قبل خمسة عشر عامًا تقريبًا هاتفت معالي
الشيخ: صالح بن عبدالرحمن الحصين - رحمه الله -، لأعرض
عليه بعض النشاطات الدعوية في القارة الإفريقية، فضرب لي موعدًا بالمسجد النبوي - عند الساعة التي على يسار البوابة رقم (37) بعد دخولك المسجد - وكان هذا أول لقاء لي معه، وذهبت حسب الموعد بعد صلاة العشاء، وجلست أتأمل في الموجودين بالقرب من الساعة: أين صاحب المعالي؟!
إذا التقيتَ بشيخنا أبي عبدالله - رحمه الله -، فإنك لفرط تواضعه تتحير: مَنْ المُعلِّم ومَنْ التلميذ؟! يُفخِّم كلامَك ويُطرزه كأنَّه يسمعه لأول مرة (وأنا أجزم أنه سمعه قبل أن تلدني أمي) ويُحطّ من قدر كلامه ويقدمه على أنه مجرد ملاحظات يسيرة قابلة للنقاش، وإذا بها منارات وقواعد قل أن تجدها عند غيره، ويذكرك هذا بما كان يردده كثيرًا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (مالي شيء ولا منّي شيء ولا فيّ شيء).
وهذا ديدنه مع كل من يحاول أن يقبل رأسه مهما كان منصبه أو سنه أو علاقته به.
كنت قد كتبت تقريرًا عن جنوب أفريقيا والشيخ بها خبير، فدعوته ودعوت مجموعة من المهتمين على شرفه لعرض التقرير ولأستفيد من توجيهاته فوافق وحضر على الموعد بعد العشاء، فقدمتُ التقرير، وأفدت من ملحوظاته وتوجيهاته، واستفاد كل منْ حضر، فلما حضر العَشاء لم يأكل، فعزمت عليه أن يأكل فاعتذر فلما رأى إصراري قال يا أخي لي أربعون سنة لا أتعشى حتى في المناسبات الرسمية، ولكن سآكل فاكهة إكرامًا لك، فقلت له يا شيخ لو أخبرتني، لما كان عشاء ولتبسطنا في اللقاء، فقال غفر الله له: وهل يعقل أن تحرم الناس بسببي؟!
جئته مرة وعنده بعض المحتاجين فكان يعطيهم من مالٍ عنده، وسعادته بعطائه أكثر من سعادتهم بقضاء حوائجهم، ورأيته يخدمهم قائمًا قاعدًا كأنهم يعطونه ما هم آخذوه.
إذا زرته في بيته في المدينة أو مكة تعجب من بساطة منزله، وتواضع أثاث مجلسه، لكني أجزم أنك ستشعُر بأنس وطمأنينة وراحة لن تجد مثلها في أجمل المجالس وأفخمها.
في بداية علاقتي بالشيخ كنت أهاتفه طمعًا في نيل شرف إيصاله لموعد مشترك لنا جميعًا، وذات مرة كنت أنا وهو في سيارتي وتطفلت وسألته: أين سيارتك يا شيخ؟ فقال كل الذي ترى سياراتي!
فتعجبت وسألته: كيف ذلك؟ فقال: أنا لست مثلك ليس لديك إلا سيارة واحدة، إذا تعطلت تعطل عندك كل شيء، أنا أخرج إلى الشارع العام فأشير بيدي وأركب السيارة التي تناسبني، فتعجبت ودهشت أن الشيخ لا يرى حاجة أن يشتري سيارة بل أخبرني أنه حتى في المواعيد الرسمية مهما كان الداعي! فإن سيارات الأجرة هي المفضلة لديه، وعندنا في المدينة كانت الوانيتات من ضمن أسطول الشيخ - رحمه الله -.
فإذا علمتَ ذلك فإنَّ من نافلة القول أن الشيخ ليس لديه جوال ويقول ليس لي به حاجة فأنا إما في البيت أو في العمل وفي كليهما هاتف فلِمَ الجوال؟!.
همسة: لتكن خطاك في دروب الخير على رملٍ ندّيٍ لايسمع لها وقعٌ ولكنّ آثارها بينة.
رحمك الله يا أبا عبدالله، وأخلفنا خيرًا، وجعل روحك في عليين وجمعنا بك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
حبيب بن محمد الحارثي
عليه بعض النشاطات الدعوية في القارة الإفريقية، فضرب لي موعدًا بالمسجد النبوي - عند الساعة التي على يسار البوابة رقم (37) بعد دخولك المسجد - وكان هذا أول لقاء لي معه، وذهبت حسب الموعد بعد صلاة العشاء، وجلست أتأمل في الموجودين بالقرب من الساعة: أين صاحب المعالي؟!
أين صاحب الفضيلة أو الوزير أو المسؤول؟! فلا أجد من الحاضرين (حسب انطباعي) من له هذه الصفات، فقلت أنتظر لعله في مكان آخر وسيأتي، ولكن طال انتظاري والانتظار ممضّ. ولم
يبق أحد سوى رجل متواضع الثياب نظيفها، يلبس غترة بيضاء يضع طرفيها على
كتفه الأيسر، يدعو ربه بخشوع تحت الساعة الموعد، جلستُ بجواره بحيث يراني،
ولم يخطر ببالي أنه هو، فلما أحس بي أنهى الدعاء، والتفت إليَّ وسلّم فعرفت
أنه هو، فسلمتُ وجلستُ بين يديه أُكلمه ويكلمني وأنا غير مستوعب لما أرى،
الشيخ يتكلم عن أفريقيا وما تحتاجه من دعوة وإصلاح، وأنا أتأمل في نفسي
وحاجتها إلى إصلاح جديد وخاصة إصلاح السرائر!، ودعوتِها إلى معرفة حقيقة
الدنيا، هذه الصدمة التي أصابتني في أول لقاء مع الشيخ جعلتني أحاول أن
أتواصل معه من وقت لآخر علَّ ذلك يُخفف ما في النفس من أثقال الأطماع،
ويُضعف ما في القلب من أعلاق الدنيا.
إذا التقيتَ بشيخنا أبي عبدالله - رحمه الله -، فإنك لفرط تواضعه تتحير: مَنْ المُعلِّم ومَنْ التلميذ؟! يُفخِّم كلامَك ويُطرزه كأنَّه يسمعه لأول مرة (وأنا أجزم أنه سمعه قبل أن تلدني أمي) ويُحطّ من قدر كلامه ويقدمه على أنه مجرد ملاحظات يسيرة قابلة للنقاش، وإذا بها منارات وقواعد قل أن تجدها عند غيره، ويذكرك هذا بما كان يردده كثيرًا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (مالي شيء ولا منّي شيء ولا فيّ شيء).
كان التواضع عند الشيخ صالح - رحمه الله - سجية، بل هو التواضع في صورة إنسان:
في منطقه وملبسه ومجلسه، في غدوه ورواحه، رأيته مع البسطاء ورأيته مع الأمراء طلق المحيا، دائم البشر لم تتغير نفسه ولم يتناقض سلوكه في الحالين.كنت
معه مرة في مصلى مطار الملك خالد بالرياض وهو يقرأ فرءاه أحد المسئولين
فجاء من خلفه يريد أن يقبل رأسه فمنعه حتى كاد الشيخ يسقط على الأرض.
وهذا ديدنه مع كل من يحاول أن يقبل رأسه مهما كان منصبه أو سنه أو علاقته به.
كنت قد كتبت تقريرًا عن جنوب أفريقيا والشيخ بها خبير، فدعوته ودعوت مجموعة من المهتمين على شرفه لعرض التقرير ولأستفيد من توجيهاته فوافق وحضر على الموعد بعد العشاء، فقدمتُ التقرير، وأفدت من ملحوظاته وتوجيهاته، واستفاد كل منْ حضر، فلما حضر العَشاء لم يأكل، فعزمت عليه أن يأكل فاعتذر فلما رأى إصراري قال يا أخي لي أربعون سنة لا أتعشى حتى في المناسبات الرسمية، ولكن سآكل فاكهة إكرامًا لك، فقلت له يا شيخ لو أخبرتني، لما كان عشاء ولتبسطنا في اللقاء، فقال غفر الله له: وهل يعقل أن تحرم الناس بسببي؟!
جئته مرة وعنده بعض المحتاجين فكان يعطيهم من مالٍ عنده، وسعادته بعطائه أكثر من سعادتهم بقضاء حوائجهم، ورأيته يخدمهم قائمًا قاعدًا كأنهم يعطونه ما هم آخذوه.
إذا زرته في بيته في المدينة أو مكة تعجب من بساطة منزله، وتواضع أثاث مجلسه، لكني أجزم أنك ستشعُر بأنس وطمأنينة وراحة لن تجد مثلها في أجمل المجالس وأفخمها.
في بداية علاقتي بالشيخ كنت أهاتفه طمعًا في نيل شرف إيصاله لموعد مشترك لنا جميعًا، وذات مرة كنت أنا وهو في سيارتي وتطفلت وسألته: أين سيارتك يا شيخ؟ فقال كل الذي ترى سياراتي!
فتعجبت وسألته: كيف ذلك؟ فقال: أنا لست مثلك ليس لديك إلا سيارة واحدة، إذا تعطلت تعطل عندك كل شيء، أنا أخرج إلى الشارع العام فأشير بيدي وأركب السيارة التي تناسبني، فتعجبت ودهشت أن الشيخ لا يرى حاجة أن يشتري سيارة بل أخبرني أنه حتى في المواعيد الرسمية مهما كان الداعي! فإن سيارات الأجرة هي المفضلة لديه، وعندنا في المدينة كانت الوانيتات من ضمن أسطول الشيخ - رحمه الله -.
فإذا علمتَ ذلك فإنَّ من نافلة القول أن الشيخ ليس لديه جوال ويقول ليس لي به حاجة فأنا إما في البيت أو في العمل وفي كليهما هاتف فلِمَ الجوال؟!.
بحكم أن الشيخ أحد أعضاء مجلس إدارة
الهيئة العالمية للتعريف بالإسلام؛ كنا نزوده بتقارير دورية عن عمل
الهيئة، أو ما يتعلق بمحاضر اجتماعات المجلس للتوقيع عليها، أحيانًا يتعذر
اللقاء به خاصة بعد انتقاله إلى مكة، فأكلمه بأني سأرسل الملفات عبر البريد
الممتاز، فكان يرفض ذلك ويرى أنه من الأسرع أن أسلمها لأحد سائقي سيارات
ماء زمزم العائدين إلى مكة ويعطيني رقمه، ويقول أنه سيلتقي به عند وصوله
مكة، ويستلم منه الملفات.
أحيانًا احتاج خلال
النقاش معه في مشاريع وبرامج الهيئة أن أتكلم في أشخاص بأعيانهم ومدى
الحاجة إليهم من عدمها فمع موافقته على القرار أو رفضه له إلا أنه لا ينسى
الفضائل فلا يدع اللقاء يمر دون أن يعرج على فضل الرجل ومآثره التي يعرفها،
ثم يحيل إلى آخرين لبيان فضل الرجل ومنزلته.
كنت أعجبُ من احترام المسئولين له، واستجابتهم لشفاعته، حتى رأيت مكاتباته لهم، وكيف يحسن تقديرهم وإنزالهم منازلهم دون نفاق أو تطبيل، أو إطراءٍ بخلاف الحقيقة، مع حسن عبارة، وجودة أسلوب، امتزج بنيةٍ صادقةٍ في الشفاعة أو نصحٍ للحاكم والمحكوم.
كنت أعجبُ من احترام المسئولين له، واستجابتهم لشفاعته، حتى رأيت مكاتباته لهم، وكيف يحسن تقديرهم وإنزالهم منازلهم دون نفاق أو تطبيل، أو إطراءٍ بخلاف الحقيقة، مع حسن عبارة، وجودة أسلوب، امتزج بنيةٍ صادقةٍ في الشفاعة أو نصحٍ للحاكم والمحكوم.
كان الشيخ في اجتماعٍ
مع عدد من المسئولين المعنيين بشؤون الحج، وتكلموا عن حج الأرصفة
(الافتراش) وأنه يشوه منظر الحج، ولابد من إلزام الناس (كل الناس)،
بالحملات، فاستأذن في الكلام، وتكلم كعادته بكل لطف عن خطورة أن يتحول الحج
إلى مظهر من مظاهر المفاخرة بين المترفين، ويُحرم منه البسطاء والمساكين
ويكون الحج خاصًا بالأغنياء فقط، ثم ذكر أنه حج حجة مُلوكية وحج حجة
الأرصفة، ولم يجد قلبه إلا في حج الأرصفة.
كان الشيخ - غفر الله
له - يحب القراءة، ولم أدخل عليه في منزلٍ أو مكتبٍ أو حتى في غرفته في
المسجد الحرام إلا وكتابٌ بجواره يقرأ فيه، وكان يعشق القراءة لمحمد أسد،
وخاصة كتابه الطريق إلى مكة، اختصره ورتبه وقرأه أكثر من مرة، ومن تواضعه
كان يسألنا عمن يحُسن اختصاره لأن ما قام به لا يرقى للمستوى المطلوب!.
الشيخ لا تمل الحديث
معه والجلوس بين يديه ولكنك أيضًا لا تستطيع أن تطيل معه، رفقًا بنفسك،
ولشعورك أن الرجل لديه ما يشغله فلا تُضْيِعَ وقته بهذا الجلوس.
معالي الشيخ صالح
الحصين - رحمه الله -، جمع بين الفكر والوعظ والسلوك، صفاء فكرٍ، وسلامة
قلبٍ، وحسن عملٍ، في قالبٍ من البساطةِ واللطفِ ودماثة الخلق.
هذه زخات من غيث
حياته، عاصرتها بنفسي ولامس نداها فؤادي، وأجزم أن لدى خواص طلابه وجلسائه
وأصفيائه صيبًا نافعًا من هذا الغيث والخير، فهل من مغيث؟!
همسة: لتكن خطاك في دروب الخير على رملٍ ندّيٍ لايسمع لها وقعٌ ولكنّ آثارها بينة.
رحمك الله يا أبا عبدالله، وأخلفنا خيرًا، وجعل روحك في عليين وجمعنا بك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
فكره:
كانت لديه نزعة تحررية عقلية وشخصية من كل ما هو سائد وعام ومجتمعي، وهذا
أمر له علاقة بجانب فطري لا يفيد الكلام الكثير عنه عند من لا يُقدر هذا
الجانب ولا يدركه.
وقد لاحظ هذا في نفسه ووعاه من شخصيته، فمارسه قاصدا، وأخفاه خطابا، وهو
عندي الدافع الأول لتخليه عن منصب "وزير" مبكرا في شبابه، وليس بسبب أن
خمسة آلاف ريال تكفيه، نعم، إنها تكفي من توجه لتحرير لنفسه فقط وهم ندرة
بين البشر، ولكنها لا تكفي مهما تضاعفت لمن توجه لتعبيد عقله وبدنه
لشهواته.
وهذا ما جعله يحمل عقلا نقديا لا يتصنعه، فمنه الفطرة ومنه العمل، وهو إذا
بدأ ليتحدث مخالفا ما يسمع وما يمارس تحس من حركة شفته وتوجه وجهه أنه
شارع في قول جديد تماما، وأنه سيخالفك.
ومن أسباب عدم شعبيته وضعف جماهيريته المعرفية أنها ليست ميدان اهتمامه
الفقهي، وليس في سياق الثقافة الشعبية، التي لها شروط قد تخالف ما هو عليه
واقعه، فيعوض مادحوه الثقافة الشعبية بالإعلاء من التقوى والزهد عنده وهي
حقيقة، خالف بها جمهور المشايخ الأشد تهافتا ماديا وبيعا للضمير في سوق
المال والشهرة والسلطة.
ولذا، هناك فرق بين ما يقال عنه ويراد منه أن يكون، وبين من هو وماذا كان
يفكر ويقول. ومورده الفكري هنا حصيلة الفطرة والمعرفة، أو الاستعداد
والتأهيل، ومشكلة كثير من المثقفين التضاد أو التناقض بين الطرفين، وزد على
ذلك هياج الشهوات عند كثير من المتأهلين والشهوات في المال والجاه والشهرة
والسلطة تسحق العقل والضمير، وتستخدم المعرفة في منظومة فساد أخلاقي باسم
العلم والشريعة والدين والثقافة.
أما عمّا أشرت إليه في مقدمة المقال الأول مما يشير إلى مسألة التفلسف أو
أنه فيلسوف؛ فقد عنيت إتباع الحكمة، والتفكير فيما يحيط به، وإحياء العقل
الذي يظهر نشاطه وقوته إذا ما قورن بمجتمع يموت فيه العقل، بسبب سيطرة
الرواية وقتل الدراية، وبسبب الضعف الشديد للحرية الفكرية؛ الضعف الناتج عن
غياب الحرية السياسية، وكان يعوض ذلك بأسفار، وقراءات طويلة واستقلال طويل
في مزرعة نائية عن الناس، يستقبل فيها الضيوف الغرباء.
من هنا فحكمي عليه بأنه فيلسوف لأنه يتفلسف، أي يبحث عن الحكمة والمعنى في
كل شيء، وهذا المقصد الأصلي للفلسفة والتفلسف، وليس دراسة نظريات وأبحاث
وتعريفات، فكما يرى "كنت": "الفلسفة لا تُدرّس، فقط يمكن تدريس التفلسف
الذي يعني التوجه النقدي" وهذه مميزة وثقافة وممارسة بارزة لدى الشيخ
الحصين.[1]
كانت أهم موارد الشيخ الثقافية: العلوم الإسلامية قبل غيرها، فهو من
مجالسي علماء الحرمين وزواره، ومن خريجي كلية الشريعة في مكة المكرمة، أول
كلية في البلاد، حيث اجتمعت فيها نخبة من نابغي الطلاب والمدرسين، ثم درس
القانون على أكبر أساتذته وأشهرهم الدكتور عبد الرزاق السنهوري، في أوائل
الستينيات الميلادية، قبل أن تتعقد الأمور وتغرق مصر تماما في دكتاتورية
ضاغطة ومحاصرة كما حدث تدريجيا وبلغ ذروته في منتصف الستينيات.
وكان ناضجا عندما لقي أستاذه السنهوري فتأثر به واستفاد بشكل كبير، ولا
يفتأ يذكره، وكتب عنه وأثنى عليه، لكن هذا لم يمنعه من مخالفته بوضوح
وصراحة، وكتب الرد على اجتهاداته في كتابه عن المصرفية.
ومدحه في مجالسه شفهيا بأكثر مما كتب. وكان أهم ما لفت انتباهه في أستاذه
عمق السنهوري في الفقه الإسلامي ومعرفة مقاصده، مع استيعاب لفلسفة التشريع
في الإسلام وفي القانون الفرنسي، فقد أفادته دراسته للقانون الفرنسي وغايات
التشريع في اكتشاف الشريعة ومقاصدها.
ثم كان مورده الثاني: الثقافة الغربية، بدءا بمتابعة واسعة للأفكار
والكتاب؛ فقد ذهب لفرنسا لدراسة اللغة وللدراسة العليا في القانون، ثم لم
يكمل بسبب مرض أمه، وعمله في الإدارات القانونية في مرحلة تواصل القانون
الغربي مع تأسيس نظم وقوانين كانت تحتاج لمواءمة بين الفقه والقانون،
وتحتاج إلى عدم مصادمة آنذاك، فكان يحاول زرع الفقه في بنية لم يسبقه إليها
أحد في البلاد.
وقد سألته: هل هناك من مكان جمع فيه كتاباته وملاحظاته وفتاويه القانونية؟
فبين إن هذا صعب أن يستعاد أو يوجد لأنه كان يتم تعليقا وتعديلا وملاحظة
على القوانين التي تصدر، ومنتثر في وثائق وفي أوراق مؤسسات عديدة.
وكان يرى أن تقنين الشريعة عمل يحجر على القضاة ويمنع الاجتهاد، وله نماذج
في اجتهادات بعض القضاة في عصرنا يراها ذات جدوى وأهمية في إثراء الفقه،
ولديه أمثلة من الاجتهاد المعاصر لبعض قضاة الحنابلة لم توجد لها سوابق،
فكانت حالات اجتهاد ما كان لها أن تتم لو كان المذهب والمحاكم قد اعتمدت
التقنين، ولبقي الجمود مسيطرا على المذهب الفقهي فلا يجتهد أحد ولو في
مسألة.
وقد أصر بعض المشايخ على منع تقنين الشريعة في محاكمهم، ولكن بعض الحكومات
في مواجهة خصومها السياسيين وتحجيرا لحرياتهم، ومنعا لنشاطاتهم استطاعت أن
تقنن العقوبات المتعلقة بخصومها، فأسست قوانين جائرة ضدهم، مبنية ظاهريا
على ألفاظ شرعية لغايات استبدادية، وفي ظل القسر سكتت الأصوات التي تخالف
التقنين، ولم تستجب لمطالبات الذين يطالبون بالتقنين، فالأحكام المتعلقة
بالقضايا السياسية قننت وحسمت سياسيا لا فقهيا، وبقي مفتوحا أو بلا تقنين
ما لا يمس الرغبات الرسمية.
وهو جدل فقهي كان مثارا في أول ذهابي للولايات المتحدة، وقد كنا نناقش
الأمر على فقر في معلوماتنا الفقهية والقضائية، وعلى الرغم من كون القانون
الأمريكي يعتمد السوابق، ولكن بعض القضاة يحاولون أيضا الاجتهاد من خلال
اجتراح سوابق تكون قانونا فيما بعد.
ولعل من طريف ذلك أن القاضي –أو المدعي الفيدرالي- الذي حاكم المهندس سامي
الحصين كان يحاول صناعة سابقة في تحجير حرية العمل الإعلامي من خلال
ادعائه أن إنشاء سامي لمواقع على الشبكة استخدمها آخرون لأهداف غير مشروعة،
تدين من أنشأ الموقع، فيستطيع أن يدينه بما لم يفعل، فضلا عن التحجير
عليه، ومنع حرية الرأي، وهذا ما جعل المفكر المعروف تشومسكي يطلب الشهادة
في المحكمة لسامي ضد المدعي العام للحكومة الأمريكية.
حبيب بن محمد الحارثي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..