الاثنين، 17 يونيو 2013

إنها انعطافة لافتة في حربنا على الفساد

عبد العزيز محمد قاسم
 أما الفجيعة التي انتابتني وكدّرت عليّ، فتمثلت في أن المتهمين كانوا 34 من كبار القياديين في إدارة تربوية بمنطقة كبيرة كحائل،
وحكم على 16 منهم بالسجن، مما جعلني أضع يدي على رأسي، وأهتف: أيعقل أن يكون هؤلاء هم من أسلمنا فلذات أكبادنا لهم، ليعلموهم الأخلاق والفضيلة والأمانة؟


لنا أدوار يجب أن نقوم بها، ولا نكتفي بمجرد الاتكاء على "هيئة مكافحة الفساد"، بل يجب التواصي بعدم التستر على الفسدة بحجة إظهار الصورة الناصعة
لا حلّ برأيي إلا بأن يتصدى لملف الإصلاح والحرب على الفساد وصيانة المال العام شخصية قوية، تستطيع تفكيك مداميك الفساد المستعصية والصدئة، وتُجفل بتلويحة من يدها كل الفسدة، صغارا كانوا أم هوامير؛ فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

---------------

عندما تدهمك فجأة حالتا فرح وفجيعة في آن، تظل في وضعية نفسية متقلبة، لا تكاد تشعر بأحدها حتى تزايلك، وتحل الأخرى مكانها، وهو ما حصل لي تماما وأنا أقرأ خبر الأحكام التي أصدرتها المحكمة الإدارية على 34 متورطا في قضية فساد كبيرة في إدارة تربية حائل.

أما الفرح؛ فلأن المحاكمة كانت بصورة علنية، وبأسماء صريحة، وللموقف الجريء الذي وقفته وزارة التربية والتعليم، التي لم تتدخل في القضية، مما يمثل انعطافة مهمة في الحرب على الفساد، فما كان يحصل في السابق في الوزارة ـ وغالب الوزارات الأخرى ـ أن يتستر المسؤول التنفيذي على صغار موظفيه؛ فرَقا من تلطيخ سمعة القطاع الذي يرأسه، ولشعوره بأن ظهور مثل هذه الفضيحة، سيوصل رسالة بأنه غير مسيطر على الأمور، فيلجأ للتستر على القضية، عبر مطالبة الفسدة أو المرتشين بالاستقالة، أو تقديم تقاعدهم المبكر، ومن ثمّ تطوى القضية في تلكم الأدراج المتخمة بملفات التستر.

هناك من المسؤولين من تأخذه الشفقة والرحمة، فيوعزه ضميره بألا يقطع رزق هذا الفاسد؛ لأن لديه أبناء وزوجة، فيقوم بالتستر كذلك، ويكتفي بنقله إلى قطاع آخر. للأسف هذه الثقافة المجتمعية السائدة عندنا من عقود طويلة، دون أن ننظر في حق المجتمع في هذا المال المسروق، ولا حق الأجيال الجديدة في المال العام الذي نهبه هؤلاء، وقد أمنوا العقوبة، واتكؤوا إلى هذه الرحمة التي تسربل قلوبنا.

والحقيقة، أن ما قام به وزير التربية والتعليم بعدم التدخل، وترك المسألة للقضاء، هي خطوة في صالحه وصالح أي وزير في أي موقع، ولست مع أولئك الذين يقولون: إن القضية خرجت من يد سموه؛ لأنها سابقة له من عهد سلفه، فثمة قضايا فساد تجري تحقيقاتها اليوم، فهناك بإدارة تعليم الرياض اختلاسات بمئة وخمسين مليون ريال، وقضايا فساد مطروحة إعلاميا في إدارات تعليم جدة والمدينة والزلفي، وما خفي كان أعظم، وكان بوسع الأمير فيصل بن عبدالله التدخل ولملمة الموضوع وطيّه، ولكنه لم يفعل، بل ترك القضية للمحققين واللجان، لتأخذ طريقها بعد ذلك إلى القضاء؛ كي تكون له الكلمة الفصل، وواجب علينا هنا شكر هذا الموقف من سموه، والدعوة لتعميم ما فعله إلى بقية الوزارات، التي تنوء بكثير من لصوص المال العام والمرتشين.

أما الفجيعة التي انتابتني وكدّرت عليّ، فتمثلت في أن المتهمين كانوا 34 من كبار القياديين في إدارة تربوية بمنطقة كبيرة كحائل، وحكم على 16 منهم بالسجن، شمل مدير التعليم ومساعده للشؤون التعليمية، ومساعده للخدمات المساندة، ومدير المشتريات، ومدير الإعلام التربوي، ومدير الإشراف والتنفيذ، وبقية قيادات رفيعة في تلك الإدارة التعليمية، مما جعلني أضع يدي على رأسي، وأهتف: أيعقل أن يكون هؤلاء هم من أسلمنا فلذات أكبادنا لهم، ليعلموهم الأخلاق والفضيلة والأمانة؟، وأقسم أنها كارثة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولعلّي أردّد هنا ما قاله د. مازن بليلة في مقالة فارطة له، وهو يعلق على هذا الحدث بقوله: "ماذا تبقى لهم من جرائم مالية لم يرتكبوها، فوالله لو نطقت الجدران لوبّختهم!! التعليم نصفه مناهج للدين، وهم القائمون على تدريسها، وتغليظ العقوبة أولى هنا؛ لأنهم قدوات، والقدوة تضرّ أجيالا من بعدها".


الفساد استطال لأمداء بعيدة في مجتمعنا، وتغوّل إلى زوايا متعددة، وشبه يأس يخترم نفوس كثير من النخب والناشطين في الشأن العام، بأن هيئة مكافحة الفساد بوضعها الحالي، لا تستطيع أن تفعل شيئا يذكر، وهي التي صرّحت بأن ما حصل في "حائل" ليس من اختصاصها، وهي التي قال رئيسها: إن له حدودا معينة لا يمكن له أن يتجاوزها.

الخوف كل الخوف أن نصل لما قاله زميلنا د. فايز جمال في مقالة له عنونها بـ"الخوف من أن يتحول الفساد إلى إدارة للفساد"، وهناك من يرى أننا وصلنا إلى تلك المرحلة، وأن الفساد تديره شبكة كبيرة، اخترقت معظم وزاراتنا ومؤسساتنا الحكومية، يتواصون فيما بينهم، وتلك لعمرو الله مصيبة؛ لأن اجتثاثها سيحتاج لسنوات طويلة.

التعويل على الوازع الديني في محاربة الفساد لا يفي كثيرا للأسف، والاتكاء فقط على ضمير الإنسان غير مجد البتة، فيما نحن نرى السرقات تتكاثر، والنهب يزيد، والاختلاسات تتصاعد، برغم كل الحرب عليها.

لا حلّ برأيي إلا بأن يتصدى لملف الإصلاح والحرب على الفساد وصيانة المال العام شخصية قوية، تستطيع تفكيك مداميك الفساد المستعصية والصدئة، وتُجفل بتلويحة من يدها كل الفسدة، صغارا كانوا أم هوامير؛ لأنها قادرة على الوصول لهم ـ مهما عظموا ـ ومعاقبتهم، فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

من جهة أخرى، لنا أدوار يجب أن نقوم بها، ولا نكتفي بمجرد الاتكاء على هيئة مكافحة الفساد، بل يجب التواصي بعدم التستر على الفسدة بحجة إظهار الصورة الناصعة، أو أن تأخذنا الرحمة بهم، وتفعيل دور المواطن الشريف في الإبلاغ عن أية شبهة فساد، بل وتشجيعه على القيام بذلك، وتعميم ثقافة صيانة وحماية المال العام في وعي المجتمع،

وخصوصا الناشئة، بأن هذا المال هو حقهم، إضافة إلى المطالبة اللحوحة بفتح كل الملفات السابقة، وعدم سقوطها بفعل التقادم؛ كي لا يهنأ أولئك اللصوص الكبار، وحتى لا يفكر اليوم من سيسرق أنه بمجرد استقالته أو ذهابه سيطوى ملف فساده، وأن عدالة المجتمع لن تطاله أو تصل إليه. كل ذلك سيسهم في تقليص الفساد، وإجفال المفسدين لتكف أياديهم الآثمة عن السرقة..

المال العام ملكٌ للمجتمع، وحقٌّ للأجيال الجديدة..
..........

الوطن السعودية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مواضيع مشابهة - أو - ذات صلة :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..