الأربعاء، 15 مايو 2013

التورق المصرفي بين الفقه الإسلامي ونظام مراقبة البنوك



أثار التورق المصرفي جدلا كبيرا في الفقه الإسلامي المعاصر، فبعض الفقهاء أجازه والبعض الآخر
حرمه. ونود في هذا المقال أن نستعرض في إيجاز شديد أبرز الآراء الفقهية المعاصرة بشأنه ثم نبدي الرأي القانوني بخصوصه في ضوء أحكام نظام مراقبة البنوك، فأقول وبالله التوفيق ما يلي:
أولا: في قراره الخامس المتخذ في دورته الخامسة عشرة المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة من 11 إلى 15 رجب 1419هـ "الموافق 31 تشرين الأول (أكتوبر) إلى 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 1998"، عرف المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بيع التورق في معناه الحقيقي الأصلي فقال في المادة الأولى من القرار المذكور (إن بيع التورق هو شراء سلعة في حوزة البائع وملكه، بثمن مؤجل، ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع، للحصول على النقد). وأوضح المجمع الفقهي في المادة الثانية حكم التورق فقال (إن بيع التورق هذا جائز شرعا، وبه قال جمهور العلماء، لأن الأصل في البيوع الإباحة، لقول الله تعالى "وأحل الله البيع وحرم الربا"، ولم يظهر في هذا البيع ربا لا قصدا ولا صورة، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لقضاء دين، أو زواج أو غيرهما).
وفي المادة الثالثة من القرار المذكور حدد المجمع الفقهي شروط صحة بيع التورق فقال (جواز هذا البيع مشروط بأن لا يبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول، لا مباشرة ولا بالواسطة، فإن فعل فقد وقعا في بيع العينة، المحرم شرعا، لاشتماله على حيلة الربا فصار عقدا محرما).
ثانيا: اتخذت البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية وبعض البنوك التقليدية التي اتجهت نحو الصيرفة الإسلامية من بيع التورق أسلوبا من أساليب تمويل العملاء ووضعت هيئات الرقابة الشرعية لهذه البنوك والمؤسسات الإجراءات الواجب اتباعها لتنفيذ هذا الأسلوب، وأضرب هنا مثلا بما قررته في هذا الصدد هيئة الفتوى والرقابة الشرعية في البنك الأهلي التجاري السعودي في محضر اجتماعها الثاني والثلاثين بتاريخ 21 – 22/6/1421هـ الموافق 19 – 20/9/2000، الذي أجازت فيه منتج (تيسير الأهلي بالسلع المحلية)، حيث قررت ما يلي:
1 – يقوم البنك بشراء كمية محددة من سلعة معينة تدخل بذلك في ملكيته دخولا شرعيا.
2 – يقوم البنك بعرض هذه السلع على عملائه.
3 – وبما أن هذه السلع تباع عن طريق الوصف لا عن طريق الرؤية غالبا، فإن على البنك أن يحدد هذه السلع صنفا ونوعا، وأن يصفها وصفا نافيا للجهالة بموجب شهادة الملكية بحيث يكون المبيع معلوما وموصوفا وصفا تنتفي معه الجهالة في البيع.
4 – يتقدم العميل بإبداء رغبته في شراء كمية محددة من هذه السلع بثمن مؤجل وبعد موافقة البنك على تلبية هذا الطلب يقوم البنك ببيع تلك الكمية على العميل بما يتفقان عليه من ثمن وأجل.
5 – للعميل الحق في أن يتسلم سلعته في مكان تسليمها، إذا رغب في ذلك، أو أن يوكل المورد في بيعها نيابة عنه.
ثالثا: أثار بعض الفقهاء المعاصرين الشكوك حول شرعية التمويل بأسلوب بيع التورق على النحو الذي تجريه البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية فأعاد مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي النظر في هذا الموضوع وأصدر بشأنه القرار التالي:
(إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة في مكة المكرمة، في الفترة من 19 – 23/10/1424هـ، الذي يوافقه 13 – 17/12/2003، قد نظر في موضوع "التورق كما تجريه بعض المصارف في الوقت الحاضر".
وبعد الاستماع إلى الأبحاث المقدمة حول الموضوع، والمناقشات التي دارت حوله، تبين للمجلس أن التورق الذي تجريه بعض المصارف في الوقت الحاضر هو:
قيام المصرف بعمل نمطي يتم فيه ترتيب بيع سلعة (ليست من الذهب أو الفضة)، من أسواق السلع العالمية أو غيرها، على المستورق بثمن آجل، على أن يلتزم المصرف – إما بشرط في العقد أو بحكم العرف والعادة – بأن ينوب عنه في بيعها على مشتر آخر بثمن حاضر، وتسليم ثمنها للمستورق.
وبعد النظر والدراسة قرر مجلس المجمع ما يلي:
أولا: عدم جواز التورق الذي سبق توصيفه في التمهيد للأمور الآتية:
1 – إن التزام البائع في عقد التورق بالوكالة في بيع السلعة لمشتر آخر أو ترتيب من يشتريها يجعلها شبيهة بالعينة الممنوعة شرعا، سواء أكان الالتزام مشروطا صراحة أم بحكم العرف والعادة المتبعة.
2 – إن هذه المعاملة تؤدي في كثير من الحالات إلى الإخلال بشروط القبض الشرعي اللازم لصحة المعاملة.
3 – إن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويل نقدي بزيادة لما سمي بالمستورق فيها من المصرف في معاملات البيع والشراء التي تجري منه، التي هي صورية في معظم أحوالها، هدف المصرف من إجرائها أن تعود عليه بزيادة على ما قدم من تمويل. وهذه المعاملة غير التورق الحقيقي المعروف عند الفقهاء، ولقد سبق للمجمع في دورته الخامسة عشرة أن قال بجوازه بمعاملات حقيقية وشروط محددة، بينها قراره... وذلك لما بينهما من فروق عديدة، فصلت القول فيها البحوث المقدمة فالتورق الحقيقي يقوم على شراء حقيقي لسلعة بثمن آجل تدخل في ملك المشتري ويقبضها قبضا حقيقيا وتقع في ضمانه، ثم يقوم ببيعها هو بثمن حال لحاجته إليه، قد يتمكن من الحصول عليه وقد لا يتمكن، والفرق بين الثمنين الآجل والحال لا يدخل في ملك المصرف الذي طرأ على المعاملة لغرض تبرير الحصول على زيادة لما قدم من تمويل لهذا الشخص بمعاملات صورية في معظم أحوالها، وهذا لا يتوافر في المعاملة المبينة التي تجريها بعض المصارف.
ثانيا: يوصي مجلس المجمع جميع المصارف بتجنب المعاملات المحرمة، امتثالا لأمر الله تعالى، كما أن المجلس إذ يقدر جهود المصارف الإسلامية في إنقاذ الأمة الإسلامية من بلوى الربا، فإنه يوصي بأن تستخدم لذلك المعاملات الحقيقية المشروعة من دون اللجوء إلى معاملات صورية تؤول إلى كونها تمويلا محضا بزيادة ترجع إلى الممول). انتهى نص القرار.
رابعا: في اجتماعه الذي انعقد في الشارقة في شهر نيسان (أبريل) 2009، أيّد المجمع الفقهي الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي القرار الأخير المذكور آنفا بشأن التورق الذي اتخذه المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي.
أما وقد انتهيت من بيان موقف الفقه الإسلامي المعاصر من التورق المصرفي، فأود هنا أن أناقش مدى مشروعية التمويل بأسلوب التورق في ضوء أحكام نظام مراقبة البنوك السعودي فأقول ما يلي:
أولا: عرفت الفقرة (ب) من المادة الأولى من نظام مراقبة البنوك الأعمال المصرفية بأنها (أعمال تسلم النقود كودائع جارية أو ثابتة أو فتح الحسابات الجارية وفتح الاعتمادات وإصدار خطابات الضمان ودفع وتحصيل الشيكات أو الأوامر أو أذون الصرف وغيرها من الأوراق ذات القيمة، وخصم السندات والكمبيالات وغيرها من الأوراق التجارية وأعمال الصرف الأجنبي وغير ذلك من أعمال البنوك). ويتضح من هذا التعريف أن المتاجرة في العقارات والسلع المختلفة لا تدخل ضمن مفهوم الأعمال المصرفية.
ثانيا: حظرت المادة العاشرة من النظام المذكور على أي بنك أن يزاول الأعمال الآتية:
1 – الاشتغال لحسابه أو بالعمولة، بتجارة الجملة أو التجزئة بما في ذلك تجارة الاستيراد أو التصدير.
2 – أن تكون له مصلحة مباشرة كمساهم أو كشريك أو كمالك أو بأية صفة أخرى في أي مشروع تجاري أو صناعي وزراعي أو أي مشروع آخر، إلا في الحدود المشار إليها في الفقرة (4) من هذه المادة ويستثنى من ذلك ما يؤول للبنك وفاء لدين له قبل الغير على أن يقوم البنك بتصفية ما آل إليه في خلال سنتين أو في خلال أية مدة أطول تحدد بعد الاتفاق مع المؤسسة (أي مؤسسة النقد العربي السعودي).
3 – شراء أسهم أي بنك يعمل في المملكة دون موافقة المؤسسة.
4 – امتلاك أسهم أية شركات مساهمة أخرى مؤسسة في المملكة تزيد قيمتها على 10 في المائة من رأسمالها المدفوع ويشترط ألا تتجاوز القيمة الاسمية لهذه الأسهم 20 في المائة من رأسمال البنك المدفوع واحتياطياته.
5 – امتلاك عقار أو استئجاره إلا إذا كان ذلك ضروريا لإدارة أعمال البنك أو لسكنى موظفيه أو للترفيه عنهم أو وفاء لدين للبنك قبل الغير.
وإذا امتلك البنك عقارا وفاء لدين له قبل الغير ولم يكن هذا العقار لازما لإدارة أعماله أو سكنى موظفيه أو الترفيه عنهم وجب عليه تصفيته في خلال ثلاث سنوات من تاريخ أيلولة العقار إليه أو إذا وجدت ظروف استثنائية لها ما يبررها في خلال المدة أو المدد التي توافق عليها المؤسسة وبالشروط التي تحددها ثم قررت الفقرة الأخيرة من المادة العاشرة بأنه استثناء من أحكام الفقرة (5) من هذه المادة يجوز للبنك – أن يتملك عقارا لا تزيد قيمته على 20 في المائة من رأسماله المدفوع واحتياطياته).
ثالثا: من المعروف أن معظم أساليب التمويل التي تتبعها البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية تقوم على أساس عقود الشراء والبيع للسلع والعقارات مثل عقود بيع المرابحة وعقود بيع السلم وعقود بيع التورق. وقيام البنوك السعودية بتمويل العملاء بهذه الصيغ التعاقدية وما شابهها يجعلها متاجرة في السلع والعقارات موضوع هذه العقود، وهو أمر محظور عليها ممارسته بموجب المادة العاشرة من نظام مراقبة البنوك التي قررت صراحة بأنه يحظر على البنك الاشتغال لحسابه أو بالعمولة بتجارة الجملة أو التجزئة بما في ذلك تجارة الاستيراد أو التصدير. كما منعت البنك أيضا من المتاجرة في العقارات.
وهنا أود الإشارة إلى أنه طبقا للفقرة الثانية من المادة (23) من هذا النظام يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تزيد على عشرة آلاف ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من خالف حكم المادة العاشرة سالفة الذكر. لذلك وطالما أن المشرع فرض جزاءات سالبة للحرية (الحبس) وجزاءات مالية على مَن يخالف حكم المادة العاشرة من النظام المذكور فإن جميع التعاقدات التي تنم بالمخالفة لحكم هذه المادة تعتبر باطلة من الناحية القانونية. وهذا البطلان لم ينشأ بسبب خلل في أصل هذه العقود وإنما بسبب مخالفة البنك قاعدة نظامية آمرة وإقدامه على إبرام صفقة في مجال نهاه النظام عنه.
وما أسلفت من رأي هو نتيجة تحليل للتنظيم القانوني الحالي للبنوك، ولذلك أرجو ألا يفهم من هذا الرأي أنني من المعارضين للصيرفة الإسلامية، فالعكس هو الصحيح وسبق أن دعوت في مقال منشور في جريدة "الاقتصادية" بتاريخ 17/10/1426هـ، الموافق 19/11/2005 إلى سن قانون جديد للعمل المصرفي ينظم أساليب وصيغ التعامل المصرفي الإسلامي، حيث قلت في نهاية ذلك المقال إن (التطور الكبير الذي شهده العمل المصرفي يوجب أن يسن قانون مصرفي شامل ينظم ويحكم جميع أنواع العمليات والخدمات المصرفية فالنظام الحالي المسمى "نظام مراقبة البنوك"، الصادر سنة 1386هـ - 1966م لم يعد يتواكب مع هذا التطور، فضلا عن أنه لا يحتوي على قواعد قانونية عامة تحكم عقود العمليات والخدمات المصرفية، وهو نقص تشريعي لا بد من سده. ولعل مما يزكي هذا الرأي ويدعمه أن بعض البنوك المحلية اتجهت إلى تطبيق أساليب وصيغ التعامل المصرفي الإسلامي مثل المرابحة والمضاربة والتورق. وأنه سدا لذرائع الخلافات بسبب اختلاف الآراء الفقهية فإن من المصلحة تقنين هذه الصيغ والأساليب في قواعد عامة ملزمة مستمدة من أكثر الآراء الفقهية ملاءمة لظروف وأوضاع العمل المصرفي المعاصر).
وأكرر الدعوة في هذا المقال للمشرع السعودي بأن يعيد النظر في التنظيم القانوني الحالي للبنوك، وأن يسن قانونا مصرفيا جديدا شاملا يتواكب مع معطيات الواقع المحلي والدولي، وعلى نحو يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء
الإقتصادية.

خالد أحمد عثمان


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..