؤلاء قد يكون من آبائنا أو إخواننا أو أولادنا فتذهب أنفسنا عليهم حسرات؛ وقد نسينا أن "وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ" فلا تذهب أنفسنا عليهم حسرات؛ ولا نبخعها عليهم؛ ولكن نتوجه لله تعالى لهم بالدعاء؛ فهو الذي برأ النسمة وفلق الحبة؛ وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار؛ وقد قضى وقدر أن الناس ما يزالون مختلفين إلا من رحم.
وقد قضت السنة على كل أسباب الفتنة بالنكوص عن الدين؛ وجعلت له تدابير فمنعت التنفير؛ وأمرت بالرفق؛ وجادلت بالحكمة؛ والتمست المعاذير؛ وقطعت دابر الوسوسة؛ فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون.
هذا والله أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
- الرياض / الجمعة 7 رجب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..