الخميس، 25 يوليو 2013

مدارك النَّظر في السّياسة

كتاب مدارك النَّظر في السّياسة
بين التطبيقات الشّرعية والانفعالات الحَمَاسية
تأليف
عبد المالك بن أحمد بن المبارك رمضاني الجزائري

قرأه وقرّظه
العلاّمة الشيخ: محمد ناصر الدين الألباني
والعلاّمة الشيخ: عبد المحسن بن حمد العبّاد البدر



 تجد في هذا الكتاب
*     تأصيلاً لقاعدة: الفتوى في النوازل السياسية قاصرة على المجتهد:
قال الله تعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وقال ابن القيم: " العالِم بكتاب  الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة فهو المجتهد في النوازل، فهذا النوع الذي يَسوغ لهم الإفتاء ويَسوغ استفتاؤهم ويتأدى بهم فرضُ الاجتهاد، وهم الذين قال فيهم رسول الله : (( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها )) ".
*     وبيانَ أنه لا يفتي في دقائق الجهاد إلا هو، وأنه يَحرُم استفتاء طلبة العلم فيها
ـ فضلاً عن غيرهم ـ مهما زعموا أنهم فقهاء الواقع:
قال ابن تيمية: " وفي الجملة فالبحث في هذه الدقائق ـ أي دقائق أحكام الجهاد ـ من وظيفة خواص أهل العلم .. ".
*     وبيانَ أنه لو أفتى فيها مَن ليس في رتبة العالم المجتهد أفسد البلاد وأرهق العباد؛ لأن العالِم يشمّ الفتنة قبل وقوعها، وأما غيره فلا يعرفها إلا إذا وقع فيها، وقد لا يعرفها:
قال الحسن البصري: " إن هذه الفتنة إذا أقبلت  عرفها كلُّ عالم، و إذا أدبرت عرفها كلُّ جاهل ".
*     وتحذيراً من مسالك الحركيين من الإسلاميّين الذين اتَّخذوا من السياسة جارحةَ صيد، واتَّخذها الأعداء آلةَ كيد:
قال عبد الحميد بن باديس: " فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها عن علم وبصيرة ... ولو أردنا أن ندخُل الميدان السياسي لدخلناه جهراً ... ولقُدنا الأمّة كلها للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهل شيءٍ علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، وأن نَبْلغ من نفوسها إلى أقصى غايات التأثير عليها؛ فإن مما نعلمه، ولا يخفى على غيرنا أن القائد الذي يقول للأمّة: (إنّكِ مظلومة في حقوقك، وإنّني أريد إيصالكِ إليها)، يجد منها ما لا يجد من يقول لها: (إنّك ضالة عن أصول دينك، وإنّني أريد هدايتَك)، فذلك تلبِّيه كلها، وهذا يقاومه معظمُها أو شطرُها ...".
*     وتحذيراً من الحزبية التي فرّقت شمل المسلمين:
قال محمد البشير الإبراهيمي: " أوصيكم بالابتعاد عن هذه الحزبيات التي نَجَمَ  بالشّر ناجمُها، وهجم ـ ليفتك بالخير والعلم ـ هاجمُها، وسَجَم على الوطن بالملح الأُجاج ساجِمُها، إنّ هذه الأحزاب! كالميزاب؛ جمع الماء كَدَراً وفرّقه هَدَراً، فلا الزُّلال جمع، ولا الأرض نفع! ".
*     وتحذيراً من مسالك الثوار:
    قال ابن خلدون: " ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء؛ فإن كثيرا من المنْتَحِلين للعبادة وسلوك الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجَور من الأمراء، داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، والأمر بالمعروف رجاءً في الثواب عليه من الله، فيَكثُر أتباعُهم والمتشبِّثون بهم من الغوغاء والدهماء، ويُعَرِّضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يَهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين؛ لأن الله سبحانه لم يَكتب ذلك عليهم ... ".
*     وبيانَ مغبَّة الخروج على السلطان:
قال الحسن البصري: " والله! لو أنّ الناس إذا ابتُلُوا مِن قِبَل سلطانهم صبروا، ما لبِثوا أن يرفع اللهُ ذلك عنهم؛ وذلك أنهم يَفزَعون إلى السيف فيوكَلُوا إليه! ووالله! ما جاؤوا بيوم خير قطّ!"، ثم تلا: {وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ودَمَّرْنا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُون}.

تقريظ الكتاب
للعلاّمة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
حفظه الله تعالى


إلى الأخ الفاضل عبدالمالك بن أحمد رمضاني
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته
أمابعد؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله لنا ولك التوفيق فيما نقول ونذر.
وجواباً على خطابكم المؤرخ في: 15/10/1415هـ، أقول:
أولاً: أنا شاكرٌ لك حسن ثنائك عليَّ بما لا أستحقه، متذكِّراً وداعياً بقول الصدِّيق الأكبر : " اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون "، ومذكِّراً لك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنْ كان أحدكم مادِحاً أخاه لا محالة فليقل: أحسِبُ فلاناً كذا وكذا ـ إن كان يُرى أنه كذلك ـ ولا أزكي على الله أحداً )) رواه مسلم( ).
ثانياً: لقد رغبتَ في أن تعلم رأيي في كتابك: (( السياسة بين فراسة المجتهدين وتكيس المراهقين ))( )  قبل أن تطبعه.
ورغم ضيق وقتي، وضعف نشاطي الصحي، وكثرة أعمالي العلمية، فقد وجدتُ نفسي مشدوداً لقراءته، وكلما قرأتُ فيه بحثًا مُعَلِّلاً نفسي أن أكتفي به، كلما ازددتُ مُضيًّا في القراءة حتى أتيت عليه كلِّه، فوجدتُه بحقٍّ فريداً في بابه؛ فيه حقائق عن بعض الدعاة ومناهجهم المخالفة لما كان عليه السلف الصالح، واستفدت أنا شخصيًّا فوائد جمَّةً حول ثورة الجزائر وبعض الرؤوس المتسببين لها، والمؤيِّدين لها بعواطفهم الجامحة، والمبالغين في تقويمها ممن لا يهتمون بقاعدة التصفية والتربية.
ولقد سررتُ جدًّا من إشادتك بها، ودندنتك حولها كثيراً، في الوقت الذي لم ينتبه لدورها الهامّ أكثر الدعاة في تحقيق المجتمع الإسلامي وإقامة حكم الله في الأرض، بل إنها الأساس في ذلك، فجزاك الله خيراً.
وأخيرا: ونظراً لتلهّفكم الشديد للجديد من مؤلفاتي، فإني أبشِّركم بأنَّ تحت الطبع منها:
1ـ المجلد الثالث من (( مختصر صحيح البخاري )).
2ـ المجلد الخامس من (( سلسلة الأحاديث الضعيفة )).
3ـ المجلد السادس من (( سلسلة الأحاديث الصحيحة )).
4ـ (( صحيح موارد الظمآن )).
5ـ (( ضعيف موارد الظمآن )).
6ـ (( الرد على ابن حزم ومقلِّديه في إباحة المعازف )).
7ـ المجلد الثاني من (( صحيح الترغيب والترهيب ))
وختاماً أسأل الله تعالى أن يستعملنا في طاعته، وأن يوفقنا جميعاً لخدمة سنة نبيّه، وأن يصرف عنا شر الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    وكتب
    محمد ناصر الدين الألباني
    عمان/ صباح الثلاثاء     25/11/1415هـ.

هذه صورة تقريظ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني



تقريظ الكتاب
 للعلاّمة الشيخ عبد المحسن بن حمد العَبَّاد البدر
حفظه الله تعالى



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، نبيّنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد يسّر الله لي قراءة كتاب (( مدارك النظر في السياسة بين التطبيقات الشرعية، والانفعالات الحماسية )) الذي ألّفه أخونا الشيخ عبد المالك بن أحمد بن المبارك الرمضاني الجزائري، فألفيته كتاباً مفيداً، مشتملاً على التأصيل للمنهج القويم الذي يليق بالمسلم الناصح لنفسه أن يسلكه، ومشتملاً أيضاً على تصحيح مفاهيم خاطئة لبعض الشباب في داخل البلاد السعودية وفي خارجها، وخاصة تصحيح مفاهيم بعض أصحاب الفقه الجديد: فقه واقع القصاصات من الصحف والمجلات، وتتبُّع الإذاعات الكافرة وغير الكافرة، وتلقّف أخبارها، وتحليلهم إياها تحليلات اعتبروها أموراً مسلّمة، وقد أثبت الواقعُ في الغالب خطأَ نتائج هذا التحليل، ولم يقف الأمرُ بهم عند هذا الحدّ، بل تجاوز إلى النَيْل من أجِلَّة علماء هذا العصر ذوي الفقه في الدين، وحملة ميراث النبي الكريم ، وفي مقدّمتهم سماحة شيخنا العلاّمة الجليل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ـ حفظه الله ـ، وفضيلة الشيخ العلاّمة الجليل محمد بن صالح العثيمين ـ حفظه الله ـ، الذين نفع الله بعلمهم وفتاويهم، ويرحم الله الإمامَ الطحاوي إذ يقول في عقيدة أهل السنة والجماعة: " وعلماء السلف مِن السابقين ومَن بعدهم مِن اللاحقين أهل الخَبر والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يُذْكَرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل ".
وفي الكتاب فوائد عظيمة، ودفاع عن الحق وحملة العلم الشرعي، وتوضيح لبعض الحقائق من خبير بها، كالأوضاع في الجزائر بلادِ المؤلِّف.
وفي الكتاب ذِكرُ كلامٍ في صفحتي: (243) و(351)( ) لاثنين من شباب هذه البلاد ـ هداهما الله ـ اتَّهمَ كلٌّ منهما كبارَ علماء العصر في هذه البلاد بالقصور؛ لأنهم أَفتوا بتسويغ مجيء قوات أجنبية للمشاركة في الدفاع عن البلاد إثر الهجوم الغاشم من طاغية العراق على الكويت، وكانت نتيجة ذلك دحر العدو، والإبقاء بحمد الله تعالى على الأمن والاطمئنان، وكان الأليق بهما وقد أعجبهما الرأي المخالف لِمَا رآه العلماء أن يتَّهِما رأيهما، ويتذكّرا نتيجة الرأي الذي رآه بعض الصحابة  في أحد شروط صلح الحديبية، حيث تبيّن لهم أخيراً خطأ ذلك الرأي، فكان الواحد منهم يقول فيما بعد: " يا أيها الناس! اتَّهموا الرأي في الدين "، وتسويغ كبار العلماء مجيء تلك القوات في حينه إنما كان للضرورة، وهو نظير استعانة المسلم بغير المسلم في التخلّص من اعتداء لصوص أرادوا اقتحام داره وممارسة أنواع الإجرام فيها وفي أهلها، أَفَيُقال لهذا المعتدَى عليه: لا يَسوغ لك الاستعانة بكافر في دفع ذلك الضرر؟! ثم إن الخلاف حاصل في أكثر مسائل العلم منذ زمن الصحابة ، ولم يكن بعضهم يُسفِّه بعضاً فضلاً عن أن يكون الصغار هم الذين يجترؤون على تسفيه رأي الكبار كما حصل من هذين الشابين أصلحهما الله.
وفي صفحة (376)( ) ذكرُ كلامٍ لثلاثة من شباب هذه البلاد أتوا فيه بالغريب العجيب؛ ألا وهو التنويه والإشادة بخروج النساء إلى الشوارع للمظاهرات، وقد أوضح المؤلف ـ جزاه الله خيراً ـ قبل هذه الصفحة فساد ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف.
وفي صفحة (287)( ) نقلُ كلامٍ لأحد الشباب في هذه البلاد يقرّر فيه خلاف مذهب أهل السنة والجماعة في معاملة ولاة الأمر ويهيج الغوغاء من الرجال والنساء على الإقدام على ما يثير الفتن وما يؤول بغير أهل العقل والثبات والرزانة إلى تعريض أنفسهم للضرر، ومنه إيداعهم السجون، ولا شك أن من عرّض غيره للضرر يكون له نصيب من تبعة ذلك.
وهذا الكلامُ المثيرُ للفتنة قد فاحت ريحُه منذ سنوات في حفل أُقيم لتكريم حَفَظة السُّنَّة أشرف عليه هذا الشابُّ؛ وقد سمعتُ تسجيلَ ذلك الحفل، ومع كون أحاديث الصحيحين تبلغ عدة آلاف فإن اختيار الأحاديث القليلة التي أُلقيَت على الطلبة لاختبار حفظهم ملفتٌ للنظر؛ لتعلّق جملة منها بالولاة! يُضاف إلى ذلك كون هذا الشاب أصلحه الله عند ذكر هذه البلاد لا يصفها بالسعودية بل يعبّر بالجزيرة! أخبرني بهذا من أثق به.
ومن الخير لهذا الشاب ومن يطأ عقبه من الشباب أن يكونوا مع الجماعة ويجتنبوا الشذوذ والخلاف والفُرقة، وأن يفيئوا إلى الرشد؛ فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، كما قال ذلك المحدَّث الملهم عمر بن الخطاب .
وفي صفحة (269)( ) تجد كلاماً ساقطاً لمهيِّج الغوغاء المشار إليه آنفاً، ينعى فيه على خطيب لا يتكلّم في الأحداث السياسية، ويُعنَى في خطبته بذكر أحوال الآخرة والقبر والموت والجنة والنار والبعث والحساب وغيرها!! فإن مجرّد اطّلاعك على هذا الكلام يغنيك عن أي تعليق عليه، ولم يُخْلِه المؤلف من التعليق.
وفي الكتاب صورة منشور لشخص حاقد موتور، لا علاقة له بالعلم الشرعي والفقه في الدين، احتضنته عاصمة الاستعمار، وفيها عُشّ رُويبضات الزمن ـ كما قال المؤلف ـ نال في منشوره من ثلاثة أعلام أفذاذ:
الأول: صاحب رسول الله  معاوية بن أبي سفيان  أمير المؤمنين وكاتب وحي ربّ العالمين، وأول ملوك المسلمين وخير ملوكهم، وهو أحد الخلفاء الذين قال فيهم النبي : (( لا يزال الإسلامُ عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ))، أخرجه مسلم في (( صحيحه )) من حديث جابر بن سمرة ، وقد دَوَّنْتُ جملةً من أقوال أهل الإنصاف في هذا الصحابي الجليل  في رسالة مطبوعة بعنوان: (( من أقوال المنصفين في الصحابي الخليفة معاوية  )).
الثاني: شيخ الإسلام مجدّد القرن الثاني عشر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
الثالث: شيخنا العلاّمة الجليل مفتي الأنام مجدّد القرن الخامس عشر الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله.
وليس بغريب أن يصدر من مثله هذا المنشور، وإنما الغريب أن يوجد في بعض شباب بلاد التوحيد ـ هداهم الله وأصلحهم ـ من يتلقَّفُه ويَفرح به!
يُقضى على المرء في أيام محنته      حتى يَرى حسناً ما ليس بالحسن
اللّهم أرِنا وإياهم الحق حقًّا ووفقنا لاتّباعه، والباطلَ باطلاً ووفقنا لاجتنباه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضلّ.
وقد أفصح صاحب المنشور عن حزبه الذي ينتمي إليه، وأكّد أنه سوف يظلّ وفيًّا لمبادئه {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
وإذا كانت هذه الوقيعة الشنيعة في ثلاثة من خيار الناس من الأموات والأحياء صدرت ممّن زعم نفسه ناطقاً رسميًّا للجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية المزعومة، فكيف سيكون الدفاع المزعوم؟! وهل هؤلاء الأخيار لا يستحقّون أن يُذبّ عنهم أو أنَّ نَصيبهم من هذا الناطق الذمّ بوقاحة وفَقْد حياء، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}، ويقول الرسول الكريم : (( إنَّ مما أدرك الناسُ من كلام النبوّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت ))، أخرجه البخاري في (( صحيحه )).
وأقبح شيء تقيّأه في منشوره قوله في معاوية  وفي خلافته: " إنني أعتبر معاوية مغتصباً، وإنني أعتقد أنه سيلقى جزاءه من الله يوم القيامة على ما ارتكبه من جرائم!! "، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً}، وخلافة معاوية  حصلت في قرن الصحابة خير القرون، وقد رضي الصحابة بخلافته، واعتُبر عام (41) عام ولايته عام الجماعة؛ إذ تحقّق فيه ما أخبر به النبي  عن سبطه الحسن بن علي رضي الله عنهما حيث قال: (( إن ابني هذا سيّدٌ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ))، أخرجه البخاري في (( صحيحه )).
ومع هذا كلّه يجيء هذا الرويبضة في القرن الخامس عشر ويقول فيه هذا الإفك المبين والبهتان العظيم.
وإذا كان هذا زعمه في معاوية  وفي خلافته فأيُّ حاكم يعجبه؟ وأيُّ ولاية ينشُدُها ويحلم بها؟ نعوذ بالله من الخذلان! وقد قال الحافظ ابن حجر في (( فتح الباري )): (( اتفق أهلُ السنّة على وجوب منع الطعن على أحدٍ من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك، ولو عُرف المحقّ منهم؛ لأنّهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلاّ عن اجتهاد، وقد عفا اللهُ تعالى عن المخطيء في الاجتهاد، بل ثبت أنه يُؤْجَرُ أجراً واحداً، وأنّ المُصيب يُؤْجَرُ أجرين )).
وما أحسن قول أبي زرعة الرازي ـ رحمه الله ـ في الوالغين في أعراض الصحابة ؛ إذ قال كما رواه عنه الخطيب البغدادي في (( الكفاية )): (( إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله  فاعلم أنّه زنديق؛ وذلك أنّ الرسول  عندنا حقٌّ، والقرآن حقٌّ، وإنّما أدَّى إلينا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله ، وإنّما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا القرآن والسنّة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة )).
وأثناء قراءتي للكتاب بدا لي ملاحظات يسيرة، ذكرتها للمؤلّف، ووعد بتلافيها في الطبعات التالية.
وفي الختام أوصي بقراءة هذا الكتاب والاستفادة منه، وأوصي شباب هذه البلاد السعودية أن يحذروا الأفكار الفاسدة الحاقدة الوافدة إلى بلادهم لإضعاف دينهم وتمزيق شملهم والتنكر لما كان عليه أسلافهم، وأن يأخذ كلُّ شابٍّ ناصحٍ لنفسه العبرةَ والعظةَ من قول عبد الله بن مسعود  كما في
(( الإبانة )) لابن بطّة: (( إنّها ستكون أمور مشتبهات! فعليكم بالتؤدة؛ فإنّك أن تكون تابعاً في الخير خيرٌ من أن تكون رأساً في الشرِّ )).
ولرغبة المؤلّف كتابةَ شيءٍ بعدَ قراءتي للكتاب، جرى تحريرُ ذلك، وأسأل اللهَ للمؤلّف جزيل المثوبة وعظيم الأجر، ولمن نبّه على أخطائهم الهدايةَ لطريق الحقِّ والهدى، وصلّى اللهُ وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه.
كتبه:
                عبد المحسن بن حمد العبّاد البدر
                المدرّس بالمسجد النبوي وبالجامعة
                الإسلامية بالمدينة المنوّرة 25 / 3 / 1418هـ

ملاحظتان
الأولى: اطّلع العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين ـ حفظه الله ـ على فتاواه المدرجة في هذا الكتاب ووافق عليها في ليلة الأحد (22 ربيع الثاني 1416هـ)، فجزاه الله خيراً.
توقيع الشيخ:

الثانية: قال كاتبه ـ عفا الله عنه ـ : لما كانت هذه الكتابة الخطيرة في موضوع الكتاب قد أَقْدَم عليها العبدُ الضعيف ـ وهو قاصر عنها ـ فقد تأَنَّيْتُ في طبعه حتى يَطَّلِع عليه من أهل العلم مَن يُرضَى، وقد كان هذا والحمد لله، ولا أعلم أحداً منهم إلا وأثنى عليه، منهم: الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، والشيخ صالح الفوزان عضوَا هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، ومن الأساتذة الكبار: الشيخ حماد بن محمد الأنصاري ـ رحمه الله ـ، والشيخ ربيع بن هادي المدخلي، والشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل الرئيس العامّ لشئون المسجد الحرام وإمام وخطيب المسجد الحرام وعضو هيئة كبار العلماء، والشيخ عبد الله الزاحم رئيس المحاكم الشرعية بالمدينة وإمام وخطيب المسجد النبوي، والشيخ صالح العبود مدير الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وغيرهم كثير ... فضلاً عن كبار طلبة العلم الذين لا يُحصَون كثرةً، فجزاهم اللهُ خيراً جميعاً.
وقد ذكرت هذا ـ لا ليمدحني القارئ! ـ ولكن ليطمئن قلبُه؛ فإن الفضل لله وحده، وهو الذي حمدُه زَيْنٌ، وذَمُّه شَيْنٌ على الحقيقة.



إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله.
{يأيّها الذين ءامنوا اتقوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُسْلِمُونَ}.
{يأيّها الناسُ اتّقُوا ربَّكمُ الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً واتَّقُوا اللهََ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كان عَلَيْكُمْ رَقِيباً}.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكمْ ويَغْفِرْ لَكمْ ذُنوبَكُمْ ومَن يُطِعِ اللهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}. 
أما بعد. فقد منَّ الله تعالى على أمة نبيّه محمد  بإكمال دينها، وإتمام نعمته عليها، ورضاه عنها بالإسلام الذي لا يقبل منها دينا سواه، قال الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً}.
عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين! إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلَتْ لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: وأيُّ آية؟ قال: قوله: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فقال عمر: " والله! إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله  والساعة التي نزلت فيها على رسول الله : عشية عرفة في يوم جمعة" رواه أحمد والبخاري ومسلم.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " فالنعمة المطلقة هي المتصلة بسعادة الأبد، وهي نعمة الإسلام والسنة ". ثم قال بعد ذكر النبيين والصديقين والشهداء والصالحين: " فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة، وأصحابها أيضا هم المعنيّون بقول الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً}"( ).
قال أبو العالية ـ رحمه الله ـ: " قرأت المحْكَم بعد وفاة نبيكم  بعشر سنين، فقد أنعم الله علَيَّ بنعمتين، لا أدري أيهما أفضل: أن هداني للإسلام، ولم يجعلني حَرورياً "( ).
أي نعمة الهداية إلى الإسلام من بين الملل الكافرة، ونعمة الهداية إلى السنة من بين الطوائف المبتدعة؛ وكانت بدعةُ الخوارج الحَروريين أشدَّها خطفاً للقلوب وترويعاً للمسلمين! والله العاصم.
ثم أما بعد، فقد أحكمَ الله  كتابه وأحسن تفصيله، وفصَّل لنا فيه كل ما ينفعنا ويضرنا، وهو القائل: {الــــر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ ءاياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً}، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين}، وقال: {وأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمْ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}، وقال: {وما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}.
وعن ابن مسعود  أن رسول الله  قال:»  ليس من عمل يقرِّب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، ولا عمل يقرِّب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه، لا يستبطئنّ أحد منكم رزقه، إن جبريل عليه السلام ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله أيها الناس! وأجملوا في الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية، فإن الله لا يُنال فضله بمعصية « رواه الحاكم وغيره وهو صحيح.
وإذا كان النبي  بيَّن لنا الهدى وحثَّنا عليه، وبيَّن لنا الضلال وحذَّرنا منه، لم يبق لأحد عذر في الطمع في غير هذه الشريعة الكاملة، قال ابن القيم
ـ رحمه الله ـ: " وأما الرضى بنبيّه رسولاً: فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره ألبتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، لا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم، وأحسن أحواله أن يكون من باب التراب الذي إنما يُتيمَّم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور.
وأما الرضى بدينه: فإذا قال أوحكم أو أمر أو نهى، رضي كل الرضى، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلَّم له تسليما، ولو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها، أو قول مقلَّده وشيخه وطائفته "( ).
وكما أن الله أكمل دينه علماً، فقد أكمله عملاً؛ إذ كما لا يخلو زمن من قائم لله بحجته، فلا يخلو زمن من طائفة مؤمنة تعمل بهذا الدين، فعن حميد بن عبد الرحمن قال:سمعت معاوية خطيباً يقول: سمعت النبي  يقول: » من يُرِد الله به خيراً يفقِّهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال من هذه الأمة أمة قائمة على أمر الله، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك « متفق عليه.
ثم اعلم ـ أيها القاريء! ـ أن الذي دفعني إلى هذه الكتابة على الرغم من القصور، أنني رأيت شباب المسلمين يَرِدون مواقع الحِمام، يرشفون سمّه بسقي أيديهم ولا يُحِسّون بملام، فدعوتُ إلى صون العمل السياسي عن العبث الذي هو أحد أسباب هذا الواقع المشؤوم، بتأصيل احترام التخصص انطلاقاً من قاعدة: {وما مِنّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}، ثم تنَفَّلتُ بضرب المثل بتجربة الجزائر؛ زيادةً في البيان وإمعاناً في الإعذار لذوي البصائر.
ولعلك واجد في هذه النافلة أخباراً لا تروقُك، أو لا يُصدِّقها ظنُّك، فتجاوزْها! فإن ذلك لا يضرّك؛ لأنني لست ممن يُحكِّم الواقع في الشرع الحنيف، وقِفْ عند القواعد العلمية؛ فإنها أصل هذا التصنيف، والله الموفق لسلوك هدي خير البرية.
ثم إنني شاكر للشيخ العلامة الألباني وللشيخ العلامة عبد المحسن العبّاد
ـ حفظهما الله تعالى ـ تفرُّغهما لقراءة هذا الكتاب المتواضع وحسن عنايتهما بالنصيحة للمسلمين، وشاكر لسائر المشايخ والإخوة الذين لم يبخلوا عليّ بإرشاداتهم وتنبيهاتهم القيّمة، فجزاهم الله خيراً.
وقبل الخوض في الموضوع، إليك تنبيهات سريعة على أصول مهمة، لا أستقصي بحثها وجمع أدلتها، وإنما هي لفت انتباه وتذكير.




    الأصل الأول: الطريق واحد
اعلم ـ رحمك الله! ـ أن الطريق الذي يضمن لك نعمة الإسلام واحد لا يتعدد؛ لأن الله كتب الفلاح لحزب واحد فقط فقال: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُون}، وكتب الغلبة لهذا الحزب وحده فقال: {وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغالِبُون}.
ومهما بحثتَ في كتاب الله وسنة رسوله ، فلن تجد تفريق الأمة إلى جماعات وتحزيبها في تكتلات إلا مذموماً، قال الله تعالى: {ولاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِين فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُون}، وكيف يُقِر ربنا  أمة على التشتت بعدما عَصَمَها بحبله، وهو يُبرِّيء نبيّه  منها حين تكون كذلك وتوعَّدها عليه فيقول: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ إنَّما أَمْرُهُمْ إلى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهمْ بِما كانُوا يَفْعَلُون}.
وعن ابن مسعود  قال: " خطَّ لنا رسول الله  خطا، ثم قال: » هذا سبيل الله «، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: » هذه سبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه «، ثم قرأ: {وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} " رواه أحمد وغيره وهو صحيح.
فدلّ هذا الحديث بنصه على أن الطريق واحد، قال ابن القيم: " وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد، وهو ما بَعث به رسله وأنزل به كتبه، ولا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق، ولو أتى الناسُ من كل طريق واستفتحوا من كل باب، فالطرق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مغلقة، إلا من هذا الطريق الواحد، فإنه متّصل بالله موصل إلى الله "( ).
 قلت: ولكن كثرة بُنَيّاته العاديات تشكك فيه وتُخذِّل عنه، وإنما انحرف عنه من انحرف من الفرق استئناساً بالتَّعدُّد، وتوحُّشاً من التفرُّد، واستعجالاً للوصول، وجُبْناً عن تحمّل الطول؛ قال ابن القيم: " من استطال الطريق ضعُف مشيُه "( ).
 والله المستعان.

    الأصل الثاني: اتباع الكتاب والسنة
    على فهم السلف الصالح( )
إنَّ الذي لم يختلف فيه المسلمون قديماً وحديثاً هو أن الطريق الذي ارتضاه لنا ربنا هو طريق الكتاب والسنة، فإليه يَرِدون ومنه يصدرون، وإن اختلفوا في وجوه الاستدلال بهما.
ذلك؛ لأنَّ الله ضَمِن الاستقامة لمتبع الكتاب فقال على لسان مؤمني الجن: {يا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وإلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}.
كما ضَمِنها لمتبع الرسول  الذي قال له ربه: {وإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
لكن الذي جعل الفرق الإسلامية تنحرف عن الصراط هو إغفالها ركناً ثالثاً جاء التنويه به في الوحيين جميعاً، ألاَ وهو فَهْمُ السلف الصالح للكتاب والسنة.
وقد اشتملت سورة الفاتحة على هذه الأركان الثلاثة في أكمل بيان:
فقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} اشتمل على ركني الكتاب والسنة، كما سبق.
وقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} اشتمل على فهم السلف لهذا الصراط، مع أنه لا يشكّ أحد في أن من التزم بالكتاب والسنة فقد اهتدى إلى الصراط المستقيم، إلا أنه لما كان فَهْم الناس للكتاب والسنة منه الصحيح ومنه السقيم، اقتضى الأمرُ ركْناً ثالثاً لرفع الخلاف، ألا وهو تقييدُ فَهْم الأخلاف بِفَهْم الأسلاف؛ قال ابن القيم: " وتأمل سراً بديعاً في ذِكْر السبب والجزاء للطوائف الثلاثة بأوجز لفظ وأخصره؛ فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح"( ).
وقال: " فكلُّ من كان أعرف للحق وأتبع له كان أولى بالصراط المستقيم، ولا ريب أن أصحاب رسول الله  و رضي الله عنهم هم أولى بهذه الصفة من الروافض ... ولهذا فسَّر السلف الصراط المستقيم وأهله بأبي بكر وعمر وأصحاب رسول الله  ..."( ).
وفي هذا تنصيص منه ـ رحمه الله ـ على أن أفضل من أنعم الله عليه بالعلم والعمل هم أصحاب رسول الله ؛ لأنهم شَهِدوا التنزيل، وشاهَدوا من هدي الرسول الكريم ما فهموا به التأويل السليم، كما قال ابن مسعود : " من كان منكم مُسْتَنًّا فلْيستنَّ بمَن قد مات، فإن الحيّ لا تُؤْمَن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد ، كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرَّها قلوباً، وأعمقها عِلْماً، وأقلّها تكلُّفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيّه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتَّبِعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم؛ فإنهم كانوا على الهدي المستقيم "( ).
وقال أيضا: " إنَّ الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد  خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد  فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيّه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسَناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيِّئاً فهو عند الله سيّء "( ).
إذًا فالمسلمون المقصودون لابن مسعود هم الصحابة ؛ قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: " أصول السنة عندنا التمسُّك بما كان عليه أصحاب رسول الله  والاقتداء بهم "( ).
ومَن حظيَ برضى الله مِن بعدهم فلاقتدائه بهديهم، قال الله تعالى: {والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}( ).
وقد جاء تحديد زمن السلف الذين لا تجوز مخالفتهم بإحداث فهْم لم يفهموه، في حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله  : » خيرُ الناسِ قَرْني، ثم الَّذين يَلُونَهم، ثم الَّذين يَلُونَهم، ثم يجيءُ قومٌ تَسبقُ شهادةُ أحدهم يمينَه، ويمينُه شهادتَه «( ) متفق عليه.
ولهذا الأصل نظائر وأدلة من الكتاب والسنة، منها قول الله تعالى: {ومَن يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}، والشاهد هنا في ضمّ مجانبة سبيل المؤمنين إلى مشاقَّة الرسول لاسْتحقاق هذا الوعيد الشديد، مع أن مشاقَّة الرسول  وحده كفيلةٌ بذلك كما قال الله تعالى: {إنَّ الَّذينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وسَيُحبِطُ أَعْمالَهُمْ}( ).
ومنها ما رواه عبد الله بن لحي عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فينا فقال: ألاَ إن رسول الله  قام فينا فقال: » ألاَ إن مَن قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة « رواه أبو داود وغيره وهو صحيح.
والشاهد هنا في وصف الفرقة الناجية بالجماعة، والعدول عن إضافتها إلى الكتاب والسنة، مع أنها لا يمكن أن تخرج عنهما قط؛ والسر في ذلك يكمن في التنبيه على الجماعة التي فهمت نصوص الوحيين وعملت بهما على مراد الله ورسوله، ولم يكن يومئذ جماعة إلا أصحاب رسول الله ، ولذلك صحَّح أهل العلم ـ في الشواهد ـ اللفظ الآخر الوارد في هذا الحديث من رواية
الحاكم  وغيره وهو قوله  في وصف الفرقة الناجية: (( ما أنا عليه اليوم  وأصحابي )).
ومنها ما رواه أبو داود وغيره بسند صحيح لغيره عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله  موعظة بليغة، ذرَفت منها العيون ووجِلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة موَدِّع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: » أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإنْ عبداً حبشيًّا؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسَّكوا بها وعَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة «.
والشاهد هنا في الجمع بين اتباع السنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، ثم تأمل كيف جعل النبي  كلمته هذه وصيّته لأمته من بعده لتعلم صدق القول بأصالة هذا المنهج، ثم تأمل كيف قابل الاختلاف بالتزام هذا المنهج لتعلم أن ضابط ( فَهْم السلف الصالح ) سبب النجاة من التفرُّق، قال الشاطبيّ ـ رحمه الله ـ: " فقرن  ـ كما ترى ـ سنّة الخلفاء الراشدين بسنّته، وأن مِن اتّباع سنّته اتّباع سنّتهم، وأن المحدثات خلاف ذلك، ليست منها في شيء؛ لأنهم  فيما سَنُّوا: إمّا متَّبِعون لسنّة نبيّهم عليه السلام نفسها، وإمّا متّبِعون لما فهموا من سنّته  في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثلُه، لا زائدة على ذلك "( ).
وقد جعلتُ هذه النصوص من النظائر والأدلة على تأصيل ما أنا بصدده؛ لأنني وجدت ابن أبي العز نزع بها عند شرحه قول  الطحاوي: " ونتَّبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفُرقة "( ).
تطبيق:
لبيان ضرورة تقييد فهم الكتاب بالسنة، وتقييد فهم الكتاب والسنة بما كان عليه السلف الصالح، أُورد هنا قصة جرَت أيام محنة الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ؛ لأبيِّن بها المقصودَين في آنٍ واحد، قال الآجرّي ـ رحمه الله ـ( ):
" بلغني عن المهتدي ـ رحمه الله تعالى ـ أنه قال: ما قطع أَبي ـ يعني الواثق ـ إلا شيخ جيء به من المصيصة، فمكث في السجن مدة، ثم إن أبي ذكره يوما فقال: علي بالشيخ، فأُتي به مقيَّدا، فلما أُوقف بين يديه سلَّم عليه، فلم يرُدَّ عليه السلام، فقال له الشيخ: يا أمير المؤمنين! ما استعملتَ معي أدب  الله تعالى ولا أدب رسوله ؛ قال الله تعالى: {وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أو رُدُّوها}، وأمر النبي  بردّ السلام؟! فقال له: وعليك السلام. ثم قال لابن أبي دُؤاد: سَلْهُ، فقال: يا أمير المؤمنين! أنا محبوس مقيَّد، أُصلّي في الحبس بتيمم، مُنِعتُ الماء، فمُر بقيودي تُحَلّ، ومر لي بماء أتطهر وأصلي، ثم سَلْني، قال: فأمر فحُلَّ قيده، وأمر له بماء، فتوضأ وصلى، ثم قال لابن أبي دؤاد: سلْهُ، فقال الشيخ: المسألة لي، تأْمُره أن يجيبني، فقال: سل، فأقبل الشيخ على ابن أبي دؤاد يسأله فقال: أخبرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه، أشيء دعا إليه رسول الله ؟ قال: لا! قال: فشيء دعا إليه أبو بكر الصديق  بعده؟ قال: لا! قال: فشيء دعا إليه عمر بن الخطاب   بعدهما؟ قال: لا! قال الشيخ: فشيء دعا إليه عثمان بن عفان بعدهم؟ قال: لا! قال: فشيء دعا إليه علي بن أبي طالب  بعدهم؟ قال: لا! قال الشيخ: فشيء لم يدعُ رسول الله  ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله تعالى عنهم تدعو أنت الناس إليه ؟! ليس يخلو أن تقول: علِموه أو جهِلوه؛ فإن قلتَ: علِموه وسكتوا عنه، وسِعَنا وإياك ما وَسِع القوم من السكوت، فإن قلتَ: جهِلوه وعلِمتُه أنا، فيا لُكَعُ بن لكع! يجهل النبي  والخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم شيئا وتعْلمه أنت وأصحابك؟! قال المهتدي: فرأيتُ أبي وثب قائماً ودخل الحيرى( )، وجعل ثوبه في فيه يضحك، ثم جعل يقول: صدق، ليس يخلو من أن نقول: جهلوه أو علموه، فإن قلنا: علِموه وسكتوا عنه، وسِعَنا من السكوت ما وسِع القوم، وإن قلنا: جهلوه وعلمته أنت، فيا لكع بن لكع! يجهل النبي  وأصحابه رضي الله تعالى عنهم شيئا تعلمه أنت وأصحابك؟! ثم قال: يا أحمد! قلت: لبيك، قال: لستُ أعنيك، إنما أعني ابن أبي دُؤاد، فوثب إليه فقال: أعط هذا الشيخ نفقةً وأخرجه عن بلدنا ".
وفي رواية أوردها الذهبي في » السير «: " .. وسقط من عينه ابن أبي دُؤاد، ولم يَمتحن بعدها أحداً "، وفي رواية: " قال المهتدي: فرجعتُ عن هذه المقالة، وأظن أن أبي رجع عنها منذ ذلك الوقت"( ).
قلت: تأمل! فإن ردَّ الشيخ هذا الأمرَ العظيمَ إلى سيرة السلف الصالح رفع الخلاف مباشرة وكان سبب هداية الواثق والمهتدي إلى ما جاء ذكره في القصة، فهذا يدلّك على أنه تأصيل دقيق، فاحفظه!

تنبيه
إذا اختلف سلفنا الصالح في مسألة ما كان تحكيم الدليل من الكتاب والسنة هو المسلك الوحيد، لقول الله تعالى: {فإن تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، وكلمة {شَيْءٍ} هنا نكرةٌ في سياق الشَّرط، فتَعُمّ كل اختلاف التضاد في الأصول والفروع، كما أشار إليه العلاّمة محمد الأمين الشنقيطي( ).
وقال ابن القيم: " ولو لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله بيانُ حُكْمِ ما تنازَعوا فيه ولم يكن كافياً، لم يَأمر بالرَّدِّ إليه؛ إذ مِن الممتنِع أن يَأمر تعالى بالرَّدّ عند النزاع إلى مَن لا يوجَدُ عنده فَصْلُ النزاع "( ).

    الأصل الثالث: نيل السؤدد بالعلم
هذا الفصل من أنفس ما في هذه الأصول الستة؛ لأن الغرض منه هو تبيان أصل العمل الذي ينبغي أن تُكرَّس له الجهود، فإن قوما رأوا النشاط الرهيب الذي تجتهد فيه قُوى الكفر والضلال، فظنوا أن سيادتهم ترجع إليهم بمجرد مقابلة نشاطهم بنشاط أقوى منه، فوَجَّهوا كل ما يملكون من وسائل لمجاراتهم، وأهملوا العلم الشرعي إهمالاً فاحشاً!  والحقيقة أنهم مهما أحكموا التنظيم وأحسنوا التدبير وكثَّفوا النشاط وحفظوا من مكائد العدوّ، فلن يُكتَب لهم سؤدد ولا رِفعة حتى يُؤَسِّسوا عملهم على العلم ويعرفوا له ولأهله قدره؛ قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُم والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ} وقال: {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشَاءُ}، قال مالك ـ رحمه الله ـ: " بالعلم "( ).
وهذه الرِفعة تكون في الدنيا قبل الآخرة؛ كما قال الله تعالى عن اصطفائه طالوت لسيادة الملأ من بني إسرائيل: {وقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المالِ قَال إنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطةً في العِلْمِ وِالجِسْمِ واللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
وفي صحيح مسلم عن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعُسْفان، وكان عمر يستعمله على مكة( )، فقال: مَن استعملتَ على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومَن ابن أبزى؟ قال: مَوْلى( ) مِن موالينا، قال: فاستخلفتَ عليهم مولى؟! قال: إنه قاريء لكتاب الله  وإنه عالم بالفرائض( )، قال عمر: أمَا إن نبيّكم  قال: » إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين «.
ولذلك أخبر الله  أنه رفع الربانيين من بني إسرائيل حتى جعلهم حكّاماً عليهم ينفِّذون فيهم أمر الله فقال: {إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيها هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبارُ بِما اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء}.
وهؤلاء الربانيون الممَكَّن لهم جاء وصفهم بالعلم والتعليم، قال الله تعالى: {مَا كانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤتِيَهُ اللهُ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّـينَ بِما كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون}.
وفي كتاب الله  آيتان تشابهتا في اللفظ، يقول الله في الأولى عن إبراهيم : {وتِلْكَ حُجَّتُنا ءَاتَيْنَاها إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}، وفي الثانية يقول عن يوسف : {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}، وفي هذا سرٌّ بديعٌ من أسرار الكتاب العزيز، ذكره ابن تيمية في كلام نفيسٍ جدًّا، حيث يقول:
" ذَكَر اللهُ أنه يرفع درجات من يشاء في قصة مناظرة إبراهيم وفي قصة احتيال يوسف، ولهذا قال السلف: بالعلم؛ فإن سياق الآيات يدلّ عليه، فقصة إبراهيم في العلم بالحجة والمناظرة لدفع ضرر الخصم عن الدين، وقصة يوسف في العلم بالسياسة والتدبير لتحصل منفعة المطلوب، فالأول: علم بما يدفع المضار في الدين، والثاني: علم بما يجلب المنافع.
 أو يقال: الأول: هو العلم بما يدفع المضرة عن الدين ويجلب منفعته، والثاني: علم بما يدفع المضرة عن الدنيا ويجلب منفعتها.
أو يقال: قصة إبراهيم في علم الأقوال النافعة عند الحاجة إليها، وقصة يوسف في علم الأفعال عند الحاجة إليها، فالحاجة جلب المنفعة ودفع المضرة قد تكون إلى القول، وقد تكون ...( )
ولهذا كان المقصِّرون عن علم الحجج والدلالات وعلم السياسة والأمارات مقهورين مع هذين الصنفين، تارة بالاِحتياج إليهم إذا هجم عدوّ يفسد الدين بالجدل أو الدنيا بالظلم، وتارة بالاحتياج إليهم إذا هجم على أنفسهم من أنفسهم ذلك، وتارة بالاحتياج إليهم لتخليص بعضهم من شرّ بعض في الدين والدنيا، وتارة يعيشون في ظلهم في مكان ليس فيه مبتدع يستطيل عليهم ولا والٍ يظلمهم، وما ذاك إلا لوجود علماء الحجج الدامغة لأهل البدع، والسياسة الدافعة للظلم ..."( ).
فدار أمر الرئاسة الدينية والدنيوية على العلم؛ لأنه أصل لهما، ولذلك قال ابن تيمية ـ أيضا ـ: " وذلك أن الله يقول في كتابه: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنَا بِالبَيِّناتِ وأَنزَلْنَا مَعَهمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيْبِ}، فأخبر أنه أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنه أنزل الحديد كما ذكره.
 فقوام الدين بالكتاب الهادي والسيف الناصر {وكَفَى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً}، والكتابُ هو الأصلُ، ولهذا أول ما بعَث اللهُ رسولَه أنزل عليه الكتاب، ومكث بمكة لم يأمره بالسيف حتى هاجر وصار له أعوانٌ على الجهاد "( ).
إذن فالذين يتصوّرون قيام دولة الإسلام بمجرد عاطفةٍ إسلامية، وفكرٍ مجـرّد عن حـجّـة الشـرع يسمّونـه فكـراً إسلاميًّا! ونتفٍ من العلم يسمونها ( ثقافةً إسلاميةً!)، وأن التعليم مرحلة قادمة بعدها، فهؤلاء طالبو سراب؛ لأنهم يتخيَّلونها بلا قوة ولا أسباب، وأُولى القوّتين قوةُ الدين الذي عليه وعد الله المؤمنين بالنصر فقال: {وكان حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِين}؛ ولهذا قال ابن القيم: " ولما كان جهادُ أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسَه في ذات الله، كما قال النبي : » المجاهِدُ من جاهَدَ نفسَه في طاعة الله، والمهاجِرُ من هجَرَ ما نهى اللهُ عنه «( )، كان جهادُ النَّفْس مُقَدَّماً على جهاد العدوّ في الخارج وأصلاً له؛ فإنه مَن لم يجاهد نفسَه أولاً لتفعل ما أُمِرَت به وتترك ما نُهيَت عنه ويحارِبْها في الله، لم يمْكِنْهُ جهادُ عدوِّه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوِّه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلِّطٌ عليه، لم يجاهده ولم يحاربه في الله؟! بل لا يمكنه الخروج إلى عدوِّه حتى يجاهد نفسه على الخروج.
فهذان عدوّان قد امتُحِن العبدُ بجهادهما، وبينهما عدوٌّ ثالثٌ، لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده، وهو واقفٌ بينهما يُثبِّطُ العبدَ عن جهادهما ويُخذِّلُه ويُرجِف به، ولا يزال يخيِّل له ما في جهادهما من المشاقِّ وترك الحظوظ وفَوْت اللذات والمشتهيات، ولا يمكنه أن يجاهد ذَيْنك العدوَّيْن إلا بجهاده، فكان جهاده هو الأصل لجهادهما، وهو الشيطان، قال تعالى: {إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}، والأمر باتخاذه عدوًّا تنبيهٌ على استفراغ الوُسْع في محاربته ومجاهدته، كأنه عدوٌّ لا يفْتُر ولا يقصر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس "( ).
هذا الكلام في غاية الجودة والوضوح، وهو تصحيح لمنهج الذين يرمون غيرهم بالحجارة وبيوتهم من زجاج! وفي الوقت نفسه يُعَظّمون الأسباب المادية حتى يروا أن عدوّهم تمكَّن لقوّته، والحق أنه لا يدخل عليهم العدوُّ بيوتَهم إلا إذا وَهَى بنيانُها؛ أي لا ينهزم المسلمون لقوّة عدوّهم ولكن لضعف إيمانهم، حتى ولو عَرِيَت أيديهم من الأسباب ـ بعد بذل الوسع ـ كفاهم الله ما نابهم، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " ومن سنة الله أن من لم يُمْكن المؤمنون أن يعيذوه( ) من الذين يؤذون الله ورسوله؛ فإن الله سبحانه ينتقم منه لرسوله ويكفيه إياه، كما قدّمنا بعض ذلك في قصة الكاتب المفتري، وكما قال سبحانه: {فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِين. إنَّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِين} "( ).
وقال ابن القيم: " تالله! ما عَدَا عليك العدوُّ إلا بعد أن تَوَلَّى عنك الوَلِيُّ، فلا تظنّ أن الشيطان غَلَبَ ولكن الحافظ أَعْرَض "( ).
وقد عرفتَ أنك تُحْرَم ولاءَ ربك إذا تركتَ المأمور وركبتَ المحظور، كما أنك منصور بحفظك اللهَ في أمره ونهيه، فعاد الأصل إلى العلم؛ لأنه لا يُعرَف الأمر والنهي إلا به.

لطيفة
روى البخاري ومسلم عن الزبير بن عدي قال: دخلنا على أنس بن مالك قال: فشكونا إليه ما نَلقى من الحَجَّاج، فقال: » ما مِن عامٍ إلاَّ والَّذي بعده شرٌّ منه حتى تَلْقَوْا ربَّكم «، سمعتُ هذا من نبيّكم.
قال ابن حجر: " وقد استُشكل هذا الإطلاق مع أن بعض الأزمنة تكون في الشرّ دون التي قبلها، ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز، وهو بعد زمن الحجاج بيسير، وقد اشتهر الخير الذي كان في زمن عمر بن عبد العزيز ... وأجاب بعضهم أن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر، فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء، وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده لقوله : » خير القرون  قرني ... « وهو في الصحيحين "( ).
 ثم قال: " ثم وجدت عن عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد وهو أولى بالاتباع، فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: " لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شرّ من اليوم الذي قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه، ولا مالاً يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقلّ علماً من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس، فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون "، ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه قال: " لا يأتي عليكم زمان إلا وهو شرّ مما كان قبله، أمَا إني لا أعني أميراً خيراً من أمير، ولا عاماً خيراً من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفاء، ويجيء قوم يُفتون برأيهم "( ).
قلت: رفعُ الإشكال بالأثر هو قرة عيون أهل الأثر، خاصة وهو جارٍ على الأصول؛ لأن غالب الخلق لِرَحم المال والسلطان وَصول، ألم تسمع الله تعالى يخبر عن أهل الشمال حسرتهم قائلين: {ما أَغْنَى عَنِّي مالِيَه. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَه}.
ولو تأمَّلتَ فتنةَ الحركات الإسلامية - فضلاً عن غيرها - لوجدتَها مجموعة في هاتين النعرتين: تصوُّرُ أن خيريَّة أمة على أخرى تابعة لخيريَّة حكّامها، أو وفرة اقتصادها؛ ألا ترى أن أكثرهم لا يرُدّون من عرش الملك يَدَ لامِس، ولو كانت طَماعة من ديمقراطية الوساوس! وآخرين يرون أن عودة عزّ المسلمين مرهونة بالتفوق الحضاري، ولذلك لا يبْرَحون عليه عاكفين!
وهذا يبيِّن لك سرّ عناية ابن مسعود بمعالجتهما دون غيرهما، وتالله إنه لفقه النفس الذي فتح الله به عليه، فلْتعرف ـ أخا الإسلام ـ للسلف فضلهم، واستمسك بغرزهم تسترح من شبهات بُنَيّات الطريق.
وأخيراً: إلى العلم! يا من ينشد عز الإسلام، فعن تميم الداري قال: تطاول الناس في البناء في زمن عمر، فقال عمر: " يا معشر العريب! الأرضَ الأرضَ! إنه لا إسلام إلا بجماعة، ولاجماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة، فمن سوَّده قومه على الفقه كان حياة له ولهم، ومن سوَّده قومه على غير فقه كان هلاكاً له ولهم "( ).
وعن الحسن قال: " كانوا يقولون: موت العالم ثُلْمة في الإسلام لا يَسُدُّها شيء ما اختلف الليل والنهار "( ).
وعن هلال بن خباب قال: سألت سعيد بن جبير قلت: يا أبا عبد الله! ما علامة هلاك الناس؟ قال: " إذا هلك علماؤهم "( ).

    الأصل الرابع: صِمَام الأمان من الكفر والهزيمة
    باتِّباع الكتاب والسنة
لست أعني بهذا الفصل ظاهره المتبادر إلى الذهن فحسب؛ لأنه شيء معلوم للمسلمين عِلما نظريًّا على الأقل، ولكنه كلمة إلى أولئك الذين لم يقنعوا بدعوة الكتاب والسنة، حين رأوا تألُّب قُوَى الكفر والنفاق على ديار المسلمين، من يوم الأندلس وفلسطين الفقيدتين، إلى يوم البوسنة والهرسك الجريحتين، وازداد المسلمون وهنًا على وهن حين قلَّت عنايتهم بمصدر قوّتهم: الكتاب والسنة، وهانوا على الله حين ساء ظنهم بهما، إذ تصوَّروا ضعف أثرهما في النفوس، وأن دعوة المسجد قاصرة عن بعث الأمة إلا ببطء لا يكافيء النشاط الرهيب والمتنوّع الوسائل الذي يقوم به الشيوعيون واليهود والنصارى ...
وهذه الدعوى ـ إن كان فيها حق ـ فيكفي أصحابها إثما أن صرفوا وجوه النشء عن العكوف على الوحيين حفظا وتعلُّما وتعليما، ولئن حبسوا أنفسهم لتعليم الناس دينهم، فقلَّما ينزعون بآية أو حديث إلا تبرُّكا، وإلا فحسن ظنهم بكلامهم زهَّدهم في كلام الله وكلام رسوله ، ووالله ثم والله ثم والله إن أحدهم ليجد في أُنشودة من الخشوع، ما يفقده مع كلام ربّ الأرباب، ولو كانت الطير لكانت محشورة كل له أوّاب.
أين هم الذين يعلّمون القرآن بتفسيره الأثري؟
أين هم الذين أحيوا طريقة السلف في تسميع الحديث النبوي والتقليل من الكلام البشري؟
ألا تعلمون أن الكفار لا يقدرون عليكم ما دمتم تتلُون الوحيين؟ قال الله تعالى: {يأَيُّها الَّذِينَ ءامَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتلَى علَيْكُمْ ءَاياتُ اللهِ وفِيكُمْ رَسُولُهُ ومَن يَعْتَصِم ِباللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وفي هذا السياق الكريم فائدتان هما:
الأولى: عصمة أتباع الوحيين من الكفر، قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ:
" يعني أن الكفر بعيدٌ منكم وحاشاكم منه؛ فإن ءايات الله تنزل على رسوله ليلاً ونهاراً، وهو يَتْلوها عليكم ويُبلِّغها إليكم "( ).
والثانية: أن الله تعالى اقتصر على ذكر أعظم كيد يدبِّره الكفار للمسلمين وهو إرادة تكفيرهم، كما قال سبحانه في الآية الأخرى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ}، فكأن الله يقول: مهما كان مكرهم الكبار الذي تزول منه الجبال قال تعالى: {وإن كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ}، فإن إيمانكم لا يزول ما أقمتم على تلاوة الوحي كتابا وسنة.
وليس هذا غريبا على من أيقن بقلبه أن الله جعل معين الحياة في الوحي فقال: {يَأَيُّها الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}.
وأعظم الحياتَيْن حياةُ القلب، وأحيا الناس أَتْبَعُهم للوحي، وهو آمَنُهم من الضلال، وبهذا يَدِقّ فهمك لقول الرسول : » تركتُ فيكم شيئين لن تَضلّوا بعدهما: كتابَ الله وسنتي، ولن يتفرَّقا حتى يَرِدا علي الحوض « رواه الحاكم ومالك وهو حسن.
وقال أبو بكر الصديق : " لستُ تاركا شيئا كان  رسول الله  يعمل به إلا عملتُ به، فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ " رواه البخاري ومسلم.
فهذا صدِّيق الأمة يخشى على نفسه الانحراف عن الصراط المستقيم إن هو فرَّط في شيء من هدي النبي  ـ مع أنه كان شديد التمسك بما دَقَّ وجَلَّ من سنة نبيِّه  ـ فكيف قرَّت أعْيُن المبتدعة وهدأت جفونهم، وقد روى الشيخان عن أبي هريرة أنه قال: لما توفِي رسول الله  واستُخلِف أبو بكر بعده، كفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله : » أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله «، فقال:
" والله! لأقاتلنّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله  لقاتلتهم على منعه "، فقال عمر: " فوالله! ما هو إلا أن رأيتُ الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفتُ أنه الحق".
فتأمل هذا الحرص الشديد على أداء الواجب بكل تفاصيله التي كانت على عهد رسول الله ، ولو كانت في تقديم أحقر شيء.
ولما كان الرسل عليهم الصلاة والسلام أتبع الخلق للوحي اقترن بهم مِن تأييد الله أكمله، كما قال الله تعالى: {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} وقال: {ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا المُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ. وإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} وقال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ ءَاَمُنوا في الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}( ).
ومن كان لهم متَّبِعاً كان له مِثْلُ ما لهم من التأييد والنصرة، قال الله تعالى لموسى وهارون صلى الله عليهما وسلم ولأتباعهما: {أَنتُمَا ومَن اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُون}، وقال لعيسى  ولأتباعه: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ}.
 قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " فلما كان للنصارى نَصيبٌ ما مِن اتِّباعه كانوا فوق اليهود إلى يوم القيامة، ولما كان المسلمون أَتْبَع له من النصارى كانوا فوق النصارى إلى يوم القيامة "( ).
وقال ابن تيمية: " ولهذا كل من كان متّبعا للرسول كان الله معه بحسَب هذا الاتباع، قال الله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَك مِنَ المُؤْمِنِينَ}، أي حسْبك وحسْبُ مَن اتَّبعك، فكلُّ مَن اتَّبَع الرسولَ مِن جميع المؤمنين فالله حسْبه، وهذا معنى كون الله معه، والكفاية المطلقة مع الاتِّباع المطلق، والناقصة مع الناقص، وإذا كان بعض المؤمنين به المتبعين له قد حصَل له مَن يعاديه على ذلك فالله حسْبُه، وهو معه وله نصيب من قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}، فإن هذا قَلْبُه موافِقٌ للرسول وإن لم يكن صحِبَه ببدنه، والأصل في هذا القلب، كما في الصحيحين عن النبي  أنه قال:
(( إنّ بالمدينة رجالاً ما سِرْتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلاَّ كانوا معكم ))، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: (( وهم بالمدينة، حبَسهم العذرُ ))( )، فهؤلاء بقلوبهم كانوا مع النبي  وأصحابه الغزاة، فلهم معنى صُحبته في الغزاة، فالله معهم بحسَب تلك الصحبة المعنوية "( ).
وقد صدق ـ رحمه الله ـ؛ فإن في القرآن ما يدل على أنهم صحبوهم بباطنهم، وذلك أنهم حين أَتَوا ليحملهم النبي  معه إلى الجهاد ردَّهم؛ لأنه لا يملك ما يحملهم عليه، رجعوا وقلوبهم متحرِّقة وعيونهم دامعة على ذلك حتى وصفهم الله بقوله: {ولاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ}.
ثم قال ـ رحمه الله ـ: " ولو انفرد الرجل في بعض الأمصار والأعصار بحق جاء به الرسول، ولم تنصُرْه الناس عليه، فإن الله معه، وله نصيب من قوله: {إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الغَاِر إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}، فإن نصر الرسول هو نصر دينه الذي جاء به حيث كان ومتى كان، ومن وافقه فهو صاحبه عليه في المعنى، فإذا قام به ذلك الصاحب كما أمر الله فإن الله مع ما جاء به الرسول ومع ذلك القائم به، وهذا المتبع له: حسْبُه الله، وهو حسْبُ الرسول كما قال تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} "( ).
وعن ابن مسعود قال: صلى رسول الله  العشاء ثم انصرف فأخذ بيد عبد الله بن مسعود حتى خرج به إلى بطحاءِ مكةَ فأجلسه ثم خَطَّ عليه خطا ثم قال:» لا تَبْرَحَنَّ خطك فإنه سينتهي إليك رجالٌ، فلا تكلمهم فإنهم لا يكلمونك «،  قال: ثم مضى رسول الله  حيث أراد، فبينا أنا جالس في خطي إذ أتاني رجال كأنهم الزُّطُّ( ):أشعارهم وأجسامهم، لا أرى عورة ولا أرى قشرا، وينتهون إليّ لا يجاوزون الخط، ثم يَصدرون إلى رسول الله ، حتى إذا كان من آخر الليل، لكن رسول الله  قد جاءني وأنا جالس، فقال:» لقد أراني( ) منذ الليلة «، ثم دخل علي في خطي فتوسَّد فخذي فرقد، وكان رسول الله  إذا رقد نفخ، فبيْنا أنا قاعد ورسول الله  متوَسد فخذي، إذا أنا برجال عليهم ثياب بيض، الله أعلم ما بهم من الجمال، فانتهوا إلي، فجلس طائفة منهم عند رأس رسول الله  وطائفة منهم عند رجليه، ثم قالوا بينهم: ما رأيْنا عبدا قط أوتي مثل ما أوتي هذا النبيّ: إنّ عينيه تنامان وقلبه يقظان، اضربوا له مثلا مَثَلَ سيِّد بنى قصرا، ثم جعل مأدبة فدعا الناس إلى طعامه وشرابه، فمن أجابه أكل من طعامه وشرب من شرابه، ومن لم يجبْه عاقبه أو قال عذّبه، ثم ارتفعوا، واستيقظ رسول الله  عند ذلك فقال:
(( سمعتَ ما قال هؤلاء؟ وهل تدري من هؤلاء؟ )) قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: (( هم الملائكة، فتدري ما المثل الذي ضربوا؟ )) قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: ((  المثل الذي ضربوا: الرحمن تبارك وتعالى بنى الجنة ودعا إليها عباده، فمن أجابه دخل الجنة، ومن لم يجبه عاقبه أو عذّبه ))( ).
فأنت ترى في هذه القصة العظيمة أن استجابة ابن مسعود لرسول الله  حين أمره بلزوم مكانه دفعت عنه شر قوم جاؤوه في أبشع صورة، مع أنه لم يكن بينه وبينهم سوى خطّ لو جاءت عليه الريح لعفى أثره، لكنه ليس كبقية الخطوط، إنه خط السنة: من لزمه كفاه الله ما نابه.
وإذ قد بيَّنتُ أدلة تثبيت الله لأمة المتابعة ونصره إياها، فلا بأس أن أسوق هنا قصة تشهد للأمرين جميعا، وفيها منقبة عظيمة لأبي بكر الذي حفظ الله به الدين ونصره بعد رسول الله ، حتى قال أبو هريرة :
" والله الذي لا إله إلا هو لولا أبو بكر استُخلف ما عُبد الله "، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، فقيل له: مه يا أباهريرة! فقال: " إن رسول الله  وَجَّه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قُبض رسول الله  وارتدت العرب حول المدينة، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله  فقالوا: يا أبا بكر! رُدَّ هؤلاء، تُوجِّه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدَّت العرب حول المدينة؟! فقال: " والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله  ما رددتُ جيشا وجَّهه رسول الله ، ولا حلَلْتُ لواء عَقَده رسولُ الله "، فوجَّه أسامة، فجعل لا يمرّ بقبيلٍ يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أنَّ لهؤلاء قوة ما خرج مِثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندَعهم حتى يَلقوا
الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين، فثبتوا على
الإسلام "( ).
هذا هو تمسك أبي بكر بالسنة على الرغم من فاجعة موت رسول الله  وفاقرة ارتداد العرب، أضف إليهما تثبيط الناس له انطلاقا من العقل الذي يقضي بما قضوا به، ولكن الشرع الذي تعلَّمه أبو بكر من النبي  هو الذي هداه إلى ما شحَّت به قرائحُهم؛ ألا وهو خوفُه  من تأخير ما قدَّمه رسول الله ، فكانت عاقبة التمسك بالسنة الانتصار على العدو والثبات على الإسلام.
تنبيه:
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ: " وقد حقق العلماءُ أن غلبة الأنبياء على قسمين: غلبة بالحجة والبيان، وهي ثابتة لجميعهم، وغلبة بالسيف والسنان، وهي ثابتة لخصوص الذين أُمروا منهم بالقتال في سبيل
الله ..."( ).
ولهذا قرر العلماء أن المؤمنين المستضعفين اليوم في مجتمعاتهم؛ الذين لا يؤمرون بالقتال، هم منتصرون بالحجة العلمية التي تدمغ كل
باطل وجدال، وأما الذين لهم القوة والسلطان فيؤمرون به لتتأيَّد
الحجة بالسنان، وعلى هذا فالحجة العلمية غالبة في كل زمان، والحمد لله
على هذا.
ولما كان أهل الحديث أقوى الناس حجة؛ لأنهم أعلمهم بالقرآن كما قال عمر بن الخطاب: " إن ناسا يجادلونكم بشُبَه القرآن، فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله  "( )، ولما كانوا أعلمهم بهدي النبي ، كانوا أتبعهم للكتاب والسنة، فلا يستغرِبنّ خلفيّ أن تجتمع كلمة أهل العلم على تفسير الطائفة المنصورة بأهل الحديث في قوله : » من يُرِد الله به خيرا يفقِّهه في الدين ... ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ... ))( )،
مع أنه لا يخفى على الحصيف ارتباط الجملة الأولى ـ التي هي الفقه في
الدين ـ بالأخرى ـ التي هي انتصار هذه الطائفة ـ وهو من جوامع كلمه ( ).

تهديد مخالف الرسول بالزيغ أو الكفر
ما دام قد كتب الله لأتباع نبيّه  الثبات على الدين، فقد جعل مخالفيه على خطر من دينهم فقال: {وإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً. فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}، قال ابن القيم: " توَعَّدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسول وتحكيم غيره والتحاكم إليه كما قال تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} اعتذَروا بأنهم إنما قصدوا الإحسان والتوفيق ..."( ).
وثالثة الأثافي أن هذه المصيبة قد تصيب من دين المرء مقتلا حتى يكفر، قال ابن تيمية عند قول الله : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : " أمر مَن خالف أَمْرَه أن يحْذَر الفتنة، والفتنة: الرِّدة والكفر، قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} ... قال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد: " نظرتُ في المصحف فوجدتُ طاعة الرسول  في ثلاثة وثلاثين موضعا "، ثم جعل يتلو: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وجعل يكررها ويقول: " وما الفتنة؟ الشرك، لعله إذا رَدَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبُه
فيهلكه "، وجعل يتلو هذه الآية: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}.
وقال أبو طالب المشكاني: وقيل له : إن قوما يدَعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان، فقال: " أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته، يدَعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، قال الله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}! وتدري ما الفتنة؟ الكفر، قال الله تعالى: {والفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ}، فيدَعون الحديثَ عن رسول الله  وتغلبهم أهواؤُهم إلى الرأي، فإذا كان المخالف عن أمره قد حُذِّر من الكفر والشرك أو من العذاب الأليم، دلّ على أنه قد يكون مفضياً إلى الكفر أو العذاب
الأليم ... "( ).
ومن الكلمات السائرة عند السلف قولهم: " أسرع الناس رِدَّة أصحابُ الأهواء "( ).
ولما كان أصل كفر أهل الكتاب من جهة مخالفة الرسل قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَم}، وفي هذا السياق الكريم فائدتان:
الأولى: أن سبب كفرهم هو تعظيمهم علماءهم حتى غضّوا من حق الله ورسوله في التحاكم إليهما، فعن عدي بن حاتم قال: أتيتُ النبي  وفي عنقي صليب من ذهب، فقال:» يا عديّ! اطرح عنك هذا الوثن «، وسمعته يقرأ من سورة براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللهِ}، قال: (( أمَا إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أَحلُّوا لهم شيئا استحلّوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئا حرَّموه ))( ).
والثانية: أن في الاقتصار على التنديد بصنيع اليهود والنصارى تنبيها على قسمي المخالفة للرسل لا ثالث لهما، وهما:
ـ التفريط: الذي هو النصيب الأوفر لليهود مؤذي الأنبياء وقتَلَتِهم.
ـ الإفراط: الذي هو النصيب الأوفر للنصارى ذوي الغلوّ.
وهذا من إعجاز القرآن العظيم. وقد جاء التحذير منهما مقترنين في حديث واحد، هو قول الرسول :» دعوني ما تركتكم؛ فإنما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتُكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأْتوا منه ما استطعتم « متفق عليه.
فقوله: » بكثرة سؤالهم « في الإفراط والغلو.
وقوله: » واختلافهم على أنبيائهم « في التفريط والتقصير.
ولذلك أورده البخاري في " كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة "( )، وهو من جوامع كلمه .
ولما كانت المتابعة بهذه الدقة لم يمدح الله تعالى المؤمنين بمجردها، بل بإحسانها فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينِ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، أي هي متابعة ظاهرة وباطنة، ومن كان كذلك فأخذ منه الشيطان نصيبا من الطاعة، أسرع الأَوْبة ونفعته التوبة؛ كما وصف الله المهاجرين والأنصار بذلك؛ لأن مخالفتهم لم تكن متأصِّلة في قلوبهم، وسرّ هذه العناية الربانية بهم ما عُرِفوا به من المتابعة التامة، فتأمَّل إخبار الله عن حفظ قلوبهم من الزيغ بسبب صدقهم في المتابعة في وقت العسرة قال الله : {لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيَّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في سَاعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ}، فلْيحذر الذين هم على ظاهر السنة دون باطنها، وكذا العكس.

تعجيل الهزيمة لمخالفي الرسل
كما أنّ أتباع الرسل منصورون، فإنّ مخالفيهم مخذولون قال الله
تعالى: {إنّ الَّذينَ يُحَادُّونَ  اللهََ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ في الأَذَلِّين}، وقال رسول الله :
(( ... وجُعل الذّل والصغار علىمن خالف أمري )) رواه أحمد وهو حسن.
 وتفسيره ماقاله ابن تيمية: " والبدعةُ مقرونةٌ بالفُرْقة،كما أنّ السنّةَ مقرونةٌ بالجماعة  فيقال: أهل السنة والجماعة: كما يقال: أهل البدعة والفُرقة "( ).
وقد أجمع العقلاء على أنّ أعظم أسباب الهزيمة هو التنازع، وأشده ـ ولا شك ـ التنازع في الدين، ولما كان التنازع ناشئاً عن التقصير في طاعة الله ورسوله قرن الله بينهما في آية واحدة، فقال: {وأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} ولما كان الالتزام بالسنة هو سفينة النجاة في بحر الاختلاف، أمر النبي  بلزومها عند وقوعه فقال: (( ... وإنّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاكثيرا، فعليكم بسنّتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور )) رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه وغيرهم وهوصحيح، وقال الله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَات}، أي جاءهم من الوحي مايجمعهم، فلما تركوه اختلفوا. وهذا مبيَّن في سيرة اليهود والنصارى مع رسلهم، فالنصارى اتَّبعوا رهبانية ابتدعوها وتركوا بعض ما أُمروا به فأَغْرَى الله بينهم العداوة والبغضاء،كما قال تعالى: {ومِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاًّ مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ}، قال ابن تيمية: " فهذا نصٌّ في أنهم تركوا بعض ما أُمِروا به فكان تركه سبباً لوقوع العداوة والبغضاء المحرَّمَيْن "( ).
وكذلك اليهود تركوا بعض ما أُمروا به كما قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ ونَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}، لكن تركهم له كان ناشئاً عن تقصيرهم المعروف بسبب كراهيتهم لما أنزل الله، كما قال تعالى: {ولَيَزيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُم مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ}( ).
وقال ابن تيمية: " والخلاف الواقع في غير أهل الملل أكثر منه في أهل الملل، فكل من كان إلى متابعة الأنبياء أقرب كان الخلاف بينهم أقل؛ فالخلاف المنقول عن فلاسفة اليونان والهند وأمثالهم أمر لا يُحصيه إلا الله، وبعده الخلاف عن أعظم الملل ابتداعا كالرافضة فينا، وبعد ذلك الخلاف الذي بين المعتزلة ونحوهم، وبعد ذلك خلاف الفرق المنتسبة إلى الجماعة، كالكلاّبية والكرّامية والأشعرية ونحوهم، وبعد ذلك اختلاف أهل الحديث، وهم أقل الطوائف اختلافا في أصولهم، لأن ميراثهم من النبوة أعظم من ميراث غيرهم، فعصمهم حبل الله الذي اعتصموا به، فقال: {واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً} "( ).
ومن الدرر الغوالي لأبي المظفر السمعاني قوله: " ومما يدلُّ على أن أهل الحديث هم على الحقّ أنك لو طالعتَ جميع كتبهم المصنَّفة من أوّلهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار، وجدتَهم في بيان الاعتقاد على وتيرةٍ واحدةٍ ونمطٍ واحدٍ، يجْرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها، قولُهم في ذلك واحدٌ ونقلُهم واحدٌ، لا ترى بينهم اختلافاً ولا تفرّقاً في شيء ما وإن قلّ، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء من قلب واحد وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبيَن من هذا؟ قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا}.
وأما إذا نظرتَ إلى أهل الأهواء والبدع رأيتَهم متفرِّقين مختلفين أو شِيَعاً وأحزاباً؛ لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقةٍ واحدةٍ في الاعتقاد، يبَدِّع بعضهم بعضاً، بل يَرْتَقُون إلى التكفير؛ يكفِّر الابنُ أباه، والرجلُ أخاه، والجارُ جارَه، تراهم أبداً في تنازعٍ وتباغضٍ واختلافٍ، تنقضي أعمارُهم ولم تَتَّفق كلماتُهم {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ} "( ).
والغرض من هذا كله بيان لحوق الهزيمة بمن خالف الرسول  وتعجيلها لهم، بسبب الاختلاف المضروب عليهم، وقد روى ابن سعد والبيهقي وأحمد وغيرهم بأسانيد عن جمع من الصحابة دخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: وبعث رسول الله  عبد الله بن حذافة السهمي، وهو أحد الستة، إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام وكتب معه كتابا، قال عبد الله: فدفعتُ إليه كتاب رسول الله ، ثم أخذه فمزَّقه، فلما بلغ ذلك رسول الله  قال: ((  اللهم مزِّق ملكه ))( )، وكتب كسرى إلى باذان عامله على اليمن أن ابعث من عندك رجلين جلْدين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز فلْيَأتياني بخبره، فبعث باذان قهرمان ورجلا آخر، وكتب معهما كتابا، فقدِما المدينة، فدفعا كتاب باذان إلى النبي ، فتبسم رسول الله  ودعاهما إلى الإسلام وفرائصهما ترعد، وفي رواية: فلما رأى شَواربهما مفتولة وخدودهما محلوقة، أشاح عنهما وقال: (( وَيْحَكُما مَن أمركما بهذا )) قالا: أمَرنا ربنا ـ يعنيان كسرى ـ فقال النبي : (( ولكني أمرني ربي  أن أُعفِيَ لحيتي وأن أُحفي شاربي ))، وقال:
(( ارجعا عني يومكما هذا حتى تأتياني الغد فأخبركما بما أريد ))، فجاءاه
من الغد فقال لهما: (( أَبْلغا صاحبكما أن ربي قد قتل ربه كسرى في هذه الليلة ))، فوجدوه كما قال( ).
وفي هذه القصة أن النبي  علِم هلاك كسرى لَمّا تجرَّأ على رسالته، ولم يُراع له حرمته؛ لأن الله قضى بقطع دابر شانيء رسوله وتعجيل بتره فقال: {إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}. ومن حسن الموافقة أن قاتل كسرى ابنُه، كما ذكر ذلك الحافظ في » الفتح «( )، وهو من تمام الإعجاز في إلقاء العداوة بين أفراد الأمة الواحدة، كيف وهي عداوة أهل بيت واحد؟! تحقيقاً لقول الله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ}.
وقارن قصة كسرى هذه بقصة قيصر التي رواها البخاري وغيره، وفيها قول قيصر لأبي سفيان في رسول الله : "... فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدميّ هاتين، وقد كنتُ أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخْلُص إليه لتَجَشَّمْتُ لقاءه، ولو كنتُ عنده لغسلتُ عن قَدمه ...".
قال ابن تيمية: " وقد كتب النبي  إلى كسرى وقيصر، وكلاهما لم يُسْلم، لكن قيصر أكرمَ كتاب النبي  وأكرم رسوله، فثبَت ملكُه، فيقال: إن الملك باقٍ في ذريته إلى اليوم، وكسرى مزَّق كتاب رسول الله  واستهزأ برسول الله ، فقتله الله بعد قليل ومزَّق ملكه كل ممزق ولم يبق للأكاسرة ملك، وهذا ـ والله أعلم ـ تحقيق لقوله تعالى: {إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر}، فكلُّ مَن شنَأه وأبغضه وعاداه فإن الله يقطع دابره ويمحق عينه وأثره، وقد قيل: إنها نزلت في العاص بن وائل أو في عقبة بن أبي معيط أو في كعب بن الأشرف، وقد رأيتَ صنيع الله بهم، ومن الكلام السائر:
( لحوم العلماء مسمومة )، فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السلام؟!"( ).
قلت: تأمل قوله: " إن المُلْك باقٍ في ذرِّيَّته إلى اليوم "، مع قول هرقل بعد قراءته كتاب رسول الله  في الرواية السابقة: " يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد وأنْ يثبت مُلْكُكُم فتُبايِعوا هذا النبي؟..".
وقال ابن تيمية: " ونظير هذا ما حدّثَناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جرَّبوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصَر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس، إذ تعرَّض أهله لسبّ رسول الله  والوقيعة في عرضه فعجلنا فتحه وتيسر، ولم يكد يتأخر إلا يوما أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا حتى إن كنّا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظا عليهم بما قالوه فيه،كما حدّثني بعض الأصحاب الثقاة أنّ المسلمين من أهل الغرب حالهم مع النصارى كذلك، ومن سنّة الله أن يعذّب أعداءه تارة بعذاب من عنده، وتارة بأيدي عباده المؤمنين "( ).
وقال ابن تيمية: " سورة الكوثر: ما أجلّها من سورة! وأغزر فوائدها على اختصارها! وحقيقة معناها تُعْلم من آخرها، فإنه سبحانه وتعالى بَتَر شانيء رسوله من كل خير، فيَبتر ذكره وأهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها، ولا يتزوّد فيها صالحا لمعاده، ويبتر قلبه فلا يعي الخير، ولا يؤهِّله لمعرفته ومحبته والإيمان برسله، ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرا ولا عونا، ويبتره من جميع القرب والأعمال الصالحة فلا يذوق لها طعما ولا يجد لها حلاوة، وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها، وهذا جزاء من شنَأ بعض ما جاء به الرسول  وردَّه لأجل هواه أومتبوعه أو شيخه أو أميره أو كبيره، كمن شنأ آيات الصفات وأحاديث الصفات، وتأوَّلها على غير مراد الله ورسوله منها، أو حملها على ما يوافق مذهبه ومذهب طائفته، أو تمنَّى ألا تكون آيات الصفات أنزلت، ولا أحاديث الصفات قالها رسول الله  ... ومن أقوى علامات شناءته لها وكراهته لها أنه إذا سمعها حين يَستدل بها أهلُ السنة على ما دلت عليه من الحق اشمأز من ذلك، وحاد ونفر من ذلك، لِما في قلبه من البغض لها والنفرة عنها، فأي شانيء للرسول أعظم من هذا ... وكذا مَن آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة، فلولا أنه شانيء لِما جاء به الرسول ما فعل ذلك، حتى إن بعضهم لينسى القرآن بعد أن حفظه، ويشتغل بقول فلان وفلان ...
فالحذرَ الحذرَ! أيها الرجل من أن تكره شيئا مما جاء به الرسول  أو تردّه لأجل هواك، أو انتصارا لمذهبك أو لشيخك، أو لأجل اشتغالك بالشهوات أو بالدنيا؛ فإن الله لم يوجب على أحد طاعة أحد إلا طاعة رسوله والأخذ بما جاء به، بحيث لو خالف العبد جميع الخلق واتبع الرسول ما سأله الله عن مخالفة أحد، فإن من يطيع أو يطاع إنما يطاع تبعا للرسول، وإلا لو أمر بخلاف ما أمر به الرسول ما أطيع. فاعلم ذلك واسمع وأطع، واتبع ولا تبتدع، تكن أبتر مردودا عليك عملُك، بل لا خير في عمل أبتر من الاِتّباع، ولا خير في عامله، والله أعلم "( ).

    الأصل الخامس : الردّ على المخالف
    من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر
احتجْتُ إلى أن أؤصّل لبحثي بهذا الفصل؛ لأنّني تعرّضت فيه لانتقاد بعض من بان لي خطؤه في الدعوة إلى الله عموما، وفي موضوع الكتاب خصوصا. ولمّا كان جلّ الأحزاب الإسلامية يعمل على وَأْد ما يسمّى ( بالنّقد الذّاتيّ )، وإجهاض الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وإخلاء أعظم ثغور المسلمين من مرابط، بحجّة السّتر على المسلمين تارة، وجمع الكيد للكافرين تارة أخرى، وغيرها من الحجج العاطفيّة التي تجعل العقول تُتخطّف من أصحابها في زمن الوهن العلميّ، كان لابدّ من ردّ الحق إلى نصابه {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ}.
" والذين يَلْوُون ألسنتهم باستنكار نقد الباطل وإن كان في بعضهم صلاح وخير، ولكنّه الوهن وضعف العزائم حينا، وضعف إدراك مدارك الحق والصّواب أحيانا، بل في حقيقته من التّولي يوم الزحف عن مواقع الحراسة لدين الله والذّب عنه، وحينئذ يكون الساكت عن كلمة الحق كالنّاطق بالباطل في الإثم، قال أبو علي الدّقاق : " الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق ". والنبيّ  يخبر بافتراق هذه الأمّة إلى ثلاث وسبعين فرقة، والنّجاة منها لفرقة واحدة على منهاج النّبوّة، أيريد هؤلاء اختصار الأمّة إلى فرقة وجماعة واحدة مع قيام التّمايز العقديّ المضطرب؟!.  أم أنها دعوة إلى وحدة تصدِّع كلمة التّوحيد، فاحذروا.
وما حجّتهم إلا المقولات الباطلة :
لاتصدِّعوا الصفّ من الدّاخل!
لا تثيروا الغبار من الخارج!
لا تحرّكوا الخلاف بين المسلمين!
" نلتقي فيما اتّفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه !" وهكذا.
وأضعف الإيمان أن يقال لهؤلاء : هل سكت المبطلون لنسكت، أم أنهم يهاجمون الاعتقاد على مرأى ومسمع، ويُطلب السّكوت؟ اللهمّ لا...
ونُعيذ بالله كل مسلم من تسرّب حجّة اليهود، فهم مختلفون على الكتاب، مخالفون للكتاب، ومع هذا يظهرون الوحدة والاجتماع، وقد كذّبهم الله تعالى فقال سبحانه : {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وقُلُوبُهُمْ شَتَّى}، وكان من أسباب لعنتهم ما ذكره الله بقوله :{كانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهُ}"( ).
" ولهذا فإذا رأيت من ردّ على مخالف في شذوذ فقهيّ أو قول بدعيّ، فاشكر له دفاعه بقدر ما وَسِعه، ولا تخذِّله بتلك المقولة المهينة ( لماذا لا يردّ على العلمانيّين؟! )، فالناس قدرات ومواهب، وردّ الباطل واجب مهما كانت رتبته، وكل مسلم على ثغر من ثغور ملّته "( ).
وأصل هذا الباب النّصوص الواردة في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر كقوله تعالى: {ولْتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} قال ابن تيمية: " والأمر بالسنّة والنّهي عن البدعة هو أمرٌ بمعروف ونهيٌ عن منكر، وهو من أفضل الأعمال الصالحة ... "( )، ولا ينبغي للجماعات الإسلامية اليوم أن تضيق صدورها بالنّقد؛ لأنّه من القيام بالقسط والشّهادة لله الّلذين أمرنا بهما ولو مع أنفسنا وأهل ملّتنا كما قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِين إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} واللَّيّ هو الكذب، والإعراض هو الكتمان كما قال ابن تيمية( )، فكيف يطيب لمؤمن دعوةٌ مع كتمان الأخطاء تستّراً بالمجاملات السياسية بعد هذا؟!
ولا شكّ أنّ الغيرة التي أودعها الله في قلب كلِّ مؤمن على محارمه هي التي تحرّكه إلى القيام بهذا الواجب، كما قال النبي : (( إنّ الله تعالى يغار، وإنّ المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرّم الله عليه )) متفق عليه. وإذا كان كلما أراد المؤمن أن يقوِّم المسار قيل له: ليس ذا الوقت والكفار متربّصون! فمتى يعرف أخطاءه؟ ومتى يحجم عنها؟ ومتى يصحّ المريض ويُقوَّى الضعيف؟ وقد روى أبو هريرة عن رسول الله  قال: (( المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يَكُفُّ عليه ضَيْعتَه، ويَحُوطُه من ورائه ))( ). وليس من المولاة للمؤمنين في شيء أن تنصُر أخاك في باطله محتجّا بمواجهته الشيوعيّين، فعن أنس أن رسول الله  قال: (( انصر أخاك ظالما أو
مظلوما ))، قيل: يا رسول الله! هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: (( تمنعه من الظلم ))، رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم من طريق جابر بلفظ: (( إن كان ظالما فلينهه؛ فإنه له نصر )).
قال ابن تيمية في هذا المعنى: " ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم أو ذبّ عنهم أو أثنى عليهم أو عظّم كتبهم أو عُرِف بمساعدتهم ومعاونتهم أو كره الكلام فيهم أو أخذ يعتذر لهم، بأنّ هذا الكلام لا يُدرَى ما هو؟ أو من قال إنّه صنّف هذا الكتاب؟ وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عَرَف حالهم ولم يعاون على القيام عليهم، فإنّ القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادا ويصدُّون عن سبيل الله "( ).
وفي الردّ على المخالف دفاع عن الإسلام من جبهتين:
" الأولى: الخطر الخارجيّ وهو الكافر المتمحِّض، الذي لم يعرِف نور الإسلام، بما يكيده للإسلام والمسلمين من غزو يحطِم في مُقَوِّماتهم العقديّة والسّلوكيّة والسياسية والحكميّة ...
الثانية: مواجهة التّصدُّع الدّاخليّ في الأمة بفشُوِّ فِرق ونحل طاف طائفها في أفئدة شباب الأمّة ... إذ التّصدُّع الدّاخليّ تحت لباس الدين يمثِّل انكسارا في رأس المال : المسلمين، وقد كان للسّالكين في ضوء الكتاب والسنّة
ـ الطّائفة المنصورة ـ الحظّ الوافر والمقام العظيم في جبر كسر المسلمين بردّهم إلى الكتاب والسنّة، وذلك بتحطيم ما قامت عليه تلك الفرق المفرّقة من مآخذ باطلة في ميزان الشرع "( ).
ومن ضنائن العلم ما قرأته لابن تيمية في التّمييز بين معاملة الخوارج ومعاملة الكفار، وهو يرفع اللّبس المتبادر إلى الأذهان الكليلة من بعض الأحاديث التي يظهر منها أنّ الخوارج شرّ من الكفار مطلقا، مع أنّ الصّحابة لم يكفّروهم، قال ـ رحمه الله ـ: " وما زالت سيرة المسلمين على هذا، ما جعلوهم مرتدّين كالذين قاتلهم الصدّيق ، هذا مع أمر رسول الله  بقتالهم في الأحاديث الصحيحة، وما رُوِيَ من أنهم » شرّ قتلى تحت أديم السماء، خير قتيل من قتلوه « في الحديث الذي رواه أبو أمامة، رواه التّرمذيّ وغيره( )؛ أي أنهم شرٌّ على المسلمين من غيرهم؛ فإنّهم لم يكن أحد شرّا على المسلمين منهم: لا اليهود ولا النّصارى؛ فإنّهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم( ) مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم، مكفِّرين لهم، وكانوا متديّنين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلّة ..."( )  أي أنّ الخوارج أقلّ جريمة من الكفار في الميزان العامّ الأخير، يكفي أنهم " من الكفر فرّوا "،  لكن بالنسبة لما يعاني منهم المسلمون وما يوقعون بهم من المحن والبلايا فهم أعظم شرّا من الكفار، بل لا يخلص الكفار إلى المسلمين كما يخلص إليهم هؤلاء، ولذلك قد تُقَدَّم عقوبتهم في الدنيا قبل غيرهم، وتأمّل فقه ابن تيمية حين قال بعد كلامه السّابق بصفحتين: " والعقوبة في الدنيا تكون لدفع ضرره عن المسلمين، وإن كان في الآخرة خيرا ممّن لم يُعاقَب، كما يُعَاقَب المسلم المُتَعَدِّي للحدود ولا يُعَاقَب أهل الذِّمّة من اليهود والنّصارى، والمسلم في الآخرة خير منهم ".
فاحفظ هذا، وعضَّ عليه بالنّواجذ تتهاوى بين يديك عساكر الباطل المعطّلة لمجاهدة البدع وأهلها، كأولئك القائلين: " إن لم تكونوا معنا فأنتم معهم!! "، أو كأولئك القائلين: " تُوَجِّهون سهامكم إلى إخوانكم، والعلمانيون والشيوعيون أنشط ما يكونون في نشر الخلافات بينكم؟! ".
قال ابن تيمية( ): " إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء، وقد قال النبي  : (( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم،وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ))( ) ... ".

لماذا عُنِيَت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالرد على الفرق المنحرفة ـ كالطرق الصوفية ـ أكثر من عنايتها بالرد على الإلحاد، مع وجود الاستعمار الفرنسي؟
هذه شبهة تَرِد كثيرا على لسان من لم يتضلَّع بمنهج السلف يجيب عنها الشيخ محمد البشير الإبرهيمي ـ رحمه الله ـ بقوله: " وإنك لا تُبْعِد إذا قلت: إن لفشوِّ الخرافات وأضاليل الطرق بين الأمة أثرا كبيرا في فشوّ الإلحاد بين أبنائها المتعلمين تعلُّما أوروباويا الجاهلين بحقائق دينهم، لأنهم يحملون من الصغر فكرة أن هذه الأضاليل الطرقية هي الدين، وأن أهلها هم حملة الدين، فإذا تقدم بهم العلم والعقل لم يستسغها منهم علم ولا عقل، فأنكروها حقا وعدلاً، وأنكروا معها الدين ظلما وجهلاً، وهذه إحدى جنايات الطرقية على الدين. أرأيت أن القضاء على الطرقية قضاء على الإلحاد في بعض معانيه وحسم لبعض أسبابه. وقد قرأت في هذه الأيام لكاتب تونسي مقالاً ينعى فيه على جمعية العلماء إهمالها لهذه الجهة من جهات الفساد وهي الإلحاد، واعتذر عن علماء جامع الزيتونة بأنهم ـ وإن قعدوا في نواحي الإصلاح التي تخبّ فيها جمعية العلماء وتضع ـ قاموا في حرب الإلحاد بما شكرهم عليه، ولكنه حصر عملهم في هذا السبيل في خطب جمعية ينددون فيها بالإلحاد ويحذرونه، وفات هذا الكاتب الفاضل أن جمعية العلماء لم تسكت عن الإلحاد، بل هاجمته في أمنع معاقله، ونازلته في أضيق ميادينه، كما فاته أن صرعى الإلحاد لايغشون المساجد، فما تأثير الخطب الجمعية التي تلقى على المصلين؟ وهل يداوَى المريض بتحذير الأصحاء من المرض أو أسباب المرض؟ إلا أن العالم المرشد كالطبيب لا ينجح في إنقاذ المريض من الموت إلا بغشيان مواقع الموت ومباشرة جراثيم الموت "( ).
فالله أكبر ما أقوى المنهج السلفي! وما أبخس الأحزاب لقدره!
إذن فمواجهة هؤلاء حماية لديار المسلمين من أن تُغتال من تحتها، بجهاد المنافقين الذين يتسللون الصفوف لِواذا، قال الله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ} قال ابن القيم: " وكذلك جهاد المنافقين إنما هو بتبليغ الحجة .. " إلى أن قال: " فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواصّ الأمة وورثة الرسل. والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه والمعاونون عليه ـ وإن كانوا هم الأقلِّين عدداً ـ فهم الأعظمون عند الله قَدْراً .. "( ).
ولما كان هؤلاء منضوين تحت صفوف المسلمين، فإن أمرهم قد يخفى على كثير من الناس، فكان بيان حالهم ـ لمن ولاؤنا لهم فرض علينا ـ آكد، ولذلك قال ابن تيمية: " وإذا كان أقوام ليسوا منافقين ولكنهم سمّاعون للمنافقين، قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقا، وهو مخالف للكتاب، وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين، كما قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، فلا بد من بيان حال هؤلاء، بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم، فإن فيهم إيمانا يوجب موالاتهم، وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين، فلا بد من التحذير من تلك البدع، وإن اقتضى ذلك ذِكْرُهم وتعيينُهم، بل ولو لم يكن قد تَلَقَّوْا تلك البدعة عن منافق، لكن قالوها ظانِّين أنها هدى وأنها خير وأنها دين، ولو لم تكن كذلك لوجب بيان حالهم "( ).
وأما مواجهتهم من الخارج؛ فلأن العدو لا يدخل عليك بيتك إلا إذا كانت منافذه مفتوحة أو ضعيفة، والفرق الإسلامية المنحرفة عن الناجية هم منافذ الكفار، وهل يجهل المسلمون أثر المتصوفة في استعمار البلاد الإسلامية وإعانتهم الكفار على ذلك؟ وقد قال ابن تيمية في الشيعة الروافض: " وهم يستعينون بالكفار على المسلمين، وقد رأينا ورأى المسلمون أنه إذا ابتُلي المسلمون بعدوّ كافر كانوا معه على المسلمين، كما جرى لجنكزخان ملك التتر الكفار، فإن الرافضة أعانته على المسلمين، وأما إعانتهم لهولاكو ابن ابنِه لما جاء إلى خراسان والعراق والشام فهذا أظهر وأشهر من أن يخفى على أحد، فكانوا بالعراق وخراسان من أعظم أنصاره ظاهرا و باطنا، وكان وزير الخليفة ببغداد الذي يقال له ابن العلقمي منهم، فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين، ويسعى بقطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم، وينهى عن قتالهم ويكيد أنواعا من الكيد، حتى دخلوا فقتلوا من المسلمين ما يقال: إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان أو أكثر أو أقل ... ولما انكسر المسلمون سنة غازان أخذوا الخيل والسلاح والأسرى وباعوهم للكفار النصارى بقبرص، وأخذوا من مرَّ بهم من الجند، وكانوا أضر على المسلمين من جميع الأعداء ..."( ).
قلت: ولذلك كان أئمتنا أفقه من أن يداهنوا المنحرفين عن منهج السلف، بل رأوا جهادهم أكبر الجهادين، كما قال يحيى بن يحيى شيخ البخاري ومسلم: " الذبّ عن السنة أفضل من الجهاد "( )، رواه الهرويُّ بسنده إلى نصر بن زكريا قال سمعتُ محمد بن يحيى الذهلي يقول سمعتُ يحيى بن يحيى يقول: " الذّبُّ عن السُّنّة أفضلُ من الجهاد في سبيل الله، قال محمد: قلتُ ليحيى: الرجلُ ينفِقُ مالَه ويُتْعِبُ نفسَه ويجاهد، فهذا أفضلُ منه؟! قال: نعم بكثير! "( ).
وقال الحميدي شيخ البخاري : " والله! لأن أغزو هؤلاء الذين يَرُدُّون حديث رسول الله  أحبُّ إلي من أن أغزو عِدَّتهم من الأتراك "( )، يعني بالأتراك: الكفار. وقد وجدتُ مثل هذا عند من هو أعلى طبقةً من  الحميدي؛ قال عاصم بن شُمَيْخ: فرأيتُ أبا سعيد ـ يعني الخدري ـ بعد ما كبِر ويداه ترتعش يقول: " قتالهم ـ أي الخوارج ـ أجلّ عندي من قتال عِدَّتهم من
الترك "( ).
قلت: ولذلك قال ابن هبيرة في حديث أبي سعيد في قتال الخوارج: " وفي الحديث أن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين؛ والحكمة فيه أن قتالهم حفظ رأس مال الإسلام، وفي قتال أهل الشرك طلب الربح؛ وحفظ رأس المال أولى "( ).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلاّم: " المتبع للسنة كالقابض على الجمر، وهو اليوم عندي أفضل من الضرب بالسيوف في سبيل الله "( ).
وقال ابن القيم: " والجهاد بالحجة واللسان مقدَّم على الجهاد بالسيف والسنان "( ).

استعمال الشدة في الإنكار على المبتدعة لا يعني الولاء للكفار      
من وجد في بحثي هذا شيئا من القسوة على المخالف فلم يستسغه، بل ربما قال: "يتكلم في إخوانه ويسكت عن أعدائه"! فليعلم أن الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللين والرفق كما قال الله تعالى: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقال لموسى وهارون صلى الله عليهما وسلم: {اذْهَبَا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، وقال النبي : » ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نُزع الرفق من شيء إلا شانه « رواه مسلم.
لكن إذا كان المنكر لا يغيَّر إلا بنوع من الخشونة فلا بأس باستعماله، ولو كان مع المسلمين، ألا ترى أن الله أباح القتال لذلك، وليس فوق القتال خشونة، فقال سبحانه: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ}. وقد يشتد المؤمن في إنكاره على أخيه أكثر منه مع عدوّه، ألم تر كيف لاَنَ موسى  مع فرعون، واشتد على أخيه هارون ، حتى كان منه ما قصه الله تعالى بقوله: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}، فهل لأحد أن يحتج عليه بالولاء والبراء، متهِما له بأنه يبسط لسانه ويده على أخيه ويلطف بالطواغيت؟!
بل ربما كان النبي  يُعنِّف العلماء من أصحابه إذا أخطأوا أكثر من غيرهم، وخذ على سبيل المثال قوله لمعاذ حين أطال الصلاة بالناس: » أفتّان أنت يا معاذ؟! « متفق عليه، ويقابله تلطفه بالأعرابي الذي بال في المسجد كما في صحيح البخاري وغيره. وقال لأسامة بن زيد حين قَتل في المعركة مشركا بعد أن نطق بكلمة التوحيد :»  يا أسامة! أقتلته بعدما قال:لا إله إلا الله؟! « قال أسامة: " فما زال يكررها حتى تمنيتُ أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم ". 
وقد استفاد أسامة من هذا التعنيف في النصح أيام الفتنة التي كانت بعد مقتل عثمان ، فأورثه توَرُّعا عن دماء المسلمين، قال الذهبي ـ رحمه الله ـ:
" انتفع أسامة من يوم النبي ، إذ يقول له : » كيف بلا إله إلا الله يا أسامة؟! « فكفَّ يده، ولزم بيته، فأحسن "( ).
قلت: الله أكبر! ما أعظم التربية النبوية! وما أحقر التربية الحزبية! التي مِن يوم أن حرَّمت أصل ( الرد على المخالف ) وأبناؤها لا يتورَّعون عن دماء المسلمين، اتَّخذوها هدرا باسم الجهاد، ولا تكاد تقوم فتنة إلا وهم وَقودها أو موقدوها، هذه نتيجة مداهنة بعضهم بعضا لوهْم الاشتغال بالكفار!! ولذلك قال ابن تيمية: " المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما نَحمد معه ذلك التخشين "( ). إذن فهذا اللين الذي تستعمله كثير من الجماعات الإسلامية مع أفراد أو جماعات من حمقى المتهوِّرين ـ الذين كثيرا ما يتسببون في استعداء الأعداء على المسلمين ـ ليس من الولاء في شيء؛ لأنه يزيدهم إغراقا في ضلالهم لعدم شعورهم بعظم الجناية.ثم إن الشدة المسلوكة مع المسلمين أحيانا، باعثها الغيرة عليهم من أن يُرَوا ملطخين بشيء من القاذورات، والسعي في تمتين الصف وسدّ خروقه حتى لا يُؤتى من قبله، فليُعلم. ولهذا قال العلامة عبد العزيز بن باز تحت عنوان:   »الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتّاب «: " ولا شك أن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بالتحذير من الغلوّ في الدين، وأمرت بالدعوة إلى سبيل الحق بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ولكنها لم تهمل جانب الغلظة والشدّة في محلّها حيث لا ينفع اللين والجدال بالتي هي أحسن؛ كما قال سبحانه: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وقال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ} وقال تعالى: {وَلاَ تُجادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} الآية، أما إذا لم ينفع واستمرّ صاحب الظلم أو الكفر أو الفسق في عمله ولم يبال بالواعظ والناصح، فإن الواجب الأخذ على يديه ومعاملته بالشدة وإجراء ما يستحقه من إقامة حدّ أو تعزير أو تهديد أو توبيخ حتى يقف عند حدّه وينزجر عن باطله "( ).
مع أن الذي يظهر من مجاملات الأحزاب الإسلامية لأهل البدع والسكوت عن أخطائهم هو أنهم لما حصروا طريق عودة عزّ المسلمين في صندوق الانتخابات تذمّروا من النقد، لأنه ربما أتلف لهم الأصوات، وهكذا السيئة تتبعها أخوات.    
هذا ومن أجل أن الله فرض علينا قَدَراً وجود المخالف ـ الذي يُحسب على الإسلام ـ سلكنا طريق التصفية؛ لأن الله فرض علينا شَرْعاً الرد عليه
ـ كما بيَّنته في هذا الأصل ـ، ومن أجل أن الله كتب الرفعة لأهل العلم والتعليم ـ كما بيَّنته في الأصلين اللذين قبل هذا ـ سلكنا طريق التربية، وشرحه يأتي في الورقات الآتية.




    الأصل السادس : التصفية والتربية
إذا تبيَّنا أن رفعة الأمة مرهونة بالعلم والعمل، وأن الأمة قد اختلفت فيهما اختلافاً كثيراً، وأنه قد علق بالإسلام ما ليس منه، وأنه لا سبيل إلى التخلص من الذل المضروب علينا من قرون إلا بالرجوع إلى الدين الصحيح، كما روى ابن عمر عن النبي  أنه قال: » إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلا لاينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم «( )،وجب المسارعة إلى تحقيق ما يرفع عنا الذل، وهو الرجوع إلى صفاء الوحيين: الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح: أهل القرون الثلاثة الأولى.
وإذ قد امتدت يد التحريف إلى صفاء الإسلام حتى لوَّثته، وإلى جماله حتى شوَّهته، كانت تصفيته من كل دخيل من أوجب الواجبات، ما دام الحق الذي بعث الله به نبيه  مضمون البقاء إلى يوم تبدل الأرض والسماوات، بضمان الله القائل: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
وإذا دبّ التحريف إلى قوم، وشحَّت مناهجهم عن التصفية، أصابتهم حيرة لا يفرّقون معها بين حلال وحرام، كما روى مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله  قال ذات يوم في خطبته: » ألا إن ربي أمرني أن أُعلِّمكم ما جهلتم مما علَّمني يومي هذا: كل مالٍ نَحَلْتُه عبدا حلالٌ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجْتالتهم عن دينهم، وحرَّمَت عليهم ما أحللْتُ لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم: عربَهم وعجمَهم، إلا بقايا من أهل الكتاب «.
ولما كانت الجاهلية على هذا الوصف الذي في الحديث، بعث الله نبيه محمدا  مخلِّصا لها دينها من الشوائب، ومربيا لها على الإسلام الذي ارتضاه لها ربها، وعلى قاعدة (التصفية والتربية) وإن شئت قل (التخلية والتحلية) كانت دعوة الإسلام، ففي التوحيد لا يتربى المرء عليه سليما حتى يتخلص من رواسب الشرك، ولذلك قال الله تعالى:{فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لها}، وفي التشريع لا يتربَّى المرء عليه سليماً حتى يتخلَّص من البدع، ولذلك كان النبي  في كل خطبة  جمعة يأمر بلزوم الدين الصحيح المتمثل في الكتاب والسنة ويحذّر مما يَغشُّه ويُكَدِّر صفاءه وهو البدع؛  فقد روى مسلم عن جابر قال: كان رسول الله  إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش، يقول:
» صبّحكم ومسّاكم «، ويقول: » بعثت أنا والساعة كهاتين « ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: » أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة «، وتكراره لهذه الجملة دليل تأصيلها وشدّ العناية إليها. وخلاصة هذه القاعدة أنها تعني تصفية الإسلام من كل دخيل، وتربية الناس على هذا الإسلام الأصيل؛ أي تصفية التوحيد من الشرك، والسنة  من البدعة، والفقه من الآراء الحادثة المرجوحة، والأخلاق من سلوك الأمم  الهالكة المقبوحة، والأحاديث النبوية الصحيحة من الأحاديث المكذوبة المفضوحة ... وهكذا( ).
تطبيق:
اجتمع الشيخ محمد ناصر الدين الألباني بعلي بن حاج القائد الروحي
ـ كما يقولون ـ للحزب الجزائري: الجبهة الإسلامية للإنقاذ  وكان الشيخ على دراية دقيقة بحوادثهم، وبلغه أن مؤيِّديهم يُعَدُّون بالملايين، فكان مما سأله عنه ما أُثبتُه هنا اختصارا أن قال له الشيخ: " أَكُلُّ الذين معك يعرفون أن الله مستوٍ على عرشه؟ " وبعد أخذ وردّ، وتهرّب وصدّ، قال المسئول: نرجو ذلك! قال له الشيخ: " دَعْك من الجواب السياسي! "، فأجابه بالنفي، فقال الشيخ: " يكفيني منك هذا! "( ).     
هذا السؤال تفرضه قاعدة التصفية والتربية التي هي أدق ميزان تعرف به الدعوات الجهادية اليوم؛ لأن من عجز عن تصفية عقائد مؤيِّديه ومحبيه وتربيتهم على العقيدة السليمة، يكون أعجز عن تصفية ثمراتها من أخلاق وأحكام أمة فيها مبغضوه ومحاربوه، فكيف بتربيتهم بعد ذلك؟! والله يقول: {إنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنفُسِهِمْ}، ثم الجهاد نفسه لا يكون إلا بأمة مؤتلفة القلوب؛ لأن الائتلاف رافد النصر كما قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، والقلوب إن لم تجتمع على العقيدة السلفية كان أصحابها في شقاق لايجبره اجتماعهم في صناديق الاقتراع، قال الله  مخاطباً أصحاب النبي : {فَإِنْ ءَامَنُوا بمِثْلِ ما ءَامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ في شِقَاقٍ}. ومهما تكن عليه الغثائية السياسية من تجميع، فإن بداية أمر عقيدتها إلى تمييع، ونهاية تجميعها إلى تفرّق وتبديع؛ لأن اجتماع الأبدان لن يكون إلا مؤقَّتاً، إذا كان عقد القلوب مشتَّتاً، ولم أجد لهؤلاء أصدق وصف من قول الله تعالى في اليهود: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جمِيعاً وَقُلُوبُهم شتَّى}.
وجماع الأمر أن  الله وعد بالاستخلاف الحسن من عبده وحده بلا إشراك فقال: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِلنَّهُم مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}، ولا يجوز أن يُدفع في صدر هذا النص بضرب الأمثال التاريخية على نقضه؛ لأن المسلم وقّاف عند النص، وقد قال الله تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثالَ إنَّ اللهَ يَعْلَمُ وأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
وأما تحديد الشيخ سؤاله في مسألة الاستواء؛ فلأنها مفترق الطرق بين أهل السنة وأصحاب الأهواء، ولأنها العقيدةُ السهلة التي كان يعرفها مجتمع النبي  الذي فتح الدنيا وقاد الأمم، حتى الجواري من رعاة الغنم. وامتحان الشيخ بها جبهة الإنقاذ، مسلك سلفي وإن رغم أنف كل خلْفي، فقد روى مسلم وغيره عن معاوية بن الحكم السلمي قال: كانت لي غنم بين أُحد والجوانية فيها جارية لي، فاطلعتها ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب منها بشاة، وأنا رجل من بني آدم، فأسفت، فصككتها، فأتيت النبي  فذكرت ذلك له، فعظَّم ذلك عليَّ، فقلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: (( ادعها ))، فدعوتها فقال لها: (( أين الله؟ )) قالت: " في السماء "، قال: (( من أنا؟ )) قالت: " أنت رسول الله "، قال: (( أعتِقْها؛ فإنها مؤمنة )).
فتأمل ـ يرحمك الله ـ هذا المجتمع الذي كان يجاهد به النبي ؛ اكتمل في عقيدته حتى عند رعاة الغنم الذين تقلُّ صحبتهم للنبي  ـ كهذه الجارية!ـ وتأمل حقيقة المجتمعات الإسلامية اليوم التي يُطمَع تسلُّق عرش الحكم بها، لتدرك البون الشاسع بين جهاد أولئك وجهاد هؤلاء، فهل استطاعت الدعوات الجهادية أن تجمع الأتباع، فضلاً عن الرعاع على » أين الله؟ « أم هو سؤال أضحى أُضحوكةً تتندَّر بها الأحزاب في زمن تأثير الحضارات، ومحل سخرية عند منَظِّري الجماعات؟ أم أنهم فهموا ضرورة الحكم بما أنزل الله ولو أنهم ضيَّعوا  الله؟! فمتى يأذن الله بعتق رقابهم ممن استذلوهم، كما عتقت الجارية بعد أن عرفت الله؟ {واللهُ غالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون}.
لكن حقيقة هذا السؤال هي استخراج حقيقة الدعوات، وتبيّن مدى خلوص النيات؛ لأن في الاهتمام بالحكم بالشريعة، وفي الاهتمام بمسألة الاستواء اهتماما بحق الله تعالى، لكن بين الأولى والثانية فرق، وهو أن للعبد في الأولى حظًّا لنفسه، وهو ما يتكرر على الألسن من استرجاع المظالم واستيفاء الحقوق، والعيش الرغد الموعود به حقًّا في قول الله تعالى: {ولو أنَّ أَهْلَ القُرَى ءَامَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّمَآءِ والأَرْضِ} أي أن حظّ العبد خالط حقَّ الرب، وأما الاهتمام بصفة الاستواء لله فهو اهتمام  بحق الله الخالص، ليس للداعي إليها أدنى نصيب من حظّ نفسه، فتأمل هذا الفرق تدرك عزّة الإخلاص؛ لأن الدندنة حول قضية الحكم بما أنزل الله، مع إهمال قضايا صفات الرب الخالصة أو تأخيرها أو تهميشها ـ وهي أشرف ما أنزله الله؛ إذ شرف العلم بشرف المعلوم ـ لأكبر دليل على أن في الأمر شائبة، تؤكد ضرورة الرجوع إلى دعوة الأنبياء الذين قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه}، فقدَّموا الاهتمام بشرك القبور على الاهتمام بشرك القصور ـ إن صح هذا التعبير ـ، لهذا لم تكن الإمامة من أصول الإيمان( ).
تنبيه:
أرسل علي بن حاج رسالة سرية بتاريخ: (20صفر 1415هـ ) إلى الجماعات المسلحة يقول في ق (2) منها: " ولذلك رأينا في تاريخ علماء المسلمين أنه يكون بينهم خلاف حتى في بعض المسائل العقائدية فضلا عن الفرعية، ولكن يَخرجون في الجهاد صفاً واحداً أمام العدو الكافر، فكان الجيش يَضمّ في جنباته من شتى المذاهب الفرعية ومجاهدين من الفِرق الإسلامية! ... ".
بل قعّد بعدها قاعدة غريبة ادّعى فيها الاتفاق، وهي قوله: " إن المسائل المختلفة لا إنكار فيها!! "( ). 
قلت: أولا: لا ريب أن المسلمين ـ بعد الرعيل الأول ـ قد اختلفوا في أعظم ما في هذا الدين، ألا وهو اختلافهم في ربهم:  في أسمائه وصفاته، فيكون حينئذ إنكار السلف على المخالفين في ذلك جهداً ضائعاً عند هذا؛ لأنه خلاف الاتفاق المدَّعَى!
ثانيا: ليس غريباً أن يخالف ابنُ حاج العلامةَ الألباني في عدم اشتراط المعتقد الصحيح للنهوض بالأمة؛ للفوارق العلمية والمنهجية التي بينهما، ولكن الغريب ألا يصدع ابن حاج برأيه عند الشيخ! وأن يكتم عنه ( كلمة الحق هذه! ) ويُظهر الوفاق له تمويهاً على السلفيين! ثم يَكتبها في الظلام!! {واللهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُحِيطٌ}.

    مختصر تاريخ الدعوة الحديث في الجزائر
لما كان حديثي عن أوضاع الجزائر في هذا الزمن، لزمني أن أقَدّم للقارئ إلماحة عنها ليفهم ما يأتي بيانه، وقد أوجزتُ في ذلك جداً حرصاً على تصغير حجم الكتاب، ولذلك فقد تلحظ أنني خنقتُ الكلمات خنقاً! إلا أنني حرصتُ على الأهم فيما أظن. ثم لعلّك تارك بعض ما كتب ههنا في انتقاد بعضهم بأسمائهم وضائقٌ به صدرُك أن يقال: إنما هي غيبة وأكل لحمِ جيفة؟! فاطمئنَّ؛ فإن نيَّتي في ذلك الدفاع عن الدين، وما كان كذلك فذكاته شرعية شريفة. وقد اكتفيت في ذلك بالإحالة على الأحياء، والذمة تبرَأ بالإسناد، وما نَدَّ عنه قلمي أو شرَد عنه ذهني فعذر الاختصار فيه باد، فأقول وعلى الله الاعتماد:
 عَرَفَت الدعوةُ السلفية نشاطها الكبير في الجزائر أيام الاستعمار الفرنسي على يد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كان يرأسها الشيخ عبد الحميد ابن باديس ـ رحمه الله ـ وكان من علمائها المبرِّزين الشيخ الطيب العقبي، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والشيخ مبارك الميلي، والشيخ العربي التبسي، وغيرهم ... وتوفي جلُّهم ـ رحمهم الله ـ أيام الاستعمار، ومن بقي منهم فقد انحسر نشاطه السلفي جدا من يوم أن حُلَّت الجمعية بعد الاستقلال، وأضحت الدعوة لدى الإخوان المسلمين موضع استغلال، على حين جهل الأمة، وقلة المعارض من أهل البدعة وأهل السنة. مع العلم أنه لتصلب الجزائريين في دينهم لم ينجح فيهم التهويد ولا التنصير، ولا كان للقاديانية وجود ولا  لجماعة الهجرة والتكفير، ولا سُمع فيها بدعوة رافضية، بل كل ما هنالك دير تصوف وصوامع إباضية.
بدأت الدعوة ساذجة على نشاط ملحوظ من أتباع فكر مالك بن نبي
ـ رحمه الله ـ يَرون أن العمل الأكبر يكمن في مسابقة الحضارة، ثم لأسباب الإمارة انقسم الإخوان المسلمون إلى إخوان عالميين وآخرين إقليميين اشتهروا باسم ( الجَزْأَرة )( )، بينهم بأس شديد وتبديع، ثم عن العالميين انشقت جماعة النهضة وهي أبعدها عن التمييع، وأقربها عناية بالتربية، لكن بلا تصحيح ولا تصفية، وظهرت دعوة جماعة التبليغ، على ضعف حيث برَّز العلم، وقوة حيث ضعف، إلا أن انتشارها ليس بذاك. ولما كان جميع الإخوان بعقد السياسة يتناكحون، وبماء التصويت يتناسلون، وفي علم الكتاب والسنة يتزاهدون، وُلِد لهم مولود عاقّ، سمَّوه بالهجرة والتكفير كيلا يكون بينه وبين نسبهم إلحاق، وادَّعوا أنه خرِّيج السلفية وأهل الأثر، ولكن الحق أن » الولد للفراش وللعاهِر الحَجَر «، وقد شهد العدول يوم كان يُلقَم بأيديهم ثدي التكفير من صحف سيد قطب، كما قيل:
فإن لم تكُنْهُ أو يكُنْهافإنّه        أخوها غَذَتْهُ أمُه بلبانها
وهم جميعا وإن كانوا لا يَرضَون بحسن البنّا بديلاً، فلا يقبلون في سيد قطب جرحاً ولا تعديلاً. أما تفرقهم فنتيجة حتمية لمن غاب عنده أصل
( التصفية والتربية ).
عاش هؤلاء آنذاك في صراع ضائع مع الشيوعية، أمضى سلاحهم: المسرحيات والأناشيد ورياضة ركضٍ كركض الوحشي في البرية.
ولغياب أصل الرد على المخالف، مع ظهور قرن الشيطان في إيران وتتابع التأييد المجازف، تلَقَّى هؤلاء ـ عن بكرة أبيهم ـ دعوة الخميني بكل ترحاب وتحنان، ولغياب أصل السلفية عندهم لم يشعروا بأدنى إثم وهم يجتمعون بمن يكيل لأصحاب رسول الله  أفظع السباب وأقذع الشنآن، فما أوسع صدورهم لكل خلاف عقدي ما لم يكن سلفيا! وما أضيقها على كل خلاف حزبي خاصة إذا كان النقد سلفيا! وتراهم من كل حدب ينسلون، وإلى محاضرات الرافضي رشيد بن عيسى يتنادون، في عقر دارهم وبدعوة منهم، لا يفتر عن التفكه بأعراض السلف الصالح وهم يضحكون! {وسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُون}( ).
ثم لم يلبثوا مليًّا حتى نجم التشيّع بعد أفول، وأخذ بعض أفذاذهم للرفض يتشيَّعون، عن اعتقاد جازم وحماس قوي، فتدارك الأمرَ الإقليميُّ محمد سعيد الونّاس، لكن بصوت خفيّ وعلم غير حفيّ؛ لأنهم لا يزالون يلَقَّنون ويلقِّنون: لا تُظهروا الخلاف بينكم؛ فإن العدوّ متربِّص بكم!! وكانوا من قبل هذا يَرمون السلفيين ـ إذا حذَّروهم من الشيعة الروافض ـ بتفريق الصف!! وأيم الله! إنه لبسبب تأييد هؤلاء لهم سياسياً صار للروافض في الجزائر وجود، وإلا فمن الذي فتح لهم الباب غيرُ ذلك الحزبي، وكل حزبيّ للمبتدعة وَدود! فهل يَرجعون بنا إلى تشيُّع بني عبيد؟ وليس فيهم من يقطع دابرهم كالقيروانيّ ابن أبي زيد؟ أم لم يعرفوا فقيههم هذا إلا بالمالكي صاحب الرسالة؟ فلِمَ يكتمون حربه للتشيّع وأشاعرة الضلالة؟!
ولما كان العمل السياسي طاغياً على هذه الأحزاب، لم تجد العقيدة بها في دعوتهم محلاًّ من الإعراب، ومن كان يعلِّمها يومذاك ـ كعلي بن حاج ـ كان يعلِّمها على الطريقة الأشعرية، وعلى رِسْلكم قبل أن تجيء قلوبكم ناكرة؛ فإن كراريس تلاميذه الأولين شاهدة سافرة.
وقبيل سنة (1400هـ)، تعلَّم شيئا من السلفية، ودعا إليها على تقصير ملحوظ في جنب العقيدة، وكان بينه وبين عباسي مدني ردود عنيدة، أوشكت على تحبيب السنة للشباب لولا أن أذهبَ بركتها تدخّلاته السياسية، منها: دخوله في الصراع المستمر في الجامعات بين الطلبة الإسلاميين والشيوعيين.
وفي السنة التي بعدها نشب اقتتال بين هؤلاء، حمل على إثره مصطفى أبو يعلي وجماعته الإسلامية السلاح، وورَّطوا معهم علي بن حاج مع أنه كان يتظاهر بنهيهم عن مثل هذا الكفاح. وقامت هذه الجماعات كلها ـ ولم تبرز الفُرقة بينها بعدُ ـ بمظاهرة في الجامعة المركزية بالجزائر العاصمة، يطالِبون فيها بتحكيم الشريعة، وكان ـ يومها ـ علي بن حاج يقول: " أعطوني دليلاً واحداً من الكتاب أو السنة على مشروعية المظاهرات وأنا معكم "!! لكن مشكلته أنه إذا خطب أظهر الوفاق للمتظاهرين، والله أعلم بما هو في قلبه دفين.
من أجل ذلك ضيَّق عليه النظام، حتى خطب في الناس قائلا: " لقد خُيِّرْتُ بين ترك الخطابة أو السجن، وأنا أختار ما اختار يوسف عليه الصلاة والسلام حين قال :{رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِليَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}"!! وكانت هذه الدروشة مضرب المثل في الشجاعة لدى الرعاع، إلا أن أحد الفطناء اعترض عليه بعد ذلك قائلا: " لقد تلوْتَ في خطبتك آية في غير محلها؛ وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام قال ذلك حين خُيِّر بين الفاحشة والسجن، أما أنت فخُيِّرتَ بين ترك وسيلة من وسائل الدعوة وبين السجن، وقد علَّمتَنا مرارا أن الحكومة لو منعتك من كلمة المسجد، فلن تَحُول بينك وبين الدعوة، فلك الكلمة في المقهى والوليمة والمأتم وغيرها، فلا أظنك بهذا الخطأ تدخل السجن إلا عقوبة من الله .. ".
وأُدخل السجن هو وكثير من الدعاة، وأُرْغم بعضهم على الإقامة الجبرية، وضُيِّق على الدعوة بعدما كانت في غنىً عن ذلك.
ولا بدّ من التذكير ههنا أن عباسي مدني من غلاة حزب ( الجَزْأَرة )! وهو كذلك إلى الآن! وإنما الذي جمعه بعلي بن حاج هو أمران:
الأوّل: أنّ المنَظِّرين الحقيقيّين للجزأرة منعوه من القيادة بعد نازلة الجامعة المركزية آنفة الذكر؛ يوم أن أجمعوا في السجن على أنه ـ بحمقه وتسرّعه ـ أَوردهم شرّ الموارد!! فنكايةً منه بهم انضمّ إلى ابن حاج.
الثّاني: النزعة السياسية الغالبة عليهما لم تُبقِ للولاء العقديّ محلاًّ!

 
المرحلة الذهَبيَّة للدَعْوَة
أقول بصراحة: إن أزهى أيام الدعوة التي عرفتُها عندنا هي السنوات الخمس التي تلت هذه النازلة، وقد كانت قبلها الجماعاتُ آنفة الذكر تجمع غثاءً بلا علم ولا تربية، ثم تفرِّقه؛ إما أن تفرِّقه هي بتحزباتها، وإما أن تزُجَّ به في مغامرات خطيرة لتقدِّمه في الأخير للأنظمة قرابين سياسية، ولا يَرْعَوُون! وكأن دعوتهم لا تزيد على تجميع هذا الغثاء السياسي، وبطن السياسة بأضعاف أمثاله وَلود، وبعد كل عملية إجهاض يعلِّق بعضهم لبعض وِسام المجاهد ويُنادَى عليه بالخلود!!
لكن بعد أن ولَّت الدعوات السياسية إلى انحسار، تعلَّمنا على أيدي طلبة العلم علماً جمًّا، وكثرت المساجد وازدحمت بأهلها، وكادت العقيدة السلفية تتبوَّأ من الديار الجزائرية مبوَّأ صدق، وأُخفيت مظاهر الشرك في كثير من المدن، وعَضَّت الطرقية الأنامل من الغيظ، حتى رأينا منهم مَن لا يلبَس عباءته إلا متخفيًّا في زاويته، فإذا خرج منها خلعها! وطُمِس على كثير من البدع، بل ربما دخلتَ مسجدا فلم تصادف فيه بدعة، لا في بنائه، ولا في تزويقه، ولا في صلاة إمامه، وتعلَّم الناس كثيرا  من الآداب الإسلامية التي شحَّت بها التخطيطات السياسية! وعظُمت ثقة الناس بدعاتهم، الذين كان الواحد منهم ينتقل من قرية إلى قرية في أنصاف الليالي لا يخاف إلا الذئب على نفسه، بل كان ينتقل بين الثكنات العسكرية يُعلّم الهدى حتى انتشر الوعي في أوساطها.
والسر في ذلك هو أن هذه المرحلة كانت أكثر الأزمنة نشراً للعلم الشرعي منذ الاستقلال، ومن عجيب الموافقات أن هذا العمل قد اجتمع عليه ثلاث فئات هي:
1 ـ السلفية: لأن العلم أصل دعوتها، ونشر كتب السنة أكبر نَشْوَتها، خاصة من قِبل بعض خرِّيجي الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، الذين لم تَغْتَل عقولَهم الدعواتُ الحزبية، كما كان لرسائل الدعوة التي يرجع بها المعتمرون أثر بالغ في نشر العلم الصحيح؛ لأن جلّها في أبواب العقيدة وأنْعِم بها عقيدة! وأعظَم منه قيام الملحق الثقافي السعودي بتوزيع » مجموع فتاوى ابن تيمية « في الأوساط العلمية عن طريق بعض الفضلاء بوزارة الشئون الدينية، واستفاد الأئمة منه استفادة عظيمة لولا أن منَعَتْه بعدها يد طُرُقِيَّة مذهبية شقيَّة.
وأعظَم من هذا كله أن الديار الجزائرية حظيَت بعناية أكبر محدِّثي هذا العصر، ألا وهو الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ حفظه الله ـ؛ فقد أخبر الثقة أنه حضر عنده في بيته، فجاءته خمسون مكالمة هاتفية من الجزائر في مجلس واحد! فكان ـ حفظه الله ـ غرسه بالأردن، وثمار دعوته ممتدة إلى الجزائر، فسبحان الله الهادي! أقول هذا لأن الكثير ظنّ أن سلفية الجزائر هي مولود ( الجبهة الإسلامية للإنقاذ )، كلا! فإنه لا وجود لهذه الجبهة يومئذ، بل كان علي بن حاج في السجن الأول نسياً منسيًّا. 
2 ـ جلّ الجماعات الأخرى التي سبق الحديث عنها: وهي وإن كانت لاتؤَصِّل دعوتها إلا على السياسة، فقد أرغمتها سياسة الحديد والنار ـ بعد نازلة الجامعة ـ على احتراف العلم وترك السياسة إلا في الظلام. وقد كنتُ انبهرتُ يوم دخلت مساجد بعض الجامعات، فرأيتُ فيها لأول مرة لوحة منصوبة على الجدار، كتِب عليها في يوم: أحكام التجويد، وفي آخر: فقه، وفي ثالث: علوم القرآن ... الخ، مع أنني لم أكن أسمع فيها من قبلُ إلا قال المودودي، وقال سيد قطب، وقال سعيد حوَّى ... وأقرب علم إلى الشرع عرفتُه عنهم هو السيرة النبوية، لكن دراستهم لها كانت لأغراض سياسية، حتى لكأنهم لا يعرفون منها إلا الغزوات! ولذلك فإن أشد ما يكرهون عند تدريسها هو أن يشوَّش عليهم بدراسة أسانيد الروايات، خاصة إذا كانت تُفَوِّت عليهم استنباطات حركية!! أو توقفهم عند أحكام فقهية قد تقيِّد حريَّتهم الحركية أو تأخذ من وقتهم، والقطار السياسي لا ( يبرمج ) لتَوقُّفه مثل هذه المحطات، إنه لا يرضى إلا بمحطة البرلمان! المهم أنه مَهْما تكن نيَّتهم في تحوُّلهم العلمي، فقد كانت مرحلة أفضل من سابقتها( ).
3ـ وافق هذا إقامةُ الدولة معارضَ كبيرة للكتاب، مع إقبال على المؤلفات الإسلامية يفوق الوصف، وربما بيع ألف ألف كتاب في أسبوعين فقط.
وظهرت ثمرة الدعوة العلمية في سرعة فائقة، وكانت الصدارة فيها للدعوة السلفية التي لقيت في العاصمة حفاوة رائقة، وبدأت تبسط أجنحتها خارجها على الرغم من قلة دعاتها وكثرة عِداتها، وقلة مراجعها العلمية، وكثرة محاربيها بالمؤتمرات الرسمية، لكن مساجدها هي المطروقة، ونشراتها هي الموثوقة، فقد كان الطلبة يحضرون دروسها بانتظام ومواظبة، وربما بلغ عددهم الألفين في المجلس الواحد، ليس في الجمعة، بل في درس الليل، أما الجمعة فيسافَر لها من مئات الأميال، وظهرمن الشباب السلفي مَن عُلِّقت عليه آمال وآمال: في شغفه العلمي، والتزامه العملي، واشتهر بحفظ القرآن، حتى كان مَوْئل الباحثين عن أئمة رمضان، مع التنبيه على أنه الوقت الذي أفلست فيه الجماعات الأخرى، وكل من أضحى سلفياً من رموزهم ففي هذه المدة القصيرة، وفيها برز انقسام الإخوان بجلاء إلى الكتل الثلاثة التي ذكرتها في أول هذا الفصل.
وإذا رأيتني هنا أنحى باللوم الشديد على بعض الدعاة وأغضّ الطرف عن حسناتهم؛ فلأنني لا أرى من تسبَّب في وَأْد هذا الخير العظيم إلا جانيا على الإسلام والمسلمين أعظم جناية، ولو رأيتَ ما رأيتُ لقلتَ: ليس الخبر كالمعاينة.
ومن بركة العلم أن كثيرا من القوانين الوضعية أخذ في انحسار سريع، على الرغم من ندرة التعرض لنقضها، فقد أدرك الناس ـ بتعلم السنة ـ مناهضتها للشرع، حتى الإداريّ الذي يحفظها أضحى لا يعرفها إلا حِبرا على ورق؛ لأنه يسمع في مسجده أو في مكتبه ما يُضْعف قناعته بها. وأعرف من هدم ستين قبّة في منطقة واحدة من الغرب الجزائري، ووجد من المسئولين من يدعمه على الرغم من إرجاف الصوفية القبوريين، وأضحت المحافظة على الصلوات في العمل لا تقبل الجدل، بل فَرض القانونُ بناءَ مسجد في كل مؤسسة، وكاد يُقضى على مشكلة الصيام بالحساب، بل قُضي عليها لولا تقصير بعض الثقات الموكَّلين بترقّب الهلال، كما قلَّت بيوت الفساد والخمارات وعوقب المفطر في رمضان بلا عذر عقوبة رسمية، بل لقد نوقش في البرلمان لأول مرة بشكل مفتوح: منع الخمور، ورياضة المرأة، وغيرها من القضايا وفق الأحكام الشرعية.
أما المظاهر الإسلامية كالجلباب للمرأة والزي الإسلامي للرجل، فلم تعُد محل نقاش، حتى اللحية التي يمنعها القانون العسكري على الجنود، قد رُئِيَ منهم أنفسهم من يوَفّرها، وحظِيَ ذوو المظاهر الإسلامية بتوقير كبير لدى الناس.
وأما من الناحية الأمنية فقد كانت الجزائر من آمَن بلاد الله؛ وقد كان الواحد منا يمكث سنوات متتابعات لا يَحمِل معه أوراقه الثبوتية! وكانت الشُّرَط نادراً ما يحملون معهم السلاح، بل ذُكِر لي أن بعضهم كان يضع في حزامه خشبةً تُشبِه المسدَّس بَدَله! 
أكتب هذا تذكيراً بأصل ( نيل السؤدد بالعلم )، ليَقْصُر الدعاة من زهدهم في نشر العلم الصحيح؛ لأنهم إن لم يَحْرِموا الناس من بركته، وظهر في الأمة الإخلاص لله في العمل به، غيَّر الله ما بهم من بأس. وإنما عربون الفتنة في انصراف العلماء عن تعليم أمتهم الكتاب والسنة أي العلم الذي يعني الجميع، إلى الجهد الضائع في السياسات العصرية التي لا تعني إلا فئة محصورة على أكبر تقدير، وهذا خلاف سيرة النبي ، فعن جابر قال: مكث رسول الله  بمكة عشر سنين، يتبع الناس بعكاظ ومجنة، وفي المواسم بمنى يقول: (( من يُؤويني؟ من ينصرني حتى أبَلِّغ رسالة ربي وله الجنة؟ ))، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر ـ كذا قال ـ فيأتيه قومه فيقولون: " احذر غلام قريش لا يفتنك "، ويمشي بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فآويْناه وصدَّقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن، ويُقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيُسلِمون بإسلامه، حتى لم يَبق دار من دور الأنصار إلا وفيها من المسلمين يُظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعا، فقلنا:
" حتى متى نترك رسول الله  يُطرَد في جبال مكة ويخاف؟ "، فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدِموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى تَوافينا، فقلنا: يا رسول الله! نبايعك؟ قال:
» تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله، لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قدِمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة ... «( ).
من مظاهر رفع الله لأمة العلم أن الشيوعيين ـ الذين كانوا يحاولون التسلّل في الدولة التي كانت لهم بالمرصاد آنذاك ـ قلُّوا بصفة مدهشة! واعتزلهم الناس، إلا أنهم لم ييْأسوا، فحاولوا بكل وسيلة ضرب الإسلام، فلم يجدوا أنفع لهم من استفزاز شخصية إسلامية ثورية، يستطيعون التحكم فيها بالتهييج السياسي، ويبدو أنهم لم يجدوا أحسن من علي بن حاج في شبابه وقوة نشاطه، وسحر بيانه وشدة نقمة سجين على نظامه، فأُخرج من السجن قبل انتهاء مدته، ثم هُيِّئَت له ثورة شعبية! عُرفت بثورة (5 أكتوبر 1988م)، وزُعِم أنها شعبية شعبية!! وزُعِم أن أمن الدولة مُنِع من التدخل!! وقُرْقِر في أذن علي بن حاج أن ( الشعب ) ينتظر كلمة المسجد!! فجعل يقذف بلسانه ذات اليمين وذات الشمال، وكان جلّ حديثه بل قُلْ كل حديثه عن السجن والحكومة، فنصح له الدعاة السلفيون بل وغيرهم لكن بلا جدوى. ثم نُصِب له الفخّ السياسي: التعددية الحزبية، وقيل للناس هل أنتم متحزِّبون؟! لعلنا نتَّبع الكثرة إن كانوا هم الغالبين؟! فاستجاب لهم أصحاب الوعي السياسي عن بكرة أبيهم!! مِن الجماعات الإسلامية التي هي على مستوى تحديات العصر!!! لأنهم يكثرون عند الطمع، ويقلُّون عند الفزع، و(اليد الشعبية!) تتصيَّدهم حزباً حزباً، وخَطَبَ العدوُّ دعاةَ الحماسة، وتَمَّ النكاح حتى تخلَّقَت الحزبية في ظلمات ثلاث: ظلمة الجهل بالشريعة، وظلمة إغلاق العقل عند شباب حديد بالطبيعة، وظلمة الاستفزاز الخارجي الذي لا يألوهم خبالاً ولا مكرًا ولا خديعة! وكَوَّن علي بن حاج حزبه في ليل من السياسة غاسق، وسمّوه: ( جبهة الإنقاذ الإسلامية )، ومن يومها والجزائر تستغيث: هل من منقذ؟!
حقيقةً! إنّ فتنة هؤلاء الخطباء في قومهم أعظم فتنة؛ لأنهم ملَقِّحوها! ويا عجباً! كيف لا يُقلَّدون عارها وقد أضرموا نارها؟! وهم أدوات في أيدي عدوّهم يحرِّكها كيف يشاء، قال خبير الفتن حذيفة بن اليمان : " إنّ الفتنة وُكِلت بثلاث: بالحادّ النحرير الذي لا يرتفع له شيء إلا قمعه بالسيف، وبالخطيب الذي يدعو إليها، وبالسيِّد؛ فأما هذان فتبطحهما لوجوههما، وأما السيّد فتبحثه حتى تبلو ما عنده "( ).
وطبيعة التحزب تغنيك عما يتبعها من عنف، كانت تُستدرَج إليه الجبهة في سرعة جعلت ( الأحزاب الإسلامية ) الأخرى مقبوضة اليد، توجِس من التحزب خيفة، ولكن ما دام لا بد ـ عندهم ـ من البديل ولو لم يكن مشروعاً، فقد أنشأوا لهم: ( رابطة الدعوة الإسلامية )، لتكون لها الوصاية الدعوية على غيرهم، وأوغلوا فيها عباسي مدني وعلي بن حاج ليكونوا تحت عينهم، وتَوَّجوا الإقليمي الشيخ أحمد سحنون كرئيس شرفي، والرئاسة الحقيقية ترجع إلى حِرَفِيِّي الاحتيال في حلبة النطاح الحزبي: إما إقليمي، أو إخواني، أو نهضوي، أو رافضي ...! وما سُمِّيَت رابطة إلا لأنهم يربطون عقدها، وكلٌّ فيها بسحر السياسة نافث، فنعوذ بالله من شر النفاثات في العقد.
لكن رُقيتها لم تفلح طويلا في علي بن حاج رغم اجتماع النافخين فيه، فكان كلما أراد أن يخالفهم فعل ولم يبالِ بمخالفيه، من أجل ذلك استشارني بعض الإقليميين في أن يتَخلَّلوا صفوف جبهة الإنقاذ، فقلت: ولِمَ؟ قال:
" لنُخَفِّف من جنون الرجلين: مدني وابن حاج! "، فقلت: " إذن سيُوَرِّطانكم فيما تكرَهون "، فلم يقبلوا النصيحة، وانخرط كبيرهم محمد سعيد الونّاس، وزعموا: " أنه لا يزيد على وظيفة الحماية المدنية {كُلَّمَا أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ} بأيدينا!"، واتَّخذ الجميعُ من السياسة جارحةَ صَيدٍ يَجْمعون بها الرغوة، واتَّخذها أعداؤهم آلةَ كَيدٍ يَجهضون بها الدعوة، ولذلك لم يمض إلا زمن يسير، وإذا بالجميع بحمأة الفتن يُكوَى، والله يهديهم.
أما الإخوان العالميون فقد أظهروا بقوة رفضهم للتحزب، وتظاهروا بسلوك طريق التربية، وأعلن ذلك أميرهم محفوظ نحناح في الجرائد بلا خفاء، وهم يترقَّبون يوم مذبحة الجبهة ليقال لهم: يا لكم مِن حكماء!، ولكن ذلك لم يحصل، بل هالهم أن نجحت الجبهة في الانتخابات البلدية وامتدّ سلطانها، وظنوا المُلْك غنيمة باردة، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى قصروا عمر الحكمة وخلعوا برقع التربية، وقالوا: " السياسة من الدين ولا بد من الحزبية! "، لكن قطار الجبهة حشد الحشود ولم يُبقِ لهم من الأصوات ظَهراً مركوبا إلى الحكم إلا بحّة شيوعية ووطنية، فكانوا كالشاة العائرة بين غنمين، وأخيرا تحالفوا مع الأحزاب الشيوعية والوطنية! نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
وفي آخر سنة (1411هـ) غيَّر النظام الحاكم قانون الانتخابات، ورأت جبهة الإنقاذ أنها مكيدة مدبَّرة، فدعت إلى إضراب عام عن العمل، واعتصموا ببعض الساحات العامة، وبدأ الجدّ يظهر بعد هذه ( المسرحية )، فمِن الجبهة عنف اللسان، ومِن مخالفيهم عنف السِّنان. وبينما أنا في بيتي في حيّ يقال له: جسر قسنطينة، إذ سمعت صارخا من مكبِّر صوت المسجد ينَدِّد بفعل بعض عسكر الدولة، لكنه أرشد إلى الصبر، فحمدت  الله. ولم ألبث إلا قليلا فإذا بصارخ آخر من مسجد ثان يكرِّر التنديد، لكنه مصحوب بالنداء إلى الجهاد!! فقلتُ في نفسي: " هذا ( حزب إسلامي ) يريد إقامة دولة الإسلام وقد عجز عن توحيد كلمة مسجدين في هذا الظرف العصيب؟ يا لها من مغامرة يُساق إليها بلد مسلم! قد فعلْتَها بهذه الأمة يا ابن حاج!" ففزعت إلى الصلاة، ولم أشعر حتى فاضت عيناي بالدمع، وجال في مُخَيَّلتي قصة حماة بسورية، {ولَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
وفي سنة (1412هـ) دخلت الأحزاب الترشيحات البرلمانية، وفازت جبهة الإنقاذ في الدور الأول منها، ثم تغيَّرت الأوضاع فجأة، واستقال رئيس الجمهورية ابن جديد، واستبدلت الحكومة بأخرى ...
فلجأ خطباء الجبهة إلى منابر المساجد مستنفرين الأمة إلى الجهاد؛ يتلثَّم الخطيب كيما يُعرَف، فيشتم ثم يصلي بالناس الجمعة ثم يفرّ! وربما فرَّ قبل الصلاة!! وإذا حضرت الشرطة لم تجد إلا الأبرياء، فتأخذهم بجريرة أولئك الأبطال! أبطال هذه اللعبة الصبيانية ـ وإن رأوها مناورة حركية ـ!! ودخلوا في ( مضاربة بلا رمح، وليل بلا صبح ).



علي بن حاج والعلماء
لم يتعلم هذا الشابّ على أيدي أهل العلم، فتكوينه العلمي حصيلة دراسته على الكتب، ومن زعم أنه تتلمذ على يدي الشيخ عبداللطيف سلطاني أو الشيخ العرباوي ـ رحمهما الله ـ فقد غلط، بل ماتا وهما ساخطان عليه، وهذا شيء يعرفه كل من يسكن عاصمة الجزائر، ثم كل ما هنالك أن الرجل حضر بصفة متقطعة جداً بعض الدروس التي كان يُلقيها الشيخ العرباوي في مسجد
»  جنان المبروك «   في شرح كتاب » بداية المجتهد «  لابن رشد( ).
وقد بدا لي من خلال معرفتي به الطويلة أن السجن الأول ـ قبل فتنة الأحزاب هذه ـ أثَّر فيه أثراً بالغا، وذلك من ناحيتين:
الأولى: أنه أخبرني هو أنه عكف على كتب الإخوان المسلمين وفَلاَها فَلْياً، بغرض انتقادها ـ كما زعم ـ وسمى لي منها كتب محمد الغزالي والقرضاوي وسيد قطب، لكنه لم يلبث أن تأثر بها؛ يدلُّ عليه انقباضه من العلماء بعد خروجه من السجن الأول، ومن العلماء السلفيين خاصة!
ولئن قلتَ كيف يستقيم هذا ونحن نسمع أنه سلفيّ؟
قلت: إن الذي لم يقنع بما عليه السلفيون منذ عهدهم الأول حتى يبتدع سلفية حركية، لن يجيء ـ مهما طوَّر الأسلوب وحوَّر في العبارات ـ إلا ببنت الإخوانية! ولو قرأتَ لهذا الرجل ما كتب لما استغربت،كيف وجلّ نقولاته عن الإخوان، من سيد قطب وأخيه محمد وعبدالقادر عودة وصلاح الخالدي وحسن البنا وحتى من محمد عبدالقادر أبي فارس وغيرهم ممن تقرأ أسماءهم في كتبه مثل كتاب »   فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام «، ولئن أخذ ومضة من كتب ابن تيمية فمن باب قوله تعالى: {وإنْ يَكُن لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِين}، مع ذلك فيُفصِّل كلامه على قدّه ببتر نصوصه، واقرأ إن شئت ما كتبه في حكم الإضراب، ينكشف لك ما قلته بلا ارتياب.
وهذه عاقبة من لم يسعْه ما وسع السلف، وشبَّهتُ حاله في تأثّره بالإخوان  ـ وهو يريد انتقادهم فيما زعم ـ بحال الغزالي الذي قال فيه أبو بكر بن العربي: " شيخُنا أبو حامد: بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيَّأهم فما استطاع! "( ).  
ولا يخفى على من جرَّب الجماعات المعاصرة ما في منهج ( الإخوان ) من الازدراء بأهل العلم، وإلا فخبِّروني من أول من نبزهم بعلماء الحيض والنفاس؟! وبعلماء القشور؟! وبعلماء البلاط؟! وبالذين يعيشون القرون الوسطى؟! وبعلماء الكتب الصفراء؟! وبعلماء البدو؟! ...( ).
الثانية: ما لقيه في السجن ورَّثه الانتقام للنفس، وكرَّه إليه أهل العلم الذين لا يشاركونه الرأي في مصادمة الحكومات، وعلى هذا أمارات ظاهرة، أذكر منها:
1 ـ عند خروجه من السجن نهاية سنة (1407هـ)، ألقى دروسا في موضوع الكبائر من الكتاب المنسوب للذهبي ـ رحمه الله ـ  في  ذلك، فقال في أول درس له: " درج العلماء على البدء بكبيرة الشرك، وأنا أرى البدء بكبيرة ( كتمان العلم )؛ لأنَّه لولا كتمان العلماء الحقَ ما ظهر
الشرك .. "!! وهذا مسجَّل في أول شريطٍ له في »  الكبائر «، ومع أنه قد قيل إنه تراجع عن مسألة الأولية، فهل تراجع عن نفرته من أهل العلم؟
2 ـ في رمضان سنة (1408هـ) كان يتجهَّز لأداء صلاة عيد الفطر قبل الدولة من أجل رؤية الهلال، فدُعيتُ إلى مجلس هو فيه، واقترحتُ على الحضور خطة لحفظ الدعوة من الاختلال فيما أظن، ودار الحوار الآتي:
قلتُ لهم: أتعلمون أن فيكم عالما؟ فأجابوا جميعا بالنفي، بما فيهم هو.
قلت: بما أن الخطأ في هذه القضايا الكبيرة وارد جدا على غير العلماء، وأنه قد يكلف الأمة دماءها وأعراضها، فأنا أقترح عليكم أمرين هما:
أ ـ تركُ الخوض في المسائل التي هي أكبر من حجمنا، وإسنادُها إلى أهلها مهما ابتُلينا بإرشاد الناس، ومن فضل الله علينا أننا لا نختلف في المرجع المؤهَّل لها، فالسلفيون لا يعرفون اليوم على وجه الأرض أعلم من الشيخ الألباني والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين وإخوانهم من أهل العلم بالأثر، ومن فضل الله علينا تيسُّر الاتصال بهم، وتواضعهم لكل سائل، وتوحيد مصدر التلقي من أعظم نعم الله علينا.
ب ـ التشاور فيما بيننا في فهم أجوبتهم، طمعا في جمع الكلمة ما استطعنا إليه سبيلا، فوافق الجميع إلا ابن حاج، قال قولة غريبة حين قال:
" كيف لا أُفتي حتى أسأل العلماء؟! هذا إرهاب فكري!!! .. وقد جرَّبناهم فوجدناهم لا يكترثون لقضايا المسلمين ...! "، ثم عرَّض ببعض علماء السعودية قائلا: " بدليل أنني كتبت إلى أحدهم بعشرة أسئلة أو أكثر، فلم يُجب إلا على اثنين منها!! "( ).
ثم بعد أن طالت مناشدة الحضور له من بعد صلاة الليل إلى أن كاد يفوتنا الفلاح قال: " نزولاً عند رأي الإخوان، فأنا أوافق و( أُمَشّيكم ) في هذا العيد، لكن إياكم أن تؤخِّروا عنا أجوبتهم إلى عيد الأضحى!!! ".
ثم لم يلبث أن مضى عيد الفطر والأضحى في أمن وسلامة، حتى كان شهر صفر سنة (1409هـ)، نزلت بالناس نازلة (5 أكتوبر 1988م ) آنفة الذكر، وشارك فيها علي بن حاج مشاركة من فقد عقله، وأفتى فيها بالتحزبات والمظاهرات والإضرابات بل والإضرابات عن الطعام، من غير أن يذكر ما عاهد عليه إخوانه ليالي عيد الفطر( )!
3 ـ طلب منه كثير من أتباعه الذين لهم ميل سلفي أن يتصل بأهل العلم
ـ أيام نازلة أكتوبر هذه ـ ليستفيد منهم فيما أهمَّ الأمة، فلم يستجب لهم، بل لما وجده ذوو العقل منهم لا يسند فتاواه الغريبة عن المنهج السلفي إلى أحد من العلماء السلفيين، ويستدلّ لها بأقوال مَن لا علاقة له بالعلم كالإخوان الذين سبق تسمية بعضهم، نبذوه مرة واحدة، خاصة وأنه قد صاحَبَ ذلك ظهورُه في الصحف وتجويزه التصوير بعد أن كان يحرِّمه! فعرفوا أنها فتاوى ضغط الواقع، ولذلك لا يُعرَف له أي استفتاء لأهل العلم لا مقروء ولا مسموع، فـ {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صادِقِينَ}.
4 ـ  زار الجزائر الشيخ الفاضل أبو بكر جابر الجزائري قبل أيام الإضراب، واستدعى عليَّ بن حاج مرتين فلم يجبه! وفي المرة الثالثة حضر درسَ الشيخ في الجامع الكبير بالجزائر العاصمة، وفيه نهى الشيخ الدعاة عن أسلوب التهوُّر، وعن استعمال الألفاظ التي تُبعد الشقة بينهم وبين حكّامهم ولا يَجْنُون منها إلا التعوُّر( )، ومثَّل بلفظ ( الطواغيت )، فكان هذا كالذبح لعلي بن حاج؛ لأنه يَجترّ هذه الكلمة في دروسه اجترارَ الغنم للهشيم عند استراحتها، بل لعلّ دعوته لا تعيش إلا بها، وجماهيره لا تنتعش إلا عند سماعها! وهو ساكت على مضض، ولما كان الشيخ يجيب على الأسئلة
ـ وكانت كلها سياسية بطبيعة الوضع  ـ وكانت الأجوبة مخالفة لما يهوَى، نفد صبره وطلب الكلمة من المقدِّم، فاستحيى هذا أن يتقدَّم بين يدي الشيخ، فقام عليٌّ بنفسه وأخذ مكبِّر الصوت عنوة، وقال كلمتين تنبئان عما في نفسه تجاه العلماء: 
أما الأولى فهي قوله: " أيها الإخوة يجب عليكم أن تفهموا كلام الشيخ كما هو ولا تحرِّفوه!".
وأما الثانية فهي قوله: " نحيط الشيخ علماً بأن لنا جماعة للنهي عن الشرك!!".
قلت: أما الأولى فقد أراد بها إيهام الحضور أنه والشيخ في طريق واحد! وهو في هذا متفنِّن لبق. وأما الثانية فهي مجاملة واضحة لدعاة التوحيد
ـ والشيخ وهابي!! ـ، مع ما فيها مما يُغني عن التعليق. وأوقف الشيخ درسه مباشرة لأن أهل المسجد كادوا يصيرون فريقين يختصمان.
5 ـ زار الجزائر في تلك الأيام الأخ عدنان عرعور، فلم يلقَه علي بن حاج إلا يوم المغادرة ليُسلِّم عليه في المطار! مؤنِّبا الإخوة لأنهم لم يخبروه بقدومه! مع أنه كان يلقي دروسه في آلاف من الحضور، قريبا من مسجد علي بن حاج بأمتار فقط!! على الرغم من ذلك فقد قال له عدنان في المطار: " إذا رغبتَ في اللقاء فأنا مستعدّ لإلغاء الرحلة؟ " فلم يجبه!
ولو اعتذر ابنُ حاج بأن الأخ الزائر ليس عالما تُشَدّ إليه الرحال لوجدنا له مخرجا؛ ولكنه أوجس منه خيفة لما علِم أنه أتى من السعودية فتَوَهَّمه على شاكلة ( الوهّابيين ) المُخدِّرين للنشاط الحركي في اعتقاده! أو أنه حامل فكر الشيخ الألباني ليَشُلَّ دعوته السياسية في ظنّه!
6 ـ زار علي بن حاج السعودية أيام أزمة الخليج بدعوة منها مكرَّما معزَّزا، وكنا نأمل أن يلتقي بمشايخ السلفية الكبار ليستفيد ونستفيد؛ إذ يسعه تواضعهم إن شاء الله، فلم يحصل ذلك منه، بل جلس مع بعض المشايخ لا ينبس ببنت شفة، في تكتُّم مجرَّب عنه مع السلفيين. وفي هذه الزيارة عرَّج على الأردن في جولة سياسية ـ كما يقولون ـ ولم يزر الشيخ الألباني! وأنا أعرف عن الجزائريين عيبَهم الشديد على السلفي الذي يُحرَم من زيارة هؤلاء العلماء، نظرا لندرة أمثالهم عندنا، ولذلك لاموه كثيرا؛ لأنه دليل على أنه غير سلفي أو في نفسه منهم شيء خفيّ!( )
7 ـ عند سفره الثاني إلى الأردن في مسيره إلى القتال مع العراق، اضطره بعض السلفيين إلى زيارة الشيخ الألباني، ووقع منه ما يُدهش.
8 ـ وهو ما أخبرنا به الشيخ نفسه ومن كان حاضرا كالشيخ علي بن حسن بن عبد الحميد والشيخ محمد شقرة، أنه زارهم في بيت الشيخ ليعتذر إليهم عن ضيق وقته، وأنه يرجو تقصير مدة المجلس!
9ـ كما أخبرونا جميعا أنه أبى تسجيل المناقشة في جدل عقيم طال بلا عائدة إلا عائدة خوف الرجل من انتشار الحق( ).
10 ـ كما أخبرونا أنه حين أقنعه الشيخ بضرورة التسجيل، قَبِلَ على شرط غريب، وهو عدم نشر الشريط حتى يأذن هو به للشيخ!!! وهذا أقبح تصرّف يصدر من طالب مع شيخ، ورحم الله زمانا كان فيه السلف يطمعون في السماع من شيوخهم ولو بتحمّل الضرب، قال الذهبي: " قال يعقوب بن إسحاق الهروي عن صالح بن محمد الحافظ سمعت هشام بن عمار يقول: دخلت على مالك فقلت له: حدِّثني، فقال: اقرأ، فقلت: لا، بل حدِّثني، فقال: اقرأ، فلما أكثرت عليه، قال: يا غلام تعال! اذهب بهذا فاضربه خمسة عشر، فذهب بي فضربني خمس عشرة دِرَّة، ثم جاء بي إليه، فقال: قد ضربته، فقلت له: لِمَ ظلمتني؟ ضربتني خمس عشرة درة بغير جرم، لا أجعلك في حِلّ، فقال مالك: فما كفارته؟ قلت: كفارته أن تحَدثني بخمسة عشر حديثا، قال: فحدثني بخمسة عشر حديثا، فقلت له: زدْ من الضرب وزدْ في الحديث، فضحك مالك وقال: اذهب "( ).
11 ـ بهذه النفرة التي كان يجدها علي بن حاج من العلماء تفهم سرّ تكراره في غير ما شريط مسجّل أنه ألَّف كتابا أسماه: (( بين علماء السجون وعلماء الصحون!  «، مع كثرة إيراده لأحاديث القُصّاص في مواجهة الحكام على طريقة الخوارج، ولو كان أبطاله من شرار المبتدعة، كعمرو بن عُبيد المعتزلي، فينشأ في نفوس الناشئة أنه لا عالم إلا من دخل السجن؟!
وبهذا التنفير من العلماء فسد سلوك الشباب تجاههم، وظهر لأول مرة في الجزائر فُرقة بين السلفيين؛ إذ أصبحتَ تسمع بسلفية علمية وسلفية حركية! ووُصف بالإرجاء كل من دعا إلى الحكمة والصبروالأخذ بسيرة الرسول  في جهاده، وهذه هي بركة التحزب!
وأخيراً لا بدّ من كلمة مختصرة جداً عن هذا الرجل، أرى أنها تُعَرِّف به جيِّداً، وهي أن علي بن حاج يعيش بنفسية متوترة؛ يثور على المألوف، ويستثير الغريب المخوف، وتراه لا يثبت على مذهب؛ بل يُكثر التنقل من غريب إلى أغرب؛ يتتبّع الجديد الذي يثير الانتباه، ويَملّ العتيق ولو لم يكن به اشتباه( )؛ فحين كان تهريج عبد الحميد كشك مطلب الشباب كان
( كشكياً! )، ويوم أن تمكّن الخميني من الحكم مدحه مدحاً كبيراً!( ) وحين برّزت الدعوة السلفية ـ في مجتمع قد أنهكته المذهبية ـ ولَّى إليها وجهه، لكنه حصر عنايته بها في الحرب على المذهبية، وصحب ذلك حماسة لطلب العلم، فشنَّع على الدعوات السياسية وتسجَّى بالحِلم، ثم اشرأبّت الأعناق إلى إيران، فثار عليهم ثورة الثيران! وحين جاء التحزّب يركض، ركبه ولم يُعَقِّب! فما زال سياسياً يُحاور، حتى إذا سالت من دماء التكفير عيون انقلب إلى العنيفِ المعايرِ، وهنا وضع رحله، وربط فرسه، وشُلّ منه التفكير، ورضي في سبيل ذلك بالمعاطب، واستأنسَ بوحوش التكفير، واستقرّت به المراكب، والله وحده أعلم بالذي يتلوه.
 ويَعرف هذا مَن تذكَّر تنقُّله السريع في موضوعات دروسه؛ فهو لا يكاد يفتتح كتاباً إلا تركه وقفز إلى غيره؛ فمن (( شرح السنة )) للبغوي إلى
(( الكبائر ))  للذهبي، فتفسير القرآن، فتبسيطه، فتزكية النفوس، فالسياسة الشرعية ... كل هذه الدروس وقف فيها عند بدايتها بالتداول، وفي كل مرة يسمع الحضور وعدًا قصير العمر يقول: اليوم نبدأ درس كذا من كتاب فلان! وهكذا ...
وقد بيّن الماورديُّ هذه النفسيةَ الغريبة التي عرفها من أهلها، وكأنه يعيش بين أظهرنا فقال: " مع أن لكل جديد لذّة، ولكلّ مستحدَث صَبْوَة؛ وقال النبيّ  : (( إنّ أخوف ما أخاف على أمتي منافقٌ عليمُ اللسان ))( )، فتصير البدعُ فاشية، ومذاهب الحقّ واهية، ثم يُفضي الأمرُ إلى التحزّب والعصبة؛ فإذا رأوا كثرةَ جمعهم وقوّةَ شوكتهم داخلهم عِزُّ القوّة ونخوةُ الكثرة، فتضافرَ جهالُ نسّاكهم وفسقةُ علمائهم بالميل على مخالفيهم! فإذا استتبّ لهم ذلك زاحموا السلطانَ في رئاسته، وقبَّحوا عند العامة جميلَ سيرته، فربما انفتق ما لا يرتق؛ فإنّ كبار الأمور تبدو صغاراً "( ).
وسرّ هذه التناقضات المتعاقبة عليه والتنقّلات المتناوبة عليه ثوريّتُه المتأصِّلة في نفسه، وبعض مَن لم يَخْبُر الرجل يقول: إنه ذو شخصيّتين! والحقيقة أن له شخصيّة ثابتة؛ ألا وهي الثورية التي تحدّثتُ عنها آنفا وطول نفَسه في الخصومات، وأخرى متغيِّرة؛ لأنها تعبير عن هذه الثورية على حسب ما يَجِدّ في الدعوات، وشبيه بحاله من قال فيه عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ: " مَن جعل دينه غَرَضاً للخصومات أكثر التنقّل "( )، قال الدارمي بعد هذا الأثر:
" أي ينتقل من رأي إلى رأي!".
وعن خالد بن سعد مولى أبي مسعود قال: دخل أبو مسعود على حذيفة وهو مريض، فأسنده إليه، فقال أبومسعود: أوصنا، فقال حذيفة: " إن الضلالة حقّ الضلالة أن تعرف ما كنتَ تنكِر وتنكِر ما كنتَ تعرِف،
وإيّاك والتلوُّن في الدين!! "( )، وفي رواية: " فإن رأَى حلالاً كان يراه
حراماً ... "، وقال إبراهيم: " كانوا يَرَون التلوّن في الدين مِن شكِّ
القلوب "( ). ومن أوضح علامات هذا الشكّ اتباعُ المرءِ الحقَّ مجَرِّباً لا له متجرِّداً، وأن يُؤْثِر دليل الواقع على نصّ الوحي، كما قال حذيفة : " إنّ أخوف ما أخاف على هذه الأمة أنْ يُؤْثِروا ما يَرَون على ما يَعْلمون، وأنْ يَضِلُّوا وهم لا يشعرون "( )، وقد اشتهر عند كثير من الناس أن ابن حاج سلفي بسبب أنه جرَّب السلفية زمناً، فلما لم يجد فيها نهمته الثورية ورأى أنها لا تُصَفِّي ما بينه وبين حكامه من حسابات نفسية تركها باطناً ولم يُصرِّح بذلك ظاهراً، والله وحده الهادي؛ لأنَّه هو القائل: {وإنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وأَخْفَى}.
ومِن طرقه التي كان يسلكها للتأثير على الجماهير التظاهر بالورع البارد إذا قيل له بأن فلاناً يردّ عليك! فيقول: " أقول كما يقول أبو ضمضم إذا أصبح: تصدَّقتُ بعرضي على مَن ظلمني، رواه مسلم!! " كذا يقول ويردِّد.
وهذا مع أنه لم يَرْوِه مسلم بل هو ضعيف لا يصحّ رفعه( )، فهو من السماحة المصطنعة؛ لأن قائله يظهر الصوم عن أعراض المسلمين في الوقت الذي يفطر فيه على دمائهم!! فكم من آلاف من المسلمين قُتِلوا بفتواه كما ستراه في هذا الكتاب؟!.
وأما عن علمه فسبق ذكر شيء من إرجافات فقهه السياسي؛ حين استدلّ ابن حاج بقصة وقوف النبيّ  على جبل أبي قبيس على مشروعية المظاهرات!! وأغرب منه استدلاله بوصال النبيّ  في صومه على مشروعية الإضراب عن الطعام؛ فقد قال في قصيدة له بعد أن تأكّدنا من بعض أهله أنها له:
وأضربنا عن الطعام تعفُّفاً        اقتداءًا بسيّد الواصِلينا!!!
قلت: وهذا ـ والله ـ من الدواهي!! ومنها إفتاؤه بالتفجير الجماعي في المحلات العامة، فلما سئل عن المسلمين الذين يُقْتلون في ذلك قال: يُبعَثون على نِيّاتهم!!! ويعزو ذلك لابن تيمية! نعوذ بالله من قلّة الحياء!

    جناية السياسة على العلم
قيل لعلي بن حاج يوما: لقد مللْنا الدروس السياسية، فهلاّ علَّمتنا ديننا، وددنا لو بدأت بأبواب الطهارة والمياه، ولم تتكلم في السياسة ولو مرة واحدة، فقال: " أستطيع ذلك، ولكنني إذا ذكرت أن الحكومة تقطع الماء عن الناس في وقت ما لم أسكت عنها!! ".
أذكر هذا لتعْلم مصير كل سياسي في تقديره للعلم الشرعي، فلا أدري هل شعر أن الحكومة حين تقطع الماء الذي به حياة الأبدان، فهو ـ بسببها ـ يقطع عن الناس تعلّم الدين الذي به حياة الجَنان، فأي الفريقين أعظم جناية؟!
وليست جناية السياسة قاصرة على الأحكام العملية فحسب، بل تتعداها إلى العقيدة الإسلامية، فقد لقيه بعضهم بعد الإفراج عنه من السجن، فكلمه عن الأشاعرة الذين استولوا على دور التعليم، راجيا منه أن يكون عوناً له في الرد على أعداء التوحيد، ففاجأه بكلمة زهَّدته فيه، تدل على انحرافه الخطير عن المنهج السوِيّ، قال يومها: " أنا لو اشتغلت بالرد على الأشاعرة، فإن الحكومة تضحك من عينيها !! ".
فتأمل هذا ـ رحمك الله ـ ولا تكن في التعصب للرجال من الهالكين، فالرجل دخل في صراع مع السياسيين، حتى ظنّ نفسه أنه خُلق لإبكاء الحكومات!! فمن يبكي على أمة حُرِمت عقيدتها وسلامة قلبها {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}؟
إنني أريد بهذه العناوين الأخيرة إشعار القاريء بخطورة مخالفة تلك الأصول الستة التي اختصرتها في افتتاحية هذا الكتاب، بالتمثيل لها من خلال الدعوة في الجزائر.
لقد عُمِّرَت جبهة الإنقاذ الإسلامية ثلاث سنوات فقط، تهدَّم بها بنيان أوشك على التمام، وتصدَّع بها صفّ بعد الْتحام، واتُّهِمت فيها السلفية بعد أن وُضع لها القبول، ورُفع العلم وسيطر الطيش على العقول، وعشَّش التكفير في مساجد الجبهة وباض، واتحد الحزبيون مع المبتدعة حتى الطرقية وبني إباض، واتُّهم العلم، وحُرِّم الحلم، وتسمَّن فكر الخوارج، حتى عيِيَ الناصح والمعالج.
هذا والشيوعيون الأخباث في الداخل والخارج يرقبون مسرورين عملية الانتحار، يُحَرِّكون أحياناً بالتهييج السياسي استعجالاً لقطف الثمار، فرحين بعدوٍّ سهل الاستدراج؛ لأن عنف الجبهة أوجد لهم المسوِّغ القانوني لضرب المسلمين بلا احتجاج! وهي خطة ترقَّبوها من سنوات عجاف لم يغاثوا فيها إلا بتسخير علي بن حاج، بل عجزوا عنها حتى في أيام الاستعمار الفرنسي، وقد قلنا للعلامة ابن باز ـ حفظه الله ـ: " إن الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر منعت صلاة الجمعة في بعض المدن! "، فقال متعجباً: " كيف يعطِّلون الجمعة، وقد عجز عن ذلك فرنسا وبريطانيا واليهود؟!!".
وكم قَتلوا اليوم من طلبة العلم جريمتُهم أنهم رفضوا مشاركتهم فيما هم فيه! وهذه هي بركة التحزب!( ).
نعم! لتذكروا كلمة ابن تيمية المبيَّنة في الأصل الخامس من أن نكاية المبتدعة في المسلمين أشد وطءاً من نكاية الكفار فيهم، ولا أدري ما سرّ تلقيب النبي  الخوارج بـ »كلاب النار «؟ ألأنهم يجتهدون في المسلمين تكفيرا وتقتيلا حتى يُكفِّر بعضُهم بعضاً، كما تجتهد الكلاب فيمن تنكره نباحاً وعضًّا حتى ترجع إلى أذنابها فتعضّها؟ ويكون مصداقه ما جاء في
» الصحيحين « من أن النبي  قال فيهم:» يَقتلون أهل الإسلام، ويَدَعون أهل الأوثان «؟ أم لأنهم يُستَدرَجون بأبسط الحيَل حتى يَهيجوا كما أن الكلاب تنبح لأدنى استفزاز، حتى ربما دلَّت عدوَّها على مَخْبَأ صاحبها؟ ذكَّرني هذا بالمثل القائل: " وعلى نفسها تَجْنِي بَراقِش "( ).
لذلك كله، ما يُخاف على المسلمين من الشيوعيين كما يُخاف عليهم من أنفسهم؛ فإن أولئك مهما أوتوا من تنظيم وقوة وإدارات وبسط نفوذ، فلن يضروهم إلا أذى، وأما جناية المسلمين على أنفسهم، فقد قال الله تعالى في قوم كانوا مواجهين الكفار الخلَّص: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُو مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ}، وكان النبي  يؤصِّل هذا المنهج بتأكيده في كل خطبة قائلاً: » .. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا.. «، فاللهم آمين. وقد بيَّنتُ هنا من واقع الجزائر ما يشهد لما نحن بصدده.
وأخيراً: رجائي من ذوي العلم والمنهج السلفي، أن يكتبوا عن تجربة بقية البلاد الإسلامية، فقد رُفِعت للمنهج السلفي أعلام في اليمن وأفغانستان والسودان وإيران وسورية والأردن ومصر وتونس وغيرها، تدلُّ عليه وتؤكِّده، لتُشفِقوا على المسلمين مما يصيبهم بأيديهم، ولتبيِّنوا للشباب التائه اليوم واللاعب بالنار وجوب الرجوع إلى الطريق النبوي، فقد بان لذوي الحِجَى أكبر برهان في واقع  بلاد المسلمين على أنه لا يصلح لهم غيره، ولكن أقلاما وأفواها غير سلفية سبقت لتموِّه وتحرِّف الحق والواقع، فاستعينوا بالله واصبروا وإن وُصِفتم بالمثبِّطين أو المرجفين، فإن غايتكم رضى الله وحده.

    حال الدعوات السياسية اليوم
يحاصَر المسلمون اليوم حصارا شديدا، لم يعرفوه حتى وقت المستعمرات الكافرة، والعالم كله تألب عليهم ورماهم عن قوس واحدة، لا يألوهم خبالا ولا يرقب فيهم إلاًّ ولا ذمة، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، الأمر الذي سبب لهم ردود فعل خطيرة، وصاروا لا يعيشون إلا على أنقاض الأحداث السياسية، نشاطهم يقوى بقوتها ويضعف بضعفها، وكأنهم هم
ـ أيضا ـ كُتب عليهم شقاء السياسيين، وانقسم المنقذون المخطئون مجموعتين:
*     مجموعة دخلت العمل السياسي بلا تورع، فتَميَّع منهجها، وتنازلت عن غير قليل من دينها، لأنها تعيش تحت ضغط الهزات السياسية العنيفة، فحَقَّ فيها ما حذر الله  منه نبيه  حين قال: {وإن كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإذًا لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِم شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}.
*     ومجموعة تَنْزَغُها الأحداث السياسية، وتؤزُّها أَزًّا لأنها وجدتها أُذُنا، وهي تُستدرَج بالاستفزازات السياسية الماكرة، وهؤلاء حق فيهم ما حذر الله  منه نبيه   حين قال: {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وإذاً لاَ يَلْبَثُون خِلاَفَكَ إلاَّ قَلِيلاً}.
وحديثي هنا لا يتعرض مباشرة للأولى لأنه قد كُتب عنها ما فيه غناء، ولكن الثانية هي التي أقصد؛ لأن فكرتها لم تعد حَكْراً على فئة معروفة من الناس بل ظهرت في هذا العصر الأخير مع الإخوان المسلمين، ثم لم يلبث هؤلاء أن تخلوا عنها متأثرين بفكرة المجموعة الأولى، ثم لبسها ورثة الخوارج: جماعة الهجرة والتكفير،وتداولوها مع شيوخهم القطبيين، ثم بمكر من هؤلاء أريد للسلفية أن تلبسها. وكم كنت أتردد عند كتابة هذه الكلمات رجاء أن تكون نصيب قلم أقدر عليها مني، وهم كثيرون، ولكن ذلك لم يحصل بالصورة الدقيقة والصريحة والمفصلة التي ينبغي أن تكون، إذ الشبهات فيها كثيرة جدا وجذورها عريقة في حقيقة الأمر، فلا تكفي فيها بُلْغة الغريب، ثم استخرت الله في ذلك واستعنت به وحده فوفّق لما يأتي:
المتأمل في أحوال المسلمين اليوم يجزم بأنهم قد استيقظوا بعد سُبات عميق، وأحسوا بضرورة العودة إلى أصلهم التليد العريق، وتذكروا شخصيتهم الضائعة الممتهنة من قِبَل من جعلتهم قُدوتَها برهة من الزمن فلم ينصحوا لها، أقصد أن عاطفة إسلامية ما ـ كما يقولون اليوم ـ لا تزال في قلوب المسلمين، مما يبعث في النفوس السرور لأنها أول المبشرات، إلا أنه لا يجوز أن ندخل لَغَطا إعلاميا لا يمت إلى الإسلام بصلة فنبرز هذه الصورة فوق حجمها، مستعملين المجهر السياسي الكذاب، مجارين أعداء  الله في مكرهم ودهائهم وتزويرهم الحقائق، بل الحق والحق نقول، إن الله لا ينصر إلا المؤمنين فهو القائل: {وكانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} والمؤمنون مؤمنون ما لم يكذبوا ليتولاهم مولاهم القائل: {ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الكافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُم}.
لذا فإن محاولة إفزاع العدو بإبراز هذه اليقظة الإسلامية الأولى في صورة المستيقظ النشيط، الذي لم يبق على عينيه غبش، وأنه قادر على أن يُبصر الأمور ويُبَصِّر بها على حقيقتها، وأن يقدِّر لها أقواتها  تقدير العالم البصير لن يعود على الدعوة الإسلامية إلا بالبوار؛ لأن ذلك يستعدي الأعداء الأقوياء على المسلمين الضعفاء الذين لا يتولاهم الله ما داموا مقيمين على هذا الكذب والهراء، ثم هو غش للمسلمين؛ لأنه ينفخ فيهم غرورا قد رأينا عاقبته في بلاد الإسلام.
بل نقول: الحمد لله الذي أيقظنا، إلا أننا في أول الفطنة ما أحوجه إلى إرشاد، على عوج في المتابعة ما أحوجه إلى سداد، فنحن كصبي عطشان قد فرح به أبواه لنباهته فتركاه يروي عطشه بيده، لم يُؤمَن عليه أن يتناول السم الزعاف، أو سقياه ماءً زُلالا دون رَوِية في رعاية إذن لأوشك أن يَشْرَق.
والذي نعتقده بصراحة تامة أن أكثر المرشدين اليوم على غير الجادة السلفية إذ أشعروا أمتهم هذه ـ التي لا تزال عليها غيبوبة المستيقظ من نومه ـ أن مشكلتها سياسية وهي لم ترفع بعدُ قدميها عن سرير النوم، فإذا بها تُدْعى للعَدْو إلى سرير الملك، في بهرج لا يترك لها عقلا تفكر به، ويا لها من جريمة! لأنها تحريف لها عن معرفة الداء، فكيف الاهتداء إلى الدواء؟! ويا لها من مصيبة!! لأنها صد عن سبيل الله المتمثلة في تعلم الكتاب والسنة وتعظيمهما والاحتفاء بمجالس أهلهما، إلى تعلم السياسات العصرية والعكوف على مصادرها من إعلام مرئي ومسموع، وجرائد ومجلات: الصدق فيها ممنوع، حتى إنه ليمضي على من دثارُه الكتاب والسنة، وشعاره الفيديو ومجلة البيان والسنة، يومُه بل أسبوعُه بل ربما شهره لا يجد وقتا ولا شوقا إلى آية من الكتاب، واسأله ـ إن شئت ـ منذ كم لم يرفع الغبار عن الصحيحين على حين عدم غفلته عن جريدة اليوم بل وخبر الحين!! والأمر لله.
ولا تسارع إلى إنكار هذا لأنني ما جئتك بعلم حتى تناقشه وإنما هو خبر الواقع!
روى أبو نعيم في الحلية( ) بإسناده عن رجل من أشجع قال: " سمع الناس بالمدائن أن سلمان ( أي الفارسي ) في المسجد فأتوه فجعلوا يَثُوبون إليه حتى اجتمع إليه نحو من ألف، قال: فقام فجعل يقول: اجلسوا، اجلسوا، فلما جلس فتح سورة يوسف يقرؤها، فجعلوا يتصدعون ويذهبون حتى بقي في نحو من مائة، فغضب وقال: " الزخرف من القول أردتم؟ ثم قرأت كتاب الله عليكم ذهبتم؟! ".
قلتُ: لعل اختيار سلمان  لسورة يوسف  دون غيرها لما فيها من معاني القناعة بقصص كتاب الله دون ما تصبو إليه النفوس من حكايات وأحَاجي، وهو قول الله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ}، واقتداءًا بالنبيّ  حين سئل قصصاً غير قصص القرآن فتلى عليهم ما أنزل الله عليه من هذه السورة( )، وكذلك فعل عمر  حين رأى مَن أقبل على كتاب فيه عجائب الأوَّلين( )، فرضي الله عنهم جميعاً؛ ما أشدّ حرصهم على الهدي النبوي!

    معنى السياسة
السياسة لغةً : " هي القيام على الشيء بما يُصلحه "( ).
قلت: ومنه قول أسماء بنت أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنهما: " تزوَّجَني الزبير ومالَه في الأرض مالٌ ... فكنتُ أعلف فرسه، وأكفيه مؤنته، وأسوسه، وأدقُّ النوى لِناضحه ... حتى أَرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك خادما فكفَتْني سياسةَ الفرس، فكأنما أعتقني "( )، ولذلك كتب ابن الجزار القيرواني في إصلاح شئون الصبيان والمحافظة على طبيعة أجسامهم وطِبِّها مؤلَّفا أسماه
(( سياسة الصبيان وتدبيرهم )) ؛ لأن لفظة ( السياسة ) مشتقة من " السُوس بالضم: الطبيعة والأصل والخلق والسجية "( ).
ومن هذا المعنى العام أُخذ المعنى الخاص الآتي وهو: " من السوس، وهي الرياسة، وفي الحديث:» كان بنو إسرائيل يَسوسهم أنبياؤهم «( ) أي يتولى أمرهم كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية "( ).
وأما المعنى الشرعي: " فالسياسة الشرعية هي تدبير الشئون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار مما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية، وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين "( ).
قلت: فهي تُعْنَى بأحكام الإمارة والقضاء وأحوال الوزارات وتدوين الدواوين وإنفاذ الجيوش وغيرها مما تراه مفصلا في مثل (( غياث الأمم )) للجويني، و(( الأحكام السلطانية )) للماوردي وكذا لأبي يعلى الفراء،
و(( التراتيب الإدارية )) لعبد الحي الكتاني وغيرهم .. ولا شك في وجوبها شرعا وعقلا، لأن أمور الناس لا تنضبط إلا بإمام عادلا كان أو جائرا، قال ابن حبان البستي ـ رحمه الله ـ: " وأنشدني ابن زنجي البغدادي للأفوه الأودي:
لا يُصلح الناسَ فوضى لا سَراة لهم    ولا سَـراة إذا جـهّـالهـم ســادوا
والبــيـت لا يـُبتـنـى إلا بـأعـمــدة    ولا عـمـاد إذا لم تُــرسَ أوتـــادُ
فإن تـَجـمَّع أوتادٌ وأعمدةٌ وساكنٌ    أدركــوا الأمـــر الـذي كــادوا
تُهدَى الأمور بأهل الرأي ما صلــ    ـحت فإن تَوَلَّت فبالأشرار تنقادُ
وذكر قبلها الحكمة المشهورة: سلطان غشوم خير من فتنة تدوم "( ). قال ابن تيمية: " يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس ... إلى أن قال: لأنَّ الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بالقوة والإمارة، ولهذا روي: (( أن السلطان ظل الله في الأرض ))( ) ويقال:
( ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان ) والتجربة تبيِّن ذلك( )، ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان ... فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله؛ فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرئاسة أو المال بها "( ).
ولا تستوحش من قول خلاّف السابق: " .. وإن لم يتفق وأقوالَ الأئمة المجتهدين "؛ فإن المقصود به أن السياسة الشرعية ليست حكراً على الأئمة المتقدمين، بل لا بأس من أن يجتهد العالم المتبحّر من أولي الأمر فيما يَجدّ للأمة من نوازل بالقيود السابقة، ولذلك قال: " فالسياسة الشرعية على هذا هي العمل بالمصالح المرسلة؛ لأن المصلحة المرسلة هي التي لم يقم من الشارع دليل على اعتبارها أو إلغائها ".
وهو الأمر الذي نقله ابن القيم عن ابن عقيل نقل المقرّ وهو قوله: " فإن أردتَ بقولك: ( لا سياسة إلا ما وافق الشرع ) أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردتَ ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة؛ فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحده عالم بالسير، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة ... "( ).
ولذلك قال ابن نجيم: " وظاهر كلامهم أن السياسة فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرِد بهذا الفعل دليل جزئي "( ).
لكن مع تقادم الزمن نزل بالناس حوادث لم يَعرفوها من قبل، فاستفتى الولاةُ فقهاءَ التقليد، فأغلقوا عليهم باب الاجتهاد، وحرَّموا على أنفسهم النظر فيما لم تذكره المذاهب، فاضطر الولاة إلى الاجتهاد فيما يَعِنُّ لهم من جديد بحق وبباطل، وزهِدوا في علماء الشريعة؛ ظنًّا منهم قصور الشريعة عن فتح مغاليق فتن العصر، ثم تمادى بهم الأمر حتى أعرضوا عما أنزل الله من آيات بيِّنات، وتحاكموا إلى الرأي إما جهلاً وإما ظلماً، وتجرَّأ أراذل الناس على الشرع حتى حُرِّف كثيرٌ منه.
وأدهى وأمَرّ منه أن قوماً من جهال المتديِّنين في هذا الزمان أرادوا أن يُعالجوا هذا الانحراف فضاق عليهم منهج النبيين وسبيل المؤمنين حتى اعتمدوا النظم الغربية الكافرة للوصول إلى الحكم بما أنزل الله زعموا! كالولوع باللعبة الديمقراطية ودخول البرلمانات، والاتِّكاء على الغثاء للضغط على الحكومات؛ فتارة يدَّعون أن الأمر في ذلك مصلحة مرسلة والشريعة مرِنة! وتارة يَدَّعون أنهم مضطرون إليها وقلوبهم لها كارهة!! فما زالت بهم هذه السياسة حتى استَحْسنوا الكذب والسباب، واستمْرَأوا الخيانة والمكر بالأحزاب، وجرى على لسان العوام أن لا سياسي إلا ذو كذب مرتاب. وهذه المسالك أشد من مخالفات الحكام؛ لأن هؤلاء لا يُقتَدى بهم في غالب ديار الإسلام، أما الإسلاميون السياسيون فمحطّ نظر الخواص والعوام! فما أشدّ محنتهم للناس!!
وقد نبَّه ابن القيم على هذا الخلط في معاني السياسة فقال: " هذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضَنْك ومعتَرَك صعب، فرَّط فيه طائفة فعطَّلوا الحدود وضيَّعوا الحقوق، وجرَّؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تَقوم بمصالح العباد، وسَدّوا على أنفسهم طرقاً صحيحةً من الطرق التي يُعرَف بها المحِق من المبطل، فعطَّلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق، ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوعُ تقصير في معرفة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهم هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم، فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أَحدثوه من أوضاع سياستهم شرٌّ طويل وفساد عريض، وتفاقم الأمر حتى تعذَّر استدراكُه، وأفرط فيه طائفة أخرى فسَوَّغَت منه ما يُناقض حكم الله ورسوله ... ولا نقول إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها، وتسميتها
( سياسة ) أمر اصطلاحي، وإلا فإذا كانت عَدْلاً فهي من الشرع "( ).
قلت: هذه المرونة المشروعة في سياسة الخلق يمكن التمثيل لها بما رواه الشعبي قال: قال زياد: " ما غلبني أميرُ المؤمنين ( أي معاوية  ) بشيء من السياسة إلا ببابٍ واحدٍ: استعملتُ رجلاً فكثُر خراجه، فخشي أن أعاقبه، ففرّ إلى معاوية، فكتبت إليه: إنّ هذا أدب سوء لمن قبلي، فكتب إليّ: إنه ليس ينبغي لي ولا لك أن نسُوس الناس بسياسة واحدة؛ أن نلين جميعاً فتمرح الناسُ في المعصية، أو نشتدّ جميعاً فنحمل الناسَ على المهالك، ولكن تكون للشدّة والفظاظة، وأكون للِّين والرَّأفة "( ).
قلتُ: هذه السياسة التي فاق بها معاوية  زياداً هي التي مكَّنَته مِن أن يحكم أهل الشام أربعين سنة في وُدّ تامّ كما ذكر أهل التاريخ.

    الإصلاح السياسي
المشكلة في هذا الصراع المحتدم ثنائية:
الأولى: هل الإصلاح يتم عن طريق إصلاح الحاكم أو عن طريق إصلاح الأمة؟
الثانية: إذا كان لا بدَّ من الممارسة السياسية فمن هم أهلُها؟
أما الجواب عن الأولى ففي نص آية وحديث ـ ولا اجتهاد مع النص ـ قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}.
فما أوضحه من بيان! لكن مع وضوحه فأكثر من تسمَّوا بأسماء حركات إسلامية قد اجتهدوا وجاء لسان حالهم يقول: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بحكوماتهم!! ولا حول ولا قوة إلا بالله، غاضِّين الطرف عن السيرة النبوية المفسرة لهذا البيان، غافلين عن أنه لا عزّ لهم حتى يتحكم الدين في نفوسهم، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي  قال: » إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم « رواه أبو داود وهو حسن.
هذا حكم الله ورسوله {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}؟!
فاحذروا  ـ أي إخواننا! ـ من رد الحق تحاكماً إلى واقعكم أو اغتراراً بتجربتكم أو إرضاءً لنخالة أذهانكم! أوَ ليس قد حكم الله أن لا تمكين  في الأرض ولا استخلاف ولا أمن ولا نصر إلا بأمة، وأي أمة؟! إنها أمة العبادة مع توحيد خالص فاقرأ كلاماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد الذي قال: {وَعَدَ اللهُ الَّذِين ءامَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخلِفَنَّهُمْ في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}.
وعلى كل حال لا أطيل في هذا، وإنما أحيلكم على كتاب لم تقع عيني على مثله في هذا الزمان، وهو بعنوان » منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل « للدكتور ربيع بن هادي المدخلي، ولا تغترُّوا بمن حاول أن ينسج على عنوانه الماتع ما يضاهيه؛ فإنه لم يأت إلا بالباطل و بما يشبه خيوط العنكبوت.
وفي الجواب عن المشكلة الثانية أقول:
 أوّلاً: لست بحاجة إلى تقرير أن السياسة من الدين؛ لأنني لا أظن أن مستواكم الخلقي قد هبط بكم إلى رمي أخيكم ـ كاتب هذه السطور ـ بأنه يفرق بين الدين والدولة بعد أن قال الله تعالى: {إنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ}.
وأخبر أن تعطيل الشريعة اتباع للهوى فقال: {وأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ ومُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ ولاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ}.
وليس تعطيل الشريعة إلا جاهلية مقيتة  قال الله تعالى: {أَفَحُكمَ الجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُون}.
وثانياً : اعلم أن سبب فشل الحركات الإسلامية اليوم في إصلاح هذا الفساد العام هو خطؤها طريق الإصلاح حين دخلت المعترك السياسي وجعلته أصل عملها التغييري، مهما زعم كل منها سلامة المنهج وشمولية الدعوة وإحكام التنظيم، لذا فإن حديثي هنا منصب فقط على من اضطر إلى أن يفتي في السياسة اضطرارا لا مناص منه.
أما ممارسة السياسة اليوم فهو عمل لا يدخله إلا من استدرجه الشيطان ليُهلكه في أسوإ الخواتيم، فأَقْنَعَه بأنه لا يجوز ترك هذه الوظائف للفساق والعلمانيين، وأنه لا يجوز للمسلم أن يتقوقع حول نفسه، وأن قانون فلان الشيوعي كاد يطبق في بلاد ما لولا وجود الوزير الفلاني إلى غير ذلك من زخرف القول الذي لم يؤسس على النظر الشرعي بقدر ما أسس على النظر الواقعي مع إغماض؛ إذ الصادق في تأمله يرى قوماً دخلوا ليغيِّروا فتغيَّروا، وحق فيهم قول النبي : » من أتى باب السلطان افتتن « رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد والبيهقي في (( الشعب )) وهو صحيح.
ودليل المنع من مخالطتهم عند ممارستهم لسياساتهم الجائرة هو قول الله تعالى: {وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُم في الكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا ويُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُم حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُم}.
وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال : كان سعد بن أبي وقاص في إبله، فجاءه ابنه عمر، فلما رآه سعد قال : أعوذ بالله من شر هذا الراكب! فنزل  فقال له: أنَزَلْتَ في إبلك وغَنَمك وتركْتَ الناس يتنازعون المُلْك بينهم؟ فضرب سعد في صدره! فقال: اسكت! سمعت رسول الله  يقول: » إن الله يحبُّ العبد التقيَّ الغنيَّ الخفيَّ « رواه مسلم.
فإذا تعارضت مصلحتك الدينية مع مصلحة غيرك فقدم مصلحتك ما دام في الجمع بينهما خيفة على النفس، قال الله تعالى: {يَأَيُّها الَّذين ءَامَنُوا عَلَيْكم أَنفُسَكمْ لاَ يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ}.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: بينما نحن حول رسول الله  إذ ذكروا الفتنة، أو ذكرت عنده قال:» إذا رأيتَ الناس قد مرجت عهودُهم وخفَّت أماناتُهم وكانوا هكذا « وشبّك بين أصابعه، قال: فقمت إليه فقلت له: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: » الْزَمْ بيتك، وأملك لسانك، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة « رواه أبو داود والحاكم وأحمد وهو صحيح.
فإن قيل : ولكن المجتمع بحاجة إلى هذه المناصب ؟ قلنا: نعم! ولكن بشرط أن لا يَمتهن المرءُ فيها دينَه؛ لأنه إن رضي لنفسه أن يكون حطب جهنم في سبيل إنقاذ غيره، فإن له أسوة بمن قال فيه رسول الله : » لا بد للناس من عريف، والعريف في النار « رواه أبو الشيخ في » طبقات الأصبهانيين « وغيره( ).
ومعناه: أن مَن لم يمكنه أن يحظى في عمله إلا بمفسدة محضة أو راجحة ورأى دينه إلى نقصان؛ كأن يُضطرّ إلى ترك الواجبات، فليسارع إلى إنقاذ نفسه حتى لا يكون جسراً يُقطع به إلى الجنة وعند الباب تقع الفرقة! ويكفيه في قضاء حوائجه هؤلاء العرفاء الذين لا يَخلو منهم مجتمع.
فإن قيل: ومن يقضي لكم حوائجكم إذا شحَّ العرفاء؟ قلنا: قال الله تعالى: {ومَن يَتَوَكَّلْ علَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُه}. هذا الحكم تابعٌ لبيئة قد تمحَّض فيها الشرّ أو رجح.
ولست أعني هنا عدم النصيحة لولاة الأمور بالطريق المشروع وممن ينفع الله به وإعانتهم في الخير؛ فقد فعله يوسف  من قبل حين قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}، كما أن سيرة السلف في الإخلاص في النصيحة لولاة الأمور وعدم غشِّهم فيها معروفة، ولا سيما إذا كانت البلادُ بلادَ توحيد ومحافظة على الصلوات وحبّ للخير( ).
ولكنني محَذِّر من سياسة  مَدّ الجسور التي عند الإخوان المسلمين! أوَ ما رأيتم ما أصابهم مِن رقَّة دين وفتنة فيه؟!( )
هذا وهم من أغشّ عباد الله لحكامهم في الوقت الذي يُظهِرون لهم التجاوب التامّ مع الأوامر؛ بدليل أنهم ما يَجدون فرصةً للانقضاض على سلطانهم إلا فعلوا، إما ببيعات! أو بتحزّبات! أو بانتهاز أوقات الثورات ...!
وأخيراً فالجواب عن المشكلة الثانية التي طرحتها عند مطلع هذا الفصل هو الآتي في الفصل الذي يليه.



 
    السياسة الشرعية قاصرة على المجتهد
هذه مجرد تنبيهات سريعة، وإلا فحديثي هنا منصبٌّ على شروط مَن يتصدَّى للفتيا في النوازل السياسية، وأخصُّ من هذه الشروط شرطاً واحداً؛ لأنَّه الأهم، ولأن جل العاملين في هذا الميدان لا يراعونه، قال ابن القيم
ـ رحمه الله ـ( ): " العالم بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة فهو المجتهد في النوازل( )، فهذا النوع الذي يَسوغ لهم الإفتاء ويَسوغ استفتاؤهم ويتأدى بهم فرضُ الاجتهاد، وهم الذين قال فيهم رسول الله : » إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها
دينها «( ) ".
قلت: أي بلوغ درجة الاجتهاد كما قال الماوردي: " العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام" ( )، وقال الشاطبي: " بل إذا عرضت النوازل روجع بها أصولها فوُجدَت فيها، ولا يجدها مَن ليس بمجتهد، وإنما يجدها المجتهدون الموصوفون في علم أصول الفقه "( ).
فتدبر هذا العلم! وتدبر هذه الدقة التي لو حرص الإسلاميون على تحقيقها لصانوا هذا الدين من عبث حدثاء الأسنان.
ويشبهه قول محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ في شروط الإمام: " أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضياً من قضاة المسلمين، مجتهداً يمكنه الاستغناء عن استفتاء غيره في الحوادث "( ).
وقد مثَّل ابن رجب لهذا بالإمام أحمد ـ رحمهما الله ـ؛ فقد بيَّن وجه استحقاقه لمنصب الفتوى في الحوادث ـ أي النوازل ـ بأن وَصَفه ببلوغ النهاية في معرفته بالقرآن والسنة والآثار، فمِنَ القرآن: ناسخه ومنسوخه، ومُقدَّمه ومُؤَخَّره، وجَمْعه في تفسيره مِن أقوال الصحابة والتابِعين الشيءَ الكبير. ومِنَ السنة: حِفْظُه لها، ومعرفته بصحيحها من سقيمها، ومعرفته بالثقات من المجروحين، وبطُرق الحديث وعلله، ليس في المرفوع منه فحسب، بل وفي الموقوف منه! وبفقهه. وبعلوم الأئمة: ذَكر أنه عُرِض عليه عامّة أقوالهم ... إلى أن قال: " ومعلوم أنَّ مَن فَهِمَ عِلْم هذه العلوم كلّها وبرع فيها، فأسهلُ شيء عنده معرفةُ الحوادث والجواب عنها، على قياس تلك الأصول المضبوطة والمآخذ المعروفة، ومِنْ هنا قال عنه أبو ثور: كان أحمد إذا سئل عن مسألةٍ كأنَّ عِلْمَ الدنيا لَوْحٌ بين عينيه، أو كما قال "( ).
قلت: فأيُّ هؤلاء الذين ابتدعوا اليوم ( فقه الواقع ) ـ لِيُسقِطوا به العلماء ـ تَرَوْنه قد بلغ في العلوم هذه الغاية، حتى جعلتموه في نوازل السياسة لكم آية؟!
لقد كان أحمد ـ رحمه الله ـ يُفتي في الحوادث وينهى تلامذته عن ذلك؛ قال ابن رجب: " وأمّا عِلْمُ الإسلام ـ يعني الحلال والحرام كما فسَّره هو في كتابه المذكور ص (46) ـ فكان يُجيب فيه عن الحوادث الواقعة ممّا لم يَسبق فيها كلامٌ؛ للحاجة إلى ذلك، مع نَهْيه لأصحابه أن يتكلَّموا في مسائل ليس لهم فيها إمام "( ).  
ومِن كلام ابن القيّم السابق تَعلم أن رجوع الشباب اليوم في النوازل السياسية إلى الحركيين والمتكوِّنين على موائد المجلات ووسائل الإعلام والمتخرِّجين من خلايا المخيَّمات ـ مهما زعموا أنهم متحرِّرون من قيود غابر المذاهب أو متضلِّعون بأسرار ما يعاصرون من المذاهب ـ مصادمٌ لهذه النصوص التي أوردتُها عن هؤلاء الأعلام، وأن المعمَّمين من مقلِّدة المذاهب غير داخلين في قول ابن القيّم: ( الذين يسوغ استفتاؤهم ويتأدَّى بهم فرض الاجتهاد ...) مهما ( تَدَكْتَرُوا )؛ لأنَّ المقلِّد غير المجتهد، بل المقلّد هو الجاهل! كما هو معلوم من كتب أصول الفقه؛ قال الخطيب البغدادي: " ... حتى يجد طريقاً إلى العلم بأحكام النوازل وتمييز الحقّ من الباطل، فهذا ما لا مندوحة للمفتي عنه، ولا يجوز له الإخلال بشيء منه "( ).
ولهذا كان مِنَ الأهمية بمكان أن يُمَيِّز طالبُ العلم أهلَ الفتوى في هذا الميدان مِن غيرهم ممّن تسوّروا المحراب، أو دخلوه من غير هذا الباب؛ فقد كان سلفُنا الصالح على دراية تامَّة بذلك؛ قال أبو حاتم الرازي ـ رحمه الله ـ:
" مذهبنا واختيارنا اتِّباعُ رسول الله  وأصحابه والتَّابعين ومَن بعدهم بإحسانٍ ... ولزوم الكتاب والسنة والذَّبّ عن الأئمّة المتَّبِعة لآثار السلف، واختيار ما اختاره أهلُ السنة من الأئمة في الأمصار، مثل مالك بن أنس في المدينة، والأوزاعي بالشّام، والليث بن سعد بمصر، وسفيان الثوري وحمّاد بن زيد بالعراق، مِنَ الحوادث ممَّا لا يوجد فيه رواية عن النبيّ  والصحابة والتَّابعين، وتَرْك رأي المُلَبِّسين المُمَوِّهين المزخرفين الممخرِقين الكذَّابين!" ( ).
إذاً فقد بان لذي بصيرة الطّالب للحقّ مَن يسوغ استفتاؤه في هذا.
فمالكم ـ يا شباب الإسلام! ـ تتهافتون على السياسة، وتهوي إليها أفئدتكم، وتأتون مجالسها من كل فجٍّ عميق، كأنها لكم! ولعل رجالها لم يخلقوا بعد في أوساطكم؟!  فأولى لكم: تعلُّم ما في الكتاب والسنة مما تقدرون عليه ويجب عليكم أو يُستحب؛ لأنه أثبت لاستقامتكم وأضمن لوصولكم إلى ما قفزتم إليه الآن، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}.
ولما أضحى العملُ السياسي ـ الذي يؤمّه الشبابُ اليوم ـ مطيّةً للولوغ به إلى العنف المسمَّى زوراً جهاداً، ولما كان هؤلاء ـ أنصافُ المتعلِّمين ـ يهجمون بلا تردّد ولا تحفُّظ على البحث في دقائق مسائل الجهاد، أجدني حينئذ حريصاً على نقل كلمة عظيمة لابن تيمية ـ رحمه الله ـ قالها في معرض كلامه عن الجهاد، فقال: " وفي الجملة فالبحثُ في هذه الدَّقائق من وظيفة خَواصّ أهل العلم "( ).
وعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : » سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخَوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرُّوَيْبِضة «، قيل: وما الرويبضة؟ قال:
» الرجل التافه يتكلم في أمر العامة « رواه ابن ماجه وهو صحيح.
قال أبو شامة: " وأكثر ما أُتي الناس في البدع بهذا السبب؛ يُظَنُّ في شخص أنه من أهل العلم والتقوى، وليس هو في نفس الأمر كذلك، فيَرْمقون أقواله وأفعاله، فيَتَّبِعونه في ذلك، فتفسد أمورهم؛ ففي الحديث عن ثوبان  أن النبي  قال: (( إنّ مما أتخوَّف على أمتي الأئمةَ المُضلِّين )) أخرجه ابن ماجه والترمذي وقال: هذا حديث صحيح، وفي (( الصحيح )) أن النبي  قال: (( إنّ
الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يَقبض
العلم بقبض العلماء، وحتى إذا لم يَبق عالمٌ اتَّخذ الناسُ رؤوساً
جهالا، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأَضلُّوا ))، قال الإمام الطرطوشي
ـ رحمه الله ـ: فتدبَّروا هذا الحديث؛ فإنه يدلّ على أنه لا يُؤتَى الناسُ قط من قِبَل علمائهم، وإنما يُؤتَوْن من قِبل أنه إذا مات علماؤهم أفتَى مَن ليس بعالم، فيُؤتَى الناسُ من قِبَله، قال: وقد صرَّف عمر  هذا المعنى تصريفاً فقال: ( ما خان أمين قط، ولكن ائتُمن غير أمين فخان )، قال: ونحن نقول: ما ابتدع عالِم قطّ، ولكن استُفتي مِن ليس بعالم فضلّ وأضلّ، وكذلك فعل ربيعة؛ قال مالك: بكى ربيعةُ يوماً بكاءً شديداً، فقيل له: أمصيبة نزلت بك؟ فقال: ( لا! ولكن استُفتي مَن لا عِلم عنده وظهر في الإسلام أمر
عظيم )( )"( ).
قلت: وعلى هذا كان هدي السلف؛ قال هشام بن عروة: " ما سمعتُ أبي يقول في شيء قطّ برأيه، قال: وربما سئل عن الشيء فيقول: هذا مِن خالص السلطان "( ).
وقال ابن هرمز: " أدركتُ أهل المدينة، وما فيها إلا الكتاب والسنة، والأمر ينزِل فينظر فيه السلطان "( ).
فمَن هو الرجل الصالح لذلك إذن؟ قال الله تعالى: {إنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ} فهو ليس عالماً فقط، بل مبسوطٌ له في العلم! قال ابن مسعود : " لايزال الناس صالحين متماسكين ما أتاهم العلم من أصحاب محمد ومن أكابرهم، فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا "( ).
وقال الشعبي ـ رحمه الله ـ: " ما جاءك من أصحاب محمدٍ  فخذه، ودع عنك ما يقول هؤلاء الصعافقة "، قيل الصعافقة: الذين يدخلون السوق بلا رأس مال، أراد الذين لا علم لهم "( ).
وعلى هذا كان أصحاب رسول الله ؛ ألا ترى كيف لم يختلفوا في تولية أبي بكر  إلا في جلسة واحدة تحت سقيفة، الأمر الذي لا تعرفه الديمقراطيات علىالرغم من أنها مدعومة بالحديد، واختاروا أبا بكر لأنه كان كما جاء وصفه في حديث أبي سعيد قال: " وكان أبو بكر أعلمنا " متفق عليه.
وقد كان رسول الله  لا يشاور في القضايا السياسية إلا أبا بكر وعمر ومن هم على مستواهما، وما قصة أسرى بدر عنكم ببعيد.
ومما يدل على أن أهل العلم المبرزين كان لهم مجلس خاص بهم لا يشاركهم فيه غيرهم ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر يُدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم:لِمَ يدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: " إنه ممن قد علمتم ".
وإنما امتاز ابن عباس بالدخول على المجتهدين دون غيره من الشباب لتميُّزه عنهم بدعاء الرسول : » اللهم فقِّهه في الدين وعَلِّمه التأويل « رواه أحمد وهو صحيح. قال ابن القيم: " ودعا النبي  لعبدالله بن عباس أن يُفقِّهه في الدين ويُعَلِّمه التأويل، والفرق بين الفقه والتأويل: أن الفقه هو فهْم المعنى المراد، والتأويل إدراك الحقيقة التي يَؤول إليها المعنى التي هي أخيّته وأصله، وليس كل مَن فَقه في الدين عَرَف التأويل، فمعرفة التأويل يَختص به الراسخون في العلم "( ).
قلت: تأمل هذا تفهم سبب عدم الاكتفاء في أمر السياسة بالعلم، بل لا بدّ من الرسوخ فيه، ومَن عرَف مِن الشباب تأويل ابن عباس لسورة النصر ـ كما في تمام قصة عمر السابقة ـ عرَف هل يَصلح لهذا الأمر أو لا؟
وروى البخاري عن ابن عباس قال: كنتُ أُقْريء رجالا من المهاجرين منهم عبدالرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها، إذ رجع إلي عبدالرحمن فقال: لو رأيتَ رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا، فوالله ماكانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت، فغضب عمر ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذِّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم، قال عبدالرحمن: فقلت: " يا أمير المؤمنين! لا تفعل، فإن الموسم يجمع رَعاع( ) الناس وغوغاءهم؛ فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيِّرها عنك كل مطير، وأن لا يَعُوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها "، فقال عمر: " أما والله ـ إن شاء الله ـ لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة ... ".
فما أعظم هذه المشورة! وما أقواه من مجتمع عرف مقادير الأشياء! وأين هذه التربية والنظر الحصيف من قوم يذيعون كل خبر عند العوام والخواص، خاصة منها الأخبار السياسية التي فتنت الناس اليوم، يتحدثون عنها في حماسة كبيرة كأنهم يستغيثون بالخلق من ظلم الخلق، لا تراه عليهم وهم يقررون التوحيد ويدفعون الشرك. وهل كان عمر يجمع الناس ويقول لهم: اجمعوا لي قصاصات الجرائد، وأنا أحللها لكم علانية، في شجاعة تامة، لا أخاف حاكما ولا طاغوتاً؟!
كلا! لا يتصور هذا في عمر  الذي زجره النبي  زجرا شديدا عن تتبع صحائف أهل الكتاب، فعن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي  بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه النبي  فغضب قال:
» أمُتَهَوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟!( )، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذِّبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى  كان حيا ما وسعه إلا أن يتَّبعني « رواه أحمد وغيره وهو صحيح.
ثم ألا تذكرون قصة الشورى في اختيار الخليفة من بعد عمر؟ ألم يكن الصحابة أكثر من عشرة آلاف؟ فلم يزد الأمر على أن تشاور ستة من أعيانهم فقط. وشبابنا اليوم يريدون من كبار المشايخ أن يخرجوا من الكتب الصفراء ليشاركوا أمتهم أحزانها زعموا، يريدون منهم أن يكونوا تحت ضغط الاستفزازات السياسية، ألا فهاكم كلمة حكيمة للشيخ ابن عثيمين ـ حفظه الله ـ لما سأله بعض المستعجلين في جرأة سخيفة: لماذا لا تردون على الحكام وتُبَيِّنوا ذلك للناس؟
قال الشيخ في وقاره وحلمه: " .. ولكن النصح مبذول ... والله! أنا أعلمتُك يا أخ ( فلان! ) وأعلمتُ الإخوان أن بيان ما نفعله مع الولاة فيه مفسدتان:
المفسدة الأولى: أن الإنسان يَخشى على نفسه من الرياء، فيبطل عمله.
المفسدة الثانية: أن الولاة لو لم يُطيعوا صار حجة على الولاة عند العامة فثاروا، وحصَل مفسدة أكبر "( ).
فتأمّلوا هذا الجواب الحكيم فإنه مستوحى من جواب بعض السلف حيث طلب منه بعض الثائرين أن ينكر على الخليفة عثمان بن عفان ، ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قيل له: ألا تدخل على عثمان لتكلمه؟ فقال: " أترون أني لا أكلمه إلا أُسمِعكم؟ والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه ". وفي رواية: " إني أكلمه في السر ".
ومثله ما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " دخلتُ على حفصة ونسْواتها تنطف، قلت: قد كان من أمر الناس ما تَرَيْن، فلم يُجعل لي من الأمر شيء، قالت: اِلْحق فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدَعْهُ حتى ذهب، فلما تفرَّق الناسُ خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليُطْلع لنا قرنه، فلنحن أحقُّ به منه ومن أبيه، قال حبيب بن مسلمة: فهلاَّ أجبته؟ قال عبد الله: فحللتُ حَبْوتي وهممت أن أقول: أحقّ بهذا الأمر منك مَن قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيتُ أن أقول كلمة تفرِّق بين الجمع وتَسفِك الدم ويُحمَل عني غير ذلك، فذكرتُ ما أعدَّ الله في الجنان، قال حبيب: حُفظتَ وعُصمتَ ".
قلت: يظهر من هذه الرواية رجاحة عقل ابن عمر رضي الله عنهما وسياسته الرشيدة؛ حيث منَعته مصلحة اجتماع الأمة على رجل واحد مِن ذكر مصلحته الخاصة، على الرغم من أن معاوية  كان يقصده بكلمته تلك؛ كما في رواية عبد الرزاق بسند البخاري نفسه، قال الراوي: " يُعَرِّض بعبد الله بن عمر "( )، ثم لا بدّ من التنبيه على أنه جاء  في » أمالي ابن الأنباري « زيادة بالسند الآتي، قال الراوي: حدَّثنا محمد ثنا أبو بكر ثنا موسى بن محمد الخياط( ) ثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن هزيل بن شرحبيل قال: " خطب الناسَ معاويةُ فقال: لو بايع الناسُ عبدا مجدَّعا لتبعتُهم، ولو لم يبايعوني برضاهم ما أكرهتُهم، فنزل، فقال له عمرو بن العاص: قد قلتَ قولا ينبغي أن تأمَّله، فرجع إلى المنبر فقال ... " بنحوه( ).
قلت: فيُفهَم من هذه الرواية أن معاوية قال كلمةَ تواضعٍ في وقت اشتداد الفتن ـ أيام صفين كما نبَّه عليه الحافظ ـ الأمر الذي يتنافى مع سياسة الأمة بالحزم سدًّا لأبواب الشر، ولذلك لما نبَّهه عمرو بن العاص  غيَّر اللهجة، وهذا ـ بغضّ النظر عن قضية صفين ـ هو الذي تقتضيه السياسة؛ فقد نصّ بعض الفقهاء على أن سلوك السياسة هو الأخذ بالحزم( )، وعند بعضهم أن السياسة شَرْعٌ مغلّظ( )، والله أعلم.
أذكركم بهذا لتعلموا أن شيوخ السلفية لا يتخطون خطى السلف، فليعرف لهم قدرهم من للحق انتصف.
فيا شباب الإسلام! توعية الأمة ليست بحاجة إلى داعية متحمس ولكن إلى مجتهد متفرس. فهل آن لكم أن تفرقوا بينهما؟
وأن تعرفوا أن فقه الواقع راجع إلى الذين شابت رؤوسهم مع نصوص الشارع، إنكم بجرأتكم هذه على أهل العلم واستصغاركم لهم واستخفافكم العملي بالوحيين وحملتهما، وتعظيمكم المدهش لحملة قصاصات الجرائد لنذير شر مستطير قال الله تعالى : {وقالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْءَانَ مَهْجُوراً}.
وتأملوا ما رواه البخاري عن ابن عباس " أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس ( في وفاة رسول الله  )، فقال : اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فقال اجلس، فأبى أن يجلس، فتشهد أبو بكر ، فمال إليه الناسُ وتركوا عمر ". تركوا عمر ـ وما أدراك ما عمر! ـ لأنهم وجدوا أفضل وأعلم من عمر، وبرباطة جأش أبي بكر، وبحسن استماع الرعية، وبعدهم عن الحماسة التي لا تدعمها النصوص عُرف مصدر التلقي، فخمدت الفتنة في مهدها.
فلماذا زهدتم في المشايخ الكبار الذين أفنوا أعمارهم مع العلم تعلُّماً وتعليماً مع جَلَدٍ في الدعوة إلى الله أمثال الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ الفوزان وغيرهم، ومِلْتم إلى ( طلبة العلم !! ) أول خطئهم التشبّع بما لم يعطوا حين عُنُوا بالتوجيه السياسي، وقد كفاهموه هؤلاء، لولا أنه قد قيل ويا بئس ما قيل: ( علماؤنا .. عندهم تقصير في معرفة الواقع .. نحن نستكملهم ) !!
وحتى الشيخ الألباني الذي ظل رَدْحا من الزمن متَّهَما بما اتُهِم به إخوانُه من المذكورين، رَقَّوْه اليوم وأوصلوه بصف فقهاء الواقع، لكن على حذر شديد جدا؛ لأنه لا يزال عندهم محدِّثا فقط، ولذا لم يبلغ رتبة فقيه الواقع
ـ عندهم ـ بفقهه، ولكن بفتواه في قضية الخليج التي وقعت في الوقت المناسب على قلوب تهواها، لا لدليلها، ولكن لتهييجها السياسي. ومثل هذا حب بعض الإخوان المسلمين لابن تيمية والإشادة بفضله، لا باعتبار عقيدته وفقهه وجهاده العلمي؛ لأن هذا لا يهتمون به إن لم يقفوا في وجهه، لكن فقط لأنه وقف في صف  الجهاد ضد التتار فتأمل هذا الولاء السياسي المحض، وقل لا حول ولا قوة إلا بالله.
ولو حضرت حلقات الشيخ ابن باز ـ حفظه الله ـ لبكيت لنفرة الشباب
( الواعي!! ) منها، وهو من هو علما وسمتا ووقارا، ثم هم يزدحمون على الدروس العاطفية والسياسية التي تنفخ ولا تربي وإن ربت ففي حدود البنود الحزبية؛  ذلك لأنهم يجهلون أن الشيخ وأمثاله يقدمون دروسهم على ذلك النمط لأنه منهج عرفوه من سيرة الرسول ، أقصد ما قاله بعض السلف: " الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره " ـ كما يأتي بيانه قريبا فيما رواه البخاري ـ، وهؤلاء يقولون: ( يقدّم علما جافا ) ويقصدون جفافه من تزويقات قُصّاص هذا الزمان والكلمات المنمقة المؤنَّثة التي يبهرجون بها سترا لعورتهم العلمية، وتغريرا بالسذج إلى بدعتهم الحزبية، والحقيقة أنه هو العلم لو وجدوا له صبرا.
لقد عقد البخاري ـ رحمه الله ـ في  »صحيحه « في" باب العلم قبل القول والعمل"( ) مقارنة بين ابن عباس وأبي ذر رضي الله عنهما يبين بها معنى 
( الرباني ) في قوله تعالى: {ما كانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الكِتابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتابَ وَبِما كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} بين فيه أن أبا ذر  كان يذيع كل خبر يَعْلَمه من رسول الله  خوف كتمان العلم، وقد لا يراعى في ذلك مستوى الناس أو قدرتهم على التحمل. وأما ابن عباس فخلاف ذلك.
 قال ـ رحمه الله ـ: " وقال أبو ذر: لو وضعتم الصَمْصامة( ) على هذه
ـ وأشار إلى قفاه ـ ثم ظننت أني أُنْفِذ كلمة سمعتها من النبي  قبل أن تُجِيزوا علي لأَنْفَذتها.
وقال ابن عباس: ( كونوا ربانيين ) حكماء فقهاء، ويقال الرباني: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ". اهـ من » صحيح البخاري   «.
قال ابن حجر: " وهذا التعليق رُوِّيناه موصولا في مسند الدارمي وغيره من طريق الأوزاعي: حدثني أبو كثير ـ يعني مالك بن مرثد ـ عن أبيه قال: أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى وقد اجتمع الناس يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال: ألم تُنْه؟ فرفع رأسه إليه، فقال: أرقيب أنت علي؟ لو وضعتم ... فذكره مثله. ورويناه في الحلية من هذا الوجه، وبيَّن أن الذي خاطبه رجل من قريش، وأن الذي نهاه عن الفتيا عثمان  "( ).
وفي ( باب ما كان النبي  يتخوَّلهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا ) قال ابن حجر: " ومناسبته لما قبله ظاهرة من جهة ما حكاه أخيرا من تفسير الرباني، كمناسبة الذي قبله من تشديد أبي ذر في أمر التبليغ لما قبله من الأمر بالتبليغ، وغالب أبواب هذا الكتاب لمن أمعن النظر فيها لا يخلو من ذلك "( ).
وقال ابن القيّم ـ رحمه الله ـ: " وفيه أيضا تنبيه لأهل العلم على تربية الأمة كما يُربي الوالدُ ولدَه؛ فيُرَبّونهم بالتدريج والترقي من صغار العلم إلى كباره، وتحميلهم منه ما يطيقون كما يفعل الأب بولده الطفل في إيصال الغذاء إليه ... "( ).
وقد ذكر ابنُ حجر أيضا في موضع آخر فقال بعد ذكر الخلاف بين أبي ذر وجمهور الصحابة في كنز المال عن شداد بن أوس أنه قال: " كان أبو ذر يسمع من رسول الله  الحديث فيه الشدة ثم يخرج إلى قومه، ثم يرخص فيه النبي  فلا يسمع الرخصة، ويتعلق بالأمر الأول ".
وقال مالك: " اعلم أنه ليس يسلم الرجل حدّث بكل ما سمع، ولا يكون إماما أبدا وهو يحدث بكل ما سمع " رواه مسلم في مقدمة » صحيحه «.
قلت: ولعله السر في قول النبي  لأبي ذر: (( يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَّ مال يتيم )) رواه مسلم.
قال الذهبي: " وقد قال النبي  لأبي ذر ـ مع قوة أبي ذر في بدنه وشجاعته ـ: » يا أبا ذر! إني أراك ضعيفا «.
فهذا محمول على ضعف الرأي؛ فإنه لو ولي مال يتيم، لأنفقه كله في سبيل الخير، ولترك اليتيم فقيرا. فقد ذكرنا أنه كان لا يستجيز ادّخار النقدين. والذي يتأمّر على الناس، يريد أن يكون فيه حلم ومداراة، وأبو ذر  كانت فيه حدّة ـ كما ذكرناه ـ فنصحه النبي  "( ).

الخلاصة 
إن من يعلّم الناس عامةً القضايا السياسية ليس ربانيا، وإن زعم أنه يريد توعية الغافلين وتحريك الجامدين، أو يريد تحقيق شمولية العمل الإسلامي، ألا ترى ما بوب له البخاري حين قال: " باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا " وروى فيه عن علي   قوله: " حدِّثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله؟! "، وفي » صحيح مسلم « أن ابن مسعود  قال:
" ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ".
وفي » الصحيحين  «أن أبا هريرة كره التحديث بحديث الجِرابَيْن ـ الذي فيه تنقّص بعض الحكام  ـ لظهور بوادر الخروج عليهم في وقته مع تفشي الجهل، وكان يقول  : " لو شئتُ لسَمَّيتُهم "، ومثله عن حذيفة ، قال الحافظ: " ولهذا كره أحمد التحديث ببعض دون بعض الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ... "، فتأمل تصرف هؤلاء الحكماء من الفقهاء، وقارن بينه وبين تصرف متناقضي زماننا، الذين إن سَلَّموا بأن الردود على الحكام بالطريقة المعروفة اليوم لا يُجنَى منها خير، فإنهم يزعمون أنه لا بد من بيان تخطيطهم الماكر للمسلمين وفضح أسرارهم ليعرفوهم ... الخ، كأنه لم يبق من بنيان دين المسلمين إلا هذا، مع أن أكثر ديار المسلمين لا تزال مقيمة على شرك القبور. ولتعلم قيمة العلماء الربانيين اقتن الأشرطة المسجلة التي ناقش فيها الشيخ الألباني الدكتور ناصر العمر فإن فيها علما جمّا، وأذكر بهذه المناسبة أن هذا الأخير حين ذكر أن أصل كتابه » فقه الواقع « محاضرة عامة اعترض عليه الشيخ قائلا: " هذا خطأ؛ لأن فقه الواقع لا يكون إلا بين العلماء أو الأقوياء من طلبة العلم ... "( ).
ومن خالف هذا المنهج الرصين وقع وأوقع في فتنة عظيمة؛ لأنَّ التحليلات السياسية من أصعب الأمور، ثم الاختلاف في يسيرها أسرع شيء إحراجا للصدور، وأكثر فتنة للناس لضيق عَطَنهم، خاصة في عصر أضحى فيه الولاء والبراء بين الإسلاميين الواعين!! سياسيا بالدرجة الأولى لا عقديا( ).

    الجامعون لفنون الشريعة هم السياسيون الشرعيون
 لما كان لا يُفتي في السياسة إلا العالم المجتهد، كان لا يمارس السياسة إلا هو، قال الشاطبي ـ رحمه الله ـ: " فإذا بلغ الإنسان مبلغا فَهِمَ عن الشارع فيه قَصْدَه في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصفٌ هو السبب في تنزّله منزلة الخليفة للنبي  في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله "( ).
وقال الشافعي ـ رحمه الله ـ: " ولا يشاوِر إذا نزل المشكل إلا أمينا عالما بالكتاب والسنة والآثار وأقاويل الناس والقياس ولسان العرب " » مختصر المزني «.
قال ابن الصباغ في الشامل: " اعتبر الشافعي أن يكون الإمام من أهل الاجتهاد؛ لأنه إذا لم يكن من أهل الاجتهاد فلا قول له في الحادثة "( ).
وقال الشاطبيّ: " إنّ العلماء نقلوا الاتّفاق على أنّ الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع "( ).
قلت: وهذا الاتّفاق لا يضره وجود المخالف؛ لأنّ من خالف فقد شرط الاجتهاد فيمن يستفتيه الإمام كما قال الشهرستاني: " ولكن يجب أن يكون معه من يكون من أهل الاجتهاد فيراجعه في الأحكام "( ). فعاد الأمر إلى اشتراط الاجتهاد سواء في الإمام نفسه أو فيمن يرجع إليه الإمامُ من الفقهاء.
وقال ابن حمدان الحرّاني: " المجتهد المطلق وهو الذي ذكرناه آنفا إذا استقلّ إدراكه للأحكام الشرعيّة من الأدلّة العامة والخاصة، وأحكام الحوادث
منها ..."( ).

    نكت في آيات الكتاب
من تدبّر آيات الكتاب الكريم في كل حديث عن الخلفاء الشرعيّين ـ ونحن نحب أن تكون الخلافة لفقهاء الشريعة ولاريب ـ يجد أنّ الله ما ذكر أحدا منهم إلا وصفه بالعالم المحيط بفنون الشريعة؛ فآدم  أوّل من ساس البشر، ميّزه الله عن الملائكة بالعلم حتى كانت الخلافة له دونهم، ومهما اختلف المفسّرون في كلمة {خَلِيفَة} التي في أوّل سورة البقرة، فإنّه لا ينتفي عنها معنى السلطان، وهذا الذي أشار إليه ابن تيمية حين قال: " في الخلافة والسلطان وكيفية كونه ظلّ الله في الأرض، قال الله تعالى: {وإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً}، وقال الله: {يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ}، وقوله: {إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً} يعمّ آدم وبنيه، لكن الاسم متناول لآدم عيناً، كقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ... "( )، ولهذا قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: " هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يُسمَع له ويطاع ..."( ).
وأقول: إنّ الله اختار آدم لخلافة الأرض دون الملائكة لا لكونه عالما ببعض دون بعض، ولكن لكونه محيطا بما عبّر الله عنه بلفظ الكلية حين قال: {وعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ} ولم يسكت ولكن زاد {كُلَّهَا}.
ـ ومثله قوله تعالى: {ولَقَدْ آتَيْنا دَاوُودَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقَالاَ الحَمْدُ لِلَهِ اَّلِذي فَضّلَنا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ. وَوَرِثَ سُلَيْمانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ}، قال ابن باديس ـ رحمه الله ـ: " {عِلْماً} نوعاً عظيماً ممتازاً من العلم، جَمَعا به بين المُلْك والنّبوّة وقامَا بأمر الحُكم والهداية ".
 وقال: " تنويه وتأصيل: قد ابتدأ الحديث عن هذا المُلْك العظيم بذكر العلم، وقدّمت النّعمة به على سائر النّعم تنويها بشأن العلم وتنبيها على أنّه هو الأصل الذي تنبني عليه سعادة الدنيا والأخرى، وأنّه هو الأساس لكل أمر من أمور الدين والدنيا، وأنّ الممالك إنما تُبنى عليه وتُشاد، وأنّ الملك إنما يُنظَّم به ويُساس. إنّ كل مالم يُبْن عليه فهو على شفا جرف هار وأنّه هو سياج المملكة ودرعها وهو سلاحها الحقيقيّ، وبه دفاعها وأنّ كل مملكة لم تُحْم به فهي عُرضة للانقراض والانقضاض "( ).
ـ ومثله قوله تعالى: {ويَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِنْهُ ذِكْراً، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الأَرْضِ وَءَاتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}، قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسُّدي وغيرهم: " يعني عِلْماً "( )؛ أي من كل شيء علماً، إذن فهي الإحاطة بكل فنون العلم.
فتأمّل العلم المبسوط على هؤلاء السياسيين الصّالحين، وقد روى أبو حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدّث عن النبي  قال: (( كانت بنو إسرائيل تسوسُهم الأنبياءُ، كلما هَلَك نبيٌّ خَلَفَه نبيٌّ، إلا أنّه لا نبيَّ
بعدي )) متفق عليه، ومصداقه في كتاب الله قوله سبحانه: {إنّا أنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيها هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ ...}  الآية.
إذن فالسياسة كانت للأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لأنهم كانوا أحقّ بها وأهلها، فإذا مات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانت نصيب ورثتهم قال رسول الله : » إنّ العلماء ورثة الأنبياء « رواه التّرمذيّ وهو حسن.
فما لطلبة العلم يحومون حول التّركة طامعين، وليس لهم فيها نصيب لا تعصيبا ولا مفترضين؟! ولهذا كان من دقّة التّعبير القرآنيّ أن وصف اللهُ الرّجال المستحقين للإمامة بـ ( اليقين ) في علمهم فقال سبحانه: {وجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا ُيوقِنُونَ}، فجعل اليقين بدل العلم للفرق الواضح بين مجرّد العلم وبين علم اليقين، والمقام مقام إمامة واقتداء، وقد قال ابن القيم  ـ رحمه الله ـ: " فأخبر أن إمامة الدين إنما تُنال بالصبر
واليقين "( )، فما أعظم أسرار الكتاب!
ومن هنا قال ابن تيمية: " كان الرسولُ وخلفاؤه يَسوسون الناس في دينهم ودنياهم، ثم تفرقت الأمور: فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يُرجَع إليهم فيه من العلم والدين "( ).

تنبيهان
1 ـ لايزول العَجَب من قوم ـ أحسن ما يقال فيهم أنهم طلبة علم
ـ يَقيسون أنفسهم على ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فمارسوا السياسة بدعوى أنّ ابن تيمية كان يمارس السياسة! والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أنّ هذا النّوع من الاستدلال بأحوال الرّجال على حكم شرعي خبط منهجي لا تعرفه السلفية وخطأ يقدح في توحيد المتابعة، وذلك لأنّ ابن تيمية ـ كغيره من أهل العلم ـ يُستدَلُّ له ولا يُستدَلّ به، كما ذكر ذلك هو نفسه ـ رحمه الله ـ في (( رفع الملام ))  وغيره من مصنفاته، فهل من متذكر؟!
الثاني: أنّ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لم يمارس السياسة وإنما أفتى في السياسة كما أفتى في غيرها من فنون الشّريعة، وقد كان يقول: " أنا رجل ملّة، لا رجل دَوْلة "( )0
الثّالث: أين أنتم من ابن تيمية؟! ذلك المجتهد المطلق، يقاس عليه طلبة العلم اليوم؟! ما أشبهه بقياس الحدّادين على الملائكة! قال رسول الله :
» المتشبِّعُ بما لم يُعْطَ كلابِس ثوبَيْ زور « متفق عليه.
2 ـ وأغرق في الخطأ: مَن يحتجّ بممارسة يوسف  السياسة حين قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} مع أنّه  ما دخلها إلا وله شهادة من الله مكتوب عليها {إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}( ). وأهل البلاغة يفرّقون جيّداً بين
( الحافظ ) و( الحفيظ )، وبين ( العالم ) و( العليم )، فتدبّر هذا فإنّه من أسرار الكتاب الحكيم! كما أنّه يُتعجَّب من آخرين سوّغوا لأنفسهم استلام الوظائف السياسية اليوم بما في ذلك البرلمانات الكافرة أوالفاجرة، محتجّين بفعل يوسف عليه الصلاة والسلام، غافلين عن أنّه  لم يَسألها ولكن عَرَضها عليه الملِك نفسه، ولم يَقبلها إلا بعد أن ضمن له الأمن والتّمكين، فلا مضايقات ولا استفزاز، ولا تنزّلات ولا استدراج، ولا مساومات ولا احتجاج، ولذلك تأمل ترتيبه في قوله تعالى: {وقالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ. قالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ  إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}، وأما هؤلاء فقد أُعجِبوا بإيمانهم وحَسّنوا ظنّهم بأنفسهم حتى صوّر لهم الشيطان خيال التّصلب في الحق، وهم ذائبون في رضا أنظمة الخلق، والله المستعان. أما يوسف  فلم يميِّع دينَه، ولم يَأْلُ من السياسة الشرعيّة جهدَه، ولا نفّذ قانون الملك الكافر باسم مصلحة الدعوة قال الله تعالى: {ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ في دِينِ المَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}( ).
ولو تنزّلنا جدلاً إلى مدّعاهم لقلنا كما قال علماء أصول الفقه: " شَرْعُ مَن قبلنا ليس شرعاً لنا فيما خالف فيه شرعنا " وقد خالفه؛ لأننا نهينا عن سؤال الإمارة كما في حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله : » يا عبد الرحمن! لاتسأل الإمارة؛ فإنّك إن أُعطِيتَها عن مسألة وُكِلْتَ إليها وإن أُعطيتها من غير مسألة أُعِنتَ عليها « متفق عليه. ولقلنا إنّ يوسف عليه الصلاة والسلام قد زكّاه الله ولايَعمَل إلا بأمر الله، أي كل البشر تجري عليهم قاعدة » إن أُعطِيتَها عن مسألة وُكِلْتَ إليها ... « إلا من زكّاه الوحي الذي لا يعتريه الخطأ، أما هؤلاء ( المتكيّسون ) اليوم فهم خاضعون للأوضاع القانونيّة اليوم أو غداً، بل قبل أن يمارِسوا السياسة لا بد أن يحلفوا على احترام الدستور! وقد حصل، بل لا نعرف أن غيره قد حصل. فعَجَباً لمن يُنَحّي الكفر بالكفر!
فتحصّل من هذه العجالة أجوبة خمسة هي:
ـ أن يوسف  لم يسأل الإمارة وإنما عُرضت عليه، كما يدل عليه السياق، وكل ما في قوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} بيان لتَخَصُّصه واختياره .
ـ أنه  أمِن من مضايقات النظام، ومُكِّن للعمل بشريعة الإسلام، وهذان الأمران خيال في واقع أنظمة الأرض اليوم.
ـ أنه  مزكَّى بما أنه رسول، فيُؤمَن عليه ما يُخاف على غيره؛ فعن محمد بن سيرين: أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقدِم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدوّ الله وعدوّ كتابه؟! فقال أبو هريرة: فقلت: لست بعدوّ الله وعدوّ كتابه! ولكني عدوّ من عاداهما، قال: فمن أين هي لك؟ قلت: خيل نُتجت، وغلّة رقيق لي، وأعطية تتابعت، فنظروا، فوجدوه كما قال، فلما كان بعد ذلك، دعاه عمر ليُولِّيه، فأبى! فقال: تكره العمل وقد طلب العمل من كان خيرا منك: يوسف ! فقال: يوسف نبي ابن نبي ابن نبي وأنا أبو هريرة بن أميمة، وأخشى ثلاثا واثنتين، قال: فهلا قلتَ: خمسا؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينزع مالي، ويشتم عرضي "( ).
ـ أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا فيما خالف فيه شرعنا، وقد خالفه.
ـ أن يوسف  تصرّف فيما تصرف فيه بمنصب الرسالة، فلو جاز لأحد أن يقتدي به فيه فوارثه الشرعي وهو المجتهد؛ قال ابن عبد البر: " فإذا كان ذلك، فجائز للعالِم حينئذ الثناء على نفسه، والتنبيه على موضعه، فيكون حينئذ تحدَّث بنعمة ربِّه عنده على وجه الشكر لها "( ). والله أعلم.

    تأصيل
قال الله تعالى: {وإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيِكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83].
هذه الآية في بيانها الواضح أصل في هذا الباب، قال الشيخ عبد الرحمن السّعدي: " هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنّه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمّة والمصالح العامة ما يتعلّق بالأمن وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة، عليهم أن يتثبّتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردّونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم أهل الرّأي والعلم والنّصح والعقل والرّزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدّها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا ما فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرّته تزيد على مصلحته لم يذيعوه، ولهذا قال:{لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السّديدة وعلومهم الرّشيدة. وفي هذا دليل لقاعدة أدبيّة وهي إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يُوَلَّى من هو أهل لذلك ويُجعل من أهله، ولا يُتقدّم بين أيديهم فإنّه أقرب إلى الصّواب وأحرى للسّلامة من الخطأ وفيه النّهي عن العجلة والتّسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر 
بالتّأمّل قبل الكلام، والنظر فيه هل هو مصلحة فيقدم عليه الإنسان أم لا فيحجم عنه"( ).
سبب النزول:
قال عبد الله بن عباس: " مكثتُ سَنَةً وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطّاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبةً له حتى خرج حاجًّا فخرجت معه، فلمّا رجع فكنّا ببعض الطريق عَدَل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت له حتى فرغ، ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين! مَنِ اللّتان تظاهرتا على رسول الله   من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: قلت له: والله! إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك، قال: فلا تفعل، ما ظننتَ أنّ عندي من علم فسلْني عنه، فإن كنت أعلمه أخبرتك، قال: وقال عمر: والله إن كنّا في الجاهليّة ما نعدّ للنّساء أمرا، حتى أنزل الله فيهنّ ما أنزل، وقسم لهنّ ما قسم؛ كنّا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في بني أميّة ابن زيد بالعوالي( ). قال: فبينما أنا في أمر أَئْتَمِرُه، إذ قالت لي امرأتي: لو صنعتَ كذا وكذا، فقلت لها: ومَا لكِ أنت ولما ههنا؟ وما تكلفُكِ في أمر أريده؟ فقالت: عجبا لك يا ابن الخطّاب! ما تريد أن تراجَعَ أنت وإنّ ابنتك لتُراجِعُ رسول الله  حتى يظلّ يومه غضبان. قال عمر: فآخذُ ردائي ثم أخرج مكاني، حتى أدخل على حفصة فقلت لها: يا بنيّة! إنّك لتُراجعين رسول الله  حتى يظلّ يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنّا لنُراجعُه. فقلت: تعلمين أنّي أحذِّرُك عقوبةَ الله وغضبَ رسوله، قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسِر. أفَتَأْمَن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله .فإذا هي قد هلكت. لا تراجعي رسول الله  ولا تسأليه شيئا، وسليني ما بدا لك، يا بنيّة! لا يَغرنَّك هذه التي قد أعجبها حسنها وحبّ رسول الله  إيّاها( ). ثم خرجتُ حتى أدخلَ على أمّ سلمة لقرابتي منها، فكلمتها فقالت لي أمّ سلمة: عجبا لك يا ابن الخطّاب! قد دخلتَ في كل شيء حتى تبتغي أن تدخلَ بين رسول الله  وأزواجه! قال: فأخذَتْني أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها. قال: وكان لي جار من الأنصار، فكنّا نتناوب النّزول إلى رسول الله ، فينزل يوما وأنزل يوما، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك، ونحن حينئذ نتخوّف ملِكا من ملوك غسّان، ذُكر لنا أنّه يريد أن يسير إلينا فقد امتلأت صدورنا منه، فأتى صاحبي الأنصاري عشاء يدقّ الباب، وقال: افتح، افتح، فقلت: جاء الغسّانيّ؟ فقال: أشَدّ من ذلك؛ اعتزل رسول الله  أزواجه، فقلت: رَغِمَ أنفُ حفصة وعائشة، قد كنت أظنّ هذا كائنا، حتى إذا صلّيت الصّبح شددت علي ثيابي، وفي رواية: دخلت المسجد، فإذا الناس يَنْكُتون بالحصى( ) ويقولون طلّق رسول الله  نساءَه
ـ وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب ـ قال عمر: فقلت: لأَعلمنَّ ذلك اليوم، وأتيت الحُجَر فإذا في كل بيت بُكَاء. قال: فدخلت على عائشة فقلت: يا بنت أبي بكر! أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله ؟ فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطّاب؟ عليك بعَيْبَتك( ) قال: فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله ؟ والله لقد علِمتِ أنّ رسول الله  لا يحبّكِ، ولولا أنا لطلّقكِ رسول الله ، فبكت أشدّ البكاء، فقلتُ لها: أين رسول الله ؟ قالت: هو في خزانته في المَشْرُبة( )، فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله  قاعدا على أَسْكُفَّةِ( ) المشربة مُدَلّ رجليه على نقير من خشب ـ وهو جذع يرقى عليه رسول الله  وينحدر ـ فناديت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله ، فنظر رباحٌ إلى الغرفة، ثم نظر إليّ فلم يقل شيئا، ثم قلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله ، فنظر رباحٌ إلى الغرفة ثم نظر إليّ فلم يقل شيئا، ثم رفعت صوتي فقلتُ: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله ، فإنّي أظنّ أنّ رسول الله  ظنّ أنّي جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله  بضرب عنقها لأضربنَّ عُنُقَها، ورفعت صوتي، فأومأ إليّ أن ارقَه، فدخلت فسلّمت على رسول الله ، فإذا هو متّكئ على رَملِ حصير( ) قد أثّر في جنبه، قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله! ما يشقّ عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلّقتهنّ فإنّ الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلّما تكلمتُ ـ وأحمد الله ـ بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدّق قولي الذي أقول، ونزلت هذه الآية؛ آية التّخيير {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنكُنَّ}، {وَإِن تَظَاهَرَا َعَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}، وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبيّ ، فقلت: أطلّقت ـ يا رسول الله! ـ نساءَك؟ فرفع رأسه إليّ وقال:» لا «، فقلتُ: الله أكبر! لو رأيتنا يا رسول الله! وكنّا معشر قريش، قوماً نغلِب النساء، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلِبُهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، فتغضّبتُ على امرأتي يوماً، فإذا هي تراجعني، فأنكرتُ أن تراجعني، فقالت: ما تنكرُ أن أراجعك؟ فوالله! إنّ أزواج النبي   ليراجعنَه وتهجره إحداهنّ اليوم إلى اللّيلة، فقلتُ: قد خاب من فعل ذلك منهنّ وخسر، أفتأمن إحداهنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله  فإذا هي قد هلكت؟ فتبسّم رسول الله ، فقلتُ: يا رسول الله، قد دخلتُ على حفصة فقلتُ: لا يغرنّكِ أن كانت جارتكِ هي أوسم منكِ وأحبّ إلى رسول الله  منكِ، فتبسّم أخرى، فقلتُ: أستأنس يا رسول الله؟ قال:» نعم «، فجلستُ، فرفعتُ رأسي في البيت فوالله! ما رأيتُ فيه شيئا يردّ البصر إلا أُهُبا ثلاثة، فنظرتُ ببصري في خزانة رسول الله  فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصّاع ومثلها قَرَظًا( ) في ناحية الغرفة، وإذا أُفِيقٌ( )معلّقٌ، قال: فابتدرت عيناي قال:» ما يبكيك يا ابن الخطّاب؟ «، قلتُ: يا نبيّ الله، ومالي لا أبكي؟ وهذا الحصير قد أثّر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى وذاك قيصر وكسرى في الثّمار والأنهار، وأنت رسول الله  وصفوته وهذه خزانتك، فقلت: ادعُ الله يا رسول الله! أن يوسّع على أمّتك فقد وسّع على فارس والرّوم، وهم لا يعبدون الله! فاستوى جالسا ثم قال:» أفي شكٍّ أنت يا ابن الخطّاب؟ أولئك قوم عجِّلت لهم طيّباتهم في الحياة الدنيا، يا ابن الخطّاب، ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ « قلت: بلى، فقلت: استغفر لي، يا رسول الله! قلتُ: يا رسول الله، إنّي دخلتُ المسجد والمسلمون ينكُتون بالحصى، يقولون: طلّق رسول الله  نساءَه، أفأنزلُ فأخبرهم أنك لم تطلّقهنّ؟ قال: (( نعم، إن شِئت )) فلم أزل أُحدِّثه حتى تَحَسَّر الغضب( ) عن وجهه، وحتى كشَر فضحك ـ وكان من أحسن النّاس ثغرا ـ ثم نزل نبيّ الله  ونزلتُ، فنزلت أتشبّث بالجذع ونزل رسول الله  كأنّما يمشي على الأرض ما يمسّه بيده، فقلتُ: يا رسول الله! إنما كنتَ في الغرفة تسعة وعشرين، قال:» إنّ الشهر يكون تسعا وعشرين « فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي:لم يطلّق رسول الله  نساءَه، ونزلت هذه الآية: {وإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنبِطونَهُ مِنْهُم} فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله آية التّخيير. رواه البخاري ومسلم.



 
بعض فوائدها
ـ أوَّلها أن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة كان قد بلغهم أن مَلِك غسّان يدبِّر لهم شرا، فلم يثنهم هذا عن طلب العلم بزعم تتبّع الأخبار! ومع الأسف الشديد إنك لتدخل المكتبات العامة التي يرتادها طلبة العلم الشرعي فتجد أكثرهم في جانب المجلات و( الدوريات ) يستطلعون الواقع! مع أن المكتبات زاخرة بكتب التوحيد والتفسير والسنة، ولا تكاد جموعهم تكثر ههنا إلا لبحث مدفوع إليه دفعاً لنيل شهادة أو لدراهم معدودة! اللهم إلا القليل الذين حُبِّبَ إليهم الدين حقيقة. ويالله العجب! فكم هم الذين ليست لهم أوراد يومية من الأذكار النبوية، مع أن وِرْدهم مع الإذاعات والجرائد آنية!! والله المستعان.    
ـ و منها التحذير من إشاعة الأخبار التي وصفها بالخوف والأمن، والسياسة ـ من هذا الباب ـ إمّا خبر سار آمن، وإمّا خبر مخوف محزن، وتجد اليوم عمدة السياسيين الجلَّى على تتبّع الأخبار، وتراهم يُفنون أعمارهم في دراسة طرق إذاعتها بدقّة، حتى يتمكّنوا من تخويف المؤمنين وتأمين أعداء الدين، ومن تأمّل أحوال الإسلاميّين ـ الذين يتوسّلون إلى توعية أتباعهم من الخواص والعوام بتحليل الأخبار السياسية والتّظاهر بسعة الاطّلاع فيها ـ من أشدّ الناس تأثّرا بإرجافها، ممّا يبعث في نفوسهم فزعا شديدا من أعدائهم، حتى إنهم ليحسبون كل صيحة عليهم، وأنّ كل هزيمة فمن مكرهم بهم، مع هذا فهم يَظهرون للسّذج شجعانا إذ ظنّوهم يصدعون بالحق، ومن أمارات هذا التّأثّر أنك لو قلت لهم دعوا العوام لا تشغلوهم بالقضايا السياسية، ولا تخدموا أعداءكم بإذاعة أخبارهم، لأنّها توهن المسلمين في استضعافهم، وليسعكم قول الله تعالى حينئذ {وإِن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} قالوا في جرأة لا تحترم النّصوص: " وهل نبقى مكتوفي الأيدي مع أعداء ماكرين؟ "، ولم يتدبّروا أنّ الله المطّلع على كيد الأعداء أمر بالصبر بعد أن بيّن مكرهم الكبار كما قال في هذه الآية: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}، هذا مع أنّ كفّ الأيدي في زمن ما ممّا أمر الله به حين قال: {أَلَمْ تَرَ إِلى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ  القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً..}، وهو شريعة محكمة ما وُجد زمنها، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعَف أو في وقت هو فيه مستضعَف، فليعمل بآية الصبر والصّفح والعفو عمّن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوّة فإنما يعملون بآية قتال أئمّة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطُوا الجزية عن يد وهم صاغرون "( ).
بهذا يتبيّن لنا سرّ منع الله تعالى المؤمنين أن يشغلوا أنفسهم بالعدّة الماديّة في الوقت الذي هم في حاجة إلى العدّة الإيمانيّة، والجمع بينهما ـ كما يتخيّله المحاولون الاعتدال والتّوسّط ـ في وقت افتقارهما وافتقار السلطان خطأ واضح وخلاف السّيرة النبوية؛ لأنّه لا بدّ أن تطغى إحداهما على الأخرى، ولمّا كان الإنسان أكثر إيمانا بعالم الشّهادة من عالم الغيب، فإنّه لا بدّ أن يميل إلى الاستعداد المادّي الذي يمثّل عالم الشّهادة حتى يفقد أعظم روافد النصر وهو التوكل على الله، إغراقا في التوكل على الأسباب، مع أنّ الله يقول: {إن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُم وَإِن يَخْذ لْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِن بَعْدِهِ وعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ}.
وتأمّل كيف جعل الرّسلُ عليهم الصلاة والسلام الصبرَ على الأذى، من التوكل قال الله تعالى حكاية عنهم {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا ءَاذَيْتُمُونَا وَعلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُون}.
إذن فالبدء بالاستعداد الإيماني ثم إتباعه ـ بعده وليس معه ـ بالاستعداد المادّي كما قال الله تعالى للمؤمنين في المدينة الذين حقّقوا أصل الإيمان في مكّة: {وأَعِدُّوا لَهُم ما اسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وعَدُوَّكُمْ وءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ}.
خلاصة هذه الفائدة: التحذير من إشاعة الأخبار؛ لأنّها تحمل معها أمنها أو خوفها، والنّفوس ضعيفة، هذا مع ما فيها من شهوة التّطلّع إلى الواقع، خاصة واقع الكراسي؛ فإنّ الأفئدة تهوي إليها معرضة عن الوحي، وإليك هذه العبرة:
عن سَعد في قول الله : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ} الآية، قال: أنزل الله القرآن على رسوله  فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول الله لو قَصَصْتَ علينا؟ فأنزل الله تعالى: {الـــر . تِلْكَ ءايَاتُ الكِتَابِ المُبِين} إلى قوله {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ} الآية، فتلاها رسول الله  زمانا( )، فقالوا: يا رسول الله! لو حَدَّثْتَنا؟ فأنزل الله تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشابِهاً} الآية، قال: كل ذلك يُؤثَرون بالقرآن ( وفي موارد الظّمآن: كل ذلك يؤمرون بالقرآن ) قال خلاّد: وزاد فيه آخر، قال: قالوا: يا رسول الله! لو ذَكَّرْتنَا؟ فأنزل الله تعالى {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ} الآية( ).
فتأمّل هذه التربية الربانية والرّعاية النبوية للصّحابة وقد عرفت ثمارها فيهم، وتأمّل تربية من يستجيب لرغبة العوام فيفسدهم بالأخبار السياسية ويهيّج الشباب بلا فائدة، ثم هو يتململ قائلا: لماذا يتخلّفون عن دروس العلم الصحيح التي فيها تلاوة الوحيين، بل وتعلّم العقيدة الصحيحة التي هي مفتاح الجنة، ويزدحمون على الدّروس السياسية التي تروّعهم، بل تتخبّطهم تخبّط الجِنّة.
وإن تعجب فعجب قول ناصر العمر في شريط ( السعادة بين الوهم والحقيقة ): " هذه قصة عجيبة تابعتُ فصولها على مدى خمسة عشر عاما ... وقد تابعت شخصيا هذه القصة منذ أكثر من خمسة عشر عاما، وهي قصة
( كرستينا أوناسيس )! "( )، فسئل: " ما هو قولك في تتبع قصص الكافرين في هذا الزمان الذي حلت عليه المحن والفتن؟ ".
فأجاب: " إذا كان فيها عبرة فلا بأس! فهذا القرآن مليء بقصص الكافرين ... فإذا كان تتبعها من أجل العبرة ومن أجل العظة فهي من الأمثال التي تضرَب في ذلك، فإنه على خير! لا من أجل الاقتداء وأجل العظمة، لا ولكن من أجل أن نتجنب سبيلهم {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ المُجْرِمِينَ}، من أجل استبانة سبيل المجرمين فإنهم .. يحسن هذا الأمر، أما إذا خشي على نفسه فلا! ".
قلت: هل تعني أن النبي  كان يفعل ذلك؟ مع أنك لو تأملت القصص النبوي لألفيته مما لا تطوله يد الواقع؛ لأنَّ جلّه عن بني إسرائيل والأمم السابقة مما لا يعرف إلا بالوحي، ولذلك كثيرا ما كان يقول عليه الصلاة والسلام:
" لقد كان فيمن كان قبلكم كذا وكذا ".
ثم هل استبانة سبيل المجرمين تكون بتضييع أعمار المسلمين؟! وهل يَفِي بهذا عمر نوح عليه السلام؟ وهل استنتاج أن السعادة ليست في جمع المال يستلزم منك توريط الشباب في متابعة القصص الغرامية؟! إن الذي يتتبع قصة هذه اليونانية ويقرأ لها أياما متتابعة لا بد أن يعشقها فكيف وهي ربع عمر الإنسان؟! لقد كان يكفيك قول الله {ما أَغْنَى عَنِّي مَالِيَه} للحذر من فتنة المال!
أما تذكر نهي النبي  لعمر عن تتبع ما في صحيفة التوراة؟ مع أن هذا أولى وأهم مما ذكرتَ، بل إنَّ الله نهى نبيَّه  عن متابعة خبر أهل الكهف إلا ظاهرا دون الغوص في تفاصيلها مع أنهم فتية مؤمنون فقال: {فَلاَ تمُارِ فيهِمْ إِلاَّ مِرَاءاً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فيهِم مِنْهُمْ أَحَداً}.
إن زعم ( استبانة سبيل المجرمين ) ـ على فهمكم ـ هو الذي أمْلى على جبهة الإنقاذ عندنا اقتناء الهوائيات المقَعَّرة ( الدُّش )، بل لم يُعرَف زمن انتشرت فيه هذه الأجهزة انتشاراً واسعاً إلا أيامها، لحماية دولتهم الوهمية زعموا! وقد كانوا يطوفون على البيوت لمَدِّها بأسلاكها، فلما ذهبت ريحهم ذهبوا وتركوا الأمة تتقاسم هذا الميراث الخبيث، قال الله تعالى:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ ِمن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيداً ويُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ}.
ـ ومنها أنّ في قوله تعالى: {وإذَا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ} دليلاً على أنّ العامي قد يدرك من الواقع ما يخفى على العالم، ولا يعدّ عيباً في العالم؛ لأنّ إحصاء واقع الناس ليس إلا إلى ربّ الناس، لكن العيب فيما إذا أفتى المجتهد في نازلة ولمّا يسأل أهل الاختصاص عن ملابساتها وهو يقدر على ذلك( ). فقد كان يخفى على النبي  القليل أو الكثير من واقع الناس، فيأتيه العاميّ بالخبر اليقين فيفتي  على غرار ما سمع، وخذ مثالا على ذلك قصّة الثلاثة الذين عزفوا عن الدنيا ... وهل نسيت أنّ الهدهد قال لسليمان : {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}، فهذا طائر عَلِم من الواقع مالم يعلمه رسول أوتي من الملك ما لم يؤته أحد من قبله ولا من بعده، بل كان يعلم من واقع الطير والنمل ومنطقها ما هو معلوم، فما لعصافير الأحزاب الإسلامية تتطاول على العلماء، أن رأوا أنفسهم تُحَلِّق في أجواء مكذوبة حسبوها يقين الأنباء؟!! قال العلامة عبد العزيز بن باز: ".. ومما يَكثر فيه الكلام من مظاهر الجهل بالواقع اتّهام بعض أهل العلم والفضل بالجهل بأحوال المنافقين والعلمانيين، وهذا غير قادح؛ إذ يوجد في الأمة منافق أو زنديق لا يَعلمه العلماء ولا يَعرفون حاله، ولا يُعَدُّ هذا الخفاء عيباً في حقهم، قال الإمام الذهبي في ترجمة الحلاج: كان جماعة في أيام النبي  منتسبون إلى صحبته وإلى ملّته وهم في الباطن مردة المنافقين، قد لا يَعرفهم نبي الله  ولا يَعلَم بهم قال الله تعالى:{ومِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَرَّتَيْنِ}، فإذا جاز على سيِّد البشر أن لا يَعلَم ببعض المنافقين ـ وهم معه في المدينة سنوات ـ فبالأولى أن يَخفَى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده  على أمته ... "( ).
من أجل هذا لم أذكر هنا هذا العلم أعني المسمّى ( فقه الواقع ) في صفات المجتهد. ومن مظاهر الغلوّ فيه أنّني سمعت مرارا من يتناقل قصّة عن الشيخ محمد ابن عثيمين ـ حفظه الله ـ يريدون إدانته بجهله بالواقع زعموا( )، فيقولون:
" لقد نُبِّه الشيخ على وجود مجلاّت خليعة بالأسواق، وفي كل مرّة ينكر ذلك؛ لأنّه لم يرها، فبينما هو في درسه إذ دخل عليه من رمى بالمجلّة في حجره، فقام الشيخ بعدها فكتب في التحذير منها ومن الأفلام! ".
أقول: إن صحّ هذا فإنّه لا يقدح في الشيخ ولا في علمه، كما لم يقدح في النبي  عدم علمه بمثل ما ذكرته آنفا، ولا في عمر ولا في ابن عباس عدم علمهما بواقع قصّة الطلاق، بل هذا يزيد الشيخ ابن عثيمين منقبة على منقبة؛ لأنّه يدلّ على انكبابه على العلم تعلّما وتعليما وشغل وقته به، حتى لم يجد فراغا للتّطلّع على ما في الأسواق، وأنّ قراءة المجلاّت ليست عنده ذات أشواق، وكأنّ لسان حاله ينشد:
مُنـايَ من الـدنيـا علـومٌ أبثُّـهـا      وأنشرُهـا في كـل بـادٍ وحـاضـرِ
دعـاءٌ إلى القـرآن والسّنـة الـتي      تناسَى رجالٌ ذِكْرَها في المحـاضـرِ
وقـد أبـدلـوها بــالجرائـد تـارة      وتلفـازهـم رأس الشرور المنـاكـرِ
ومِذْيـاعهم أيضا فلا تَنْسَ شـرّه      فكم ضاع من وقت بها بالخسائرِ( )
ولا أدري لماذا يوردون هذه القصة في كل مرّة إلا أن يكون في الأمر ما يأتي:
ـ ومنها أنّ العيب الأعظم أن يتصدّر العامي أو طالب العلم مجالس فقه الواقع بحجّة تقصير العلماء فيه؛ وهذا خطأ لأنّ الله حين نعى عليهم إذاعة الأخبار، لم يأمرهم بتحليلها ولكن بردّها إلى أهلها كما قال سبحانه: {ولَوْ رَدُّوهُ إِلى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
 وفي مخالفة هذه الآية خيانة للأمانة التي أمر الله بأدائها إلى أهلها {ِإنّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِه}، وفي مخالفتها خراب الدنيا، فعن أبي هريرة قال: بينما النبي  في مجلس يحدّث القوم جاءه أعرابيّ فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله  يحدّث، فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: » أين ـ أُراه ـ السائل عن الساعة؟ «، قال: ها أنا يا رسول الله! قال: » فإذا ضُيِّعَت الأمانة فانتظر الساعة «، قال: كيف إضاعتها؟ قال: » إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة « رواه البخاري..
فعجباً لقوم وسّدوا هذه الأمور إلى طلبة العلم! بانين على أوهام الشباب علاليَ وقصورا، فتارة يريدون مجلساً للشّورى بالسعودية للتسلل فيه، وتارة يريدون لجنة لحقوق الإنسان الشرعيّة، ونهايتها التّملّص بل التّخلّص من جمود هيئة كبار العلماء زعموا! وكان عاقبة ذلك خسرا( ).
وهاك ضياء من هدي السّلف :
ـ عن يحيى بن يَعْمَر قال: " كان أوّل من قال بالقدر بالبصرة مَعْبَد الجُهني، فانطلقتُ أنا وحُميد بن عبد الرّحمن الحِمْيَري حاجّين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله  فسألناه عمّا يقول هؤلاء في القدر، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطّاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أنّ صاحبي سيكِل الكلام إليّ فقلتُ: أبا عبد الرّحمن! إنّه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقَفَّرون العلم، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأنّ الأمر أُنُف.قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أنّي بريء منهم، وأنهم برآء منّي.والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أنّ لأحدهم مثل أُحد ذهبا فأنفقه، ما قُبِل منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدّثني أبي عمر بن الخطّاب قال: بينما نحن عند رسول الله  ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثّياب، شديد سواد الشّعر، لا يُرَى عليه أثر السّفر ولا يعرفه منّا أحد، حتى جلس إلى النبي ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. فقال
رسول الله : » الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله  وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلا «، قال: صدقتَ، فعجبنا له يسأله ويصدّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: » أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه «، قال: صدقتَ، قال: فأخبرني عن الإحسان قال: » أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك «، قال: فأخبرني عن الساعة قال:» ما المسئول عنها بأعلم من السائل « قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: » أن تلد الأَمَةُ رَبَّتَها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رِعاء الشاء يتطاولون في البنيان «، قال: ثم انطلق، فلبث مليّا ثم قال لي:» يا عمر أتدري من السائل؟ « قلت: الله ورسوله أعلم، قال:» فإنّه جبريل أتاكم يعلّمكم دينكم « رواه مسلم.
والشاهد منه أنهم حين واجههم واقع لا يعرفونه من قبل وهو ظهور القدر، عرفوا أنّ أصحاب رسول الله  هم مرجعهم في علاجه لأنهم أعلم الخلق يومئذ، بل جاء في رواية أنهم لَقوا بعض الصحابة فلم يسألوهم وإنما قصدوا أعلمهم يومئذ؛ فقد قال الراوي: " فلما أتينا المدينة لقينا
أناساً من الأنصار فلم نسألهم؛ قلنا: حتى نلقَى ابن عمر أو أبا سعيد الخدري ... "( )، ولذلك وجدتُ العلامة محمد ابن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ بوَّب لهذا الحديث في » كتاب التوحيد « بقوله: " باب ما جاء في القدَر " وذكر فيه مسائل منها قوله: " الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء "( ).
قلت: ومِن قَبله بوّب النسائي له في (( السنن الكبرى )) (3/446) بقوله:
" توقير العلماء " لما فيه من توقير جبريل للنبي ، فاجعل من السلف قدوتَك تكن سلفيّا وإلا ...
ـ وروى الدارميّ قال: أخبرنا الحكم بن المبارك، أنا عمرو بن يحي( ) قال: سمعت أبي يحدّث عن أبيه قال: " كنّا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخَرَج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلمّا خرج قمنا إليه جميعا، فقال أبو موسى الأشعريّ: يا أبا عبد الرحمن! إنّي رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، وفي كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبّروا مائة، فيكبّرون مائة، فيقول: هلّلوا مائة، فيهلّلون مائة، ويقول: سبِّحوا مائة، فيسبّحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاَ انتظار رأيك ـ أو انتظار أمرك ـ قال: أفلا أمرتهم أن يَعُدّوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم. ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نَعُدُّ به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدّوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء؛ وَيْحَكم يا أمّة محمد! ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيّكم  متوافرون، وهذه ثيابه لم تَبْلَ، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنّكم لعلى ملّة هي أهدى من ملّة محمد؟ أو مفتتحو باب ضلالة؟ قالوا: والله، يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه. إنّ رسول الله  حدثنا أن قوما يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايْمُ الله، ما أدري لعلّ أكثرهم منكم؛ ثم تولّى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحِلَق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج "( ).
فخذوا العبرة أي إخواني! من صنيع أبي موسى ، فهو لا يقضي بشيء فيما هو نازلة في زمانه حتى يعرضه على الفقيه، مع أنّه من الفقه بمكان مكين! أليس هذا المنهج عاصمة العواصم، وفاضحة كل متعالم؟!
يا ليت شعري ما ضرّ شبابنا ودعاتنا لو أخذوا بهذا الأدب فيما يَجِدُّ من قضايا العصر وقد كثرت، وبه يقلّ نصيب الشيطان من صف المسلمين  {إنّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِيناً}. وتأمّل أيضاً فراسة مجتهدهم ابن مسعود  حين بان له غيب مُرٌّ من رؤوس تلك الحِلق، فقال:
" وأيم الله! ما أدري لعلّ أكثرهم منكم "؛ أي: عرف أنهم للخوارج أنساب، وقد كان الأمر كما أخبر، {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِين}، ولذلك قلتُ:
ـ ومن فوائد قصة الطلاق فراسة عمر ، حيث استنبط من هذه النازلة التي يجهلها ما نزل القرآن بتصديقه، ولذلك قال: " فكنتُ أنا استنبطت ذلك الأمر، وأنزل الله آية التخيير"،وهذا يذكّرني بفراسة أحد كبار محدّثي وفقهاء هذا العصر، وهو الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ حفظه الله ومتّع المسلمين بعلمه ـ حين سئل عن جماعة ظهرت في هذا العصر، وهي جماعة الدعوة والتبليغ، فكان من جوابه أن قال: " ... هذه صوفية عصرية! "، قالها يوم قالها متفرِّساً، على حسب ما رأى وبلغه عن الجماعة، ثم أعادها بعد سنوات، وبالضبط في هذه المدّة القريبة مع شرح لهذه الكلمة، وأنّه يعني بيعة هذه الجماعة لأربع طرق من فرق الصوفية ـ لعلها أضلها، وهي: النقشبندية، والجشتية، والقادرية، والسهروردية. والشيخ في المرّة الأولى لم يكن على علم بهذه البيعة، لكن كيف وقعت فتواه مطابقة لواقع القوم؟ الجواب: قال الله تعالى: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}.
هذا قاله الشيخ من زمان بعيد ثم يشاء الله أن يجتبي عبداً من عباده قد خَبَر القوم مدّة طويلة، فأعلنها صريحة( ).
ـ ومنها أنّ في قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وإِلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} دليلاً على أنّ أخبار الواقع ترجع إلى أهل العلم والسلطان؛ فهم أولو الأمر، ثم من هؤلاء جماعة تتولى استنباط الأحكام الشرعية لهذا الواقع، وليسوا كلهم؛ لأنّ الله قال: {مِنْهُمْ}، قال الطبري ـ رحمه الله ـ: " يعني جلّ ثناؤه {ولَوْ رَدُّوهُ} الأمر الذي نالهم من عدوّهم والمسلمين، إلى رسول الله  وإلى أولي الأمر، يعني: وإلى أمرائهم، وسكتوا فلم يذيعوا ما جاءهم من الخبر، حتى يكون رسول الله  أو ذوو أمرهم هم الذين يتولّون الخبر عن ذلك بعد أن تثبت عندهم صحّته أوبطلانه، فيصححوه إن كان صحيحاً أو يبطلوه إن كان باطلاً ..."( ).
قلتُ: ولذا فرمي بعض أهل العلم بالانزواء والانطواء على أنفسهم ظلم؛ لأنّ الله تعالى لم يفرض هذا العلم إلا على الكفاية بصريح هذه الآية. ولو كانوا مصيبين في انتقادهم لكانوا مخطئين؛ لأنهم لما تفقّهوا في الواقع ـ وقد رأوا أنفسهم أهلاً لذلك! ـ فقد كَفَوْا غيرهم هذه المؤنة، فعلامَ العتاب علامَ؟!
قال العلاّمة ربيع بن هادي المدخلي ـ حفظه الله ـ: " فإذا كان بعض الأحزاب يدّعي أنّه يعرف فقه الواقع وما يدبَّر للمسلمين، فلماذا تلوم السّلفيين وتصفهم بالغفلة عن واقع الأمّة، وقد سقط عنهم هذا الواجب بقيام غيرهم به؟! ".
قلت: فافهم هذا ـ رحمك الله ـ وأنصف! وقال: " ولا يجوز أن يُنال من العلماء والدّعاة الذين تشغلهم واجباتُهم العلمية والدّعوية عن متابعة الصّحف والمجلاّت وتقارير المخابرات الأمريكية والإسرائيلية وغيرها؛ مكتفين بمتابعة غيرهم لهذه الأمور، وهذا ما يقتضيه العقل والشرع لا العواطف العمياء، فقد فرغ العلماء من بيان واجبات الأعيان وواجبات الكفاية "( ).
وهذا يذكِّرني أيضاً بذلك الحوار العلمي الماتع بين الشيخ الألباني والشّابّ ناصر العمر، حيث كان هذا الأخير يقرأ فصولاً من كتابه » فقه الواقع «، فكان كلما أدخل طلبة العلم في هذا الفقه، يقول له الشيخ: اشطُب على كلمة ( طلبة العلم ) وضع بدلَها ( بعض أهل العلم )، فتأمّل هذا وعضّ عليه بالنواجذ!
ـ ومنها أن مخالفة هذا المنهج يفتح شرّاً مستطيراً على الأمّة لقول الله تعالى في ختام آية  الباب: {ولَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُم ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً}، وباتّباع الشيطان تَحصل الفرقة؛ كما قال الله تعالى: {وقُل لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنّ الشيْطانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إنّ الشيْطَانَ كانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً}. وسبحان من هذا وحيه! فمنذ أن دخل طلبة العلم العمل السياسي مخالفين هدي الأنبياء وقعت فُرقة عظيمة؛ إذ لم أعرف بالجزائر زمناً تفرقنا فيه شذر مذر، وتمزّقنا فيه كل ممزّق إلا يوم نُصب لنا الحَبُّ على الفخُّ السياسي، فمدَّ إليه بعض طلبة العلم ـ إن حسنّا بهم الظّنّ ـ أيديهم! لقد كان الواحد يستأنس بأخيه إذا عرفه بزيّه الإسلامي، ويسلّم عليه مهما بعُدَ عنه، وأما اليوم فودّ لو أنّه لم يره؛ لأنّه لا يدري أيردّ عليه السلام أم لا؟! ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
ومن سنوات وأنا أتردد على البلاد السّعودية ـ والحمد لله ـ، فكنت أرى من طلبة العلم من يفتي في السياسة ويدرِّسها درساً عاما من غير تمييز، هل هو من أهلها؟ وهل الحضور مطالبون بها؟ فعرفت أنّه نذير شرّ، خاصة في تلك البلاد التي أغناها الله بعلماء كبار، هم أحوج ما يكونون إلى من يعينهم في الدعوة، لا أن تُسرق منهم الفتوى السّياسية بزعم أنهم يعينونهم فيها أو يكمِّلونهم، فكم سمعنا لهؤلاء الشباب من فتاوى سياسية مستقلة ومخالفة لما عليه هؤلاء الشيوخ، وما قضية الخليج عنكم ببعيد، فقد كانت البئر بغطائها، فلمّا كانت هذه القضية فاض وفاح ما فيها( ).
قال العلاّمة ربيع بن هادي المدخلي: " وليس لأحد أن يلقي بثقل هذه الواجبات على طلاّب العلم؛ فإن هذا من إسناد الأمر إلى غير أهله، وهو من أشراط الساعة، وهو ممّا يؤدّي إلى الفساد والإفساد والفتن، وليس ممّا يفيد الأمّة أن يصير الشباب بأجمعهم من أساطين السياسة ولا من شبكات التّجسس! فإن هذا ممّا يؤدي إلى الجهل بالعلوم الشرعية، وإلى تقسيم الأمّة إلى أحزاب سياسية متناحرة، كل حزب يريد أن ينفرد بالحكم، وكل فرد يريد أن يَعْتَليَ عرش الإمامة والرئاسة "( ).
وقال عن جناية هذا الفقه ـ إن صحّت تسميته بذلك ـ على العلم:  " في المتغالين في السياسة تهاويل وتطاول لا يطاق على أهل الحديث والتوحيد، وغمط شديد، وتجهيل وتحقير، ورمي لهم بالعظائم، فمن غلوّهم ومبالغاتهم التي لا عهد لأعلم علماء الإسلام بها تهويلهم بعلم الواقع، وادعاؤهم وادعاء الصبيان منهم أنهم علماء الواقع، وتجنيدهم الشباب لقراءة الصّحف والمجلاّت ومتابعة الإذاعة، وصرفهم بذلك عن حفظ الكتاب والسّنة، والاشتغال بفقههما، وإشغالهم عن العلوم الشرعيّة "( ).
ثم كل من تتبّع فتنة الحرم المكّيّ المشهورة عند رأس هذا القرن، وما وقع في سوريا ومصر، يرى جماعات تخرب بيوتها بأيديها، وليس معها أهل العلم الذين وصفنا لك. واليوم في الجزائر أيضا، وقد اعترف علي ابن حاج لجماعته بعدم وجود كفاية من أهل العلم في صفوفهم، فقال في رسالته إليهم المؤرخة في ( 15/10/1994م ) في ق (3): " وأنا أعلم أنه لو وُجد معكم عدد كافٍ من الدعاة وأهل العلم لما وقعت بعض هذه الأخطاء الشرعية الفادحة!!! ".

هذه صورة الورقة الأولى من رسالة علي بن حاج إلى الجماعات المسلّحة التي فيها ما سبق ذكره








هذه صورة آخرها مع توقيعه

هذا وكل هؤلاء ـ وخاصة منهم الإخوان المسلمون ـ يرون أنفسهم عالمين بالواقع ويضحكون على العلماء السّلفيين، مع أنّ التّاريخ الحديث برهن بلا خفاء على أنّه لا يُعْرَف في المسلمين أغبى وأجهل بالواقع منهم؛ وإليك بعض الأمثلة التي تبيّن سرعة تغرير أعدائهم بهم:
ـ مَن هم الذين استغلهم الضباط الأحرار بمصر ليصلوا بهم إلى مآربهم ثم يقضوا عليهم؟ آلإخوان أم السلفيون؟
ـ من هم الذين منّاهم بعض الحكام بالعمل بالشريعة، وأظهروا لهم بعض الشعارات الدينية حتى أعطوهم أفئدتهم؟ آلمتبجّحون بفقه الواقع أم السلفيون؟
ـ من هم الذين استهزأت بهم أمريكا في قضية أفغانستان؟
ـ من هم الذين لُعِبَ بهم فيها حتى حكَمهم شرّ المتصوّفة؟
ـ من هم الذين أفتوا بدخول البرلمانات، ووقعوا في شِراك الانتخابات، محسِّنين ظنونهم بالديمقراطيات، مصدِّقيها حين وعدتهم بالحكم إن كانت لهم الأصوات؟ وكانت نهايتها زيارة السّجون، وعدّ المقاعد في الأموات؟!
ـ من هم الذين  خدعهم الخميني بدولته الرّافضية يوم سقط الشّاه؟ آلسّلفيون أم الحركيون عن بكرة أبيهم؟!
ـ من هم الذين حرّموا الاستعانة بأمريكا وحلفائها في قضية الخليج، ثم استعانوا وسكتوا عمن استعان بالمليشيات الشيوعية في أفغانستان، وكذا استعانة الأكراد في شمال العراق بالغرب، وكذا استعانة مسلمي البوسنة والهرسك ببعض النصارى، وكذا شدّ حزب جبهة الإنقاذ الجزائرية رحاله إلى الفاتيكان بإيطاليا، وقد استنجدوا به مرّتين، واجتمعوا هناك تحت إشراف النصارى! يريدون حَلَّ مشكلتهم عند من كانوا ولا يَزالون سبب مشكلتهم!! {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعيداً} ويا له مِن ذُلّ! ... مما يدلّ على أن هؤلاء المحرِّمين المحلّلين يستغلّون الدين ولا يتبعون الدين!
ـ من هم الذين غرّهم زعيم البعث العراقي أيام حربه مع الرّفض الإيراني حتى شبّهوه بفاتح القادسية؟! اسألوهم عن ذلك، ومنهم عبد الرحمن
عبد الخالق! ولماذا غيَّر رأيه فيه بعد حرب الخليج!!!  
ـ مَن مِن الحركيين لم يكن مع العراق بل مع صدام المستولي على الكويت؟ حتى زارنا ـ شانيء السّلفية ـ إسماعيل الشّطّي متذمّراً من إخوانه ( الإخوان ) الخاذلين الكويت وهو كويتي!!
وتالله إنّها لإحدى الكبر! نذيرا لمن أراد أن يتبيّن مبلغ وعي متتبعي سياسات البشر! يا لها من مهزلة! صلّى صدام للتلفزيون ركعتين فإذا بالأمم والشّعوب الإسلامية بدعاتها ـ حاش السلفيين ـ وراءه بالنفس والنفيس!
ومع هذا كله تسمُّون هؤلاء المراهقين السياسيين اليوم: ( شباب
الصحوة! ) وتشتغلون بالسياسة وتتظاهرون بالكياسة، وأنتم أول من يضحك عليه الصياد، وبيننا وبينكم يوم المعاد.
لذلك فلا غضاضة في أن أقول: لو خرج رجل من اليهود في ديار المسلمين، وتظاهر بزيّ المسلمين، بل ولو تظاهر بزيّ الكفار لكنه يحفظ آية واحدة من القرآن، وهي قوله تعالى: {ومَن لَمْ يَحْكُم بِما أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ}، وأحسَنَ ترديدها في المجالس العامة بلهجة عاطفية، وبهرج بأخبار الكفار، واللّعب على العواطف بالتظاهر ببغض أمريكا، ثم نادى: يا فلسطين! لما تخلف عنه أحد من الحركات الإسلامية، ولقادهم جميعاً لا إلى فلسطين، ولكن إلى مجزرة تل أبيب!! وإلى الله المشتكى.
فكيف لو خرج عليهم الدّجّال يحيي الموتى، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تخرج كنوزها فتخرج؟! وقد قال ابن سيرين: " لو خرج الدَّجَّال لرأيت أنه سيَتبَعه أهلُ الأهواء "( ).
كتبتُ هذا ثم تذكرتُ أن أخصّ أهل الأهواء الذين يَخرج في صفوفهم الدجّال هم  الخوارج، لتقارُبِ ما بينه وبينهم من فتنة وفكر أهوج، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله  قال: » ينشأُ نَشْءٌ يقرؤون القرآن لا يُجاوِز تراقيهم، كلما خرج قرنٌ قُطِع « قال ابن عمر: سمعتُ رسول الله  يقول: » كلما خرج قرنٌ قُطع « أكثر من عشرين مرة: (( حتى يَخرج في عِراضهم الدَّجَّال ))( ).
كتبتُ هذا ثم فوجئتُ بدعوة رجل يقال له محمد المسعري، لم تسَعْه أرض الله حتى اختار لنفسه ديار الكفر ببريطانيا، يكتب عن الإسلام مع أنه لا هو في العير ولا في النفير، تبعته جماهير غفيرة وهي لا تعرف عنه إلا كلامه السياسي في صورة استرجاع المظالم!!

هذه صورة عن بعض ما ينشره محمد المسعري الناطق الرسمي للجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية



قال العلامة عبد العزيز بن باز في صاحب هذا المنشور: " .. مِن الحاقدين الجاهلين الذين باعوا دينهم وباعوا أمانتهم على الشيطان من جنس محمد المسعري "( ).
قلتُ: ولا بدّ من تذكّر أنه لا يكاد أحد يجهل عفّة لسان الشيخ ابن باز، فإذا سلَّط لسانه على أحد فثَمَّ أمر عظيم! وصورة هذا المنشور تدلّك عليه، بل وتُعَرِّفك  بمبلغ علم صاحبه ودينه، ومع ذلك فقد وجد لدعوته رَواجاً في سوق أصحاب ( الصحوة! )، وكيف لا تروج بضاعتُهم وسلمان العودة ـ هدانا الله وإياه ـ دعا في الوجه الثاني من شريط » أخي رجل الأمن « إلى تأييد لجنة هذا الرجل الموتور فكيف بالأتباع؟!!( ).
ولذلك وجدتُ ابن بطّة العكبري يقول في زمنه: " والناس في زماننا هذا أسرابٌ كالطير يتبع بعضهم بعضاً، لو ظهر لهم من يدّعي النّبوة، مع علمهم بأن رسول الله  خاتم الأنبياء، أو من يَدَّعي الربوبية لوَجد على ذلك أتباعاً وأشياعاً "( ).
ولعلك لاحظت أنه ما من دعوة يراد لها رواج إلا استُغِلّ في ذلك القضايا السياسية، كما هو بادٍ مما أبرزته في هذه الصورة. وكذلك فعلت مجلة
» السنة « ـ التي يستقي منها ( شباب الصحوة! ) أخبار العالم ـ فقد جمعت في عشّها البريطاني رويبضات الزمن وتجرّأت على النيل من علماء السنة؛ فهي بالأمس في عدد رمضان 1413هـ أخذت تقدح في عرض أحد كبار العلماء السلفيين، وهو الشيخ محمد أمان الجامي ـ رحمه الله ـ، ولم تَعرِف له سابقته في العلم والدعوة، ولا وَقَّرته في سنّه، حتى جعلت تستهزيء بلهجته، وتقول: إنه ينطق الحاء هاء؛ ومثَّلت بكلمة ( مُلْهِد! ) بدلاً من ( مُلْحِد! )، نعوذ بالله من قلة الحياء! بله من فَقْد الحياء!!
بل حتى العلامة الألباني لم يَسْلَم من طعنها اللاذع بقلم محمد سرور زين العابدين! وهي اليوم تستغل قضية الصلح مع اليهود لتؤجِّر أحدهم فيطعن في العلامة عبد العزيز بن باز( )، واستنجد في ذلك بالدكتور يوسف القرضاوي الذي رمى الشيخ بأنه يُفتي فيما ليس له به علم! وذلك قوله: " وهل الشيخ علىعلم حقًا بما يجري حتى يُدْلي بدَلْوه في هذا الوقت بالذات، وفي مثل هذا الموضوع الخطير؟ ..."( ). ثم أخذ كاتب » السنة! « يفصح عما في نفسه قائلا: " هل يَعرف الشيخ ما معنى المستعمرات الاستيطانية؟ لا أظن! كما لا أظن أنه ـ في هذه السن ـ يمكنه أن يَدَع أحدا من تلاميذه أن يشرح ويوضح له هذا المصطلح وما يترتب على استيطان هؤلاء اليهود .. ".
قلتُ: إذن فالشيخ لا يَعرف ولا يحب أن يَعرف؛ لأن كبَر سنّه وَرَّثه كبْرا عن تقبل النصح!!
ومع هذه التهم الهالكة فإن الشيخ ـ في أدبه الذي لا يُشَقّ له فيه غبار ـ لم يَزد على أن قال بعد البيان العلمي: " ما ذكرناه في الصلح مع اليهود أوضحنا أدلته الشرعية ... فأرجو من فضيلة الشيخ يوسف وغيره من إخواني أهل العلم إعادة النظر في هذا الأمر بناء على الأدلة الشرعية لا على العاطفة والاستحسان "( ).
قلتُ: كان الأولى بالدكتور القرضاوي ألا يفتح هذا الباب بمثل ذاك الطعن المرمَّم بسؤال! بل كان الأولى به أن يبري قلمه لتقويم جماعته ( الإخوان المسلمون )؛ فقد نادوا بلا استحياء أن النصارى إخوانهم، وقالوا في بيانهم المؤرخ في ( 30 من ذي القعدة 1415هـ ): " وموقفنا من إخواننا المسيحيين في مصر والعالم العربي موقف واضح وقديم ومعروف: لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وهم شركاء في الوطن، وإخوة في الكفاح الوطني الطويل، لهم كل حقوق المواطن المادي منها والمعنوي، المدني منها والسياسي... ومن قال غير ذلك فنحن برءاء منه ومما يقول ويفعل!!! "( ). وجعلوا الشورى الإسلامية أختاً للديمقراطية الكافرة فقالوا: " وإذا كان للشورى معناها الخاص في نظر الإسلام فإنها تلتقي في الجوهر مع النظام الديمقراطي ". وفيه دعوتُهم الحكومةَ أن تلتزم بالقانون الوضعي لا الشريعة فقالوا: " .. بإصرار الإخوان على مطالبة الحكومة بألا تقابل العنف بالعنف، وأن تلتزم بأحكام القانون والقضاء "، بل رضوا لأنفسهم ذلك فقالوا: " ولكنهم ( أي الإخوان ) ظلوا على الدوام ملتزمين بأحكام الدستور والقانون .. ". ولم يقولوا هذا تَقِيّة منهم، ولكن عن قناعة كما شهدوا على أنفسهم قائلين: " والأمر في ذلك كله ليس أمر سياسة أو مناورة، ولكن أمر دين وعقيدة، يلقى ( الإخوان المسلمون ) عليها ربهم {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنوُنَ إلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ".
قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون! آجركم الله في مصابكم يا د/ يوسف! لِمَ لا توجِّه نقدك إلى هؤلاء؛ فإن الأقربين أولى بالمعروف؟ بل أعِدِ البنيان من أساسه، فإن الأمر لايجبره الترميم؛ إذ الخلل عقدي وقديم كما صرحوا بذلك فيما سبق، ولقد صدقوا؛ فقد نقل محمود عبد الحليم ـ وهو من أعمدتهم ـ ماسمعه بنفسه من محاضرة حسن البنا قوله: " فأقرر أن خصومتنا لليهود ليست دينية؛ لأن القرآن حضّ على مصافاتهم ومصادقتهم، والإسلام شريعة إنسانية قبل أن يكون شريعة قومية، وقد أثنى عليهم وجعل بيننا وبينهم اتفاقا {ولا تُجادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتي هِي أَحْسَنُ} وحينما أراد القرآن الكريم أن يتناول مسألة اليهود تناولها من الوجهة الاقتصادية والقانونية ..!!! "( ).
كان الأولى بالدكتور أن يراجع كلمة قطبه هذه؛ فهي خطأ فادح! وأين خطأ العلامة ابن باز ـ لو كان خطأ ـ من هذه التي صرح بعض أهل العلم فيها بأنه ليس بينها وبين الكفر حجاب؟
أهذا التحامي للباطل غيرةٌ على الدين وحربٌ على اليهود أم هي حرب على المنهج السلفي؟!
شكوتُ إلى القرضاوي ما قاله شيخه البنا، فإذا بي أجدني ضيَّعتُ شكواي، لأن القرضاوي نفسه على دربه يسير؛ حيث قال: " فنحن لا نقاتل اليهود من أجل العقيدة!! إنما نقاتلهم من أجل الأرض!! لا نقاتلهم لأنهم كفار!!! وإنما نقاتلهم لأنهم اغتصبوا أرضنا وأخذوها بغير حق "( ).
قلتُ: {ربَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا}.
ثم أعود إلى آية الباب قائلا: فهلاّ أخذتم العبرة من سبب نزول آية الباب، وتدبرتم الفرق بين العوام الذين سارعوا إلى إذاعة خبر تطليق النبي  نساءه، حتى كادوا يفتنون أهل المدينة كلها، وبين أناة أهل العلم كابن عباس الذي مكث سنة كاملة لا يقول فيه شيئاً حتى يسأل عمر، وعمر لا يَلْوِي على شيء من الإشاعة حتى يسأل أهل الاستنباط، مع أنه منهم،  أجمعين. وهو الذي كان يقول: " تفقّهوا قبل أن تُسَوَّدوا "( ).
وفي » المتواري على تراجم أبواب البخاري «( ): " وجه مطابقة قول عمر  للترجمة ـ أي: باب الاغتباط في العلم والحكمة ـ أنّه جعل السيادة من ثمرات العلم، وأوصى الطالب باغتنام الزيادة قبل بلوغ درجة السيادة، وذلك يحقق استحقاق العلم؛ لأنه يغتبط به صاحبه لأنه سبب سيادته ". وقال ابن حجر: " إن تعجلتم الريّاسة التي من عادتها أن تمنع صاحبها من طلب العلم فاتركوا تلك العادة، وتعلّموا العلم لتحصل لكم الغبطة الحقيقية ".
وقال الخطّابي عند شرحه حديث (( يظهر الجهل ... )): " يريد ـ والله أعلم ـ ظهور المنتحِلين للعلم المترئسين على الناس به قبل أن يتفقَّهوا في الدين ويرسخوا في علمه "( ).
وفي شريط مسجل من » سلسلة الهدى والنور « (رقم440/1) دار نقاش طويل بين الشيخ الألباني وبين بعض شباب جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية، زعم هذا الأخير إغلاق الخَمَّارات وبيوت الفواحش أيام عمل الجبهة في مبالغة مدهشة( )، فأجاب الشيخ بمنع دخول البرلمانات لا يَلْوي على شيء من نتائج التحزّب وذكر سبب المنع فقال:
الأول: أنه خلاف هدي النّبي ؛ إذ لم يدخل مع الكفار بمثل هذا.
الثاني: أن كل من يدخلها لابد أن ينحرف عن الإسلام شيئا فشيئاً.
فزعم أحدهم أن الجبهة لم ( تتنازل ) عن شيء من الدين.
فسأله الشيخ: هل يتعامل بعضهم بالرّبا بحكم أن بعض المؤسسات الحكومية بأيديهم؟.
فأجاب بالإيجاب، ثم بادر الشّابُ إلى سؤال حطّم به مزاعمه الأولى بعد هذه الهزيمة الأولى، فقال: إذا عرَضت لنا قضية فقهية فيها رأيين( )، فيها رأي عند الفقهاء راجح ومرجوح، وإذا ما أخذنا بالقول الرّاجح فيها تسببنا في فتنة أو مشكلة أو تفرقة بين المسلمين، فهل يجوز لنا أن نأخذ بالقول المرجوح لمصلحة وحدة المسلمين؟.
فقال الشيخ: " هذه هي السياسة! هذه هي السياسة! ".
فقال محمد إبراهيم شقرة: هذه السياسة ليست شرعية.
فقال الشيخ: أي نعم، ثم قال: " المسألة في الحقيقة مهمة جدّا، أنا سمعت أن الجبهة أو النهضة ما أدري ـ الأسماء ما حفظتها بعد جيدا ـ فيها ملايين، أليس صحيحاً هذا "؟.
فقال الشّاب مستبشرا: نعم.
قال الشيخ: كم ألف عالم فيهم؟.
فقال الشّاب: ما فيه!.
قال: كم مائة عالم؟.
قال: لا، ما هو موجود!.
قال: طيب من يقودهم ـ يا جماعة ـ هؤلاء؟.
قال: الشيوخ قليلين( ) يعني؟.
قال: هل يستطيع هؤلاء الشيوخ أن يقودوا ملايين؟.
قال: طبعا لا.
قال: هل يمكنهم أن يعلّموا ملايين؟.
قال: أبدا.
قال الشيخ: " إذن أنتم تعيشون في الأوهام، ومن ذلك هذا السؤال الذي أنت تطرحه الآن حينما يكون في هؤلاء الملايين من المسلمين علماء يستطيعون أن يديروا دفة المحكومين من أهل العلم، حينما يوجد فيهم المئات ولا أقول الألوف ليس هناك حاجة أن يطرح مثل هذا السؤال: راجح ومرجوح، هل يجوز لنا أن نأخذ بالقول المرجوح ونترك القول الراجح، هذا: الفقيه هو الذي يجيب عن هذا، وأنا أضرب لكم مثلاً من واقع حياتنا مع الأحزاب، أنا قلت مرة لأحد أفراد حزب التحرير: يا جماعة أنتم تريدون أن تقيموا الدولة المسلمة، وأنتم لا تدرسون الشريعة من أصولها وقواعدها، وأنتم تحتجّون في كتبكم ببعض الأحاديث غير الصحيحة؟! ".
قال: أخي! نحن نستعين بأمثالكم.
قال الشيخ: " هذا الجواب هو أول الهزيمة، لأنه حينما يكون هناك حزب يعتمد على غيره، معناها أنه حزب في قوته غير مكتمل، وكان هذا الرجل قال لي: لا زلتم أنتم تضيّعون أوقاتكم في الكتب الصفراء ... " ثم قال الشيخ عن ملايين جبهة الإنقاذ: " لكن هؤلاء أليسوا بحاجة إلى أطباء بدن؟ لا شك أنه عندكم أطباء بدن بالمئات بل بالألوف، طيب أليسوا بحاجة إلى أطباء ـ كما يقولون في العصر الحاضر ـ في الرّوح؟ هذا أولى وأحوج وأحوج، هل هؤلاء موجودون بتلك النسبة؟ الجواب: لا ... ". ثم أخبر عن مخاطبته حزب التحرير قائلا: " افرضوا أنكم ما بين عشية وضحاها أقمتم عَلَم الدولة الإسلامية، يعني بانقلاب من الانقلابات، لكن الشّعب ما عنده استعداد لأن يُحْكَم بما
أنزل الله، يمكن ... أنتم ... جماعتكم قالوا: قرار رقم واحد، اثنين: ممنوع
ـ مثلا ـ دخول السينماءات، ممنوع خروج النساء متبرجات ... الخ، ستجد
ـ يمكن ـ بعض نسائكم أول من يخالف هذه القوانين الإسلامية! لماذا؟ لأنَّ الشعب لم يُربَّ على ذلك، ومن يربِّي الشعب؟ هم العلماء، وهل كل نوع من أنواع العلماء؟ ... ". ثم تكلم عن علماء الكتاب والسنة العاملين بهما، ثم قال: " لذلك أنا أعتقد أن الجهاد الأكبر الآن هو: هذه الملايين المملينة أن تخرج العشرات من العلماء المسلمين هناك، حتى تتولوا توجيه الملايين إلى تعريفهم بدينهم وتربيتهم على هذا الإسلام، أما الوصول إلى الحكم، فكل طائفة تحاول أن تصل إلى الحكم، ثم تستعمل القوّة في تنفيذ قراراتها وقوانينها، سواء كانت حقّا أو باطلا، والإسلام ليس كذلك ".
ولو أن إخواننا هؤلاء أخذوا بهذه النصيحة الذهبية لجنَّبوا الإسلام والمسلمين الفتنة العظيمة التي يعيشها اليوم كل العالم الإسلامي، وفي كل مرة تؤخَّر الدعوة الإسلامية بعجلة شبابها وانحراف موجِّهيها، ومن استعجل الشيء قبل أوانه ابتلي بحرمانه، والله العاصم.
وأختم بهذه الكلمة التي أرجو من إخواني أن يعوها، وهي:
لئن كان في الخروج على الحكّام من الشّر ما برهن عليه تواطؤ النصوص الشرعية مع الأخبار الواقعية، كما ظهر من صنيع حدثاء الأسنان في كل الأزمان، فشر منه الخروج على العلماء بإهدار حقهم، وعدم اعتماد فتاواهم إلا ما وافق أهواء الحركيين، واستصغار شأنهم في السياسة، ورميهم بعلماء بيت الوضوء! وما أشبهها من الألقاب التي يَنْبِز بها المبتدعة صاغرا عن صاغر العلماء السلفيين كابرا بعد كابر؛ وفي هذا إهدار للشريعة بتجريح حملتها وشهودها، والله الموعد( ).
و لقد كان يقال في الجزائر: " جبهة الإنقاذ لم تركن إلى الذين ظلموا "، فإذا بهم لما دارت عليهم الدائرة، وأسلمهم أتباعهم إلى عدوهم، يكتبون بيانا يطالِبون فيه الدول الكافرة وغيرها بأن تقاطع الجزائر اقتصاديا؛ لأنها غصبت الشّعب حقه في حرية الاختيار! ثم يكتبون آخر يستغيثون فيه بالبرلمانات العالمية، ومعلوم أنه ـ فضلاً عن كونه استعانة بالكفار ـ فهو استغاثة بالبرلمان الإسرائيلي، لأنهم لم يستثنوه ـ كما ستراه هناـ مع علم الجميع أنه أضحى اليوم يتحكم فيها كلها.
وهاكم صورة هذا البيان بعد هذه الصفحة، وهو تنديد جبهة الإنقاذ الإسلامية بالنظام بعد مصادرته قانون الانتخابات، وتوقيفه إثر فوزها في الدور الأول منه. فاقرؤوه لتعلموا ما هو الإسلام الذي تنادي به الجبهة، ولتدركوا مدى صدق ما تنسب إليه من السّلفية.

هذا محتوى بيان الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزائر: 14/رجب/1412هـ الموافق: 19/جانفي/1992م
نوّاب الأمّة الفائزين في الانتخابات التشريعية الدّور الأول
 نِدَاء( )
إلى السّادة( ) البرلمانيين في الدّاخل والخارج( )
نحن منتخبي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ممثلي أغلبية الشّعب الجزائريّ المجتمعين بالجزائر العاصمة يوم 14/رجب/1412 هـ الموافق 19/1/1992م.
بناءً على أنّ الشّعب هو مصدر كل سلطة، وصاحب السّيادة( )، طبقاً لما تنصّ عليه المادّتين ( هكذا ): 6،7 من دستور23 ... 1989م، والذي قد عبّر عن اختياره بكل حريّة في جوّ من الهدوء والنّظام في انتخابات 28/ديسمبر/1991، التي أسفرت في دورها الأول عن فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بـ(188)مقعداً من مجموع (430) مقعداً، وجبهة القوى الاشتراكيّة بـ(25)مقعداً، وجبهة التّحرير الوطنيّة بـ(16)مقعداً، والأحزاب بـ(3) مقاعد.
وقد نشرت هذه النّتائج بالجريدة الرّسميّة للجمهوريّة، ‎(العدد:1)، الصّادر بتاريخ: 28/جمادى الثانية/1412هـ، الموافق: ليوم 4/1/1992م.
في الوقت الذي كان الشّعب يستعدّ لخوض غمار الدّورالثاني، إذا به يفاجأ بوضعية سياسيّة معقّدة؛ تمثّلت فيما يلي:
1ـ استقالة رئيس الجمهوريّة التي تتعارض مع روح الدّستور( ).
2ـ الإعلان عن حلّ البرلمان وقت تقديم الاستقالة، علماً بأنّ هذا الإجراء يقتضي دستورياً استشارة رئيس المجلس الشّعبي الوطنيّ، ورئيس الحكومة وفقاً للمادة (12) من الدّستور.
3 ـ قبول المجلس الدستوري للاستقالة فوراً، وتخليه عن تولي منصب رئاسة الدولة بالنّيّابة، وفق ما تقتضيه المادة (84 ) من الدستور.
4 ـ تجاوز المجلس الأعلى للأمن لاختصاصاته الدّستورية كهيئة  استشارية.
هذه الوضعية السياسية غير الشرعية( ) أدّت إلى اغتصاب ومصادرة إرادة الشّعب واختياره، وهي سابقة خطيرة في حقّ سيادة الشّعوب والشرعيّة الدستوريّة في الدولة( ).
بناءً على ذلك؛ فإننا نحن منتخبي الجبهة الإسلامية للإنقاذ ممثلي أغلبية الشعب الجزائريّ، نتوجّه إلى البرلمانيين في الدّاخل والخارج، المؤمنين( ) بإرادة الشّعوب وسيادتها وحريّتها في اختيار ممثّليها وتقرير مصيرها، بما يلي:
1 ـ الوقوف في وجه الاستبداد السياسي أينما وجد، والذي تمارسه الهيئات غير الدستوريّة( ).
2 ـ عدم الاعتراف بالهيئات التي لا تحظى بتزكية الشّعب واختياره( ).
3 ـ المساندة من أجل استكمال المسار الانتخابي وإجراء الدّور الثاني للانتخابات التشريعية، حتى يتشكل المجلس الذي سيعين رئيسه الذي سيتولى رئاسة الدولة بالنّيّابة وفقاً لأحكام الدستور، وذلك لمدة 45 يوماً، تنظم خلالها انتخابات رئاسية مما يعيد الشرعية لمؤسسات الدولة واحترام إرادة الشّعب.

هذه صورة البيان السابق

هذا محتوى بيان الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر

اللاّئحة السّياسية لنواب المجلس الشّعبي الوطني
 للجبهة الإسلامية للإنقاذ
الفائزين في الدّور الأول
» الجزائر، 14 رجب 1412هـ ـ الموافق: 19 /1/1992م «
قال تعالى: {الذينَ قَالَ لهَمُ النَّاس إِنَّ النَّاس قَدْ جمعُوا لَكُم فَاخْشَوهُم فَزَادهُمْ إِيماناً وقَالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوَكِيل}.
إزاء التطوّرات الخطيرة التي تشهدها البلاد، وشعوراً منّا بثقل المسئوليّة الملقاة على عاتقنا، وإبراءً للذمّة، ووفاءً للعهد أمام الله ثم أمام التاريخ والأمّة:
فإنّنا نحن نواب الأمّة المنتخبون يوم:2 جمادى الثانية 1412هـ الموافق: 26/12/1991م المجتمعون يوم14رجب1412هـ الموافق: لـ19/1/1992م بالجزائر العاصمة نذكّر بما يلي:
لم تفتأ الأنظمة المتعاقبة على الحكم في البلاد تسير في الاتجّاه المغاير لإرَادة الأمّة وطموحات الشّعب( ) بدءاً بانتهاك دستور 63 وانتهاءً بالتّجاوزات الخطيرة لدستور 89( ).
وكان من نتائج هذا المسار الخاطيء أن عمّت الفوضى في كافّة المجالات السياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة، فجمّدت العقول، وعطّلت الطاقات، وبدّدت الثّروات، وأبعدت الأمّة عن مشروعها الحضاريّ الإسلاميّ، ولمّا لاح بريق الأمل، وظنّت الأمّة أنّها تنفّست الصّعداء من وطأة هذا الكابوس المخيف، إذا بالموازين تنقلب فجأة فتصادر إرادة الشّعب( )، فيوقف المسار الانتخابي، ويداس الدّستور والقوانين( ) وكافّة القيم الإنسانيّة( ).
وأمام هذا الوضع فإنّنا نحن نواب الأمّة:
1ـ نحذّر من العواقب الوخيمة التي يمكن أن تنجرّ عن مصادرة اختيار الشّعب والذي عبر عنه بكل حريّة بشهادة الصديق والعدوّ من خلال
اقتراع 26/12/1992م اعتبارا من أنّ السّلطة التأسيسيّة هي ملك
للشّعب وأنّه لاجدوى لتمثيل الأمّة إلا في حدود المشروعيّة الدّستوريّة القانونيّة( ).
2ـ نحذّر من مساس ( هكذا ) بالحريّات السياسية( )، حيث إنّنا سجّلنا في هذا تجاوزات وانتهاكات خطيرة تمثّلت في الاعتقالات العشوائيّة غير المبرّرة، والمخالفات المرتكبة ضدّ الحقوق والحريّات الفرديّة والجماعيّة( )، من مساس بسلامة الأشخاص البدنيّة والمعنويّة التي يضمنها الشرع( ) والأعراف الدّولية بما فيها الدّستور الجزائريّ في مواده: (28) إلى (56).
3ـ نحذّر من تكتّلات مشبوهة غايتها إجهاض المشروع الإسلامي، والمساس باختيار الشّعب وثوابت الأمّة.
4ـ إنّنا نعتبر أنّ المجلس الأعلى للأمن قد تجاوز صلاحياته الدّستورية باتّخاذه إجراءات منافية للدّستور( )، بتعطيله للمسار الانتخابي بإحداث ما يسمى بالمجلس الأعلى للدّولة.
5ـ إنّنا نعتبر المجلس الأعلى للدّولة مجرّد مجلس فرض الوصاية على الشّعب، وبالتّالي فإنّ كافّة ما ينجرّ عنه من مجالس وهيئات وتصرّفات سياسيّة داخليّة أوخارجيّة تعتبر كلها مناقضة لأحكام الدّستور( )، وإنّنا كممثّلين شرعييّن للشّعب( )، حاملين برنامج! يجسد طموحاته( )؛ نعتبرأنّ المجلس الانتخابيّ هو الإطار الشرعيّ والقانونيّ الذي يعبّر فيه الشّعب عن إرادته، ليس إلا( ).
6ـ نعتبر أنّ السلطة التشريعيّة هيئة مجلس واحد، طبقاً للدّستور( )، يسمّى المجلس الشّعبيّ الوطنيّ، له كامل السّيادة( )، ولا يجوز على الإطلاق سنّ أو إحداث هيئة بديلة له مهما كانت المبرّرات المفتعلة التي تهدف إلى الوقوف في وجه المشروع الإسلاميّ.
7ـ نندّد ببعض وسائل الإعلام التي استعملت لتمرير المؤامرة ومحاولة توجيه الرأيّ العام توجيهاً مغايراً لما أفرزته إرادة الشّعب، وعليه فإنّنا نصرّ على ما يلي:
أ ـ تنقية الأجواء السياسيّة، وذلك بإطلاق سراح كافّة المساجين السيّاسييّن وعلى رأسهم قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وإرجاع العمّال المطرودين إلى مناصب عملهم، وتعويض الضّحايا والمتضرّرين من جرّاء الممارسة الاستبداديّة والتعسّفيّة للنّظام.
ب ـ نصرّ على ضرورة الرّجوع الفوريّ إلى الشرعيّة الدّستوريّة المجسّدة لإرداة الشّعب( )، ونطالب بإتمام المسار الانتخابي على اعتبار أنّ كافّة الشروط متوفّرة( ).
ج ـ نصرّ على أن يبقى الجيش الوطنيّ سليل جيش التّحرير الوطنيّ حامياً للأمّة، وبعيداً عن الثّورات السياسية التي تريد أن تجعل منه أداة بيد الطغمة الحاكمة لضرب اختيار الشّعب( ).
د ـ نصرّ على أن يتحمّل المجلس الدّستوريّ مسئوليّاته كاملة.
وفي الختام: إنّنا نعتقد أنّ كل ما حدث ابتداءً من استقالة الرئيس الشاذلي ابن جديد، إلى فرض مجلس الوصاية على الشّعب إنما هو مؤامرة نسجت خيوطها في إطار النّظام الدّولي الجديد لإقصاء الإسلام عن حياة المسلمين( )، كنظام مجتمع وإيجاد مبرِّر مفتعل لحلّ الجبهة الإسلامية التي رفعت لواء القضيّة الإسلامية في الجزائر بحقّ، وبالتالي يصفو الجوّ للغرب الكافر وأذنابه في بلادنا لفرض المشروع الغربيّ على الشّعب الجزائريّ المسلم. قال تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون}.
ختم الجبهة ...


هذه صورة البيان السابق



كلمة توضيحية لمحتوى البيانين السابقين
الذي يعرف جماعة ( الجَزْأَرَة ) قد يُخيَّل إليه أن هذين البيانين من صنعتها بعد أن احتوت الجبهة؛ لأن تتويج الكلام السياسي الخالي من الفقه الشرعي بآية عند البداية وأخرى عند النهاية صياغةٌ مألوفة عنهم، ولأن تمييع الأحكام الشرعية بمخاطبة الغير بلسانه ـ ولو كان كفراً ـ انهزامية معروفة عنهم، لكن الحق أن لهذين البيانين أصلاً أصيلاً في فكر علي بن حاج؛ فقد قال في رسالته إلى رئيس الجمهورية المؤرخة في (4جمادى الآخرة 1415 هـ) في ق (2):
" .. فإذا كان التذمر مشروع ( كذا ) في (88 أكتوبر ) فما الذي جعله إرهابا في (1992) بعد مصادرة حق الشعب في الاختيار؟! ".
وافترى على الإسلام الكفرية الديمقراطية؛ فقال في ق (5): " والإسلام لا يَعرف مشروعية السلطة إلا بأمرين:
1ـ التقيد بأحكام الشريعة.
2ـ واختيار الحاكم برضا الشعب، فإذا فقد شرط من الشرطين بالنظام فاقد ( كذا ) للشرعية؛ فلا شرعية ولا مشروعية للنظام إلا بالأمرين
معاً ... وعدم توفر رضا الشعب والأمة على الحاكم هو اغتصاب لحق الأمة في الاختيار ".
قلتُ: لقد نسف أمرُه الثاني أمرَه الأول؛ وإلا فمتى كان رضا الشعب من أحكام الشريعة؟! إن في هذا الكلام هدْماً لخلافة عمر وعثمان وعلي  بل وسائر الخلفاء، وتفصيله عند حديثي عن الشورى في آخر الفصل الآتي. وأغرق في الضلال حين أخذ يؤكِّد صحة المذهب الديمقراطي وينسبه إلى الإسلام ويستدل له بأقوال المفكرين والقانونيين الكفار، فقال في رسالته إلى وزير الاتصال المؤرخة في ( 22 جمادى الأولى 1415هـ ) في ق (26):
" ومن الأمور المحسومة عند الغرب أن السلطة لا تُنال إلا عن طريق اختيار الشعب في حرية تامة! .. ومن ذلك قالوا بمشروعية الثورة على المستبد ... ويوم أن استقرّ هذا المبدأ في فكر المجتمع الغربي استقرت الأوضاع السياسية عندهم!! وعمَّ الأمن!!! "( ). ولم يقف الأمر عند هذا حتى أخذ ينقل من دين الكفار ما يوافق فكره الثوري؛ فينقل في هذه الورقة وما بعدها وما قبلها بقليل عن جون أوف ساليزيري وجان لوك وولز وبرنتون وفرانكفورت ولاسكي وفولتير، وعن القانوني الفرنسي الشهير ديجي ـ كما قال هو ـ  قوله: " إن السلطة في أي بلد ينبغي أن تكون مقيَّدة بقانون أعلى، وهذا القانون الأعلى غير مكتوب ( القاعدة القانونية )، وتجاهل هذه الرابطة والعدوان عليها يوجب المقاومة ". وينقل حتى عن القانون الفرنسي (24 يونيو 1793م ) نصه: " إن للناس الحق في مراجعة دستورهم وتعديله وتغييره حيث لا يحق لجيل معين عن طريق دستور يضعه أن يتحكم في الأجيال
المقبلة ... وعندما تعتدي الحكومة على حق الشعب يكون حق الثورة من أقدس الحقوق ومما لا يمكن التخلي عنه ".
ينقل هذه المخازي بلا تعقب ولا نقد، وينسب بعضها إلى الإسلام صراحة؛ فقد قال في ق (26): " نعم! في الغرب قد يَنال المواطن أو رجل الإعلام من رئيس الدولة ولا يملك ذلك الرئيس أن يتخذ ضده أي إجراء، فهل استفادوا من إسلامنا وأضعناه؟! "( ).
ثم تراه لا يَكتفي بذلك حتى يُشِيد بما عند الغرب؛ فقد قال في ق (27ـ28): " ومن خلال ما تقدم نُدرك جيدا أن الغرب يُقدِّس أمرين: الحرية وخاصة الحرية السياسية ويرفض الاستبداد والطغيان والدوس على حقوق الإنسان، بل يرى وجوب الثورة والمقاومة إذا حدث ذلك! ".
ومن أجل أنه مُنِع من الكلمة الثورية الحرة استنجد بنصوص الكفار أيضا ليؤذن له في ذلك؛ فجعل ينقل عن جون ستيوارت إميل وعن شاتو بريان، كما في ق (23)، بل وفاقرة الفواقر أنه نقل عن بعضهم كلاما هو عين الكفر في حرية العبادة ولم يتعقبه بنصف كلمة، فقال: " وقال روزفلت (13/1/41) في رسالة الكونجرس: ( يجب أن تسود العالم الحريات أربع
( كذا ) هي: حرية التعبيرـ حرية العبادة ـ التحرر من الخوف ـ التحرر من الحاجة ) ".
قلت: الله أكبر! إنها السَّنن! يناضل من أجل الحصول على الحرية السياسية فيخلع دينه، ويأتي إلى هذه الكلمة الكافرة ـ ألا وهي حرية العبادة ـ ليؤيِّدها!! فلماذا شُرع الجهاد إذن؟! وماذا كان يفعل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم وقد اجتمعت كلمتهم على قولهم: {ألاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ اللهَ}؟! بل حتى الشيوعيين لا بد أن يتنعموا بهذه الحرية؛ إذ يقول في (ق24): " وقال فرانكفورت: ( مخالفة حرية القول ولو كانت استيحاء من حالة هسترية فإن تقييدها يُمثِّل تدهورا في حق المواطن، ولا يمكن التذرع بتقييدها ضد الشيوعيين، وإلا خلقنا قطعة من جهنم داخل أرضنا ) ".
والعجب العجيب والنبأ الغريب الذي لم يسبقه إليه الأوائل ولا عرفه العلماء الفطاحل أنه فسَّر تصرُّف علي بن أبي طالب  في مقاتلته الخوارج بقوله عن هؤلاء في ق (24): " وكانوا يُمثِّلون المعارضة السياسية المنحرفة أو المتطرفة بلغة العصر!! ولكن كيف عاملهم ( أي علي )؟ هل نسف بيوتهم؟ هل شرّدهم في البلاد؟ هل .. هل ... "، إلى أن قال في ق (25):
" فقد أقرَّ لهم بحرية الرأي السياسي وهم أعدائه ( كذا ) ومحاربيه ( كذا ) بل ومكفريه ( كذا ) ..!! "، وقال علي ابن حاج: " وفي قوله ( أي قول عليّ ابن أبي طالب للخوارج ): [ لا نبدأكم ( كذا ) بقتال ] تأمينا لهم من الخوف واعترافا لهم بحق النقد مهما كان متطرفاً شرط أن لا يسلك مسلك القتال والقتل "، ثم جاء بقاصمة الظهور فقال: " ألم يسبق الإمام علي ( ض )
( كذا ) بهذا القول قول روزفلت .. للكنجرس: يجب أن تسود العالم الحريات الأربع: .. العبادة ..!!! ".
قلتُ: فهذا صريح في تأييده هذا القول، فكيف يُطمَع في نقده له!  نسأل الله العافية( ). ويزيد إغراقا في الضلال فيقول: " ورغم كل ما حدث للإمام عليّ مع الخوارج قال في أُخريات أيامه: ( لاتقتلوا الخوارج بعدي؛ فليس مَن طلب الحق فأخطأه كمَن طلب الباطل فأدركه ) "( ).
قلتُ: سبحان الله! ما هذه المحاماة للخوارج؟! أيكون علي  حينئذ قد أهدر الدماء البريئة؟! وهل يملك عليّ أن ينهى عن قتلهم والرسول  يقول:
» لئن أدرَكْتُهم لأَقتلنَّهم قتْلَ عاد « رواه البخاري ومسلم؟! هل يتصوَّر مسلم أن يجرؤ عليٌّ  على ذلك وهو الذي حثّ المسلمين على قتال الخوارج يوم النهروان وجعل يُذكِّرهم بما حفظه عن رسول الله  في ذلك، فعن سويد بن غفلة قال: قال عليّ : إذا حدَّثْتُكم عن رسول الله  حديثًا فلأَن أَخِرَّ من السماء أحب إليّ من أن أَكْذب عليه، وإذا حدَّثْتُكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، وإني سمعتُ رسول الله  يقول: » سيَخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانُهم حناجرَهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قَتْلهم أجرًا لِمن قتَلهم يوم القيامة «
( رواه البخاري ومسلم ). كيف وقد صحَّ عنه  أنه أهلَّ وكبَّر لما أيقن أنه لم يقتل إلا الخوارج ( رواه أحمد وأبو يعلى )( )، وعند أحمد وغيره أنه سجد سجدة شكر( )، ولذلك قال الآجري: " .. فصار سيفُ عليّ بن أبي طالب في الخوارج سيفَ حق إلى أن تقوم الساعة "( ).
بل قال الشافعي: " فأما الخوارج فلا نعلم أحدا منهم كره قتاله إياهم " رواه البيهقي وأسند بعده نحو هذه الكلمة إلى ابن سيرين( ).
أيسوؤك ـ يا ابن حاج ـ أن يُقتل الخوارج وتوظِّف لذلك رواية لا تأتي لها بزمام ولا خطام؟! فما الرحم التي بينك وبينهم؟! اللهم إلا أن يكون الفكر الثوري الأهوج  الذي اتفقوا عليه مع المعتزلة والروافض وأيَّدته أنت بنصوص الكفار السابقة!! إن أخبث ما يأتي به المرء أن يستغل الدين لغير الدين؛ فانظر ـ أيها القاريء ـ إلى هذا كيف هان عليه تحريف الدين بتحريف التاريخ الإسلامي إرضاء لثوريته حتى ارتمى بين أحضان الديمقراطية ليُكوِّن دينا غير الذي أنزل الله! وهذا هو التشريع الذي ندَّد الله بفاعليه فقال:{أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُم مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ}! إن القانونيين ـ اليوم ـ جاؤوا بجريمة نكراء حين نصبوا أنفسهم مشرِّعين، ولكن ليس ذلك بأنكر مما جاء به هؤلاء؛ لأنَّ هؤلاء يُحرِّفون الحق ويَشْرَعون الباطل، ويزيدون نسبته إلى الدين! فافتتان الناس بتشريعهم أعظم، ولذلك جاء قيد {مِنَ الدِّينِ} في الآية في غاية الأهمية.
إن هذه النهاية التي انتهى إليها كل دعاة السياسة اليوم ـ أي أن بدايتهم  تكمن في تفسير الدين تفسيراً سياسياً ثم نهايتهم الانسلاخ منه ـ لحَريّة بأن تنفِّر طلاب الحق من هذا المنهج، أمَا رأيتم أن سياسة هؤلاء لم تترك عقيدة ولا عبادة ولا تاريخا إسلاميا إلا حرَّفته وجاءت بما يضاهيه؟! فهل أضحت سياستهم طاغوتا يُعبد، والكرسي الذي يطلبونه صنما يُنحَر من أجله الدين؟! ثم إنني فكرت طويلا في تفسير سبب هذا المصير المحتوم، فلم أجد له جوابا إلا قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِين يُخالِفُونَ عنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، ولما كان هؤلاء طلابَ إمارة عرفتُ أن أول مصيبة أُصيبوا بها هي أنهم وُكِلوا إلى أنفسهم؛ لأنهم خالفوا وصية النبي   لعبد الرحمن بن سمرة حين قال له: » يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أُعطِيتها عن مسألة وُكلْتَ إليها، وإن أُعطِيتها عن غير مسألة أُعِنتَ عليها « رواه البخاري ومسلم وأبوداود، ولفظ رواية أبي داود:  »وُكِل فيها إلى نفسه «؛ قلت: وكيف لا يكون موكولا إلى نفسه من يشهد أن الديمقراطية كفر ثم يستغيث بها؟! بل يحاكم إليها ـ كما سبق ـ والله تعالى يقول: {ألم ترَ إلى الَّذِين يَزعُمون أَنَّهُم ءامَنُوا بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ ومَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ وَقدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشّيْطانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}، ومع ذلك فلا أحد يحاسبهم من الأتباع، بل يكفي أن يردِّدوا كلمات ثورية لتضفي عليهم قداسة لا تَضرّ معها معصية، ولو صدر منهم ما صدر من المعاصي وقالوا ما قالوا من الكفر جاءت التأويلاتُ شافعةً مشفَّعة! ومع هذا فغيرهم هم المرجئة!!
قال ابن حجر: " فمَن لم يكن له من الله إعانة تورَّط فيما دخل فيه، وخسر دنياه وعقباه، فمَن كان ذا عقل لم يتعرَّض للطلب أصلاً "( ). ولو لم يكونوا طلاّب إمارة، وإنما أرادوا التحاكم إلى ما أنزل الله حقيقةً، فلماذا لم يتحاكموا إلى منهج الرسل في الإصلاح؛ وهو مما أنزله الله؟!! ولئن قالوا: إنما خاطب هؤلاء رجالَ القانون بلسانهم! قلنا: وهل فعل ذلك أُسوتنا ؟ وهل لاك لسانُه الطاهر كلماتِ الكفر وحاكم بها وإليها؟ إن هذا الذي تفعلونه هو عين الافتراء على الله الذي حذَّر منه ربُنا نبيَّه  من أن يَستدرجه إليه الكفار فقال:{وإِن كَاُدوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً}، ولذلك أمر الله نبيّه أن يكتفي بما أنزله عليه وحذّره بشدة من ترك ذلك متابعةً للكفار بأي مسوِّغ كان فقال:{يَأَيُّها النَّبِيُّ اتَّقِّ اللهَ ولاَ تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنَافِقِينَ إنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. واتَّبِعْ ما يُوحَى إلَيْكَ مِن رَبِّكَ إنّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُون خَبِيراً. وتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً}.
ووجه خَتْم هذا السياق الكريم بالتوكل أنه ما رَكن مَن رَكن إلى هذه الوسائل الملتوية إلا من ضعفت ثقته بما عند الله، والله المستعان.


 
هذه صورة الورقة الأولى من رسالة علي بن حاج إلى رئيس الجمهورية التي نقلتُ شيئا منها في ص (245)


















هذه صورة الورقة الأخيرة منها مع توقيعه











هذه صورة الورقة الأولى من رسالة علي بن حاج إلى وزير الاتّصال التي نقلتُ شيئاً منها في ص (246ـ247)

هذه صورة الورقة الأخيرة منها مع توقيعه

    كلمة عن المرجئة
إنّ الذي دعاني إلى عقد هذا الفصل هو أنني رأيت كثيراً من المغرضين يَرمون الشيخ ابن باز والشيخ الألباني والشيخ ابن عثيمين بالإرجاء؛ لأن هؤلاء فسَّروا آيةَ الحكم بغير ما أنزل الله على التفصيل المعروف عند السلف، ولم يُكَفِّروا مطلقاً( )، ولأنهم يمنعون الخروج على الحكام الظلمة من المسلمين ما لم يروا كفراً بواحاً، بل ولو رأوا كفراً بواحاً منعوه أيضاً إذا كانت المصلحة الشرعية والقدرة تنْأَيان عن ذلك ... وأقول:
1ـ إنّ القول بالخروج السابق هو مذهب المرجئة؛ فقد روى ابن شاهين عن الثوري أنه قال: " اتَّقوا هذه الأهواء المضِلَّة!"، قيل له: بَيِّن لنا رحمك الله! فقال سفيان: " أما المرجئة فيقولون ... "، وذكر شيئاً من أقوالهم، إلى أن قال: " وهُم يَرَوْن السيفَ على أهل القبلة! "( ). 
وروى أيضاً أنه قيل لابن المبارك: ترى رأي الإرجاء؟ فقال: " كيف أكون مرجئاً؛ فأنا لا أرى السيف؟! .. "( ).
بل روى الصابوني بإسناده الصحيح إلى أحمد بن سعيد الرباطي أنه قال: قال لي عبد الله بن طاهر: " يا أحمد! إنكم تبغضون هؤلاء القوم (يعني المرجئة) جهلاً، وأنا أُبغضهم عن معرفة؛ أولاً: إنهم لا يَرَوْن للسلطان طاعة ..."( ).
قلت: ألا تدلّ هذه النصوص دلالةً واضحةً على أنهم هم المرجئة على الحقيقة، وأن أئمتنا المذكورين آنفاً براءٌ من ذلك.
ولا عجب حينئذ أن ينشأ الإرجاء على أعقاب الخروج؛ قال قتادة: " إنما حدَثَ الإرجاء بعد فتنة ابن الأشعث "( ).
ومن الأدلة على إرجائهم أيضاً:
2ـ ترك الاستثناء في الإيمان وما يتبعه، وإنْ زعم بعضهم ـ بلسانه ـ أنه على مذهب السلف، ألاَ تراهم يقولون: ( الشهيد حسن البنا .. الشهيد سيّد قطب ..)، ولو قيل لهم: إن كان وَصْفهم بالشهادة واجباً حركيًّا ما لكم منه بدّ فاستثنُوا بقولكم ـ على الأقل ـ: ( إن شاء الله)؛ فقد عقد البخاري
في كتاب الجهاد من (( صحيحه )) باباً في ذلك فقال: " باب لا يُقال فلان شهيد "، وذكر الأدلة على ذلك، قلتُ: وقد طُلِب منهم هذا مراراً فاستنكفوا؛ وقالوا إنما أنتم في الجهاد تطعنون، وللمخابرات العالمية مُسَخَّرون!!
وهذا الاستنكاف عن الاستثناء هو أصل الإرجاء؛ قال عبد الرحمن بن مهدي ـ رحمه الله ـ: " أصل الإرجاء ترْكُ الاستثناء "( ).
3ـ ثم عوداً على بدء فأقول: إن المرجئة الأولين أُتُوا من قِبَل تعظيمهم الإيمانَ واستهانتهم بالمعاصي؛ فاستبعدوا لذلك أن يحبط الإيمان بالذنوب، فقالوا: " لا يضرّ مع الإيمان ذنب! "، فمن ثَمّ كان ضلالهم. وأما هؤلاء
ـ اليوم ـ فأُتوا من قِبَل تعظيمهم السياسةَ؛ وكل من كان معهم في حركتهم فهو صاحب الولاء، ولا يضرّ مع الفقه الحركي ذنب، ولو كان هو الشرك بربّ العالمين!!! ألا ترى كيف يسقط أقطابهم والمُنَظِّرون لهم في العظائم ولا يُحَرِّكون ساكناً غيرةً على الدين؟! إنما غيرتهم علىحزبهم وحركتهم!! ألا ترى كيف يُقيمون الدنيا ولا يُقعدونها إن سمعوا الشيخ عبد العزيز والشيخ الألباني يقولان بترك المواجهة الدموية مع اليهود ريثما يتقوَّى المسلمون؟! وهي فتوى من مجتهدَيْن حقيقةً. وأما إذا أخطأ مُحرِّكوهم، فإنّ الواجب الحركي عندهم غضُّ الطرف عنهم مهما كانت شناعتها، وما أكثر ما يُفتُون في الدماء والأعراض والأموال فيُهدِرونها! مع أنهم لو بلغوا درجة طلبة العلم لكان هذا أحسن الظنّ بهم!
ـ فهذا علي بن حاج يُفْتي بقتل آلاف من المسلمين وبتشريد بقيتهم ويُرَوِّع بلداً آمناً، ويقول ما يقول من الإشادة بالمذهب الديمقراطي وغير ذلك مما نقلتُه عنه قَبْل، مع ذلك فلا ينتقده ـ عندهم ـ إلا عميلٌ!!
ـ ويطعن من قَبْله سيّدُ قطب في بعض أنبياء الله تعالى، ويطعن في جمع من الصحابة المشهود لهم بالجنة، ويرى السياسة الشرعية متمثلة في المذهب الاشتراكي الغالي، وغيرها من الدواهي التي بيَّنها الشيخ ربيع المدخلي في كتبه الأخيرة، وقد قال الألباني: " حامل لواء الجرح والتعديل في هذا العصر: الشيخ ربيع "، وهذه شهادة من متخصِّص( )!
ـ ويجيء الترابي بدولة الإسلام المزعومة في السودان ليُنظِّم مؤتمرات لوحدة الأديان وليُشِيد بدين القبوريين وليُشَيِّد عددا كبيرا من الكنائس ما كانت تحلم به أيُّ دولة علمانية من قبله.
ـ ويقوم للأفغان كيان في دولتهم، فلا يغيِّرون من دين القبورية والخرافة شيئا! بل يقتلون أهل التوحيد دفاعا عن طواغيتها! وما مؤامرتهم على ولاية كنر الإسلامية عنا ببعيد! مع أن هذه القرية هي الوحيدة في أفغانستان التي أقيم للتوحيد فيها صرحه، وتقام فيها الصلاة أحسن إقامة وكذا الحدود الشرعية، ولا تُعرَف هناك بلدة تُحارَب فيها المخدِّرات مثلها ... فجاءت دولة ( الإخوان ) لا تألوهم خبالاً؛ حتى خربوها واغتالوا أميرها الشيخ السلفي: جميل الرحمن ـ رحمه الله ـ ... فجمعوا بين أكبر الكبائر على الإطلاق وهي: الشرك وقتل النفس بغير حقّ ...
كل هذا وغيره كثير جدا! ولا يضرّ إيمانَهم! ولا يُسقط إمامتَهم!! بل الويل لمن يفكِّر في انتقادهم؛ لأنه يطعن في مصداقية الجهاد!! بل أمّلوا ـ مع هذه المخازي والبدع المكفّرة ـ أن تكون الدولة الإسلامية المنشودة هي التي في أفغانستان والسودان!! كما في شريط سلمان العودة: » لماذا يخافون
من الإسلام؟ «. وليس الأمر كذلك؛ لأن الله تعالى قال:{ليس بأمانِيِّكم
ولا أَمانِيِّ أهل الكتاب مَن يَعمَلْ سوءًا يُجْزَ به ولا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً}.
فلذلك عدّهم بعض أهل العلم من غلاة المرجئة؛ لأن المرجئة عظَّموا الإيمان وهو أصل الدين، وأما هؤلاء فعظَّموا جزءا من جزئيات الدين؛ ألا وهو السياسة، مع العلم بأن سياستهم هذه لا تعدو أن تكون مزيجا من الاشتراكية والديمقراطية؛ كما هو معلوم عند من اطّلع على كتب سيّد قطب وغيره ممن هو على شاكلته، بل قلْ باختصار: هي الفقه الحركي المبتدع، والمرجئة لم
ينفوا تضرّر صاحب الإيمان بشرك يرتكبه، بل اعترفوا بأنه لا ينفع مع الكفر
حسنة، وأما هؤلاء فهم شافعون لأئمتهم ولو قالوا بالكفر الصريح كما
سبق!!!
4ـ هذا الأصل تبعه أصل آخر عند المرجئة، ألا وهو عدم بيان السنة للناس، مع ترك الرّدّ على المبتدعة؛ قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بعد كلام له عن أهل التكفير: " وبإزاء هؤلاء المكفِّرِين بالباطل أقوامٌ لا يَعرِفون اعتقاد أهل السنة والجماعة كما يجب، أو يَعرفون بعضه ويجهلون بعضه، وما عرفوه منه قد لا يُبَيِّنونه للناس بل يكتمونه( )، ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة( )، ولا يذمّون أهل البدع ويعاقبونهم( )، بل لعلهم يذمّون الكلام في السنة وأصول الدين ذمًّا مطلقاً( ) .. أو يُقِرُّون الجميع على مذاهبهم المختلفة( ) ... وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المرجئة وبعض المتفقهة والمتصوِّفة والمتفلسفة ... وكلا هاتين الطريقتين ( أي المكفِّرة والمرجئة ومن معهم ) منحرفة خارجة عن الكتاب والسنة "( ).
ولا يَختلف اثنان أن هذا من أعظم الأسس التي يرتكز عليها دين الحركية؛ وهل ثَمَّ أحدٌ يُنكر مقولتهم: ( ليَعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، ولنعمل فيما اتَّفقنا عليه!! )، وقد بيّنت ـ في هامش قريب ـ من كلام حسن البنا أنهم يَعنون الاختلاف بإطلاق! قالوا هذا؛ لأنهم لو أخذوا يُنكرون على أهل البدع لضيَّعوا أكثر متبوعيهم الذين يمدّونهم في الغيّ!
ثم لم يقف هذا عند أهل البدع، بل تعدّاه إلى أهل الكفر؛ فقد سبق أن نقلتُ في ص (220) كلام ( الإخوان ) في رضاهم بأُخُوّة النصارى لهم بل ومطالبتهم بذلك! كما نقلتُ كلام حسن البنا في ص (221)، والقرضاوي ص (222) في أنه لا خصومة دينية بيننا وبين اليهود!! فماذا بعد هذا؟!
فهذه أربعة أصول وافقوا فيها المرجئة، فأيّ الناس أحقّ بوصف الإرجاء؟! أليس يَصدق فيهم قول القائل: رمتني بدائها وانسَلَّت؟! والأمر لله.

    التفريق بين فقه النفس وفقه الواقع
عرَف المتقدِّمون فقه الواقع باسم ( فقه النفس )( )، وبين القديم والجديد فروق جوهرية تتجلى من كلمة ذهبية لابن القيم ـ رحمه الله ـ حيث يقول: " ولا يتمكَّن المفتي ولا الحاكم من الفتوى إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حَكَم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبِّق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يُعدَم أجرين أو أجرا، فالعالم مَن يتوصَّل بمعرفة الواقع والتفقّه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصَّل شاهد يوسف بشقّ القميص مِن دبر إلى معرفة براءته وصدقه( )، وكما توصَّل سليمان  بقوله: » ائتوني بالسكين حتى أشقّ الولد بينكما « إلى معرفة عين الأم( )، وكما توصّل أمير المؤمنين علي عليه السلام بقوله للمرأة التي حمَلت كتاب حاطب لمّا أنكرته: " لَتُخْرِجِنَّ الكتاب أو لنُجَرِّدَنّك " إلى استخراج الكتاب منها( )، وكما توصّل الزبير بن العوّام بتعذيب أحد ابني أبي الحقيق بأمر رسول الله  حتى دلَّهم على كنز حُيَي( ) لمّا ظهر له كذبه في دعوى ذهابه بالإنفاق بقوله: " المال كثير والعهد أقرب من ذلك "( )، وكما توصّل النعمان بن بشير بضرب المتهَمين بالسرقة إلى ظهور المال المسروق عندهم، فإن ظهر وإلا ضرب مَن اتّهمهم كما ضربهم، وأخبر أن هذا حكم رسول الله . ومَن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بَعث الله بها
رسوله "( ).
ومن خلال هذه الأمثلة وشرح ابن القيم لها يتبيَّن لك أنه ـ رحمه الله ـ  يتحدَّث عن الفراسة التي يُؤْتاها الحاكم حينما تعرض له قضايا يَجهلها ولا يَعرف واقعها، لا كما ظَنَّ قوم ـ حين وجدوا ابن القيم استعمل لفظ ( فهم الواقع والفقه فيه ) ـ أنه يعني فقه الواقع الذي استحدثوه، وفسَّروه بالاطِّلاع على الواقع ومتابعة أخباره! فإن هذا المعنى لم يُعَرِّج عليه ـ رحمه الله ـ قط، لأنه ليس عِلماً فكيف يكون فقهاً وهو مقدور لكل ( حشّاش ) ونوكي؟! ثم إنني ما زدْتُ ههنا على أن نقلْتُ كلامه الذي في » إعلام الموقعين « ـ وهو الذي أخطأوا فهمه ـ بشرحه له هو نفسه في » الطرق الحكمية «.  
ولذلك صدَّر ابن القيم كتابه » الطرق الحكمية في السياسة الشرعية « بالحديث عن فراسة الحاكم والقاضي، بل لقد جاء عنوانه في بعض المخطوطات: » الفِراسة المَرْضية في أحكام السياسة الشرعية « فتدبّر! ومِن كلام ابن القيم هذا أخذت تسمية كتابي، فوصفت القادر على هذا النوع من الفهم بوصفين هما: الاجتهاد والفراسة( ).
لذا فإن الذي ننعاه على متفقهي زماننا في واقع المسلمين ليس هو مجرد الاطلاع على مكايد الأعداء، فهذا شرّ لا بدَّ من معرفته، ولكن ننعى عليهم ما يأتي:
أ ـ تأسيسهم الإصلاح على العمل السياسي، وهذا الخطأ وحده كاف لإسقاط منهجهم كله نظرا لمخالفته منهج الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، فكيف وقد انضمّ إليه ما سيأتي.
ب ـ دخولهم في العمل السياسي وإفتاؤهم في قضاياه وليسوا من أهله قال الله تعالى: {ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.
ج ـ ومِنْ ثم افْتِياتهم على أهله:العلماء والأمراء، قال الله تعالى: {ولَوْ رَدّوهُ إِلى الرَّسُولِ وَإلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
د ـ ومِنْ ثم طعنهم في أهله، وهو انحراف واقع، ما له من دافع، لأن صدورهم أضيق عن تحمُّل خلافهم لهم، لو كان لخلافهم اعتبار، ولقد ساءني جدا أن أقرأ جواب سلمان العودة على سؤال مجلة » الإصلاح « الإماراتية عن قضية الخليج، حيث قال: " وأكَّدَت على أنهم ليسوا على مستوى مواجهة مثل هذه الأحداث الكبيرة، وكشفَتْ كذلك على عدم وجود مرجعية علمية صحيحة وموثوقة للمسلمين بحيث أنها تحصر نطاق الخلاف وتستطيع أن تُقدِّم لها حلاًّ جاهزا صحيحا وتحليلا ناضجا ..!!"( ).
يَعلم الله أنني كنت أعلم ما عند سلمان من مزالق مهلكة، لكنني لم أتصوره يوما ما بهذا المستوى والجرأة على أهل العلم، ولو أخبرني به أحد لكذّبتُ أو تأوّلتُ؛ لأنه لو جاز لأحد أن يُسقط جهود العلماء بل أن ينفي وجودهم لم يجز لسلمان أن يكون فريسته، لأنه يعيش بين ظهراني هيئة كبار العلماء، التي كثيرا ما يُظهر توقيره لها، فهل هي عنده مرجعية علمية غير صحيحة؟! وهل فتاواها تحليلات غير ناضجة؟! وهل يُعَدّ الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين غير موثوقين حتى يَعتبر وجودهم كالعدم؟! اللهم إن هذا لظلم عظيم!
هذا وليَقُل المتعصبون للرجال: لعله لا يقصد ذلك! أو لا بدَّ من قراءة السابق واللاحق! فقد تركنا لكم الوقت لذلك فهل أنتم فاعلون؟
وهذا المزلق انحراف شنيع؛ لأنه :
ـ إما طعن في العلماء، فقد صحّ عن عبادة بن الصامت  أن رسول الله  قال: (( ليس من أمتي مَن لم يُجِلَّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويَعرف لعالمنا حقه ))  رواه أحمد وغيره وهو صحيح.
ـ وإما طعن في الأمراء، فلا يزال الأمر بهم يشتدّ حتى ينكروا عليهم بطريقة الخوارج، التي أول علاماتها التشهير بأخطائهم على المنابر، ونهايتها التي لا مناص منها الخروج عليهم، وفي ذلك مخالفة صريحة للهدي النبوي في الإنكار عليهم، قال ابن أبي عاصم في » كتاب السنة «: " باب كيف نصيحة الرعية للولاة "، وأسند فيه عن شريح بن عبيد الحضرمي وغيره قال: جلد عياض بن غنم صاحبَ دار حين فتحت، فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض، ثم مكث ليالي فأتاه هشام بن حكيم فاعتذر إليه، ثم قال هشام لعياض: ألم تسمع النبي  يقول: » إن مِن أشد الناس عذابا أشدهم عذابا في الدنيا للناس «، فقال عياض بن غنم: " يا هشام بن حكيم قد سمعنا ما سمعتَ ورأينا ما رأيتَ، أو لم تسمع رسول الله  يقول: » مَن أراد أن يَنصح لسلطان بأمر فلا يُبْدِ له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيَخْلُو به، فإن قَبِلَ منه فذاك، وإلا كان قد أدّى الذي عليه له «، وإنك يا هشام لأنت الجريء إذ تجتريء على سلطان الله، فهلاّ خشيتَ أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله تبارك وتعالى؟!"( ).
وحتى لا يَعظم عليك أن نسبتُ مخالفي هذا المنهج إلى مسلك الخوارج، فإنني أورد هنا ما رواه الترمذي وغيره عن زياد بن كُسيب العدوي قال: كنتُ مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر، وهو يخطب وعليه ثياب رقاق، فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق، فقال أبوبكرة: اسكت؛ سمعتُ رسول الله  يقول: » من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله «( ).
قال الذهبي: " أبو بلال هذا هو مرداس بن أُدَيّة، خارجيّ، ومن جهله عدَّ ثياب الرجال الرقاق لباس الفساق! "( ).
ومثله ما رواه سعيد بن جُمْهان قال: أتيتُ عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر، فسلّمت عليه، قال لي: مَن أنت؟ فقلت: أنا سعيد ابن جمهان، قال: فما فعل والدك؟ قلت: قتلَتْه الأزارقة( )، قال: " لعن الله الأزارقة! لعن الله الأزارقة! حدَّثنا رسول الله  أنهم » كلاب النار «، قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: بلى الخوارج كلها، قال: قلت: فإن السلطان يظلم الناسَ ويفعل بهم، قال: فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة ثم قال: " ويحك يا ابن جمهان! عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فأْتِهِ في بيته فأخبره بما تعلم، فإن قَبِل منك وإلا فدَعْهُ؛ فإنك لست بأعلم منه "( ).
فائدة: روى عبدالله بن أحمد بإسناده الصحيح إلى سعيد بن جمهان أنه قال: " كانت الخوارج تدعوني حتى كدتُ أن أدخل معهم، فرأت أخت أبي بلال في النوم أن أبا بلال كلب أهلب أسود، عيناه تذرفان، قال: فقالت: بأبي أنت يا أبا بلال! ما شأنك أراك هكذا؟ قال: جُعِلْنا بعدكم كلاب النار، وكان أبو بلال من رؤوس الخوارج "( ). 
وعلى كل حال فإن مجرَّد التحريض على السلطان المسلم ـ وإن كان
فاسقا ـ صنعة الخوارج، قال ابن حجر في وصف بعض أنواع الخوارج:
" والقَعَدية الذين يُزَيِّنون الخروجَ على الأئمة ولا يباشِرون ذلك "( )، وقال عبد الله بن محمد الضعيف: " قَعَدُ الخوارج هم أخبث الخوارج "( ).
قلت: فأيّ الخطباء اليوم سَلِم من هذه اللوثة؟! ولاسيما منهم الذين يخطبون من الناس جمهرتهم والشهرة عندهم! فاللهم سلِّم!!
ولذلك قال الشيخ صالح السدلان فيهم: " .. فالبعض من الإخوان قد يفعل هذا بحسن نية معتقدا أن الخروج إنما يكون بالسلاح فقط، والحقيقة أن الخروج لا يقتصر على الخروج بقوة السلاح، أو التمرد بالأساليب المعروفة فقط، بل إن الخروج بالكلمة أشد من الخروج بالسلاح؛ لأن الخروج بالسلاح والعنف لا يُرَبِّيه إلا الكلمة فنقول للأخوة الذين يأخذهم الحماس، ونظن منهم الصلاح إن شاء الله تعالى عليهم أن يتريثوا، وأن نقول لهم رويدا فإن صلفكم وشدتكم تربي شيئا في القلوب، تربي القلوب الطرية التي لا تعرف إلا الاندفاع، كما أنها تفتح أمام أصحاب الأغراض أبوابا ليتكلموا وليقولوا ما في أنفسهم إن حقا وإن باطلا.
ولا شك أن الخروج بالكلمة واستغلال الأقلام بأي أسلوب كان أو استغلال الشريط أو المحاضرات والندوات في تحميس الناس على غير وجه شرعي أعتقد أن هذا أساس الخروج بالسلاح، وأحذر من ذلك أشد التحذير، وأقول لهؤلاء: عليكم بالنظر إلى النتائج وإلى من سبقهم في هذا المجال، لينظروا إلى الفتن التي تعيشها بعض المجتمعات الإسلامية ما سببها وما الخطوة التي أوصلتهم إلى ما هم فيه، فإذا عرفنا ذلك ندرك أن الخروج بالكلمة واستغلال وسائل الإعلام والاتصال للتنفير والتحميس والتشديد يُرَبِّي الفتنة في
القلوب "( ).
قال عمر بن يزيد: سمعتُ الحسن ـ أي البصري ـ أيّام يزيد بن المهلب قال: وأتاه رهطٌ فأمَرَهم أن يَلزَموا بيوتَهم ويُغلِقوا عليهم أبوابَهم، ثم قال: " والله! لو أنّ الناس إذا ابتُلُوا مِن قِبَل سلطانهم صبروا، ما لبِثوا أن يرفع اللهُ ذلك عنهم؛ وذلك أنهم يَفزَعون إلى السيف فيوكَلُوا إليه! ووالله! ما جاؤوا بيوم خير قطّ!"، ثم تلا:{وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَني إسْرَائِيلَ بِما صَبَرُوا ودَمَّرْنا مَا كان يَصْنَعُ فِرعَوْنُ وقومُه وما كانوا يَعْرِشُون} "( ).
هـ ـ جهلهم بالطريقة التي تُغربَل بها الأخبار، وليس ثم إلا طريقة أهل الحديث، ألا ترى كيف يكتب السلف التاريخ ويُسندون؟ ذلك لأن الله قال: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}. ولا شك أن أنباء وسائل الإعلام الكافرة أكذب من نبإ الفاسق، وهؤلاء يعتمدونها لمعرفة الواقع! فلا يَسْلَمون من شرّ البواقع؛ لأن هذه الوسائل قد سيطر عليها اليهود عليهم من الله الذِّلَّة، وخبر الكافر مردود باتفاق أهل الملة، ومن الغفلة بمكان أن يَتصوّر المسلم عدوَّه يُهدي إليه مخططاته من خلال نشرات علنية، كما فعل سفر الحوالي في نشرة الأخبار التي جمعها في كتاب أسماه » وعد كيسنجر «، وحسِب نَشرته علماً! وأضاع معها عمراً نفيساً بلا طائل، بل أضاع بها أعمار الغمر من الشباب؛ فقد جاءت نَشْرتُه نُشرةَ تخبيب بين طلبة العلم وأهله أصحاب الفضائل، فضلاً عمَّا فيها من إغراء الأمراء بالعلماء مما يوقع بينهم وَحشة، والتجربة تدلّ على ذلك( ).
والحق أن الاطلاع على أسرار الكفار مِن إسرارهم لا من إعلانهم أمر مطلوب من ذوي الاجتهاد، وعلى هذا بوَّب البخاري في » صحيحه « لقصة حاطب بن أبي بلتعة آنفة الذكر بقوله: " باب من نظر في كتاب مَن يُحذَر على المسلمين ليستبين أمره "، فتدبّر الفرق يرحمك الله.
وقد انتقد الشيخُ الألباني قولَ ناصر العمر ـ وهو يعدِّد مصادر ( فقه
الواقع ) ـ: " المصادر السياسية والمصادر الإعلامية، وهي من أهم المصادر المعاصرة، سواء أكانت مسموعة أم مقروءة أم مرئية، مِن أبرزها الصحف والمجلات والدوريات، نشرات وكالات الأنباء العالمية، الإذاعات، التلفزيون، الأشرطة والوثائق وغير ذلك من الوسائل الإعلامية المعاصرة ". قال أحد الحضور للشيخ: ما رأيك في هذا المصدر؟
 قال الشيخ الألباني: " مزالق! كلنا يعلم أنهم لا ينشرون على العالم الإسلامي إلا ما يكيدون به لهم، فكيف يكون هذا سببا لمعرفة الواقع؟! يجب أن يقال: ينبغي أن يكون هناك ـ يعني ماذا يسمَّون؟ ـ مراسلين مثلا أو إخباريين أو إعلاميين: صحفيين إسلاميين، الذين يدرسون الواقع دراسة في حدود عقيدتهم ودينهم، ولا ينبغي أن نكون عالة كما أنت أشرت، كيف؟ هذا لا يلتقي مع هذا؛ الذي أشرتَ إليه لا يلتقي مع هذه المصادر الأخيرة التي أشرتَ إليها! ".
فاعترض عليه ناصر العمر بأنه وضع ضوابط لذلك ومحاذير، وذكر منها:
ـ" أولا: الالتزام بالأصول الشرعية والمنطلقات العلمية والعقلية في وصف الواقع وتوقّع النتائج ورؤية المستقبل.
ـ ثانيا: التثبت في نقل الأخبار وتلقيها، وذكرتُ هذه القضية، وبيَّنتُ هذا الأمر: حسن التعامل وتجنّب المخاطر والمزالق، ذكرت أن الأخذ من هذه الأشياء لا بد من هذه الضوابط ".
قال الشيخ: " لكن هذا لا يمكن ( تضبيطه )، أنت وضعت ضوابط نظرية، لا تتم هذه إلا بالاختراع السابق، هذه ( شَغْلة ) الحكومة، وليس بفرد من الأفراد أو بجماعة، كما نسمع أن إذاعة لندن ليست إذاعة حكومية، إنما هي الجمعية مثلا أم ماذا يسمونها؟ " فقيل له: هي شركات خاصة.
قال الشيخ: " يجب أن يكون هناك إذا ما قامت ما تعهدت الدولة بالقيام بهذا الواجب الكفائي المساعد على فهم فقه الواقع، إذا لم تقم الدولة ـ وهي أولى وأحق وأقوى من يستطيع أن يقوم بهذا الواجب الكفائي ـ فيجب أن يكون هناك شركات مؤلفة من أشخاص من الإسلاميين الغيورين، وأن يوظِّفوا أشخاصا لنقل الأخبار، كما يفعل الكفار، وحينئذ لا نكون نحن عالة في تلقي الأخبار من أعدائنا وخصومنا، ثم نحاول أن نطبق القيد الذي ذكرته أنت. لا يستطيع أي إنسان إذا أراد أن يتأكد من صحة بعض هذه الأخبار، ما يستطيع أن يتأكد من ذلك؛ لأن مصادرها أجنبية، تماما لو أردنا أن نتأكد من صحة بعض الأخبار في التوراة والإنجيل، ليس عندنا وسيلة لمعرفة الأخبار التي في التوراة والإنجيل: ما هو صحيح مما ليس بصحيح، إلا بمقابلتها بأخبار أهل صدق وثقة و... الخ، فإذا هؤلاء لم يكونوا موجودين ذهبت أدراج من يريد فقه الواقع معرفة حقيقية اعتمادا منه على الأخبار التي ترِدنا من بلاد الكفر والضلال والفسق والفجور، لا يمكن حينئذ تحقيق ما ألمحتَ إليه من التثبت، ولذلك ( فقه الواقع ) هذا الآن نظري، ولا يمكن أن يكون واقعيا إلا بإيجاد شركة توظِّف أناسا لنقل الأخبار بطرق موثوقة ينطبق عليها تماما علم مصطلح الحديث. 
قال العمر: إذا لم يوجد هذا يا شيخ، حتى يوجد هذا الأمر؟
قال الألباني: إيه! من الصعب تحقيقه.
قال العمر: ألا نستفيد يا شيخ من بعض ..
قال الألباني: يا شيخ! ـ بارك الله فيك ـ لكثرة الأخبار وكثرة المخبرين من الكفار، يضيع الباحث بين هذه الأخبار وهذه، ما يستطيع أن يتحقق إلا ما ندر جدا جدا " ( ).
 قلت: ولذلك تجد الهدهد وصف نبأه الذي أخبر به سليمان عليه الصلاة والسلام باليقين فقال:{وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}، مع ذلك ومع أن الله سخَّر لسليمان الجنّ والحيوان، فإنه لما كان الحيوان مصدرا قاصرا من مصادر التلقي، قال سليمان عليه الصلاة والسلام: {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذِبِينَ}، فلا إله إلا الله! ما أعظم هذا المنهج وما أعدله وما أدقه! فاحرص على هذه الدقة التي لست واجدها إلا عند السلفية، لأنها حققت منهج أهل الحديث بجدارة، وليس مجرد انتساب لهم مع تأثّر بالغ بمناهج أخرى. وعلى هذا لا لوم على السلفية إذا كانت لا ترفع رأساً بهذه الأخبار التي ملأت أدمغة الشباب اليوم، ولا تطيب بها نفساً ولا تعوِّل عليها، مع التنبيه علىأنه قد يستفاد منها بعد تبيُّن صدقها من كذبها، وتُبنى عليها أحكام بالقرائن التي تحتفّ بها، لكن تنبَّه
ـ أخي القاريء! ـ تنبَّه إلى قول الله تعالى: {وما يَعقِلُها إلا العالِمُون}، أي لا يقدر عليها إلا من جمع الله له بين التضلّع بعلم الكتاب والسنة حتى يصير مجتهداً، وبين قوة الفراسة وصدق التوسّم كما سبق بيانه( ).
و ـ ومِن ثم اعتمادهم الأخبار المشوَّهة والمكذوبة، قال الله تعالى: {إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُم مَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ}.
ص ـ ومِن ثَم نسبتهم للشريعة السمحة أحكاما جائرة استنبطوها
من الأخبار المشوّهة، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " الحكم قسمان: إثبات وإلزام، فالإثبات يعتمد الصدق، والإلزام يعتمد العدل {وتمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وعَدْلاً} "( ).
حـ ـ تكهّنهم مستقبلاً لاَحقيقة له، وقَفْوُهم سرابَ تخميناتٍ لا تختلف عن تخمينات القانونيين المعروفين باسم ( الملاحظين السياسيين )؛ فيقال لأحدهم أيام قضية الخليج: ما هو ( تكهّنكم! ) لمستقبل جزيرة العرب مع وجود القوات الأجنبية؟ فيقول: " أرى أن وعد كيسنجر تحقَّق!!"، ويقول: " إنه الاحتلال الذي قرأته من عشر سنوات في مجلة كذا الأمريكية!!".
ويقول آخر: " هذه آخر أيام تطبيق الشريعة الإسلامية، ولن تَخرج هذه القوات حتى يطبَّق القانون العالمي الجديد في الجزيرة!!".
ويقول آخر: " نحن تحت الاحتلال!!! " ...
تحَكُّم ليس عليه أثارة من علم إلا الرجم بالغيب، قد بان للذكيّ والغبيّ تكذيب الواقع لها، فعلامَ يتغافل الأتباع عن محاسبة ( شيوخهم ) عليها؟! وإن هي إلا تخرُّصات تخيَّلوها إرهاصات.
والأدهى والأمرّ أنهم لا يزالون يعتمدون عليهم، بل لا يَرضون في السياسة وغيرها إلا بهم، رغم كثرة ترَّهاتهم! فما أشد العصبية العمياء للأشخاص على أهلها! وكان الواجب على هؤلاء أن يوَظِّفوا في دعاتهم هؤلاء قولَ الله تعالى: {ولا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِنْهُمْ أَحَداً}؛ لأنهم كما قال الله عز وجل: {إنْ يتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الأَنفُسُ ولَقَدْ جَاءَهُم مِن رَبِّهِمُ الهُدَى}.
ط ـ إغراقهم في السياسة إلى حدّ تعليمها وإسنادها إلى عامة الناس، مع أن النبي  يقول: » مِن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه « رواه الترمذي وهو حسن.
ولم يقف الأمر عند هذا حتى سمعتُ سلمان العودة ينْمي هذا الخطأ إلى سلفنا الصالح، فقد قال: " أما في المجال السياسي فالأمر معروف: فقد أصبحت الأمة رضيَت بألا تفكر ولا تنظر ولا تتأمّل ولا تدرس المصالح والمفاسد، ولا تستخدم عقلها، ولا سمعها لترى ولا بصرها لتسمع ( هكذا )! لأنه كما يتردّد وينقل الجميع أن الإنسان يستمتع برحلة ممتعة هادئة هانئة، وقد ترك الأمر لغيره، حتى دون أن يَسأل أو يناقش، مع أن الله تعالى جعل الأمة كلها مسئولة، ولم يجعل المسئولية العلمية ولا السياسية ولا الدعوية على شخص واحد...وهذا خطأ؛ لأنه يختصر الأمة ـ كما ذكرتُ ـ في أفراد، والله تعالى قال: {وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} وقال: {وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ}، مع أن الرسول عليه السلام مؤيَّد من السماء، فالمشاورة فيها تعزيز للعقول، وتنمية للمواهب، وجَعْل الجميع يشعرون بأن الأمر لهم، وهو شأنهم وقضيتهم، وهذه لكم أنتم وليست لي، وإذا وقع خطأ فتتحمَّلونه جميعاً، لن يتحمَّله العالم وحده ولا الحاكم وحده ولا الداعية وحده!! ".
ويؤكد هذا الخطأ الفادح بقوله: " من الخطورة بمكان ـ أيها الأحبة! ـ أن تتمحور الصحوة الإسلامية حول أشخاص، أو أن تتمحور الأمة كلها على أشخاص سواء على الصعيد السياسي أو على الصعيد العلمي أو على الصعيد الدعوي "( ).
ولي على هذا الكلام الخطير ثمان ملاحظات:
1 ـ جعل الفروض الكفائية فروضا عينية حين أنكر على الأمة ـ بلا استثناء ـ عدم المشاركة في السياسة والعلم والدعوة، والذي يدل على أنه ليس سبق لسان، وإنما هو منهج له أنه أكَّده بتكراره أولاً، وباستعمال أسلوب التأكيد ثانياً حين قال: " مع أن الله تعالى جعل الأمة كلها مسئولة ... ".
قلت: وقد وجدتُ عند العلامة الشيخ عبد الله بن حُميد ـ  رئيس مجلس القضاء في وقته وكذا المجمع الفقهي رحمه الله ـ كلمةً مختصرة كافية في ردّه على كاتب في جريدة » القصيم « بتاريخ (8/5/1381هـ) حيث قال: " وأما قولكم: ( لا بد أن يكون لنا كلمة في شئون ديننا، وأن الدين للجميع، وليس وقفاً على أحد دون الآخر ) فهو كما تفضلتم، ولكن لم يقل أحد بذلك، ولا أظن أن يقال هذا"( ).
قلت: لو عاش الشيخ ابن حميد إلى زمننا هذا لوجد الكثير ممن تتابع على هذا الذي استغربه؛ فقد قال عبد الرحمن عبد الخالق: " .. وأنه لا بدّ لكل 
مسلم أن يَنخرط في عمل سياسي ينصر الدين!! "( ).
لكن صدق الشيخ ابن حميد ـ رحمه الله! ـ؛ فإنه لا يُعلم أحد من العقلاء سبقه هو وسلمان وعبد الرحمن إلى هذا فضلاً عن أهل العلم! خاصة في هذه المجالات الثلاثة الخطيرة، التي أجمع أهل العلم على عدم فرضها على الأعيان، وإليك بيان ذلك في إلماعة سريعة؛ لأن مظانها لا تخفى على صغار طلبة العلم:
ـ أما السياسة: فقد بيَّنتُ أدلة حصر ممارستها في أولي الأمر: العلماء والأمراء، فلا أعيده.
ـ وأما العلم: فقد نصّ الله تعالى بأنه لم يفرض طلبه إلا على طائفة من المسلمين، أما الآخرون فيكفيهم أن يعْلموا منه ما يقيمون به دينهم ودنياهم، قال الله عز وجل:{ومَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.
قال القرطبي: " وفي هذا إيجابُ التفقّه في الكتاب والسنة وأنه على الكفاية دون الأعيان "( ).
ـ أما الدعوة: فقد أمر الله عز وجل بها طائفةً،ولم يُلزِم الجميع بها، 
فقال: {ولْتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ}، قال ابن كثير: " والمقصود من هذه الآية أن تكون فِرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن ... " ( )، ثم أشار إلى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الناس؛ كل بحسَبه.
2 ـ إيغاله العوام فيها يوَرِّطهم في ثلاث فتن هي:
ـ أنه يُرَبِّي فيهم التجرّؤ على الفتيا.
ـ ويدفعهم إلى التجنّي على أهل العلم إذا لم يفهموا مسالكهم، وتَعْظم الفتنة بهم في القضايا السياسية، بل يفتِنون حتى دعاتهم، ألم ترهم في قضية الخليج كيف كانوا بفهوم العوام محصورين، وتحت ضغوط مطالبهم مأسورين؟
ـ وتهييجهم على الأمراء، والجنوح بهم إلى التكفير، ومَن جرَّب جماعة التكفير عرف كيف احتوى الجهال الدعوة، والأمرلله.
3 ـ دعوته الأمة إلى دراسة المصالح والمفاسد من أكبر مزالقه؛ لأن تبيُّن المصلحة ـ التي فيها الأمن ـ من المفسدة ـ التي فيها الخوف ـ لا يَقدر عليه إلا الراسخون في العلم: أهل الاستنباط، ويظهر هذا الحصر في قوله تعالى: {وإذَا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وإلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
4 ـ كثيرا ما تجد المهيِّجين من المراهقين السياسيين يُشَرِّكون العامة فيما يسمونه واقع الأمة، حتى إذالم ينتج عن تحليلاتهم شيء من غُنْمها، شرَّكوهم في غُرْمها، ولم يقع اللوم عليهم وحدهم، كما صرَّح به هنا سلمان حين قال: " فتتحمَّلونه جميعاً، لن يتحمَّله العالم وحده، ولا الحاكم وحده، ولا الداعية وحده!! "( ).
وهذا يفسِّر تصرُّف علي بن حاج في استشارته العوام لإحداث أول مسيرة! تلك المسيرة المشئومة التي ذهب ضحيتها في عشية واحدة مئات الشباب في مقتبل العمر وبراءة المُحَيّا، حتى اضطر إلى أن يقول في الجمعة التي تلَتْها: " أنا لم أدعُ إلى مسيرة، ولكنني دعوتُ إلى الجلوس في ساحة كذا لنسمع مطالب الشعب!!! "( ) .
قلتُ: سبحان الله! ليتَه لم يجمع قَتْل أنفُسٍ وكذباً!!
كما تجد هذه الطريقة في الفرار من المسئولية عند كلام سفر الحوالي الآتي عن أحداث الجزائر؛ حيث يقول: " القضية التي نتكلم عنها ليست مجرد فلان ولا فلان، إن كان من أولياء الله فالله وليّ المتقين، وسينصرهم ولو بعد حين، وإن كانوا غير ذلك فقد جاءهم: عُجِّلت إليهم بعض ذنوبهم ".
فتأمل كيف يهيِّج ويؤَيِّد ثم يتبرّأ فيَكِلُ الأمر إلى إيمان القوم، كأنه يقول حينئذ:{إنِّي بَرِيءٌ مِنكُمْ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ}!!
5 ـ كلام سلمان هذا كله دعوة إلى الديمقراطية بعينها، وهوممن يُظهر الكفر بها، وإلا كيف يدعو الأمة كلها إلى الشورى في السياسة؟! الأمر الذي يدلّك على أن هؤلاء أرادوا أن يكونوا واقعيين، فإذا هم قد صاروا في يد الديمقراطية واقعين!
6 ـ استدلاله بآيتي الشورى لتقرير هذا المعنى الديمقراطي في غاية السقوط، وقبيح جدا بالمسلم ـ بصفة كونه مسلما ـ أن يقع فيه، فكيف بطالب العلم؟! فكيف بمن قيل له:( فضيلة الشيخ؟! ) فكيف بمن أُريد له أن يُضَمَّ رقمُ هاتفه إلى أرقام أصحاب الفضيلة هيئة كبار العلماء؟!
ثم اعلم ـ أعاذك الله من الجهل ـ أن الشورى في الإسلام مختصة بالأئمة الأعلام، سواء أكان ذلك فيما بينهم، أم فيما بينهم وبين الحكام.
واعلم ـ أيضا ـ أنه لا مشورة فيما ثبت فيه نصّ من كتاب الله أو سنة خير الأنام عليه الصلاة والسلام، وإليك باختصار شديد أدلة هذين الحكمين:
قال البخاري في كتاب الأحكام من » صحيحه «: " باب بطانة الإمام وأهل مشورته، البطانة: الدُخَلاء "، وأسند فيه عن أبي سعيد الخدري عن النبي  قال: » ما بعث الله من نبيّ ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحُضُّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضّه عليه، فالمعصوم من عَصم الله تعالى «.
دلّ هذا الحديث مع تبويبه على أن أهل الشورى ليسوا الأمة كلها كما زعم سلمان! وإنما هم بطانة الإمام، خاصة وأن لهذا الحديث سبب ورود من طريق البخاري نفسه، لكن في غير » صحيحه «، وإنما رواه عنه تلميذه الترمذي( ) في »  سننه «، وفيه قصة خروج النبي  وأبي بكر وعمر من بيوتهم بسبب الجوع، فكان إذن أبو بكر وعمر هم بطانة رسول الله . ولذلك تدبّر ـ رحمك الله! ـ فقه ابن عباس حين فسَّر قوله تعالى: {وشاوِرْهُمْ في الأَمْرِ} قال: " أبو بكر وعمر رضي الله عنهما "( ).
ومن تدبَّر سيرة الرسول  في النوازل أدرك بلا خفاء أنه  ما كان يشاور إلا أعيان أصحابه، من ذلك ما رواه مسلم في قصة بدر عن ابن عباس قال: فلما أَسروا الأُسارى قال رسول الله  لأبي بكر وعمر: (( ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ )) فقال أبو بكر: يا رسول الله! هم بنو العمّ والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار؛ فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله  : (( ما ترى يا ابن الخطاب؟ )) قلت: لا والله يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تُمَكِّنّا فنضرب أعناقهم، فتُمكّن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتُمكِّنّي من فلان ( نسيباً
لعمر ) فأضربَ عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهَوِيَ رسول الله ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلتُ، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله! أخبرني مِن أيّ شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدتُ بكاء بكيتُ، وإن لم أجد بكاء تباكيتُ لبكائكما، فقال رسول الله : » أبكي للذي عَرَض على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة « ( شجرةٍ قريبة من نبي الله  ) وأنزل الله : {ما كان لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ في الأَرْضِ} إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً} فأحلَّ الله الغنيمة لهم.
والشاهد من القصة واضح، أضف إلى ذلك أنها من رواية ابن عباس مفسِّر آية الشورى كما سبق، ولهذا بوّب لها الترمذي في » سننه « بقوله: " باب ما جاء في المشورة "( ).
وللبخاري في كتاب الاعتصام من » صحيحه « تبويب ماتع، ذكر فيه أدلة ما نحن بصدده بشكل جامع، أقصد تخصيص الشورى بجماعة من العلماء، وتخصيصها بما لم يَرِد فيه نص من وحي السماء.
قال ـ رحمه الله ـ( ): " باب قول الله تعالى: {وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} {وشاوِرْهم في الأمر} وأن المشاورة قبل العزم والتبيّن لقوله تعالى: {فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} ".
قال ابن حجر: " ووقع في الأدب من رواية طاوس عن ابن عباس في قوله تعالى: {وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} قال: " في بعض الأمر "، قيل: وهذا تفسير لا تلاوة، ونقله بعضهم عن قراءة ابن مسعود "( ).
وقال ـ رحمه الله ـ: " فإذا عزم الرسول  لم يكن لبشر التقدم على الله ورسوله ".
قلت: أي صار وحيًا، ولذلك قال ابن حجر: " ويُستفاد من ذلك أن أمره  إذا ثبت لم يكن لأحد أن يخالفه ولا يتحيّل في مخالفته "، وكذا قال سفيان ابن عيينة( ).
وقال ـ رحمه الله ـ: " وشاور النبي  أصحابه يوم أحد في المُقام والخروج، فلما لبس لَأْمَته وعزم قالوا: أَقِمْ، فلم يَمِلْ إليهم بعد العزم وقال:
» لاينبغي لنبي يلبس لَأْمته فيضعها حتى يَحكم الله «. وشاور عليّاً وأسامة فيما رَمَى به أهلُ الإفك عائشة فسمع منهما حتى نزل القرآن، فجلد الرامين ولم يلتفت إلى تنازعهم ولكن حكم بما أمره الله، وكانت الأئمة بعد النبي  يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدَّوه إلى غيره اقتداء بالنبي ، ورأى أبو بكر قتال مَن مَنع الزكاة فقال عمر: كيف تقاتل وقد قال رسول الله : » أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله « فقال أبو بكر: " والله لأقاتلن مَن فرَّق بين ما جمع رسول الله  "، ثم تابعه عمر، فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة إذ كان عنده حكم رسول الله :»  مَن بدَّل دينه فاقتلوه «.
وكان القراءُ أصحابَ مشورة عمر، كهولاً كانوا أو شبانا " اهـ.
وهو يقصد بكلامه الأخير ما رواه هو في » صحيحه « موصولاً عن ابن عباس قال: " قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحرّ ابن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يُدنيهم عمر، وكان القراء أصحابَ مجلس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا ".
وشرح ابن حجر كلمة ( القراء ) بقوله: " جمع قاريء، والمراد بهم العلماء بالقرآن والسنة العُبّاد "( ).
وروى البيهقي بسند صححه ابن حجر عن ميمون بن مهران قال: " كان أبو بكر  إذا ورد عليه خصم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي به قضى بينهم، فإن لم يجد في الكتاب نظر هل كانت من النبي  فيه سنة، فإن علمها قضى بها، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين فقال: أتاني كذا وكذا، فنظرت في كتاب الله وفي سنة رسول الله  فلم أجد في ذلك شيئاً فهل تعلمون أنّ نبي الله  قضى في ذلك بقضاء، فربما قام إليه الرهط، فقالوا: نعم قضى فيه بكذا وكذا فيأخذ بقضاء رسول الله  ـ قال جعفر: وحدثني غير ميمون أن أبا بكر  كان يقول عند ذلك: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا  ـ وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به.
قال جعفر: وحدثني ميمون أن عمر بن الخطاب  كان يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان لأبي بكر  فيه قضاء، فإن وجد أبا بكر  قد قضى فيه بقضاء قضى به، وإلا دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمعوا على الأمر قضى بينهم "( ).
ثم ذكر ابن حجر مشاورات عمر وعثمان لأهل الحلّ والعقد( ).
ومن أقوى ما يُستدل به هنا ما وقع في وفاة عمر  حين قيل له: " أوصِ يا أمير المؤمنين! استخلف، قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر ـ أو الرهط ـ الذين توفي رسول الله  وهو عنهم راضٍ، فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن .. " رواه البخاري( ). 
وواضح جدا أن تلك الأمة العظيمة أَمَّرت عليها الخليفة عثمان  بمشورة ستة منها فقط، فهل من معتبر؟
شبهة
كل ما يستدل به هؤلاء الجمهوريون من الإسلاميين! أو من العلمانيين لإثبات ما دندن حوله سلمان، إما هي من مجملات النصوص والآثار التي أُبهِم فيها المستشارون، وإما هي غير ثابتة سندا، وإما في الاستدلال بها تعسف، ومن هذه استشارة النبي  أصحابه في الخروج إلى بدر، فعن أنس: " أن رسول الله  شاور حين بلغه إقبالُ أبي سفيان، قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نُخِيضها البحر لأخَضْناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بَرْك الغِماد لفعلنا، قال: فندب رسول الله  الناس، فانطلقوا حتى نزلوا بدرا ... " رواه مسلم.
قلت: ليس في القصة أنه  استشار عامة الناس ولذلك قال النووي:
" وفيه استشارة الأصحاب وأهل الرأي والخبرة "( ).
وعلى فرض أنه يصلح دليلا لمدّعاهم فقد قال النووي: " قال العلماء: إنما قصد اختبار الأنصار لأنه لم يكن بايعهم على أن يَخرجوا معه للقتال وطلب العدو، وإنما بايعهم على أن يمنعوه ممن يقصده، فلما عرض للخروج لعير أبي 
سفيان أراد أن يَعلم أنهم يوافقون على ذلك فأجابوه أحسن جواب "( ).
7 ـ وفي نعي سلمان على الأمة عدم تدخلها في الشورى يقول: " وهذا خطأ؛ لأنه يَختصر الأمة ـ كما ذكرتُ ـ في أفراد "، ثم نزع بآيتي الشورى، هذا كله يدل على إيجابه الشورى، ليس فقط على ولي الأمر، بل على الأمة كلها كما يظهر من سياقه. وهذا لو وافقناه عليه لأبطلنا خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، ولأبطلنا الاستخلاف الذي وردت الأدلة بجوازه، منها ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: " قيل لعمر: ألا تستَخلِف؟ قال: " إن أستخلِف فقد استخلَف من هو خير مني: أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني: رسول الله ، فأثنوا عليه، فقال:
" راغب وراهب، ودِدتُ أني نجوتُ منها كفافا لا ليّ ولا علي، لا أتحمَّلها حياً وميتاً ".
وهذا من أقوى الأدلة على كون أبي بكر استخلَف عمر من بعده ولم يترك الأمر شورى، فهل يجرؤ أحد على تخطئة أبي بكر، والمهاجرون والأنصار شهود لاينكرون؟! بل إن رسول الله  لو علم في الأمة اختلافا في تولية أبي بكر لعهِد إليه من غير شورى، فعن عائشة قالت: دخل علي رسول الله  في اليوم الذي بُديء فيه، فقال: (( ادعي لي أباكِ وأخاكِ حتى أكتب لأبي بكر كتابا ))، ثم قال: (( يأبى اللهُ والمؤمنون إلا أبا بكر )) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
قال شارح العقيدة الطحاوية: " والظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد أنه لم يستخلِف بعهد مكتوب، ولو كتب عهدا لكتبه لأبي بكر، بل قد أراد كتابته ثم تركه، وقال:» يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر «، فكان هذا أبلغ من مجرد العهد، فإن النبي  دلّ المسلمين على استخلاف أبي بكر، وأرشدهم إليه بأمور متعددة، من أقواله وأفعاله، وأخبر بخلافته إخبارَ راض بذلك، حامدٍ له، وعزم على أن يكتب بذلك عهدا، ثم علِم أن المسلمين يجتمعون عليه، فترك الكتاب اكتفاء بذلك "( ).
قال أبو يعلى الفرّاء: " ويجوز للإمام أن يعهد إلى إمام بعده، ولا يحتاج في ذلك إلى شهادة أهل الحلّ والعقد، وذلك لأن أبا بكر عهد إلى عمر رضي الله عنهما، وعمر عهد إلى ستة من الصحابة ، ولم يَعتبرا في حال العهد شهادة أهل الحلّ والعقد "( ).
وقال الماوردي: " وأما انعقاد الإمامة بعهد مَن قبلَه فهو مما انعقد الإجماع على جوازه، ووقع الاتفاق على صحته لأمرين عمِلَ المسلمون بهما ولم يتناكروهما:
أحدهما: أن أبا بكر  عهد بها إلى عمر  فأثبت المسلمون إمامته بعهده.
والثاني: أن عمر  عهد بها إلى أهل الشورى فقبلت الجماعة دخولهم فيها، وهم أعيان العصر اعتقادا لصحة العهد بها، وخرج باقي الصحابة منها، وقال علي  للعباس رضوان الله عليهما حين عاتبه على الدخول في الشورى: كان أمرا عظيما من أمور الإسلام لم أر لنفسي الخروج منه، فصار العهد بها إجماعا في انعقاد الإمامة "( ).
فهل يبقى للقول بوجوب الشورى محل مع هذه الأدلة القوية؟ قال ابن القيم في فوائد قصة الحديبية: " ومنها استحباب مشورة الإمام رعيته وجيشه، استخراجا لوجه الرأي، واستطابة لنفوسهم، وأمناً لعتبهم، وتعرفا لمصلحة يختص بعلمها بعضهم دون بعض، وامتثالا  لأمر الرّب في قوله تعالى: {وشَاوِرْهُم في الأَمْر} وقد مدح سبحانه وتعالى عباده بقوله: {وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} "( ).
8 ـ وأخيرا أقول: إنّ نسبة هذا المنهج إلىالسلف تحت عنوان: ( حديث حول منهج السلف ) غير مقبولة، لما بيّنت ما بينهما من أرحام غير موصولة، ودعوتنا لهؤلاء الدعاة أن يعطوا القوس باريها، ويتركوا المطي لحاديها، ريثما يراجعون أنفسهم، ويتهيؤون لما يحسنون؛ فإن قيمة المرء ما يحسن.وفق الله الجميع للخير.
ولما كان هذا النوع من الفقه ـ أعني فقه الواقع ـ بهذه المثابة من التخبيط والتخليط،كان لعلمائنا نظرة خاصة فيه للمحاذير التي نبَّه عليها العلامة ربيع ابن هادي المدخلي ـ حفظه الله ـ حيث قال: " إنّ من أغرب ما يقع فيه المتحمسون لفقه الواقع أنهم يقدّمونه للنّاس وكأنّه أشرف العلوم وأهمها، ولقد غلا فيه بعضهم غلوا شديدا فجعل العلوم الشرعية من مقوماته، ونسج حوله من الهالات الكبيرة، بمالم يسبقه إليه الأولون والآخرون، وهو في حقيقته لا يسمى علما ولا فقها، ولو كان علما أو فقها فأين المؤلفات فيه؟! وأين علماؤه وفقهاؤه في السابق واللاحق؟! وأين مدارسه؟! لماذا لا يسمى علما ولا فقها إسلاميا؟ لأنه ذو أهداف سياسية خطيرة منها:
أ ـ إسقاط المنهج السلفي؛ لأن فقه الواقع لايختلف عن مبدإ الصوفية في التفريق بين الشريعة والحقيقة؛ إذ هدفهم من ذلك إسقاط الشريعة.
ب ـ الاستيلاء على عقول الشباب والفصل بينهم وبين علماء المنهج السلفي، بعد تشويه صورتهم بالطعون الفاجرة.
جـ ـ اعتماده على التجسس، فالإخوان المسلمون وإن كانت لهم شبكات تجسس واسعة على أهل الحديث والسلفيين إلا أنهم يعجزون تمام العجز عن اكتشاف أسرار الأعداء وإحباط خططهم، وواقعهم في مصر وسورية والعراق أكبر شاهد على ذلك.
د ـ أنه يعتمد على أخبار الصحف والمجلات التي تحترف الكذب، وعلى المذكرات السياسية التي يكتبها الشيوعيون واليهود والنصارى والعلمانيون والميكافيليون وغيرهم من شياطين السياسة الماكرة، الذين من أكبر أهدافهم تضليل المسلمين ومخادعتهم واستدراجهم إلى بناء خطط فاشلة على المعلومات التي يقدّمونها.
هـ ـ من أركان هذا الفقه المزعوم التحليلات السياسية الكاذبة الفاشلة، وقد أظهر الله كذبها وفشلها، ولا سيما في أزمة الخليج.
و ـ أنه يقوم على تحريف نصوص القرآن والسنة، ويقوم على تحريف كلام ابن القيم في فقه الواقع.
ص ـ قيامه على الجهل والهوى حيث ترى أهله يرمون من لا يهتم بهذا الفقه بالعلمنة الفكرية والعلمية، وهذا غلو فظيع قائم على الجهل بالفرق بين فروض الكفايات وفروض الأعيان، لو سلمنا جدلا أن هذا الفقه الوهمي من فروض الكفايات( ).
ح ـ يرتكز هذا العلم المفتعل على المبالغات والتهويل، حيث جُعلت علوم الشريعة والتاريخ من مقوماته، فأين جهابذة العلماء وعباقرتهم عن هذا العلم وعن التأليف والتدريس فيه والإشادة به والتخصص فيه وإنشاء الجامعات أو على الأقل أقسام التخصص فيه؟!
ط ـ ولما كان هذا الفقه بهذه الصفات الذميمة لم ينشأ عنه إلا الخيال والدواهي من الآثار، فمن آثاره تفريق شباب الأمة وغرس الأحقاد والأخلاق الفاسدة في أنصاره، من بهْت الأبرياء والتكذيب بالصدق وخذلانه وخذلان أهله، والتصديق بالكذب والترّهات، وإشاعة ذلك، والإرجاف في صورة موجات عاتية، تتحوّل إلى طوفان من الفتن التي ما تركت بيت حجر أو مدر أو وبر إلا دخلته.
أما فقه الواقع الذي يحتفي به علماء الإسلام، ومنهم ابن القيم، والسياسة الإسلامية العادلة، فمرحبا بهما وعلى الرأس والعين، وإن جهلهما وتنكَّر لهما الإخوان المسلمون ... "( ).

    ‏متفقهون حول الواقع لا يفقهون الواقع
أنقل هنا كلمات بحذافيرها من أشرطة مسموعة لدعاة تحدّثوا عن القضيّة السياسية الدّعوية التي بالجزائر، وهم ككثير من الشباب المتحمّس يوجِبُون بلا هوادة التفقّه في الواقع ويَنْعَون على غيرهم ـ خاصة من أهل العلم الكبار كالشيخ الألباني، والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين ـ جهلهم بالواقع، وقد رأيت أنهم أحقّ بهذا النعي؛ لأنهم نقلوا واقعاً مشوّهاً غير صحيح.
هذا عن الجزائر فقط دون متابعتهم في أخبار غيرها، ونحن نعيش في الجزائر نسمع من أشرطتهم غير مانرى، وقد اتصلنا ببعضهم مراراً وأبلغناهم أخطاءهم دون فضحهم، فلم نجد منهم تجاوباً، فقلنا: لعلّنا مجهولون عندهم، وهم على طريقة أهل الحديث في عدم قبول خبر المجهول، ولهم في ذلك كل الحق لأنّه عنوان التّحريّ لولا أنّنا وجدناهم يعتمدون أخبار الكفار بالتجري! مع أنّ الكافر شرّ من مجهول المسلمين بلا ريب، وهم يناشدون الخلق على أن يأخذوا بمنهج الموازنة بين المنقبة والعيب( )!
على كل حال فإنّ كاتب هذه السّطور حاول الاتّصال بالدكتور سفر الحوالي مراراً، أقلّها ثلاث مرّات! وفي كلها يعتذر بكثرة الأشغال مع ضيق الوقت ـ أعانه الله على طاعته، لكن قد وصل إليه غيري ممن نعرفه ويعرفه، فأفاده ما في نفسي وزاد وأجاد، فحمدت الله على بلوغ المراد، ووعد الدكتور ألاّ يعتمد مستقبلاً إلا على هذا المصدر الموثوق، لكن لم يطل الزّمن حتى عادت ( حليمة إلى عادتها القديمة! )، فرابني أمرُه وأمرُ جماعته لأنّ مثل هذا التصلّب في الباطل عرفناه مِمَن أخبارُهم لا تنبع من واقعٍ ما بقدر ما هي تنتمي إلى تحزّب ما!!
خاصة وأنهم في كل مرّة يصلون قضيّة الجزائر بقضايا في السّعودية ينكرونها، فيقولون: كيف لا تتجاوب الدولة السّعودية مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي بلغت من الطّهر كذا وكذا، على حين تجاوبها مع الحكومة الجزائرية التي بلغت من الرِّجس كذا وكذا، وربما حكوا أنّ بينهما دعماً ماديّاً، فلم يجدوا سبيلا إلى الإنكار على دولتهم إلا باستغلال قضايا العالم كواسطة، ومنها اضطرّوا إلى تحجيم الحق الذي لدى جبهة الإنقاذ، وتقليص باطلها، بل الغضّ منه! كما ستقرؤه هنا وإليكم فقه الواقع!

    فقه واقع الجزائر عند سلمان بن فهد العودة
قال في شريط » كلمة حقّ في المسألة الجزائرية «: " خرج الاستعمار الفرنسيّ الأجنبي من الجزائر، ومع ذلك بقيت الجزائر تحُكم بغير الإسلام زماناً طويلاً حتى تململ الناس من تلك الأوضاع السّيئة، وقامت حركات ومظاهرات صاخبة واضطرابات كثيرة في الأسواق والشوارع، وصارت مواجهات دامية، وقُتِل المئات من الناس، بل أكثر من ذلك، وكانت الصحافة تعتِّم على مثل هذه الأمور، وكنت أذكر أنّنا نقرأ في صحيفتنا أنهم يسمونها ( ثورة الخبز )، يعني أن الناس قاموا من أجل الخبز بحثاً عن لقمة العيش، وتجاهلوا الدّافع الإسلامي القويّ وراء تلك المطالبات، وعلى إثرها أقرّت الجزائر بما يسمّونه التعدّديّة السياسية وأذعنت لمطالب الناس ".
النقد: في هذا الكلام خبط عجيب، لأنّه يحكم على ثورة (5 أكتوبر 1988م) بأنّ دافعها إسلامي! فأقول:
ـ متى كان في الإسلام ثورات ؟!
ـ متى كان الدّافع أو الباعث الإسلامي أوالنّية الحسنة كافية لغض الطّرف عن الوسيلة والطريق؟!
ـ بأيّ دليل ينفي أن تكون ثورة خبز ويثبت أنّها إسلامية إن صحّ التعبير؟! أصاحب الدّافع الإسلامي القوي يخرب بيته، فيكسر أدوات وزارته أو المؤسّسة التي يأكل منها المسلمون ؟ أصاحب الدّافع الإسلاميّ القوي يغتصب ـ أيّام جهاده المقدّس! ـ من الأسواق الحكومية وغير الحكومية ما يجد لأنّها غنيمة؟! لقد كان أصحاب الدّافع الإسلاميّ القويّ يبيتون مع الفيديو الإسلاميّ! والنشيد الإسلاميّ!! في المهرجانات والمظاهرات الإسلامية!!! فإذا نادى منادي الفلاح: الصلاة خير من النّوم،كان المجاهدون قد ناموا، ولعلّهم لم يسمعوه، لأنهم ناموا في سدّة المسجد، والمؤذّن في مقصورة المسجد، فقام بعض المتطوعين من أهل الحيّ بإيقاظ هذه الآلاف، فلا يقوم إلى الصلاة منهم إلا فئة قليلة جدًا ربما عجزت أصابع اليد عن عدّها لأنّها تزيد عنها قليلاً.
وإن قيلَ في القليل البركة فـ {كَم مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِين}؟ قلت: نعم! ولكن إذا عُرفت الفئة الغالبة، فمن هي الفئة الكثيرة المغلوبة؟ آلفئة الحكوميّة التي هي في خير الأمّة بغير حقّ سائمة؟! أم هي الفئة المجاهدة وعن الصلاة نائمة؟! فبينا أنا أكتب هذه الكلمات ذكرت حديثاً يناسب حالنا للاتّعاظ به، ولْيَذْكُرمنه أخونا سلمان قيمة تفريغ القلب من الدنيا لله تعالى، وشرط الإخلاص في الجهاد، فعن أبي هريرة ، قال: قال النّبي : » غزا نبيّ من الأنبياء، فقال لقومه: لا يَتْبَعْني رجل مَلَك بُضْعَ امرأة وهو يريد أن يَبْني بها ولمّا يَبْنِ بها، ولا أحدٌ بنى بُيُوتا ولم يرفع سُقوفَها، ولا آخرُ اشترى غنماً أو خَلِفات وهو ينتظر وِلادَها. فغزا، فدنا من القرية صلاةَ العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشّمس: إنّكِ مأمورةٌ وأنا مأمورٌ، اللهمّ احْبِسْها علينا فحُبِسَت حتى فتح الله عليهم، فجمع الغنائمَ، فجاءت ـ يعني النارـ لتأكلها فلم تَطْعَمْها، فقال: إنّ فيكم غُلولاً، فليبايعْني من كل قبيلة رجلٌ، فلزقت يدُ رجلٍ بيده، فقال: فيكم الغُلولُ، فليبايعني قبيلتُك، فلزقت يدُ رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغُلولُ، فجاءوا برأس بقرة من الذّهب فوضَعوها، فجاءت النار فأكلتها، ثم أحلّ الله لنا الغنائم، رأى ضَعْفَنا وعَجْزَنا فأحلّها لنا «( ).
 وفي هذا الحديث يظهر لك شرط الإخلاص في الجهاد، وأثر ابتغاء الدنيا وارتكاب ما حرّم الله في تأخير النصر.
ثم كيف يستنتج سلمان أن تلك الثورة ـ التي ظهر له منها أنها شعبية إسلامية ـ كانت سبب رضوخ الحكومة للتعددية الحزبية؟ أليس من الجائز أن يقال: بل هي فخٌ نَصَبته أيد من خارج البلاد، وهي حريصة على نصب العداوة بين هؤلاء وبين حكوماتهم لضرب الإسلام بالإسلاميين المتحمسين الذين لا يرون إلا الحَبّ الجميل، سواء أكانوا من الدّعاة في الداخل أم من المطبِّلين المؤيِّدين من الخارج أمثالكم؟
وعلى كل حال: استنتاجك مردود بإجماع أصحاب هذا الواقع المخالف منهم والمدافع، وما كل ما يعلم يقال، وإن من الإشارة ما يغني عن صريح العبارة. وما قالته الصحافة في ثورة الخبز قد صدقت فيه وهي كذوب، والدّليل عليه أنّه لمّا كانت جبهة الإنقاذ في أوْجِ قوتها، ودعت إلى إضراب عام عن العمل لم يستجب لها إلا القليل، أحوج ما تكون إلى نصير، لأنّ هذا الإضراب يمسّ خبزة الأنصار، هذا مع التهديد الشّديد اللهجة منها لمن لا يساهم في الإضراب بحرق المحلاّت وتكسيرها ...، ويكفي لتصديق ما أقول أنّ عباسي مدني ـ النّاطق الرسمي لهذا الحزب ـ كان شديد الأسى والتململ من هذه المشاركة والمؤازرة الضّعيفة، وذلك في خطابه الشديد بساحة الإضراب، وأشرطة الإضراب محفوظة.
ومع هذا يقال: " ليست  ثورة خبز "!!
وهذا نائبه علي بن حاج  لمّا كان  يخطب، فيتحدث عن إسراف الكُبَراء واستئثارهم بالمواد الغذائية وغيرها من متاع الدنيا بألفاظ نابية جدًّا  كان للنّاس ضجيجُ تجاوبٍ كبير، كأنك في ملعب أو ملهى، واسألوا ثقاتكم عن أشرطة أيّام الإضراب، فسيخبرونكم إن كانوا صادقين.
قال سلمان: " لايوجد في صفوف الجبهة شيعي واحد!! ".
النقد: قال عباسي مدني ـ النّاطق الرّسمي للجبهة ـ: " إنّ المصباح الذي أضاءه الإمام الخميني نوّر قلوبنا جميعاً، إننا نعتقد أنّ الثورة الإيرانية ستنقذ الأمّة الإسلامية، بل البشرية جمعاء ... إنّ الشعب الجزائري على أهبة الاستعداد للوقوف بجانبكم صفًّا واحداً لرفع راية الله أكبر في العالم "( ). هذا تصريح رئيس الجبهة، وهو يزور إيران أيّام قوّة جبهة الإنقاذ التي يصفها  سلمانُ بالسلفية!!
ولا أظنّك ـ يا أخانا سلمان ـ تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، فتقول كما يقول من ميّع عقيدته: " ليس هذا الكلام من مدني إلا تعاطفاً سياسياً مع الشيعة  "! لأنّه مَهْما قيل فيك إنك مصاب بلوثة إخوانية، فلا أتصوّرك قائله، لأنك تربيت في الديار السّلفية التي كانت أوّل المنتبهين للخطر الرافضي، فإن أبيتَ أن تكون سلفيا فللديار عليك مِنّة، فاحفظ لها ذمّتها.
وأنا أقول شيئاً من العسير قبوله عندك وعند الكثير وهو أنّ علي بن حاج نفسه الناقم على الشيعة، قد سئل من قِبل صحافي فرنسي عن الثورة الإيرانية، فأجاب ـ كما سمعته في التسجيل ـ: " ومن قال لكم أنّها ليست ثورة إسلامية؟ ومن قال: الخميني ليس مسلماً؟! "، قلت: إنا لله! ومَن مِن السّياسيين لم يعش كالزئبق؟! ثبّتنا الله.
قال سلمان: " وكان معظم القائمين على تلك الجبهة من المشهود لهم بالعلم والحكمة، والعقل، والعقيدة السّلفية الواضحة الصّافية السليمة ... ".
النقد: أما العلم فقد أجمع الناس على أنّه لا عالم بالجزائر بعد جمعية العلماء، وإليك علم من زكّيتَ: استوردَت الحكومة شياها من أستراليا لعيد الأضحى عام 1412هـ، وكانت جبهة الإنقاذ تهيء للعيد مثل ما فعلت الحكومة، وكل منهما يتربصّ بالشّعب اصطياده من بطنه! فلم تنجح الجبهة من جهة الأسعار، وتهافت الناس على سوق الحكومة؛ لأنهم مع الخبز حيث دار، ثم حدث أن لوحظ في الشّياه الحكومية عيبٌ من عيوب الأضحية عند المالكية؛ ألا وهو أن أذنابها مقطوعة، وحدث تشويش كبير لدى الناس، من مبيح ومن محرِّم، وأفتى يخلف شراطي ـ مفتي جبهة الإنقاذ ـ في جريدتها ( المنقذ ) بعدم الجواز!! ولا ندري أهي فتوى خاصة بالرّهان السّياسي أم هي جمود مالكي وأثر فكر جَزْأَرِيّ؟! وأحلاهما مرٌّ.
وفي مدينة سطيف ـ بالشّرق الجزائري ـ سئل عباسي مدني عن حكم لحم الدّجاج غير المذبوح، فأجاب بفذلكة سياسية أضحت مضرب المثل عند جهّال الحركيين، فقال: " تسألونني عن الدّجاج غير المذبوح، فهلاّ سألتموني عن الأمّة المذبوحة؟!".
فتأمّل كيف تورّع المفتي في ذيل شاة ورعاً سياسياً‍! في دقة مالكية! وأما رئيسه فلم تُبْقِ السياسة للمذهب المالكي على بطنه رقيباً.
أليست حياة هذه ( الأمّة المذبوحة ) هو مطلبه؟ أليس النصر بدعاء المستضعفين؟ بلى، إنّ رسول الله  قال: (( إنما ينصر الله هذه الأمّة بضعيفها؛ بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم ))( ). ومن شرط إجابة الدّعاء أكل الحلال كما جاء عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله :» أيّها النّاس! إنّ الله طيّبٌ لا يقبل إلا طيّباً. وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إنّي بِمَا تَعْمَلُون عَلِيمٌ}، وقال: {يأيُّها الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّباتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثم ذكر الرجل يطيل السّفر أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء: يا ربّ! يا ربّ! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، 
وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام. فأنّى يستجاب لذلك؟! «( )، قلتُ: فكيف يستهان بذاك السؤال؟!
لو كان عباسي مدني على شيءٍ من العلم لأدرك أنّه بهذا التّهرب من الجواب يسلخ أمتّه المذبوحة، وليس يحييها، ولكنه فِعْلُ السياسة العصرية بأهلها؛ إذ لا يعظِّمون شرعاً، بل يضيقون به ذرعاً، وإلى الله المشتكى.
وهل تؤسس دولة الإسلام على يد رئيس حزب إسلامي ومفتيه، وهما لا يحسنان الإفتاء في ذيل شاة، ولحم دجاج؟! قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ}، وقال: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ}.
وأزيد ههنا قائلاً: إن لجبهة الإنقاذ هذه رجلاً ثالثاً أعرق في الضلالة وأغرق في الجهالة، يُدْعَى الهاشمي سحنوني، كان رأساً في التكفير، وله أتباع من هوامّ العوامّ هم من أغرب أشكال بني آدم، سمعتُه يوماً يشرح نواقض الإسلام، فذكر أن شابًّا سقط من سيارة وهو يهتف باسم فريق من فرق كرة القدم، فمات تحت وطأتها، فحكم عليه بالموت على الكفر؛ لأنه قدّم نفسه في غير سبيل الله!! من شريط مسجّل باسم ((  نواقض الإسلام!! )). وهذا المفتي
ـ أخي القاريء! ـ كان يُعَدّ في الجبهة نائباً لعلي بن حاج بلا منازع!!! فتأمّل هذا المستوى المتدنِّي!
للاعتبار: عن إبراهيم النّخعي، قال: " قال عمر من أستخلف؟ لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح! فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! فأين أنت من عبد الله بن عمر؟ فقال: قاتلك الله، والله ما أردت بها الله، أستخلف رجلاً لم يحسن يطلّق امرأته( )؟! "( ).
وأما العقل، فأين هو عند علي بن حاج الذي إذا خطب سبّ الرؤساء سبًّا فظيعاً، بأسمائهم، وأسماء نسائهم، وليس هذا سبق لسان من خطيب غضوب، بل جلُّ خطبه على هذا، ومعروف عند أتباعه أنّ كل خطبة ودرس له إذالم يصحبه سباب مباشر لاذع بعبارات نابية ليس بشيء، ولا تتناقله الألسن، ولا يخفى عليكم أسلوب الإثارة واستغلال عواطف الشباب الجامحة، فقد جرّبتم كم يقتل من عقل، فأين العقل؟ وأين هو من قول الرسول : » ما بال أقوام يقولون كذا؟ ...«( ).
أين عقل وحكمة هذا الرجل وهو يأمر ـ في درس عام ـ بتكسير كل شيء حكوميّ، كان على إثره تكسير مقرّ الخطوط الجوّية السعوديّة بالجزائر أيام قضية الخليج غضبا للعراق؟!
أين عقله يوم جمع الناس في مسجد ( السنّة!) بباب الوادي بالجزائر العاصمة، عقب فتنة(5 ـ أكتوبر ـ 1988م) مباشرة، ليلة الإثنين بعد صلاة المغرب والعشاء جمع تقديم؛ لأنّها صلاة خوف!! وقال: " قام شبه إجماع من الدّعاة على ترك المسيرة أو المظاهرة، والعبد الضّعيف ـ يقصد نفسَه ـ يرى القيام بها، فإن وافقتم فكبّروا، وإلا رجعنا إلى بيوتنا!!! "، فكبّر هوامُّ االعوامِّ عن بكرة أبيهم، فقرّر في حينه مسيرة سلمية! سلمية! مات فيها المئات من الشباب في مقتبل العمر!! آلعقل ـ يا سلمان!ـ يأمره بترك مشورة عقلاء الأمّة الذين سمّاهم هو بـ ( الدّعاة )، ليستشير الدّهماء والسوقة والأحداث؟!!
أتدري ـ يا سلمان! ـ أنّه لما زار أحمد القطّان الجزائر، وألقى محاضرة عن قضيّة الكويت في جمع قال فيه هو: " لم أَرَ كاليوم جمهورا غفيرا "، بمسجد ابن باديس بالقبة بالجزائر العاصمة ـ وهو المسجد الذي يخطب فيه علي بن حاج ـ  هتف الناس عندها: " الكويت! الكويت! "، ثم بعدها مباشرة في ملعب (5) جويلية بالعاصمة، خطب القطان في الناس وأثار قضية الكويت، ثم قام المتهوّر أسعد التميمي الفلسطيني ـ الذي جاء ليمحو أثر القطّان وقد كان رفض تسليم القطان عليه بحضرة الجمهورـ ودعا الناس إلى الجهاد لتحرير فلسطين وتحرير السعودية ودول الخليج! فقام علي بن حاج وعرّض بقضية الخليج ووقّع على المضي مع التميمي، ووقّع الناس بعده مقتدين به؟! واغتاظ الناس على القطان، وليحمد ربّه الذي أنجاه منهم بعد أن كادوا يَفتكون به! وكانت مسرحية عجيبة لكنها مسجّلة فاطلبوها( ).
  ثم في الوقت الذي انتقل فيه الناس من الكويت إلى فلسطين، وأخذ الشباب المسكين ـ الذي يلعب به دعاة العواطف ـ يتدرَّب على المصارعة اليبانية لأن الدولة رفضت أن تقدِّم لهم السلاح!! ـ وأنا أعني ما أكتب ـ يأتي علي بن حاج معتذراً عن قضية فلسطين، وأنّ للجهاد شروطاً، وأنّه .. وأنّه .. والسِّر في هذا المدّ والجزر أنّ إخواننا السّلفيين سألوا الشيخ الألباني عن التميمي هذا باعتبار أن أهل الحديث هم المرجع الصادق وأهل الميزان الحاذق في الجرح والتعديل، فقال: " ذاك رجل كل يوم بعقل؛ فقد تَشَيَّع أيّام حرب إيران ضد العراق، ثم هو اليوم ( تَعَرَّق ) "، وحذّر منه بشدّة ومِن تجميعه للأموال. وللشيخ كلمته المسموعة عند الجزائريين، بل ما عصمهم الله تعالى في كثير من مواطن الفتن إلا به، فلم يكن من علي بن حاج إلا أن يجامل السلفيين بالتظاهر بالتعقل بعد أن كاد التميمي يذبحه وجماعته في أوّل مطار يطيرون منه إلى فلسطين أو إلى تل أبيب!! هذا السّبب الأول.
وأما السبب الثاني: فهو فكر عباسي مدني القومي الجَزْأَري ـ وإن لم يكن جزْأَرِيا انتماءًا ـ؛ إذ هو لا يرى أيّ جهادٍ للجزائريين خارج الجزائر، فستراً للخلاف الذي بينه وبين علي بن حاج كان ما كان، والله المستعان.
أين عقل من يدعو الناس إلى تحريق الحافلات الحكوميّة للنّقل الجماعيّ بحجّة رفض الدولة تسليمها لهم أيّام المظاهرات؟ هذا عقل عباسي مدني!
ثم قبل هذا كله أين عقل من يصدّق الديمقراطية اليوم في وعدها الإسلاميين بإهداء كرسيّ الحكم إن كانت لهم الأصوات؟! وأين عقل من يُلدغ من جُحْر مرّات، وقد قال رسول الله : » لا يُلْدغُ المؤمنُ من جُحْرٍ واحدٍ مرتين «؟( ).
هذا غيض من فيض، يكفي اللّبيب لتبيّن الأمر على حقيقته. وكم قلنا لجبهة الإنقاذ: لو لم يكن لكم علم بالشرع أو من يبصِّركم به، لكان العقل البشريّ كافيًا لهدايتكم إلى الحق في هذه المسائل الواضحة جدّاً، وقد وجدنا هذا العقل عند كثير من العوام الذين كانوا يلاحظون هذا الانحراف، آسفين على تلبّس دعاتهم وهداتهم به {واللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
وأما عن سلفية الجبهة، فهل يهمّك ـ يا سلمان! ـ أن تَعْلم أنّ هذا الرجل اجتمع بخليل مُلاّ خاطر في ندوة عامة على التحذير الشّديد من الشيخ الألبانيّ خاصة واتّهماه بالعمالة لليهوديّة العالميّة، ومن الدعوة السلفيّة عامة وصوّراها أكبر عائق في طريق الدعوة الإسلامية، قال عباسي مدني: ظهرت عندنا نابتة من الألبانيين .. فيهم كيت وكيت ...؟ فأجاب ملا خاطر قائلا: " أما الألباني فإنه معروف بأنه عميل للصهيونية "، وكالاَ له من التهم ما تتقزز منه النفوس المحبة لأهل الحديث،  اطلب هذا الشّريط ـ يا سلمان! ـ من ثقاتك فإنه مشهور جدا، فإن قيل إنّه تراجع عن ذلك، قلنا: وأين ذلك؟ وكيف ذلك وهو لا يزال يحذّر منه إلى يوم الناس هذا؟! واسأل الشيخ أبا بكر الجزائريّ ـ حفظه الله ـ عمّا شكا إليه مدني لمّا زار الجزائر؛ فقد قال له: " من الناس وهم معنا ـ يُعَرِّض ببعض الدّعاة السلفيّين الحاضرين في ذلك المجلس ـ من يتّصل بالألباني يسألونه عن أوضاعنا، ونحن أولى بالفتيا منه لأنّه لا يعرف واقعنا ... " إلخ، وقد طُلب من مدني إظهار التّراجع مرارا فأبى، وتكلم فيه بكلام غليظ؛ لأنّ الشيخ الألباني ظلّ كالشّوكة في حلوق الحزبيّين. أهذه هي سلفيّة جبهة الإنقاذ ـ يا سلمان ـ وهذا اعتقاد رئيسها؟ وما تخفي صفوفها أكبر.
قال سلمان: " دعونا من التفاصيل، ودعونا من التحاليل، دعونا من كلام الصحافة، ودعونا من كلام الإعلام، خذوا الصورة بأبسط معانيها، نحن أمام طرفين: الطرف الأول: الدّعاة إلى الله، تمثّلهم في الأعمّ الأغلب الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، والشّعار الذي ترفعه هو شعار الإسلام والكتاب والسنّة، وقِف عند هذا الحدّ. دعك من أي معلومات أخرى عن الجبهة، هذا هو الشّعار الذي ترفعه، ويقابلهم أحزاب، بما في ذلك حزب التّحرير الحاكم، أحزاب ترفع شعارات الاشتراكية والقومية والوطنية.
وقد جرّبتها الأمّة فأيقنت أنّها لا تتحمّس للإسلام ولا تدعو إليه ولا توَاليه ولا ترفع شعاره ولا تنادي باسمه، ولا تُربي الناس عليه، وأنّها حتى قدرتها على إدارة شئون الناس وتحقيق مطالبهم الماديّة والاقتصادية والإدارية فشلت في ذلك، فما هو الموقف العفوي الذي لا يملك أي مسلم عنده روح الإيمان والولاء في الدين، لايملك إلا أن يجد قلبه منساقا إليه وهو أمام هذه الصورة المبسّطة الواضحة البعيدة عن التعقيد ...؟! ".
النقد: إنّ هذا الكلام العاطفي لا يغني من العلم شيئاً؛ لأنّ عامة الناس الذين يسمعونه بحاجة إلى فتوى علميّة، لا " إلى ما تنساق إليه قلوبهم عفوا "، وسيأتيك ما فيه من خطإ منهجي عند التعرّض لكلام د/ سفر الحوالي.
قال سلمان ـ بعد تضخيم القمع العسكري الذي تعرّضت له الجبهة آنذاك ـ: " في حالة إصرارهم على مثل هذه الأساليب ( أي القمعية )، فإنّ العاقبة سوف تكون لصالح المسلمين والإسلاميين هناك، وعندها لا تُلام الجبهة الإسلامية إذا عاملت خصومها بنفس شعارهم .. "!!
النقد: أولا:تأمّل أيها القاريء هذا لتدرك أن ثورات هؤلاء لا تنبع من فقه الجهاد، ولكنها ردود فعل!
ثانيا: تأمل هذا التّحريض الصّريح منه لإشعال فتنة القتال، والقضاء على المسلمين الضعفاء بمثل هذا التهييج الغالي البعيد عن فقه الجهاد، وتالله إنّها لإحدى الكبر! والأدهى والأمرّ أنّه يزيد الطين بلّة حين يتمثّل بثورة الشّيوعيين المستضعفين في روسيا ويريد من الجزائريين أن يقتبسوا منها نورا فيقول: » لماذا يتصوّر كثير من الناس أن الفدائية والإصرار والصبر والتحمّل هي فقط نصيب الشّعوب المنحرفة ونصيب المنحرفين والضّالين، وأنّ النّصارى واليهود والشّيوعيين وغيرها يضحُّون، وقد رأى الناس كلهم كيف أنّ الشيوعيين العُزَّل في روسيا كانوا يواجهون الدبّابات بعد الانقلاب بصدورهم العارية وسوَاعدهم التي لاتحمل شيئاً حتى سقط ذلك الانقلاب، ويظنّ كثيرون أنّ أهل لاإله إلا الله لايستطيعون أن يدافعوا عن دينهم ولا أن يصبروا عليه، لماذا نسيء الظنّ بأهل لاإله إلا الله إلى هذا الحدّ؟ لماذا نهوّن من شأن هذه الجماهير المسلمة في الجزائر وفي غير الجزائر، ونعتقد أنّها تنفض عن قيادتها وعن اختيارها وعن رغبتها في الدين لأدنى مضايقة يمكن أن تقع ... ".
النقد: أيا سلمان لا يُمَثَّل للمسلمين بالكافرين فضلاً عن إظهار الكافرين بالشجاعة ونجاح الطريق، أما سمعت الله تعالى يقول: {لِلَّذينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى}؟ أمَا وجدتَ ـ وقد وجدت ـ في سير الصّالحين من الأولين والآخرين ما يغنيك عن هذا؟
ولا أعتقد أن قصورك في الاطلاع على التاريخ الإسلامي هو الذي حرمك مما أردتَ، ولكن قصور التاريخ الإسلامي عن أن يمدّك بثورة على الوصف الذي تحب هو السبب الذي حملك على البحث في تاريخ الشيوعية عن المثل الأعلى الذي ارتضيتَه لإخوانك؛ لأنه ليس في الإسلام ثورات، فتمثلتَ بالثورة الشيوعية التي لا يحكمها دين ولا يدعمها عقل!
أهل " لا إله إلا الله " أعقل من أن يستبدلوا الثورة بالجهاد.
أهل " لا إله إلا الله " أعزّ من أن يقتدوا بأعداء " لا إله إلا الله "، وقد قال رسول الله : » ليس لنا مثلُ السَّوْء «( ).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لمّا اشتكى النبي  ذكرَت بعضُ نسائه كنيسةً رأيْنَها بأرض الحبشة يقال لها ( مارِية )، وكانت أمُّ سلمة وأمُّ حبيبة رضي الله عنهما أتَتا أرض الحبشة، فذكرتا من حُسنها وتصاويرَ فيها، فرفع رأسه فقال:» أولئكِ إذا مات منهم الرجل الصّالح بَنَوْا على قبره مسجداً، ثم صوّروا فيه تلك الصورةَ، أولئكِ شِرارُ الخلق عند الله «( ).
فتأمَّل كيف لم يسكت النبي  عمّا يشعر بالمدح للكفار ـ مع أنه خبر عن واقع صادق ـ حسماً لمادة التأسي بهم، خاصة في مثل مقام الشِّرك بالله، لأنّ النّفوس مجبولة على حبّ الأمثال المستحسنة، فكان يجب إظهار أعداء الله في أخزى صورهم؛ لأنّ كفرهم مُذهب لحسناتهم.
ومن عجيبب صنع الله بسلمان أنّه كرّر هذا المثال الذي يدعو فيه إلى العنف بقوة في محاضرة لأضعف الخلق وهم النساء، فقد قال في شريط:» هموم ملتزمة « رقم (106) ـ في بداية الوجه الأول ـ: " ضغوط الناس لا يمكن إهمالها بحال من الأحوال الآن! ونحن في عصرٍ صار للجماهير تأثير كبير، فأسقطوا زعماء كبار( كذا )، وهزّوا عروش ( كذا )، وحطّموا أسواراً وحواجز، ولازالت صورة العزَّل الذين يواجهون الدّبابات بصدورهم في الاتحاد السوفيتي ... ".
 قلتُ: يبدو أن هذه الصّورة أثّرت في حياة سلمان العودة إلى حدّ أنّه لا يهوِّن من شأن أيّ غوغائية لمواجهة الدّبابات، ولو كانت صدر فتاة ملتزمة وساعدها النّاعم! ولو في السّعودية!! لأنّه يقول بعد هذا: " فإذا كان المجتمع الذي نعيش فيه مجتمعاً منقسماً، وهذه حقيقة {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُون} ... فيجب أن يمارس الخيِّرون كافة الوسائل لتحقيق قناعاتهم الشرعية، والشكوى وسيلة لا يمكن أن نهوِّن منها أو من شأنها، ولكنها من أضعف الوسائل خاصة إذا لم يكن معها غيرها!! ".
وفي أوّل هذا الشّريط بعد أن حرص على أن تنال المرأة الشهادات العالية في التعليم حتى لا تترك المجال للعلمانيات! أخذ يُحَرِّض على الخروج بصراحة قائلا: " إنّني أعتقد أنّ زمن الشّكوى قد انتهى أو كاد أن ينتهي ـ أعني ـ أنّ دور الخيِّرين والخيِّرات لا يجوز أبدا أن يتوقف عند مجرد رفع الشّكاوي إلى الجهات المختصة حصل كذا وحصل كذا ... ".
قلت: ماذا تريد ـ يا سلمان!ـ بهذا التّهييج؟! إنه تحريض صريح على الخروج؛ لأن الشكوى باللسان لا تكفي عندك! وليس فوق التغيير باللسان إلا اليد كما هو معلوم، وقد لا يكلِّف الشرعُ الرِّجالَ أنفسهم بما فوق ذلك. فلئن شحّت نفسُك عن قبول المعاذير، فـ » رفقاً بالقوارير «!
ثم تأمل اعتماد سلمان ـ كغيره من الثوار ـ على الغثاء وقارنه بقول المؤرِّخ ابن خلدون ـ رحمه الله ـ: " ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء؛ فإن كثيرا من المنْتَحِلين للعبادة وسلوك الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجَور من الأمراء، داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، والأمر بالمعروف رجاءً في الثواب عليه من الله، فيَكثُر أتباعُهم والمتشبِّثون بهم من الغوغاء والدهماء، ويُعَرِّضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يَهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين؛ لأن الله سبحانه لم يَكتب ذلك عليهم ... "( ).
ثم يا سلمان! أما علمت أن فتواك هذه طار بها الثُّوَّار الإسلاميون عندنا كل مطار، وتنادوا مُصْبِحين ومُمْسين أن اغدوا على جهادكم إن كنتم ـ في هذه ـ لعلماءِ السّعوديّة سامعين؟!
يا سلمان! لسان كل سلفيّ في الجزائر يقول لك: أترضى لنا بفتياك ـ ونحن إخوانك ـ أن نعيش في أيامنا هذه أسوأ الأحوال. أنت تكتب من وراء مكتبك المترف، وإخوانك المجاهدون الذين حسَّنت فيهم ظنّك قد حلقوا لِحاهم، وتجرّدوا من ثيابهم الإسلامية وحلقوا شعورهم وقصروها على أقبح وأحدث صورة يعرف عليها الكفار والفسّاق، ونحن نقاسي ما نقاسيه بمظهرنا الإسلامي، ولم يثبت اليوم على زيِّه الإسلامي إلا السّلفي غير المتحزِّب، يمضي إلى بيت الله خائفا يترقب، فلا يدري أيرجع إلى بيته أم يُدسُّ في التّراب؟
وهل يغني عنك شيئا هذا التناقض الآتي حين قلت بعده مباشرة: " نحن لاندعو إخواننا في الجزائر ولا في أي بلد آخر إلى مواجهة دامية لاتحمد عقباها .. ".
النقد: إنّ قولك: " لا تحمد عقباها " فذلكة يتخذها السياسيون للتخلص من العُتبَى ولو مشوا على حبلين متضادي الاتّجاه! لأنّ هذه الجملة إمّا هي صفة كاشفة، فيكون المعنى متفقاً مع سابقه في التحريض على المواجهة الدّامية لمن رجم بالغيب فرأى العقبى محمودة، وإمّا هي بيان للواقع، فإن غضضنا الطرف عن كلماتك التي تتّهمك بالتحريض لم تنج من التناقض؛ لأنك تدعو إلى المواجهة ولو بالصدور العارية، والسّواعد التي لا تحمل شيئاً، ثم تتظاهر بالترّاجع ( العاقل! ) مع أنّ الذي يرجّح أنك تقصد الأول هو نصيحتك للجبهة بعده مباشرة بقولك: " يمكن أن تصبر ويمكن أن تصابر ويمكن أن تظل وفيّة لدينها ولقادتها الإسلاميين الآن، وبعد شهر، وبعد سنة، وبعد سنوات، وتظل تنادي بالإسلام وتصبر وتتحمّل وتبذل المزيد من القتلى الذين نحتسبهم عند الله تعالى شهداء،ومن التضحيات ومن تحمّل السّجون وتحمّل الأذى حتى يظهرها الله تعالى ... ".
النقد: جاء في شريط من » سلسلة الهدى والنّور « رقم (470/1) قول السائل للشيخ الألباني: " هناك ـ يا شيخ ـ من يقول إنّه من يقتل الآن على السّاحة المصرية بين الحكومة والإخوة؛ بعض الإخوة يقول إنّه شهيد، والحديث يقول: » إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار «؟( ).
أجاب الشيخ: " أولاً: الجواب عن هذا السؤال باختصار: أنّ من يقتل في هذه المجابهات التي تقع بين الدولة وبين بعض أفراد الشّعب المسلم، وأستدرك هنا على نفسي، فأقول: بين الدولة التي لا تحكم بما أنزل الله وبين بعض أفراد الشعب الذي يطالب الدولة بأن تحكم بما أنزل الله، فما يقع من قتلى بين الطّرفين، فليس فيهم من يصح أن يقال فيه:  إنّه شهيد ".
ثم فصّل في التفريق بين الشّهادة الحقيقية والشّهادة الحكمية، وقال بعدها: " هؤلاء الذين أنت تسأل عنهم لا يَصْدُق فيهم لا الشهادة الحقيقية، بل ولا الشّهادة الحكمية ". ثم أفاض في تعليل ذلك بعلم غزير، يجب على الشباب المتحيّر اليوم طلبه، لأنّه شحّت فهومُ كثيرٍ من أهل العلم عن استنباطه. والله يعصم المتحمِّسين من شرِّ الجهل به.
قال سلمان: " هذا مع أنّ وضع الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر وضع جيّد، وهي امتداد لجمعية العلماء، فهي ذات اتجاه سلفي في الغالب .. ".
النقد: هنا خطآن من أخطاء الواقع يدلان على أنّ هؤلاء لا يصلحون بعد للإعلام الإسلامي، وهما:
الأول: لم يخطر ببالي ولا ببال أحد من المنخرطين في جبهة الإنقاذ هذا الامتداد، وحبله مقطوع من زمن بعيد، وقد حيّرني هذا الخبر إذ لم أتصوّره لحظة من حياتي بل ولا ادّعاه الناطق الرسمي لجبهة الإنقاذ ولا نائبه، مَن مِن أعضاء جمعية العلماء هو الآن في حزب جبهة الإنقاذ ؟ لقد مات معظم أعضاء الجمعية ففي أيّ مقبرة تمّ الاجتماع بينهما وأعطيت الجبهة الميثاق والعهد من شيوخها ؟ {ستُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ ويُسْئَلُون}! ومن بقي من شيوخ الجمعية لم يُعرف له نشاط في الجبهة؛ لأنّ الجمعية حُلّت قبل وجود الجبهة بنحو ثلاثين سنة، بل ومن سوء حظ أخينا سلمان أنّ أعضاء الجمعية الأحياء قد أسّسوا لهم جمعيتهم من جديد إظهارا لمخالفتها للدَعِيّ المُتَبَنَّى. وأنشأت لها جريدة » البصائر« التي لا علاقة لها بجبهة الإنقاذ لا تلميحاً ولاتصريحاً، بل أقول صراحة: إنّ جلَّ أعضائها كانوا أشدّ ما يكونون على الجبهة لأنهم حكوميّون، لهم مراكز مرموقة، خاصة في وزارة الشّئون الدينية {ولا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}.
ثم من النّاحية التاريخية والمنهجية في آنٍ واحدٍ، أقول: لو أنّ الأعضاء الأحياء من الجمعية انضمّوا إلى جبهة الإنقاذ لم يكن لك أن تربط بين الجمعية التي أسّسها ابن باديس ـ رحمه الله ـ وبين هؤلاء؛ ذلك لأنّ الجمعية لم تُؤسّس أصالة كحزب سياسي، ويكفيك تسميتها ( جمعية العلماء المسلمين الجزائريين )، وعملها كان مؤَصَّلا على التعليم، خاصة على التّصفية والتربية، في الوقت الذي كانت فيه الأحزاب يتناثر طَلْعُها كطلع الفُطور. ثم كان بينها وبين الأحزاب الوطنية المتحمّسة لقتال الفرنسيين خلاف شديد، لأنّها كانت ترفض دخول المعركة والأمّة لم تهيأ بعد، كما يقوله السلفيون في كل زمان ومكان تفقُّهًا على أبواب الجهاد، خاصة منهم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ـ وهو رحمه الله لسان الجمعية ـ، وهاك كلماته في حكم التحزّب، قال: " أوصيكم بالابتعاد عن هذه الحزبيات التي نَجَمَ  بالشّر ناجمها، وهجم ـ ليفتك بالخير والعلم ـ هاجمها، وسَجَم على الوطن بالملح الأُجاج ساجِمُها، إنّ هذه الأحزاب كالميزاب، جمع الماء كَدَراً وفرّقه هَدَراً، فلا الزُّلال جمع، ولا الأرض نفع "( )، وقال أيضا: " إنّنا نعدّ من ضعف النتائج من أعمال الأحزاب في هذا الشرق كله آتيا من غفلتهم عن هذه الأصول، ومن إهمالهم لتربية الجماهير وتصحيح مقوِّماتها حتى تصبح أمّة وقوة ورأيا عاما .. "( ) ويقول: " ... إذا كان من خصائص الاستعمار أن يُضْعف المقوِّمات ويُميتَها، ثم يكون من خصائص أغلب الأحزاب أنّها تهملها ولا تلتفت إليها، فهل يلام العقلاء إذا حكموا بأنّ هذه الأحزاب شرّ على الشرق من الاستعمار؟ "، ويقول عن الجمعية: " جمعية العلماء جمعية علمية دينية تهذيبية فهي بالصفة الأولى تعلّم وتدعو إلى العلم وترغّب فيه وتعمل على تمكينه في النفوس بوسائل علنية واضحة لاتتستر، وهي بالصفة الثانية تعلّم الدين والعربية؛ لأنهما شيآن متلازمان، وتدعو إليهما وترغّب فيهما، وتنحو في الدين منحاها الخصوصي؛ وهو الرجوع به إلى نقاوته الأولى وسماحته في عقائده وعبادته؛ لأنّ هذا هو معنى الإصلاح الذي أُسّست لأجله ووقَّفت نفسها عليه، وهي تعمل في هذه الجهة أيضا بوسائل علنية ظاهرة، وبمقتضى الصفة الثالثة تدعو إلى مكارم الأخلاق ... "( )، ولما كانت الجمعية غير سياسية، وكانت الأحزاب السياسية تشوش على المتعلمين المتجمعين حول الجمعية بما تسميه جهادا ضدّ فرنسا، قام إنكار الجمعية عليها، فقد قال فيها الإبراهيمي ـ رحمه الله ـ: " وفي باب الأعمال لم نر منهم إلا عملا واحدا، هو الذي سميناه: جناية الحزبية على التعليم والعلم. هؤلاء القوم قطعوا الأعوام الطوال، في الأقوال والجدال، وجمع الأموال، وتعليل الأمّة بالخيال، ومجموع هذا هو ما يسمونه سياسية ووطنية ... كثرت مواسم الانتخاب حتى أصبحت كأعياد اليهود، لايفصل بعضها عن بعض إلا الأيام والأسابيع، وكان ذلك كله مقصودا من الاستعمار، لما يعلمه في أمّتنا من ضعف، وفي أحزابنا من تخاذل وأطماع، وفي مؤسساتنا ومشاريعنا العلمية من اعتماد على الوحدات المتماسكة من الأمّة، فأصبح يرميهم في كل فصل بانتخاب يوهن به صَرْح التعليم، ويفرّق به الجمعيات المتراصّة حوله، والتعليم هو عدو الاستعمار الألدّ لو كان هؤلاء القوم يعقلون ".
ثم تحدّث عن أثر الحزبيات في تمزيق صفّ الطّلبة فقال: " ولو أنّ مدارسنا اشتدت أصولها، وامتدت فروعها، وكانت تأوي في الجانب المالي إلى ركن شديد، وترجع في الجانب العلمي إلى رأي رشيد، لكان وبال هذه النعَرات الحزبية الشيطانية راجعا إلى أصحابه وحدهم ... هذه إحدى جنايات الحزبية على التعليم، زيادة على جنايتها على الأخوة والمصلحة الوطنية العامة "( ). ولعلّ أصرح كلمة تُبيِّن أن جمعية العلماء لم تنهج النهج السياسي هي وصية رئيسها الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ لطلبته حين جمعهم بالمسجد الأخضر في قسنطينة فقال: " اتقوا الله! ارحموا عباد الله! اخدموا العلم بتعلّمه ونشره، تحمَّلوا كل بلاء ومشقة في سبيله، ولْيَهُن عليكم كل عزيز، ولْتَهُن عليكم أرواحكم من أجله. أما الأمور الحكومية وما يتصّل بها فدعوها لأهلها، وإياكم أن تتعرَّضوا لها بشيء "( ).
وهو يقول هذا عن دراية بما يُدبَّر للمسلمين من مكائد، ولذلك قال: " ... حُوربت فيكم العُروبة حتى ظُنّ أن قد مات منكم عِرْقُها، ومُسخ فيكم نُطقُها، فجئتم بعد قرن، تَصْدَحُ بلابِلُكم بأشعارها فتثير الشعور والمشاعر، وتهدر خطباؤُكم بشقاشقها، فتدكُّ الحصونَ والمعاقلَ، ويهز كتَّابكم أقلامها، فتصيب الكِلَى والمفاصل.
وحورب فيكم الإسلام حتى ظُنّ أن قد طُمست أمامكم معالمُه، وانتُزعت منكم عقائدُه ومكارمُه، فجئتم بعد قرن، ترفعون عَلَم التوحيد، وتنشرون من الإصلاح لواء التجديد، وتدعون إلى الإسلام، كما جاء به محمد ، لا كما حرَّفه الجاهلون، وشوّهه الدّجّالون، ورضيه أعداؤه.
وحورب فيكم العلمُ حتى ظُن أن قد رضيتم بالجهالة، وأخلدتم للنذالة، ونسيتم كل علم إلا ما يَرْشَحُ به لكم، أو ما يمزج بما هو أضرُّ من الجهل عليكم، فجئتم بعد قرن ترفعون للعِلم بناءً شامخاً، وتشيِّدون له صرحاً سامقاً، فأسستم على قواعد الإسلام والعروبة والعلم والفضيلة جمعيتَكم هذه؛ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
وحوربت فيكم الفضيلة، فسِمْتُم الخسف، ودُيِّثتم بالصَّغار حتى ظُن أن قد زالت المروءة والنجدة، وفارقَتْكم العزّة والكرامة، فَرَئِمْتُم الضَيْم، ورضيتم الحَيْف، وأعطيتم بالمَقَادة، فجئتم بعد قرن تنفُضون غبار الذّل، وتُهَزْهِزون أسس الظلم، وتُهَمْهِمون هَمْهَمَة الكريم المحنَّق، وتُزَمْجِرون زمْجَرَة العزيز المهان، وتطالبون مطالبة من يعرف له حقًّا لا بدّ أن يعطاه أو يأخذه "( ).
وشرح ـ رحمه الله ـ سبب اختياره الدين على السياسة للنهوض بالأمّة في الوقت الذي كانت تؤاخذ الجمعية بعدم دخولها في السياسة، فقال: " وبعدُ، فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها، عن علم وبصيرة وتمسكاً بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النصح والإرشاد، وبثّ الخير والثبات على وجه واحد والسير في خطّ مستقيم، وما كنّا لنجد هذا كله إلا فيما تفرَّغنا له من خدمة العلم والدين، وفي خدمتهما أعظم خدمة، وأنفعها للإنسانية عامة.
ولو أردنا أن ندخُل الميدان السياسي لدخلناه جهراً، ولضربنا فيه المثل بما عُرف عنا من ثباتنا وتضحياتنا، ولقُدنا الأمّة كلها للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهل شيءٍ علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، وأن نَبْلغ من نفوسها إلى أقصى غايات التأثير عليها، فإن مما نعلمه، ولا يخفى على غيرنا أن القائد الذي يقول للأمّة:
( إنّك مظلومة في حقوقك، وإنّني أريد إيصالكِ إليها )، يجد منها ما لا يجد من يقول لها: ( إنّك ضالة عن أصول دينك، وإنّني أريد هدايتَك )، فذلك تلبِّيه كلها، وهذا يقاومه معظمُها أو شطرُها. وهذا كله نعلمه، ولكنّنا اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا وبيَّنا، وإنّنا ـ فيما اخترناه ـ بإذن الله لَمَاضون، وعليه متوكِّلون "( ).
وهذا يشبه كلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حين قال: " وكثير ممّن خرج على ولاة الأمور أو أكثرهم إنما خرج لينازعهم مع استئثارهم عليه، ولم يصبروا على الاستئثار، ثم إنّه يكون لولي الأمر ذنوب أخرى فيبقى بغضه لاستئثاره يعظّم تلك السيّئات، ويبقى المقاتل له ظانّا أنه يقاتله لئلاّ تكون فتنة ويكون الدين كله لله، ومن أعظم ما حرّكه عليه طلب غرضه: إما ولاية، وإما مال كما قال تعالى:{فَإِنْ أُعطُوا مِنهَا رَضُوا وَإِنْ لمَ يُعطَوْا مِنها إذَا هُم يَسخَطُون}، وفي الصحيح( ) عن النبي  أنّه قال: » ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء يمنعه من ابن السبيل، يقول الله له يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل مالم تعمل يداك، ورجل بايع إماماً لايبايعه إلا لدنيا؛ إن أعطاه منها رضي، وإن منعه سخط، ورجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبا: لقد أُعطي بها أكثر ممّا أُعطي «( ).
والمقصود من سوق كلام شيوخ جمعية العلماء إثبات الاختلاف المنهجي بين جبهة الإنقاذ والجمعية بما لايدع لأحدٍ ريبة.
إنّ الدّافع لقيام الجبهة هو الاستجابة للغثاء النَّاقم على النِّظام من أجل الخبز، ولقد تعجَّبت الصحافة كلها من الخطب التي ألقيت في الجمعة التي تلت انتفاضة (5 ـ أكتوبر ـ 1988م)، لأنّها كانت مهدئة، حتى من علي بن حاج، وكان قد نهى الناّس عن تكسير المعدّات والآلات، ولكن لمّا رأوا بأنّ أطرافا أخرى تطمع في استغلال الجموع الشّعبية التي استفزتها اليد الإلحادية عمدا، سارعوا إلى تغيير اللهجة، وغلب الغوغاء على الدّعاة حتى جارَوْهم على باطلهم، وكُوّنت المسيرات بعد هذه الجمعة بيومين فقط!! وبعدها حتى محمد السّعيد المعروف بشيء من التعقل في هذه القضايا لم يجد بدًّا من طاعة الغوغاء ـ بعد اعتقال ابن حاج ومدني ـ وألبسوه قميص المتهوّر وهو له كاره، وكان يَهاب أن يذكر كلمة ( الحكمة ) التي نبذها العوام، وأضحى تيار الدهماء كالسّيل لايوقف في طريقه، ولم يمكن للدّاعية إلا أن يكون مُسيَّرا. ولم يقف الحدّ عند تحكّم الغوغاء في هذه القضايا، بل إذا وجدوا منهم من يأمرهم بالتّأني سارعوا إلى تجميده ورميه بالعظائم، كما فعلوا بشيخيهم: بشير فقيه والهاشمي سحنوني، لأنّ هذا الأخير ـ ككثير من الحزبيين ـ عَوّدوا العوام على استعدائهم على من لا يمشي معهم من الدعاة، فانقلب السهم على راميه. وقد قال ابن تيمية: " والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، وهذا شأن الفتن، كما قال تعالى:{واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِين ظَلَمُوا مِنكُمْ خاصَّةً}، وإذا وقعتْ الفتنة لم يَسْلَم مِن التلوّث بها إلا مَن عصمه الله "( ).
الثاني: تنبّه أيّها القاريء إلى أصل أخشى أن تنساه، وهو أنّ السّلفية لا تعرف الحزبية، بل لم يكن يُفرَّق بين السّلفي والإخواني إلا بها، وتذكّر أنّ جبهة الإنقاذ حزبٌ كما يصرّح به رؤوسها أنفسهم، وقد كتب علي بن حاج في تأييد بدعة التحزب، فإلى أي الفريقين تنتمي جبهة الإنقاذ ؟
ولو سلّمنا بأنّ الحزبية من الإسلام، وأنّ العلماء الكبار كانوا مخطئين في إنكارهم ذلك، لقلنا: إنّ وصف سلمان للجبهة بأنّها سلفية خلاف الواقع، لأن كلامه هذا جاء عقب إقصاء السلفيين منها( )، وإدخال علي ابن حاج وعباسي مدني السجن، وتسلّمها بقوة جماعة ( الجَزْأَرَة ) التي هي من أعدى أعداء السّلفية، وترأسها محمد سعيد، بل هم على طريقة من يلقّب أهل الحديث بالحشوية ... المهمّ: زعمك هذا ـ يا سلمان!ـ كان في الوقت الذي كانت فيه أسماء المرشَّحين للانتخابات البرلمانية كلها من ( الجزأرة )، إلا واحدا في باب الوادي بالعاصمة، تركوه مصيدة للسّلفيين، لأن هذا الحي على سلفية وإن كان فيها دخن، فهل من معتبر؟ ولا أعتقد أن من حولك من الجزائريين يكتمك هذا إلا أن يكون من ( الجزْأَرِيين )!
فليتك ـ يا سلمان!ـ قلت ما قلت قبل هذا التاريخ لوجدنا لك مخرجا، لكن احمد الله وحده، فقد جعل لك خير مخرج حين قال: {وَالذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُم يَعْلَمُون}.
ـ قال سلمان: " سمعت أن الشيخ محمد ناصرالدين الألبانيّ ـ حفظه الله ـ الإمام العالم المحدّث، أرسل رسالة إلى الإخوة في الجزائر، وقرئت في المساجد، يؤيّدهم فيها، فكان لها أثر كبير على نفوس الناس هناك ".
النقد: كأنك ـ يا سلمان ـ تقول أي شيء! ما الذي يمنعك من التأني والعمل بقول الله: {يَأيُهَا الذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُم فَاسِق بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا}، وبقوله: {إلا مَن شَهِدَ بِالحق وَهُم يَعْلَمُون}؟ ولئن قلت: أنا ما تكلمت إلا بما سمعت والعهدة على الراوي، قلنا لك: أين أنت من قول رسول الله : » كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكل ما سمع «( ). كل من يعرف الشيخ الألباني يكذّبك في زعمك هذا( )؛ لأن الشيخ من نوادر أهل العلم الذين عُرفوا بصفاء المنهج والثبات عليه، ومن هذا الصفاء إنكاره الشديد على المشتغلين بالسياسة الآن، خاصة المتحزّبين منهم، وكلمته التي أضحت كالحكمة التي لم يسبق إليها ـ فيما علمت ـ مشهورة، ألا وهي قوله: " أرى الآن من السياسة ترك السياسة ". الشيخ كالجبل الشامخ لايتزحزح، كم كلمه المتحزبون وأرادوا استدراجه واستعطافه، وكانوا يكلمونه طوال هذه السنوات كل ليلة، وحرّفوا لديه الحقائق وأرادوا منه نصف كلمة تؤيّدهم، ولكن الشيخ في صبره العجيب وجلده الشديد وحلمه الطويل يقول في جرأته المعروفة مع القريب والبعيد: " لاحزبية في الإسلام ". يا سلمان أين فقهك للواقع ؟ لقد سارت الركبان في كل أصقاع المعمورة بكلمة تقول: " لئن جاز أن تستغل الحركات الإسلامية الماكرة كبار المشايخ بالتمويه عليهم، فإن الشيخ الألباني ميؤوس منه عندهم ". أنت ـ ياسلمان! ـ قلت: " لماذا نهوّن من شأن هذه الجماهير المسلمة في الجزائر وفي غير الجزائر ونعتقد أنها تنفضّ ... " توسّمت انتصار الجبهة وهي تحاصَر بقوة، وهذه فراستك! فكيف كان اغترارك حين رأيتها بعدها قد حازت مقاعد البرلمان؟ وتأمّل فراسة الشيخ الألباني أيّام انتصار الجبهة في الانتخابات البرلمانية، حين كاد الناس ـ أصحاب النتائج ـ يُجمعون على أنّها وصلت، أخبرني الشيخ علي بن حسن بن عبد الحميد آخر سنة 1412هـ، حدّثه الشيخ سليم الهلالي أنه كان عند الشيخ الألباني حين أُخبر بالانتصار المذكور فقال الشيخ: رغوة صابون أو كلمة نحوها، ثم مشيت إلى بيت الشيخ سليم الهلالي طلبا للإسناد العالي وهو صحيح كالشمس كما ترى، فقال لي: " قال الشيخ: هذه رغوة فقاقيع ". بالجزم من غير الشّك الذي تحفّظ فيه الشيخ علي حفظهما الله تعالى، وهما محل صدق والحمد لله، ومن ارتاب فإن الشيخ حيٌّ يرزق وهاتفه بلا حجاب.
فهل الشيخ يكره قيام دولة الإسلام ؟ أم هي فراسة مجتهد قد ظهر صدقها، ولا يدركها طالب العلم مهما جمع من قصاصات الجرائد ؟! فأي الفريقين أحق بالحديث في هذه المسائل: أهو طالب العلم الذي لا هو يعرف تمحيص الأخبار، ولا هو يتأنى لتبيّن الصدق من الكذب، ولا هو يحسن تحليل واقع الناس؟ {ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِنَ العِلْم}! أم هو العالم المجتهد المسنّ الذي أدّبته النّصوص وحنّكته التجارب؟ {وَلَو رَدُّوه إِلى الرسول وَإِلى أُولي الأمْرِ مِنهم لَعَلِمَهُ الذِينَ يَسْتَنْبِطُونَه مِنهُم}. وفي جواب الشيخ أمارة واضحة على قوة إيمانه بالغيب، ويقينه في صدق نصوص الوحيين، وأنه لا تخدعه نتائج الواقع ما لم تؤسَّس على الشرع ـ نحسبه كذلك ـ ويا ليت شعري كيف يكون يوم أصحاب النتائج إذا أحيى الدجالُ المقتولَ بين أيديهم وأَخرج كنوزَ الأرض ...؟ فاللهم حفظك( ).
ذلك هو تصرّفك وتسرّعك ـ ياسلمان! ـ مع الأخبار التي وردتك على أحسن ما نظن بك، أما نحن فحينما بلغنا أن الشيخ الألباني أيّد الجبهة جزمنا في أنفسنا بكذبه، وتيقنا ذلك حين رأينا الورقة الأخيرة فقط من الفاكس الذي أرسله الشيخ إلى أعضاء الجبهة قد علقت بالمساجد، وظهر لنا أن كلاماً سبقها حُذف، وازددنا يقينا حين قرأنا بأسفلها مكتوبا بلون مغاير: " لقد دعا الشيخ ناصر الدين الألباني للشعب الجزائري بالنصرة والتوفيق، وذلك في مكالمة هاتفية!!"، فعلمنا أنهم لم يعودوا من عند الشيخ إلا بخفي حنين، فحسبهم أن يعلقوا من الفاكس ورقة واحدة قليلة الأسطر بالنسبة للورقات الأخرى، لا يراد منها إلا التدليس، وكتمنا ذلك وقلنا: " اتبع الكذّاب إلى باب الدّار "، فاتصلنا بالأردن مباشرة فجاءنا من الشيخ الفاكس بتمامه، فإذا هو ستّ ورقات!كما أنه قد سئل الشيخ نفسه عما يلي:
 قال السائل: قال بعض الدعاة في شريط له عندنا هنا في السعودية بعنوان » كلمة حق في المسألة الجزائرية «( )، قال هذا الداعية إنكم أرسلتم رسالة إلى جبهة الإنقاذ في الجزائر تؤيِّدونها فيما قامت به، وتحثونها على الاستمرار، وأن تلك الرسالة قد قُرئت على الناس في المساجد، وقد كان لها أثر كبير في صفوف جبهة الإنقاذ، فالسؤال: هل هذا حصل منكم، نرجو التوضيح؟
الجواب: " إذا كان هذا الداعية تعرفه فاقرأ عليه قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِين ءَامَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} إلى آخر الآية، وقال عليه السلام: » بحسْب امريء من الكذب أن يحَدِّث بكل ما سمع «، هذا أولا، ليطلب مِن الذي أخبره بهذا الخبر الزور النصَ الذي أرسلتُه إليهم بخطي، هذا الجواب عما سألتَ ". واقرأ الآن ـ يا سلمان! ـ هذا النص إن لم يسبق لك أن قرأته، ثم ضع فقهك للواقع في ميزان الصائغ، فهل تراه يزن شعرة؟! 

هذه صورة كلمة الشيخ الألباني التي أرسلها بواسطة ( الفاكس ) إلى جبهة الإنقاذ الجزائرية



    نص فاكس الشيخ الألباني إلى جبهة الإنقاذ
    الجزائرية
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد؛ فإلى لجنة الدعوة والإرشاد في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
وبعد؛ فقد تلقيت أَصِيلَ هذا اليوم الثلاثاء الموافق للثامن عشر من شهر جمادى الآخرة سنة ( 1412هـ ) رسالتكم المرسلة إليّ بواسطة ( الفاكس ) فقرأتها وعلمتُ ما فيها من الأسئلة المتعلقة بالانتخابات التي قلتم إنها ستجري عندكم يوم الخميس أي بعد غد( )، ورغبتم مني التعجيل بإرسال أجوبتي عليها، فبادرت إلى كتابتها ليلة الأربعاء لإرسالها إليكم بـ ( الفاكس ) أيضاً صباح هذا اليوم ـ إن شاء الله ـ شاكراً لكم حسن ظنكم بأخيكم وطيب ثنائكم عليه الذي لا يستحقه، سائلا المولى سبحانه وتعالى لكم التوفيق في دعوتكم وإرشادكم.
وإليكم الآن ما يَسَّر الله لي من الإجابة عل أسئلتكم، راجيا من المولى سبحانه وتعالى أن يلهمني السداد والصواب في ذلك:
السؤال الأول: ما الحكم الشرعي في الانتخابات التشريعية ( ما يسمى بالبرلمان ) التي نسعى من خلالها إلى إقامة الدولة الإسلامية، وإقامة الخلافة الراشدة ؟
الجواب : إنّ أسعد ما يكون المسلمون في بلادهم يوم ترفع راية ( لا إله إلا الله ) وأن يكون الحكم فيها بما أنزل الله، وإن مما لا شك فيه أن على المسلمين جميعا ـ كل حسب استطاعته ـ أن يسعوا إلى إقامة الدولة المسلمة التي تحكم بكتاب الله وسنة رسول الله  وعلى منهج السلف الصالح، ومن المقطوع به عند كل باحث مسلم أن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بالعلم النافع والعمل الصالح، وأول ذلك أن يقوم جماعة من العلماء بأمرين هامين جدا:
الأول: تقديم العلم النافع إلى من حولهم من المسلمين، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يقوموا بتصفية العلم الذي توارثوه مما دخل فيه من الشركيات والوثنيات حتى صار أكثرهم لا يعرفون معنى قولهم :( لا إله إلا الله )، وأن هذه الكلمة الطيبة تستلزم توحيد الله في عبادته تعالى وحده لا شريك له، فلا يستغاث إلا به، ولا يذبح ولا ينذر إلا له، وأن لا يعبدوه تعالى إلا بما شرع الله على لسان رسول الله ، وأن هذا من مستلزمات قولهم: ( محمد رسول الله )، وهذا يقتضيهم أن يُصَفُّوا كتب الفقه مما فيها من الآراء والاجتهادات المخالفة للسنة الصحيحة حتى تكون عبادتهم مقبولة، وذلك يستلزم تصفية السنة مما دخل فيها على مر الأيام من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، كما يستلزم ذلك تصفية السلوك من الانحرافات الموجودة في الطرق الصوفية، والغلو في العبادة والزهد، إلى غير ذلك من الأمور التي تنافي العلم النافع.
والآخر: أن يُرَبُّوا أنفسهم وذويهم ومن حولهم من المسلمين على هذا العلم النافع، ويومئذ يكون علمهم نافعاً وعملهم صالحاً؛ كما قال تعالى:{فمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، وحينئذٍ إذا قامت جماعة من المسلمين على هذه التصفية والتربية الشرعية فسوف لا تجد فيهم من يختلط عليه الوسيلة الشركية بالوسيلة الشرعية؛ لأنهم يعلمون أن النبي  قد جاء بشريعة كاملة بمقاصدها ووسائلها، ومن مقاصدها مثلا النهي عن التشبه بالكفار وتبني وسائلهم ونظمهم التي تتناسب مع تقاليدهم وعاداتهم، ومنها اختيار الحكام والنواب بطريقة الانتخابات، فإن هذه الوسيلة تتناسب مع كفرهم وجهلهم الذي لا يفرق بين الإيمان والكفر ولا بين الصالح والطالح ولا بين الذكر والأنثى؛ وربنا يقول:{أَفَنَجْعلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمون} ويقول:{ولَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}.
وكذلك يعلمون أن النبي  إنما بدأ بإقامة الدولة المسلمة بالدعوة إلى التوحيد والتحذير من عبادة الطواغيت وتربية من يستجيب لدعوته على الأحكام الشرعيةحتى صاروا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى كما جاء في الحديث الصحيح، ولم يكن فيهم من يُصِرُّ على ارتكاب الموبقات والربا والزنا والسرقات إلا ما ندر.
فمن كان يريد أن يقيم الدولة المسلمة حقا لا يُكتِّل الناس ولا يجمعهم على ما بينهم من خلاف فكري وتربوي كما هو شأن الأحزاب الإسلامية المعروفة اليوم، بل لا بد من توحيد أفكارهم ومفاهيمهم على الأصول الإسلامية الصحيحة: الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح كما تقدم، {ويَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُون بِنَصْرِ الله}، فمن أعرض عن هذا المنهج في إقامة الدولة المسلمة وسلك سبيل الكفار في إقامة دولتهم فإنما هو ( كالمستجير بالرمضاء من النار )! وحسبه خطأ ـ إن لم أقل: إثماً ـ أنه خالف هديه  ولم يتخذه أسوة والله  يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللهَ كَثِيراً}.
السؤال الثاني: ما الحكم الشرعي في النصرة والتأييد المتعلقين بالمسألة المشار إليها سابقاً ( الانتخابات التشريعية )؟
الجواب : في الوقت الذي لا ننصح أحدا من إخواننا المسلمين أن يرشِّح نفسه ليكون نائبا في برلمان لا يحكم بما أنزل الله، وإن كان قد نص في دستوره (دين الدولة الإسلام) فإن هذا النص قد ثبت عمليا أنه وضع لتخدير أعضاء النواب الطيِّبي القلوب!! ذلك لأنه لا يستطيع أن يغيِّر شيئاً من مواد الدستور المخالفة للإسلام، كما ثبت عمليا في بعض البلاد التي في دستورها النص المذكور.
هذا إن لم يتورط مع الزمن أن يُقر بعض الأحكام المخالفة للإسلام بدعوى أن الوقت لم يحن بعدُ لتغييرها كما رأينا في بعض البلاد؛ يُغَيرِّ النائب زيّه الإسلامي، ويتزيّا بالزي الغربي مسايرة منه لسائر النواب! فدخل البرلمان ليُصْلِح غيره فأفسد نفسه، وأوَّل الغيث قطرٌ ثم ينهمر! لذلك فنحن لا ننصح أحدا أن يرشح نفسه؛ ولكن لا أرى ما يمنع الشعب المسلم إذا كان في المرشَّحين من يعادي الإسلام وفيهم مرشَّحون إسلاميون من أحزاب مختلفة المناهج، فننصح ـ والحالة هذه ـ كل مسلم أن ينتخب من الإسلاميين فقط ومن هو أقرب إلى المنهج العلمي الصحيح الذي تقدم بيانه.
أقول هذا ـ وإن كنت أعتقد أن هذا الترشيح والانتخاب لا يحقق الهدف المنشود كما تقدم بيانه ـ من باب تقليل الشر، أو من باب دفع المفسدةالكبرى بالمفسدة الصغرى كما يقول الفقهاء.
السؤال الثالث : حكم خروج النساء للانتخابات ؟
الجواب : يجوز لهن الخروج بالشرط المعروف في حقهن وهو أن يتجلببن الجلباب الشرعي، وأن لا يختلطن بالرجال، هذا أولا.
ثمَّ أن ينتخبن من هو الأقرب إلى المنهج العلمي الصحيح من باب دفع المفسدة الكبرى بالصغرى كما تقدم.
السؤال الرابع : الأحكام الشرعية المتعلقة بأنماط العمل الشرعي في ( البرلمان ) ورجالاته ؟
الجواب :فنقول: هذا سؤال غامض مرادكم منه غير ظاهر لنا، ذلك لأن المفروض أن النائب المسلم لا بد أن يكون عالما بالأحكام الشرعية على اختلاف أشكالها وأنواعها، فإذا ما طرح أمر ما على بساطِ البحث فلا بد أن يوزن بميزان الشرع، فما وافق الشرع أيده وإلا رفضه؛ كالثقة بالحكومة، والقَسَم على تأييد الدستور ونحو ذلك !!
وأما رجالات البرلمان! فلعلكم تعنون: ما موقف النواب الإسلاميين من رجالات البرلمان الآخرين؟ فإن كان ذلك مرادكم فلا شك أنه يجب على المسلمين نوابا وناخبين أن يكونوا مع من كان منهم على الحق كما قال رب العالمين:{وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.
وأما السؤال الخامس والسادس : فجوابهما يُفهم مما تقدم من الأجوبة.
ونضيف إلى ذلك أن لا يكون همُّكم ـ معشر الجبهة الإسلامية! ـ الوصول إلى الحكم قبل أن يصبح الشعب مهيَّئًا لقبول الحكم بالإسلام، ولا يكون ذلك إلا بفتح المعاهد والمدارس التي يتعلم فيها الشعب أحكام دينه على الوجه الصحيح ويربَّى على العمل بها ولا يكون فيهم اختلاف جذري ينشأ منه التحزب والتفرق كما هو الواقع الآن مع الأسف في الأفغان، ولذلك قال ربنا في القرآن : {ولاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون}، وقال رسول الله : » لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا إخوانا كما أمركم الله « رواه مسلم.
فعليكم إذن بالتصفية والتربية، بالتأني؛ فإن » التأني من الرحمن والعجلة من الشيطان «، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام( )، ولذلك قيل: من استعجل الشيئ قبل أوانه ابتلي بحرمانه، ومن رأى العبرة بغيره فليعتبر، فقد جرب بعض الإسلاميين من قبلكم في غير ما بلد إسلامي الدخول في البرلمان بقصد إقامة دولة الإسلام، فلم يرجعوا من ذلك ولا بخفي حنين ! ذلك لأنهم لم يعملوا بالحكمة القائلة : " أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم في أرضكم "، وهكذا كما قال :» إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم « رواه مسلم.
فالله سبحانه وتعالى أسأل أن يلهمنا رشدنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، ويهدينا للعمل بشرعةِ ربنا، متبعين في ذلك سنة نبينا ومنهج سلفنا، فإن الخير كله في الاتباع والشر كله في الابتداع، وأن يفرج عنا ما أهمَّنا وأغمَّنا وأن ينصرنا على من عادانا، إنه سميع مجيب.
عمان صباح الأربعاء 19 جمادى الآخرة سنة 1412هـ.
وكتب
محمد ناصر الدين الألباني أبو عبد الرحمن( ).
أقول: فالصدقَ الصدقَ ـ يا سلمان! ـ قبل يوم تعذر الاعتذار، قَالَ الله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِيَن صِدْقُهُم}.
قال سلمان: " وكذلك اجتمعنا مع سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز منذ زمن ـ مِن منذ نحو شهرين، وكان الشيخ متعاطفاً معهم، وحدثنا أنّه يهمُّ بإرسال رسالة إليهم لتأييدهم والدّعاء لهم، ودعوة المسلمين إلى تأييدهم، وذلك قبل أن يجري ما جرى، ولكنّني علمتُ فيما بعد أنّ الشيخ لم يفعل ذلك لبعض الأسباب الخاصة ".
النقد: إنّ ما نقلته عن الشيخ هنا لا يستدعي النّقد؛ لأنك نقضت أوّله بآخره فلم تأت بشيءٍ، وأستدرك هنا فأقول: لم تأت بشيءٍ من العلم، وإلا فقد أتيت عظائم، لأنك تنسب ما لا حقيقة له إلى العلماء، وأيّ علماء! لا تُغْفِل ـ يا سلمان! ـ أنك تتحدّث عمن حمى الله بهم دعوة السّلف؛ لا تُغفِل ـ ياسلمان! ـ أنك تتحدّث عمن لا يُعرف لهم نظير في العالم الإسلامي؛ لا تُغفِل ـ يا سلمان! ـ أنك تخبر عمّن قيّض الله لفتاواهم نقلة أمناء، ينفون عنهم تزوير المزوِّرين، وتحريف الغالين.
لو رأيتنا ـ ياسلمان! ـ ونحن نتردد على الشيخ العلاّمة عبد العزيز بن باز ـ حفظه الله ـ ثلاث مرّات؛ نسأله عن أوضاع الجزائر، وفي كل مرّة لا يزيد على قوله: " الله أعلم، حتى تنظر اللجنة الدّائمة للإفتاء ".
قلت: الله أكبر! هذا ورع مفتي المسلمين، بل هذا هو العلم، قال ابن مسعود : " ياأيّها الناس! اتقوا الله، مَن عَلِم منكم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم، فليقل: الله أعلم، فإنّ من العلم أن يقول الرجل لِما لا يعلم: الله أعلم، فإنّ الله  قال لنبيِّكم : {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِفِين} "( ).
ثم أبى الله  إلا أن يتم نوره ولو كره المهرِّجون، وكما بينت آنفاً تكذيب العلامة الألباني لما نُسِب إليه، أبيّن الآن تكذيب الشيخ ابن باز لِما نسبه إليه سلمان؛ فقد سئل بمكة يوم (26) من ذي الحجة (1414هـ) ـ وهو مسجل في التوعية الإسلامية ـ عمّا يأتي:
السؤال الأول:
الجماعة الإسلامية المسلّحة بالجزائر قَوَّلَتْكم أنكم تؤيّدون ما تقوم به من اغتيالات للشرطة وحمل السّلاح عموما، هل هذا صحيح؟ وما حكم فعلهم مع ذكر ما أمكن من الأدلّة جزاكم الله خيرا؟

الجواب من سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز:
" بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وصلّى الله وسلّم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فقد نصحنا إخواننا جميعا في كل مكان ـ أعني الدّعاة ـ نصحناهم أن يكونوا على علم وعلى بصيرة وأن ينصحوا الناس بالعبارات الحسنة والأسلوب الحسن والموعظة الحسنة وأن يجادلوا بالتي هي أحسن، عملا بقول الله سبحانه: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ}، وقوله سبحانه: {ولا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم}، فالله جلّ وعلا أمر العباد بالدعوة إلى الله وأرشدهم إلى الطريقة الحكيمة، وهي الدعوة إلى الله بالحكمة يعني بالعلم: قال الله، قال رسوله، وبالموعظة الحسنة وجدالهم بالتي هي أحسن، عند الشّبهة يحصل الجدال بالتي هي أحسن والأسلوب الحسن حتى تزول الشّبهة.
وإن كان أحد من الدّعاة في الجزائر قال عنّي: قلت لهم: يغتالون الشّرطة أو يستعملون السّلاح في الدعوة إلى الله هذا غلط ليس بصحيح بل هو كذب، إنما تكون الدعوة بالأسلوب الحسن: قال الله، قال رسوله،  بالتّذكير والوعظ والتّرغيب والتّرهيب، هكذا الدعوة إلى الله كما كان النبي  وأصحابه في مكّة المكرمة قبل أن يكون لهم سلطان، ما كانوا يدعون الناس بالسّلاح، يدعون الناس بالآيات القرآنية والكلام الطيّب والأسلوب الحسن لأنّ هذا أقرب إلى الصّلاح وأقرب إلى قبول الحق، أما الدعوة بالاغتيالات أو بالقتل أو بالضرب فليس هذا من سنّة النبي  ولا من سنّة أصحابه، لكن لمّا ولاّه الله المدينة وانتقل إليها مهاجرا كان السّلطان له في المدينة وشرع الله الجهاد وإقامة الحدود، جاهد عليه الصلاة والسلام المشركين وأقام الحدود بعد ما أمر الله بذلك.
فالدّعاة إلى الله عليهم أن يدعوا إلى الله بالأسلوب الحسن: بالآيات القرآنية والأحاديث النّبوية، وإذ لم تُجدِ الدعوة رفعوا الأمر للسّلطان ونصحوا للسّلطان حتى ينفّذ، السّلطان هو الذي ينفّذ، يرفعون الأمر إليه فينصحونه بأنّ الواجب كذا والواجب كذا حتى يحصل التّعاون بين العلماء وبين الرؤساء من الملوك والأمراء ورؤساء الجمهوريّات، الدّعاة يرفعون الأمر إليهم في الأشياء التي تحتاج إلى فعل: إلى سجن، إلى قتل، إلى إقامة حدّ، وينصحون ولاة الأمور ويوجّهونهم إلى الخير بالأسلوب الحسن والكلام الطيّب، ولهذا قال جلّ وعلا: {ولاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتابِ إلاَّ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم}، فلو ظلم أحد من أهل الكتاب أو غيرهم فعلى وليّ الأمر أن يعامله بما يستحق، أما الدّعاة إلى الله فعليهم بالرّفق والحكمة لقول النبي : » إنّ الرّفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزَع من شيء إلا  شانه «( )، ويقول عليه الصلاة والسلام: » مَن يُحْرَم الرّفق يحرم الخير كله «، فعليهم أن يَعِظوا الناس ويذكّروهم بالعذاب والأحاديث ومن كان عنده شبهة يجادلونه بالتي هي أحسن: الآية معناها كذا، الحديث معناه كذا، قال الله كذا، قال رسوله كذا، حتى تزول الشّبهة وحتى يظهر الحق. هذا هو الواجب على إخواننا في الجزائر وفي غير الجزائر، فالواجب عليهم أن يسلكوا مسلك الرسول عليه الصلاة والسلام حين كان في مكّة والصّحابة كذلك، بالكلام الطيّب والأسلوب الحسن؛ لأنّ السلطان ليس لهم الآن لغيرهم، وعليهم أن يناصحوا السلطان والمسؤولين بالحكمة والكلام الطيب والزّيارات بالنيّة الطيبة حتى يتعاونوا على إقامة أمر الله في أرض الله، وحتى يتعاون الجميع في ردع المجرم وإقامة الحق؛ فالأمراء والرّؤساء عليهم التّنفيذ، والعلماء والدّعاة إلى الله عليهم النصيحة والبلاغ والبيان. نسأل الله للجميع الهداية ".
السؤال الثاني:
قامت الجماعة الإسلامية المسلّحة بتهديد أئمّة وزارة الشّئون الدينيّة بالجزائر، الذين لا يصرّحون بسبّ الحكّام على المنابر؛ إمّا توقيف صلاة الجماعة والجمعة وإمّا القتل بحجّة أنّه موظّف لدى الطّواغيت، وقد نفّذوا القتل في مجموعة من الأئمّة الذين لم يستجيبوا لهم كما تعطّلت صلاة الجماعة في بعض المدن فما حكم هذا الفعل؟
الجواب: " ما يصلح هذا! هذا أيضا غلط، هذا ما يصلح! الواجب على الدّعاة أن ينصحوا الناس بالكلام الطيب ينصحوا الخطباء وينصحوا الأئمّة حتى يستعملوا ما شرع الله، أما سبّ الأمراء على المنابر فليس من العلاج، فالعلاج الدّعاء لهم بالهداية والتّوفيق وصلاح النّيّة والعمل وصلاح البطانة، هذا هو العلاج،لأنّ سبّهم لا يزيدهم إلا شرّا، لا يزيدهم خيرا، سبّهم ليس من المصلحة، ولكن يُدعَى لهم بالهداية والتّوفيق والصّلاح حتى يقيموا أمر الله في أرض الله وأنّ الله يصلح لهم البطانة أو يبدلهم بخير منهم إذا أبوا، أن يصلحهم أو يبدلهم بخير منهم، أما سبّهم ولعنهم أو سب الشّرطة أو لعنهم أو ضربهم أو ضرب الخطباء كل هذا ليس من الإسلام. الواجب النصيحة والبلاغ والبيان قال الله جلّ وعلا: {هذا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ}، فالقرآن بلاغ والسنة بلاغ، قال جلّ وعلا: {وأُوحِيَ إليّ هذا القرءانُ لأُنْذِرَكم به ومَن بَلَغ}، قال جلّ وعلا: {وأَنذِرِ الناّسَ}، {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}، فالعلماء هم خلفاء الرّسل، ينذرون الناس و يحذّرونهم من عقاب الله ويرشدونهم إلى طاعة الله ويأمرونهم بتقوى الله ويحذّرونهم من معاصي الله، وينصحون ولاة الأمور من الأمراء وغيرهم، ينصحونهم، يوجّهونهم إلى الخير ويدعون لهم بالهداية لأنّ هذا أقرب إلى النّجاح وأقرب إلى الخير حتى تنتشر الدعوة، وحتى يتفقّه الناس في الدين، وحتى يعلموا أحكام الله، أما إذا عوملوا بالضّرب أو بالوعيد للخطباء وغيرهم كان هذا من أسباب ظهور الشّرّ وكثرة الشّرّ وقلّة الخير. لا حول ولا قوّة إلا بالله.  نعم؟ ".
السؤال الثّالث:
كما قامت هذه الجماعة بقتل بعض النساء اللاّئي أبين ارتداء الحجاب، فهل يسوغ لهم هذا؟
الجواب: " هذا أيضا غلط، لا يسوغ لهم هذا، الواجب النصيحة، النصيحة للنّساء حتى يحتجبن والنصيحة لمن ترك الصلاة حتى يصلّي، والنصيحة لمن يأكل الرّبا حتى يدع الرّبا، والنصيحة لمن يتعاطى الزّنى حتى يدع الزّنى، والنصيحة لمن يتعاطى شرب الخمر حتى يدع شرب الخمر، كل يُنصح، ينصحون: قال الله وقال رسوله: بالآيات القرآنيّة والأحاديث النبوية، ويحذّرونهم من غضب الله ومن عذاب يوم القيامة، أما الضّرب أو القتل أو غير ذلك من أنواع الأذى فلا يصلح للدّعاة، هذا ينفّر من الدعوة، ولكن على الدّعاة أن يتحلّوا بالحلم والصبر والتّحمّل والكلام الطيب في المساجد وفي غيرها حتى يكثر أهل الخير ويقلّ أهل الشّرّ، حتى ينتفع الناس بالدعوة ويستجيبوا ".
السؤال الأخير:
يا شيخ! سؤال أخير ـ بارك الله فيكم ـ: لعلّ بعض الإخوة ممّن يميل إلى السلفية ويحبّ العلماء يصغي إلى كلام العلماء، فماذا تنصحون من تورّط في هذه الاغتيالات أو شيء من هذا يا شيخ؟
الجواب: " أنصحهم بالتوبة إلى الله وأن يلتزموا الطريقة التي سار عليها السّلف الصّالح بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، الله يقول: {ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعَا إلى اللهِ وعَمِلَ صَالِحاً}، فلا يوَرّطون أنفسهم في أعمال تسبّب التّضييق على الدعوة وإيذاء الدّعاة
وقلّة العلم، لكن إذا كانت الدعوة بالكلام الطيب والأسلوب الحسن
كثر الدّعاة وانتفع الناس بهم، وسمعوا كلامهم واستفادوا منهم وحصل
في المساجد وفي غير المساجد الحلقات العلميّة والمواعظ الكثيرة حتى ينتفع النّاس.
 الله يهدي الجميع، نسأل الله للجميع الهداية والتّوفيق " اهـ.
قال سلمان: " والجبهة في حقيقة الأمر ما كانت مؤيّدة للعراق!! "‍.
النقد: قال الله تعالى: {ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}.
أما سمعت أو رأيت في الرّائي والجرائد الكثيرة علي بن حاج في بدلة عسكريّة إفرنجيّة ومعه محمد سعيد والهاشمي سحنوني وغيرهم، يسوقون قطيعاً كبيراً من الأتباع الحاملين العَلَم العراقي متوجّهين إلى وزارة الدّفاع بالجزائر، طالبين السّلاح للقتال مع العراق؟! رافعين أصواتَهم بهتافات السّبّ للسّعوديّة والكويت؟! ومنهم من كان يَحمل صورة الخميني؟!!   
أما سمعت بالجيش الغفير الذي بعثته جبهة الإنقاذ إلى العراق للجهاد تحت راية صدّام؟ لم أكن أدري ـ يا سلمان! ـ أنّ غفلتك عن واقع الجزائر بلغت بك هذا الحدّ! أما تدري أنّ هذا الجيش ـ عند مروره بالأردن ـ صلّى الجمعة بمسجد خطب فيه أسعد التّميمي ووصف يومها الشيخ ابن باز في خطبة ناريّة تهجّميّة بأعمى البصر والبصيرة، بل بالكفر المخرج من الملّة بزعم موالاة الكفار؟! ولم ينكر ذلك أحد بتصريح أو كتابة .. لا النّاطق الرّسمي للجبهة ولا نائبه! بل تغدّى جمع من ( الجيش الإسلامي! ) عنده في انبساط وغرور كبير، ووقع في تلك الغزوة!! من منكرات سرقات الأموال وغيرها ما لا أحبّ ذكره. أخبرنا به أعضاء الجبهة أنفسهم حين تنبّهوا، وهو خبر متواتر بالجزائر، على الرغم من تواصي مسئوليهم بالكتمان.
أما سمعت ـ يا سلمان! ـ خطبة علي بن حاج في أوّل جمعة ألقاها بعد رجوعه من رحلته هذه ـ أيّام الاحتلال العراقي للكويت ـ في مسجد السنة بباب الوادي، وأوّل درس ألقاه في اليوم نفسه بين المغرب والعشاء في مسجد الشّافعي بالحرّاش بالجزائر العاصمة؟ لقد وصف مشايخ السّعوديّة ـ بدون استثناء ـ بعلماء البلاط، ولعلّه نسي أن يستثنيك منهم فاعذره !! وقال مخاطبا لهم بلهجة شديدة ـ ما معناه ـ: " أنتم تتورّعون من التّكفير لأنكم تزعمون أنكم أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فلماذا في قضيّة الخليج صرتم تكفّرون صدّاما؟! "، وقنت في صلاة الجمعة ودعا فيها للعراق بالنصر، ودعا على آل صباح وآل سعود بالهلكة، وكان من دعائه المسجوع: اللهم عليك باليهود، وآل سعود!! وبكى بكاءً شديدا، تحوّل فيه المسجدكله إلى نحيب وعويل، أشدّ ممّا عرف عن الشّيعة عند حسيْنيّاتهم، كل هذا مسجّل في أشرطة يوزّعونها.
وقال في الشّريط نفسه: " عندي حلّ: في هذا الحجّ نمشي جميعاً إلى البيت الحرام ونعتصم به فلا نخرج حتى تخرج أمريكا من الخليج وآلُ سعود!! " أو كلمة نحوها( )، وكذَب عندها على الشيخ الألباني حين نسب إليه تراجعاً عن فتياه في قضيّة الخليج، وأنّ الشيخ الآن يرى وجوب الخروج إلى العراق لنصرتهم، وأطلق الأمر هكذا ليوهم أنه ناقش الشيخ حتى أقنعه بوجوب القتال مع العراق! فكيف إذا جمعك الله به عنده {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}؟
ثم ساق قطعانه إلى العراق بهذا التّمويه، الذي كان من أكبر أسباب نفير كثير من السلفيين معه استبعاداً منهم لكذبه، قال الله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ ونَجْوَاهُمْ وأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ}!
وأزيدك علماً بأنّ خطبته هذه نقلت مباشرة بالتّلفزيون العراقيّ وفيها شبّه ابن حاج صدّاماً بخالد بن الوليد! {فإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ ولَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتي في الصُّدُورِ}.
فهل فقهت هذا الواقع  يا سلمان؟!
قال سلمان: " ممّا تُتَّهم به جبهة الإنقاذ أنّها تثير الفتن وتدعو إلى
العنف .. عجيب ..! جبهة الإنقاذ .. لازالت تملك نفسها تدعو النّاس إلى الصبر .. لا تصغ إلى هذا الكلام ... ".
النقد: مسكين أنت ـ يا سلمان! ـ؛ إذ تقول هذا الكلام عقب قول بعض دعاة الجبهة: " إنّ دم الرّئيس الشاذلي حلال! " في خطاب عام بساحة أوّل ماي بالعاصمة أيّام الإضراب، وجُنْدُ الرّئيس يلاحظون ويسمعون من قرب، وقال عباسي مدني ـ واعْجَبْ ممّا قال ولاعليك إن أنكرت عقلك ـ: " لو وقع انقلاب للحكومة الحالية( ) لخرجنا نساء وأطفالا ورجالا و ... وأعلنّا
الجهاد "، لقد خسرَت الجبهة كثيرا من المسؤولين لمّا رأوا منها تركيزها على العنف من أوّل يوم، بل لم تعرف الهدوء قطّ إلا حين فازت بالانتخابات البلديّة، فأضحى دعاتهم ـ الذين أنشأوا حزبهم هذا على التّكفير للحكومة إلى أقصى حدّ ـ يقولون: " أخطر شيء على الدعوة جماعة التّكفير! "، حتى علي ابن حاج الذي قلنا له مرارا: " احذر جماعة التّكفير وحذِّر منهم "، فكان يقول: " بل هم إخواننا قد قاموا في وجه الطّاغوت! "، فلمّا تفتّحت الحكومة مع الجبهة بعد تلك الانتخابات، وكفّرته هذه الجماعة تبرّم لها، فما أعزّ المخلصين للدّين في دفاعهم عنه، لا عن النّفس! كيف تَدَّعي أنها لم تقُم على العنف، وقد كتب سعيد مخلوفي ـ أحد المشبوهين من رؤوس الجبهة ـ كتاب
» العصيان المدني « جمع فيه بين الطريقة الشيوعية والطريقة الديمقراطية في الانقلابات من ( التحزب والاعتماد والانخراط والترشيح والدعاية والمظاهرة والتجمع والمسيرة والورقة السياسية والاعتصام بالساحات العامة والإضراب بكل أشكاله: أي عن الطعام وعن العمل ... والخروج ... )؟ وقد أشاد بفضل هذا الكتاب علي بن حاج في أول درس ألقاه في مسجد الشافعي ـ الذي سبق ذكره ـ بعد قفوله من ( غزوة العراق!)، وخاطب فيه مجلس القضاء: " بأنه مُقرٌّ بكل ما فيه! فإن حاكمتم مؤلفه فحاكموني معه! "، وأخذت الجبهة تشُقُّ طريقها على ما رسمه لها هذا المؤلِّف. فكيف يُزعَم أن الجبهة مالجأَت إلى العنف إلا مضطرة، أي حين أُقصِيَت من الانتخابات، وقد أُلِّف هذا الكتاب قبل الإقصاء؟! الأمر الذي يدلّ على أنهم كانوا يُعِدّون للعنف عدّته من أول يوم. ثم هل تدري ـ يا سلمان! ـ أنّ الجماعة الإسلامية المسلّحة مَنعت صلاة الجمعة في بعض المساجد، وأرسلت إليها بيانها تقول فيه: " تُترك صلاة الجمعة حتى يسقط النّظام وإلا ...! "، وفي بعض النسخ: " والجماعة أيضا!! "، وقد تعطّلت الجمعة في كل مساجد ولاية ( البويرة ) من الأسبوع الثاني لشهر شعبان (1414هـ)، ومِن قبلها في مدينة ( الأخضرية )، وبعدها في مدينة ( القادرية ) و( الخميس مليانة ) و( برج منايل ) بل وفي بعض المساجد الكبيرة في العاصمة وغيرها، فإذا لم يشتهر عن الخوارج ترك الجمعة فهل يُلحق هؤلاء بالشّيعة الروافض؟! كما أنهم قَتلوا بعض الأئمّة الرسميّين على الرّغم من أنه لا علاقة لهم بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد! أما تهديد الدّعاة السّلفيّين بالقتل فهذا أشهر من أن يذكر. والله وحده المستعان على ما تصف به الجبهة بأنّها سلفيّة يا سلمان!( )
ـ قال سلمان: " الجبهة الإسلامية فازت في الانتخابات البلديّة، فدخلت مع النّاس .. وأصبحتَ تجد رئيس البلديّة يصلي بالنّاس إماماً، ويتحدّث معهم، ويعطيهم دروساً في التّوحيد والفقه والحديث، ويعلّمهم الحلال والحرام وآداب الصلاة وغير ذلك ... ".
النقد: كم يرجو كل مسلم أن يكون الأمر كما قلتَ، ولكنّه اليوم رجاء كالأمنية، وقد قيل:
مَن كان مرعى عزمه وهمومه      روض الأماني لم يزل مهزولاً
أقول هذا لأن الأمر كان خلاف ذلك مع الأسف، أما تدريس التّوحيد والفقه والحديث فلا أدري من تحلّمه في منامه. وأما تعليم الحلال والحرام، فسل البلديّات الإسلامية عن تعاملها مع بنوك الربا؟! وسلهم بأيّ قضاء إسلاميّ كانوا يفصلون في الخصومات؟ وسل أيّ جزائريّ عن أموال البلديّات أين تسرّبت؟ وعن المساكن والأراضي الشعبيّة والعقارات بأيّ عدل قُسمت؟ وأما الصلاة وتعلّم آدابها، فكم سمعنا منهم من يتململ قائلاً: اشتقت إلى الجلوس في حلقة المسجد، فمنذ أن نجحنا في الانتخابات لم نعرف مجلساً للعلم في بيت الله، وكم هم الذين كانوا يجمعون الصّلوات في المساء؛ لأنهم شُغلوا بدولتهم عن ربّهم! ومن كان يحفظ نصيباً من كتاب الله أُنسيَه، وكان المدعو شرّاطي
ـ قبل الجبهة ـ يعلّم أحكام تلاوة القرآن برواية ورش ـ الرواية المقروء بها في الجزائر ـ حتى نفع الله به خلقا كثيرا، مع التّنبيه على أنّه كان ـ تقريباً ـ الوحيد على هذا في الجزائر كلها، مما أنعش التّلاوة الصحيحة، وما أن جاءت الجبهة حتى انخرط فيها هذا الشيخ، وذهبت حلقاته كأن لم تكن بالأمس، ونسأل الله تعالى أن لا يكون قد سلبه كتابه من صدره.
أيّ عِلْم هذا الذي علّمَته الجبهةُ وقد كان الرجل ـ يومها ـ ليستحي أن يحمل معه كتابا للعلوم الشرعية؟ إنما هي جريدة » المنقذ « يتأبَّطها أحدهم كدليل على الولاء!! على أنه لا ضير على مقتني الجرائد العلمانية؛ لأنه دليل التفقه على الواقع، بشرط أن يبقى بينه وبين حزبه كل الوفاء!!!
ولقد جاءني من مسئوليهم من يبكي ويقول: لم أترك الصلاة إلا لمّا أصبحت عضوا بارزا في بلديّة الجبهة ... بل قال لي أحد الثقات: عملت في البلديّة العلمانيّة ثم الإسلامية فلم أُمنع من الصلاة في مسجد الحيّ القريب جدّا من البلديّة إلا في البلديّة الإسلامية بحجّة أنّ بها مسجدا، وأنّ وقتنا ضيّق، وأنّ الصلاة جائزة في كل مكان، وأنّ العمل لدولة الإسلام عبادة وأنّها مصلحة عامة وغير ذلك من القواعد غير المؤسّسة، وصدق الله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ ورِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَه على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ}.
هذا وكان يُكتب على مدخل بلديّتهم بلون ذهبيّ: { ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ}!!
وأقول بصراحة: لولا أنّ الله قدّر ما قدّر لأوشك النّاس على بغض كل ما يقال له ( إسلاميّ )؛ من أجل ما يرون عليه المستوى الإسلاميّ، بدءاً بالاختلاسات البلديّة، وانتهاءً بخطب الجمعة التي لا تزيد على الشتائم النابية!
ومن علامات استصغارهم العلوم الشرعيّة أن ترى المسئولين الذين وصفتَهم ـ يا سلمان ـ لم يُختاروا على أساس درايتهم بالشرع، ولكن على أساس الدّراية بالعلوم المدنية، وهذا برز بشكل كبير جدّا حين هجمت
( الجزأرة ) على الجبهة، فلم نر من المرشّحين للبرلمان إلا طبيبا أو مهندسا أو رياضيا أو إداريا سياسيا، بزعم الخبرة بالعلوم المدنية، فأخّروا ذوي الشّهادات الشرعيّة خجلاً من أن تضحك عليهم الحضارة، وهذا نعرفه من النّخالة السياسية التي دنست حرم العلم الشرعي، إذ غالب الحركات الإسلامية على هذا التنقص، وإن صرخت باسم الشرع، وهو عين التفريق بين الدين والدولة لأنهم يتشدّدون في اشتراط المعرفة بالعلوم العصرية لمن ينصّب رئيسا للدولة الإسلامية، وأما في الدين فيكفي فيه عندهم شيء من العاطفة الإسلامية فقط!! ومن الدّواهي أنّ ( الجزْأَرة ) يمنعون الثوب السعودي؛ لأنّه دليل على الرّواسب السلفيّة والتأثر بالغزو الوهابيّ، ولكن لا بأس عندهم بالبدلة الفرنسيّة؛ لأنّها دليل على التحضّر وبُعد النظر وسعة الأفق!! وكم يَسْتَرْوِحُون إلى بعض الأساتذة الذين  درسوا عليهم؛ لأنهم وفدوا إليهم بلباس الكفار، ولا يستنكفون أن يلبسوه في الديار التي لا تَفرضه عليهم! مع أنهم متخصِّصون في الغزو الفكري!! فهل هذا عنوانٌ لتحدي سلفية الجزيرة التي يُسمّونها سلفيّة البدو؟ وكأنه قد قيل لهم: البسوه! ولاتخشوا الغزو! ولو كان فيه قول النبي : » من تشبّه بقوم فهو منهم! « رواه أحمد وهو حسن.
ولا تسارع إلى إنكار هذا؛ لأنك ربّما رأيت من الجزْأَريّين من لبس الثوب السعوديّ في السّعوديّة؛ فإنّ قاعدتهم عندكم قاعدة أهل الغربة الذين قال فيهم الشاعر:
        إنْ تُلْقِكَ الغربةُ في معـشر    قد أَجمعوا فيك على بُغضهـم
        فدارِهم ما دمْتَ في دارهم   وأرْضِهم ما دمت في أرضهم( )
وحقيقة هؤلاء أنهم دخلوا في صراع مع الحضارة وهم ضعفاء علما وتقوى، فأشعرتهم بالنّقص وأصيبوا بعقدة حضاريّة مع أنّ الله تعالى يقول: {فَلاَ تَهِنُوا وتَدْعُوا إِلى السَّلْمِ وأَنتُمْ الأَعْلَوْنَ واللهُ مَعَكُمْ}.
هذا خبر ما عندنا ـ يا سلمان ـ وذاك خبر مَن عندكم، فكيف تقول بعده: " أحياناً يقولون: إنّكم تتحدّثون عن قضايا لا تدركون أبعادها ولا تعرفون مراميها ولا خلفياتها "؟!
ياسلمان يقول الله: {وإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى}.

    فقه واقع الجزائر عند سفر الحوالي
وأما سفر الحوالي فقد تكلَّم عن أحداث الجزائر في شريط رقم (2/227) من أسئلة على شرح العقيدة الطحاوية بتاريخ: (25/12/1411هـ).
ـ قال فيه: " نحن لا نعرف الكثير عن هذه الجبهة الإسلامية! وبالنسبة لقائديها الشيخ عباسي مدني وعلي بن حاج: ما نعرفهما!! ولم نقابلهما، ولم نرهما!!! ". 
ـ النقد: كيف تتكلم ـ يا سفر!ـ عمن لا تعرفه والله يقول: {إلاَّ مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وهُمْ يَعْلَمُونَ}؟! بل كيف تجادل عنه وتحتجّ له والله يقول: {هَا أَنتُمْ هَؤُلاَءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}؟! والدعوات كلها تُقَوَّم بأصحابها؛ قال ابن تيمية: " إن الطائفة إنما تتميَّزُ باسم رجالها أو نَعْت أحوالها "( )؛ قلتُ: لأن جميع الناس قادرون على ادّعاء الإسلام والتلبيس بمعسول الكلام، وهل المنافقون إلا مندسّون في الصفوف يُمَوِّهون حتى ينخدع بهم مَن يمشي بعقليتك هذه؟! بل قال الله تعالى: {وإذا رَأَيْتَهمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}. ثم أقول: لوكنتَ مشترِكاً مع أحد من الناس في تجارة أو ما شابهها من رخيص متاع الدنيا، أكنتَ مكتفياً بهذا الوصف الذي وصفتَ به شيوخ الجبهة أم أنك تُشحّ بمالك، وتحتاط لدنياك؟! فكيف والأمر دين وجنة أو نار؟! كما قال حذيفة بن اليمان : " ولقد أتى علي زمان وما أُبالي أيكم بايعتُ؛ لئن كان مسلما لَيَرُدَّنَّه علي دينه، ولئن كان نصرانيا أو يهوديا لَيَرُدَّنَّه علي ساعيه. وأما اليوم فما كنتُ لأُبايِع منكم إلا فلانا وفلانا " متفق عليه.
هذا الاحتراز من أجل الدنيا؛ لأن المقصود بالمبايعة في كلام حذيفة البيع والشراء، فكيف بالدين الذي هو أول ما نرجو أن يُقيمه لنا مَن نبايعه على بيع الله ورسوله؟! مع هذا تريد من المسلمين أن يُؤيِّدوا دعوة رجلين مجهولين عندك! إنّ هذا لشيء عُجاب!! ورحمة الله على ابن بطة؛ إذ يقول: " فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون! فلقد عِشْنا إلى زمانٍ نشاهد فيه أقواماً، يُقَلِّد أحدُهم دينَه ويأتَمِن على إيمانه مَن يَتَّهِمه في كلمةٍ يَحكيها! ولا يَأمنه على التَّافِهِ الحقير مِنْ دنياه!! "( )، ورحمة الله على ابن سيرين؛ إذ يقول: " إنّ هذا العلم دِينٌ، فانظروا عمّن تأخذون دينَكم "، رواه مسلم في مقدمة (( صحيحه )).
ـ قال سفر: " لكن مِن منطلق ما أمر الله تعالى به مِن العدل، أنا أمامي رجلان، أمامي مدَّعيان، وهما جبهتان في الحقيقة: الجبهة الإسلامية وجبهة التحرير الحاكمة، جبهتان مدَّعيان، وأنا بمنزلة القاضي المأمور بالعدل ".
ـ النقد: لقد شققتَ على نفسك في طلب منصب القضاء وعدم الاكتفاء بمنصب الفتيا؛ لأنه يُكلفك ما لا طاقة لك به من جهتين:
1 ـ خطورة هذا المنصب؛ إذ يَفرض عليك الإصغاء إلى المتخاصمَيْن جميعا لقول النبي  لعلي: (( يا علي! إذا جلس إليك الخصمان فلا تَقْضِ بينهما حتى تَسمع من الآخر كما سمعتَ من الأول؛ فإنك إذا فعلت ذلك تبيَّن لك القضاء )) رواه أحمد وغيره وهو صحيح، وقد قيل:
لقد كُلِّفْتَ يا مسـكينُ أمراً      تَضيق له قلوبُ الخائفينا
أتَعْلَم أنّ ربّ العرش قاضٍ     وتقضي أنت بين العالمينا
ومن عجيب تناقضك اعترافك بأنك تقضي من غير أن تعرف أحداً من المقضي لهم!! وهذا هو الجَور بعينه، فإن قلتَ: اكتفيتُ بما تنشره الصحف، فقد عرفتَ ما فيه إن كنتَ قرأتَ هذا الكتاب من أوله، ثم الصحف نفسها لم تَعُدِ اليوم معبِّرة عن رأي النظام؛ لأن الكُتّاب أضحوا يعَبِّرون عن رأيهم الخاص في ظل الديمقراطية والتعددية الحزبية، وإن كنتَ أنت لا تزال تعيش زمن الاشتراكية في الجزائر، فاعلم أن هذا قد مضى من سنوات قبل بروز جبهة الإنقاذ، وعجيب ألاّ تدري وأنت اتهمتَ علماء بلدك بالقصور في اطلاعهم على الواقع؟!!  
2 ـ القضاء السياسي أخطر أنواع القضاء، ولا نعرف أنك أهل للقضاء فضلاً عن أهليّتك للحديث في السياسة!! لما بيَّنتُه في هذا الكتاب مِن اشتراط بلوغ درجة الاجتهاد لذلك، بل الذي نعرفه أن علماء بلدك نهوْك عنها، بل منعوك من التدريس نفسه، كما ستقرأ بيانهم هنا إن شاء الله.
ـ قال سفر: " وأنا بمنزلة القاضي ... كلٌّ منَّا كذلك ".
ـ النقد: فيه تَجْرِيءُ عامة الناس على القضاء، وعلى الدخول في السياسة، وهو أسوأ شيء يتعلَّمونه منك( ).
ـ وقال: " الآن مشكلة موجودة، يُطلب منا أن نحكم فيها،
مختصمان متنازعان نحكم بينهما، كيف نحكم؟ هنا السؤال، قال أحدهما
ـ ونحن لا نعرفه ـ: أنا أريد الإسلام وأريد كتاب الله وسنة رسوله  ... وقال عن خصمه: هذا خصمي جبهة التحرير: حزب اشتراكي علماني تابع لفرنسا وللغرب، قادته وزعماؤه فرضوا الاشتراكية على البلاد ... ماذا يجيب المسلم؟! ماذا يقول المسلم الذي يخاف الله ويؤمن بالله ويؤمن بالإسلام؟ مع أيهما يكون؟ وإن لم يعرفهما ولا علاقة له بهما، لكن مَن الذي تكون أو تميل أو فرض الله تبارك وتعالى، فرض الله عليك أن تكون معه وأن تنصره وأن تؤيِّده؟ هل هذه المسألة ـ أنا أسألكم جميعا ـ هل هذه فيها خيار لنا؟ هل فيها خيار وإلا نحن الآن أمام إلزام وحكم قاطع صريح من الله؟ إلزام، يجب علينا أن نكون مع الفجار وإلا مع المتقين؟ مع المتقين. مع الكافرين وإلا مع المؤمنين؟ مع المؤمنين ...".
ـ النقد: أعتقد أن عرض المسألة بهذه الصورة هو أكبر أخطاء سفر هنا؛ لأنَّه صوَّر المشكلة في اختيار الإسلام على الكفر أو العكس! وليس الأمر كذلك؛ لأنَّ المسلم لا يساوم  بشريعة الله ولا يرضى بها بديلا، لكن المشكلة في الطريق الموصل إلى تحكيمها، فطرحه السؤال على المسلمين: هل يختارون الإسلام أو الكفر؟ اتهام للمسلمين! لأن هذا السؤال لا يُطرح إلا على من {ارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}، هذه واحدة.
 والثانية: أنك ـ بهذا ـ حِدْتَ عن منشإ الخلاف، ومعروف أن الحيدة عن نقطة البحث تضيِّع البحث وقد تُعطي نتائج معكوسة.
 والثالثة: أنك أُتيت من المفهوم الخاطيء للعدل الذي دندنتَ حوله؛ حيث ظننتَ أنه يكمن في مجرد معرفة الشعار الذي يرفعه هؤلاء، وهذا خطأ
فادح؛ لأنَّ للعدل ميزانين: أحدهما: هوالإخلاص لله، والثاني: هو المتابعة لرسول الله ، وأنت لم تَزِن هذه الدعوة لا بهذا ولا بذاك؛ إذ كونك تقنع بمجرد الشعار المرفوع يدل على عدم تقصّي البحث في الوصول إلى غلبة الظن فيما يخصّ إخلاص القوم. وأما متابعة الرسول في هذا الطريق الذي سلكوه فلم تُعَرِّج عليه تماما، مع أن الله يعطي عليهما كما قال سبحانه: {بَلَى مَنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
فقوله: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ} يعني به الإخلاص.
وقوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} يعني به اتباع السنة، كما بيَّنه ابن تيمية ـ رحمه الله ـ( ).
فالقضية شرعية وليست عاطفية، وإلا فما قولك في محاسبة الله المؤمنين لما عصوا رسول الله  في أُحد، مع أنهم هم المؤمنون وعدوّهم وثنيٌّ كافر! والله سبحانه وتعالى قد تركهم ينكشفون أمام عدوّهم وقال: {أوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وبِعَدْلك هذا ـ يا سفر!ـ اتّبعَت الحركاتُ الإسلاميةُ الدعواتِ الباطنيةَ الهدامة؛ لأنهم اكتفوا منهم بما ظهر لهم من شعارهم، كما اكتفيتَ أنت بذلك! وغفلوا ـ كما غفلتَ ولا أحبّ أن أقول: تغافلتَ ـ عن إمرارهم على الغربال الثاني ألا وهو متابعة السنة، إذن فلماذا يلام من اتَّبع الخميني حين رآه يرفع شعار قوله تعالى: {ونُرِيدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذِين اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ ونَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ونَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ}؟!
ولماذا يُلام مَن انخدع بصدام حسين؛ وقد رآه كَتب على صواريخه أسماء الصحابة وتاب توبةً سياسيةً، حتى قال فيه علي بن حاج في كلمته التي ألقاها يوم رجع من العراق ـ وقد سبق ذِكر شيء منها ـ: " الرجل
تاب! ويريد الإسلام وسوف يُطبِّق الشريعة!! فهل شققنا على قلبه حتى نكفِّره؟! "، هكذا قال الرجل الذي شَبَّهه سلمان العودة بابن تيمية!! فهل تتصوَّرون يوماً ابن تيمية يَتبع صداماً، أو أنه يقول مثل هذا في جنكز خان؟!! فاللهم رحماك.
هؤلاء وأذنابهم كلهم تأثروا بقوم وجدوهم يحمِلون شعارات إسلامية في وجوه كفار خلَّص فما أغنى عنهم جمعهم وما كانوا يستكثرون.
عَدْلُك هذا ـ يا سفر! ـ هو الذي حَرَمكَ من فهم معنى الولاء حتى احتضنتَ شر المبتدعة، بل إنك جعلته قاعدة ـ ويا بئس ما قعَّدت له! ـ حين قلتَ في الربع الأخير من الوجه الثاني للشريط نفسه:
" يجب أن نأخذ قاعدة: ميزة الدعوات الإسلامية في العالم كله على ما فيها من تفاوت، وما بينها من أخطاء، ميزتها أنها تنبع من داخل الأمة! يعني يدعو إلى الإسلام حتى لو عند بعضهم انحرافات؛ إما إلى المعتزلة، وإما إلى الخوارج، وإما إلى الرافضة، ـ كما تعلمون ـ فهو يأخذها من واقع الأمة ومن تاريخها، من تراثها!!! ".
قلت: الله أكبر! هذه بليّة عظيمة!! وقد قيل: ما فيك يظهر على فيك! وصدق الله الذي قال:{ولَتَعْرِفَنَّهم في لَحْن القوْل}. ثم أخذ يشرح هذا التأصيل الفاسد بقوله:
" أما الحكومات العلمانية والحاكمون بالقوانين الوضعية فقطعاً لا ريب عندنا ولا شك أنهم أخذوا هذا من خارج الإسلام، وخارج الأمة الإسلامية، وخارج التاريخ الإسلامي، لا نسبة بين هذا وهذا ... أصلاً ... فنقول: مَنْ يدعو إلى الإسلام، عندهم أخطاء، عليهم ملاحظات، ما نزكي، ما نبرئ هؤلاء، هاتها تُعرَض وتُنقَد، لكن لا شك أن من يدعو الناس إلى الكتاب والسنة..إلى الإسلام ـ وإن أخطأ في فهم بعض أصوله ـ لا شك أنه لا نسبة أن يقارن ... " الخ.
قلتُ: هذا هو دين ردود الفعل! وهو دين الموازنات الجائرة! وهو من أوضح الأدلة على أن أخطاء سفر هذه ليست سقطات يقوم منها صاحبها إذا نُبِّه، وإنما هي ناتجة عن تأصيل فاسد عنده.
أنصحك ـ يا سفر! ـ أن تتعلَّم عقيدة الولاء والبراء، وأن تدرس كتب السلف لترى موقفهم من المبتدعة، وإن بقي عليك غبش من رواسب الإخوان فعُدْ إلى فصل ( الردّ على المخالف ) من هذا الكتاب، والله الهادي.
وعَدْلُك هذا ـ يا سفر!ـ هو الذي ربَّى من الشباب المسلم عواطف سرعان ما تنقاد للكائد، وتنخدع للصائد؛ لا يَفهم من عدوِّه إلا ما يفهمه الثور الأسود من الخرقة الحمراء ينطحها، حتى إذا أُثخِن بالجراح نودي بوَبْرَته إلى الجزار يسلخها.
فالله! الله! في هذه الأمة ـ يا سفر!ـ؛ فكم من دماء جرت منها أنهار بفتواكم هذه!! وكم من مؤمنة أرملت، وكم من فقيدة أيتمت!! ولو كُشف لكم الغطاء لجأَرْتم إلى الله تائبين؛ وهَلاً من أن تكون هذه الدماء كفلاً عليكم يوم القيامة!!
تناقض: في هذا الشريط يرى سفر أنه يكفي في مناصرة قوم أن نعرف منهم الشعار الذي يرفعونه، وفي شريط آخر من شروحه للعقيدة الطحاوية برقم (252) يتحدّث عن شعارات جبهة الإنقاذ ويقول: " نعم! لا تغرّنا الشعارات! مجرد الشعارات؛ لأن الله سبحانه وتعالى يريد منا إيمانا حقيقيا وقلبا صادقا مخلصا، وليس مجرد الشعارات!!! ".
ثم إذا به ينقض هذا الكلام مباشرة فيقول: " وإن كانت شعارات حق!
ـ على فكرة ـ تدرون ما هو شعار الجزائريين؟ شعارهم ـ يجولون ويتحركون ـ يقولون: " لا ميثاق .. لا دستور، قال الله .. قال الرسول!! "، أليس كذلك ـ إخواننا الجزائريين ـ؟ هذه في الأشرطة ... ويقولون: " لا إله إلا الله! عليها نحيا! وعليها نموت! وفي سبيلها نجاهد! ... ".
ـ قال سفر: " قالت جبهة التحرير الحزب الحاكم: نحن حزب اشتراكي نؤمِن بالاشتراكية ".
ـ النقد: حكاية الاشتراكية عن جبهة التحرير قديمة؛ تركَتْها أيام أمينها العام الشاذلي بن جديد وقبل ميلاد جبهة الإنقاذ كما سبق. أما اليوم فهم يرفعون شعارات أخرى أترك المجال لفقهك لواقع الجزائر حتى يدركها وحتى تعيش مع المسلمين أوقاتهم الحالية! هذا مع أن زعمك بأن الصراع دائر بين الإنقاذ والتحرير تصوير قاصر جدا، فأرجو مراجعة الأوراق.
ـ وقال بأن جبهة التحرير تقول: " نحن حزب علماني، وهذا في الدستور، لا يخفونه أبدا! ".
ـ النقد: أقول لك ـ يا سفر! ـ كلمة ليست دفاعاً عن جبهة التحرير
ـ معاذ الله! ـ ولكن من باب قول الله تعالى:{ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}: أتحدّاك أن توجِد لنا هذا النص من الدستور الجزائري! ولو قلنا إنهم كذلك لقلنا هم أمكر من أن يسجِّلوه في دستورهم لتعثُر عليه أنت بسذاجتك هذه، ألاَ شيء من الفطنة يا قوم!
ـ وجعل سفر يعدِّد حجج جبهة الإنقاذ ناقلا عنها قولها: " وأنا عندي ثمانين بالمائة من الشعب كلهم يريدون الإسلام، هذا برنامجنا وهذا تطبيقنا، وأنا طلبت من الناس أن يطالبوا ببقاء نظام الانتخاب كما هو ... ".
ـ النقد: ذِكْر هذه النسبة المئوية والمطالبة بالنظام الانتخابي سلوك للطريق الديمقراطي؛ لأنه تحكيم للشعب كما لا يَخفى، فلماذا يذكره سفر على أنه حجة من غير إنكار، بل تكراره له ثلاث مرات دليل على الإقرار، بل لقد صرَّح بأنه ينصر جبهة تريد تحقيق الديمقراطية، حتى لكَأنّك تسمع كلام رجل عريق غريق في الديمقراطية، وذلك قوله عن جبهة الإنقاذ: " .. وأنها تريد تحقيق الذي يزعمون أنه ديمقراطية وتريد أن ترشّح وتصوّت "!! قلتُ: هكذا يصرِّح سفر بأنه زَعْمٌ عند أولئك، لكنه إرادة عند الجبهة! بل جمع بين الحق والباطل فقال: " وأيهما الذي وقف ضد الحق وإرادة الشعب؟! ".
قلتُ: إذا كانت هذه حججا فيا ليت شعري ما محلّ دعوة الأنبياء من الشرعية وقد قلَّ تابعهم وكثُر مخالفهم حتى يأتي النبي وليس معه أحد؟!
ـ وقال عن جبهة التحرير: " هؤلاء نَحَّوا كتاب الله سبحانه وتعالى عن الحكم ".
ـ النقد: هذا من أخطائك الواقعية؛ لأن الذي يسمعه يظن أنهم وجدوا كتاب الله يحكم الناس فعمدوا إلى إقصائه، وليس الأمر كذلك، لأنه من يوم الاستقلال لم يُحكَّم كتاب الله، وثم فرق واضح بين من يعمِد إلى تنحية شريعة الله، وبين من يجد شريعة الشيطان تحكم ولا يغيِّرها، فمن العدل إذن أن يقال: وجدوا قوانين وضعية فلم يغيِّروها. ولا نقول هذا مجادلة عن الأثيم؛ وإنما لأنه قد يوجد في بعض البلاد الإسلامية من الحكام مَنْ لو نادى بتحكيم شرع الله لداهمهم العدو من ساعتهم، ولذلك عذر أهل العلم النجاشي حين لم يغير شريعة النصارى الكافرة لعجزه ( ). ثم لو رجعنا إلى التاريخ لوجدنا أن الذين نحَّوا كتاب الله قبل الاستعمار الفرنسي هم المتصوفة، ولستُ الآن بصدده، لكن لعلَّ هذا لا يهمّ سفرا؛ لأن المتصوِّفة عنده يَنبعون من داخل الأمة! كما قال هو في كلمته التي سبق أن نقلتُها.
ـ وبعد ذكر الثمانين بالمائة قال: " الآن الشعب أفاق واستيقظ كما استيقظت ـ والحمد لله ـ الأمة الإسلامية في كل مكان، يريدون كتاب الله، يريدون أن يعودوا إلى إيمانهم ودينهم وأصالتهم التي نُزعت منهم قهرا ".
ـ النقد: هل يعني هذا أن مَن دخل مساجد الجزائر في صلاة الفجر وجد ثمانين بالمائة من الشعب مستيقظا يؤدي الصلاة؟! فإن كان كذلك فهي يقظة صادقة وهي من أعظم المبشرات بالنصر، كما قال تعالى: {وأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ}. ولكنك تعني باليقظة تصويتاً لإسلامٍ لا يُعمل به، أَضفيتَ عليه هالةً من الوصف السياسي الخداع، مع أنهم لو كانوا صادقين في رجوعهم إلى دينهم فمَن الذي قهرهم حتى لم يؤدُّوا هذه الفريضة؟ ومن الذي منعهم من أداء زكواتهم؟ ومَن الذي منعهم من تحجيب نسائهم؟ ومن .. ومن ..؟! فدعْك ـ يا سفر! ـ من حديث السياسيين وحدِّث الناس بالشرع؛ فإن الفلاح كله فيه. ولقد حُدِّث الشيخ الألباني عن هذه اليقظة وعددها الهائل، فسارع إلى سؤال شرعي عن معرفة هؤلاء لربهم، وهو قصة الاستواء التي مرّت بنا في بداية الكتاب، فتأمل تصرف سفر وتصرف الشيخ الألباني تدرك قيمة أهل العلم، ثم لم يطل الزمن حتى أخبرنا أهل الجزائر في هذه السنة (1417هـ) بالإجماع أن الناس هناك وصلوا إلى دَرْك من التفسّخ الأخلاقي ما رأوه من قبل قطّ! فأين هي الثمانون بالمئة يا سفر؟! قال الله : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذين لاَ يَعْلَمُون إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُلُوا الأَلْبَابِ}.
ـ ويُقِرّ الإضراب المستورد من الكفار قائلا: " لما جاءت جبهة إسلامية قالت: نريد الانتخاب يبقى نظامه كما هو، ويتعجل بها في موعدها ونحن نريد أن ندخل انتخابات، قالوا: لا، غيِّروا النظام، فقالوا: إذن يا ناس، يا من ستنتخبون: من تنتخبون؟ اعتصموا وأضرِبوا! لأن القانون قد تغيَّر؛ قانون الانتخابات، ولا تستخدموا القوة ... إذن هذا واضح أنها دعوة سلمية ".
ـ النقد: لماذا لم يكن حديثك عن حكم الإضراب؟! عن حكم من يناشد النظام لاسترجاع ما يناقض الشرع وهو قانون الانتخاب؟! أم أن دخول ذلك المعترك لا يُبقي للشرع اعتبارا؟! يا سفر! إن التشبه بالكفار أمارة الخسران كما قال الله : {يَأَيُّهَا الَّذِين ءَامَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. َبِل اللهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِين}.
إن كان خفي عليك حكم الشرع في هذه الأعمال، أو كبُر عليك أن تكون بدعةً وتشبُّهاً بالكفار الأنذال، فلا أَقَلّ مِن أن تجود على إخوانك بفقهك للواقع الذي لم تَعرِف منه إلى يومك هذا دولةً للإسلام قامت على أعقاب الانتخاب، وأن لا تنخدع بدعوى ترك العنف، فهل رأيتَ ( إضراباً إسلامياً! ) بلا ضراب؟! مع أنه سبق تزييف دعوى ترك العنف عند الجبهة.
ـ ووصف سفر عنف النظام قائلا: " أين دبابات الجيش وهي تَدكُّ المساجد؟! ... مساجد تدكها المدافع والدبابات!! ... جيش يدكّ
عواصم ...؟! ".
ـ النقد: لا نجادل في أنَّ الدبابات نزلت بالشوارع، ولكن دكّها لعاصمة ما كذب، فكيف وهي عواصم في زعم سفر!! أما دكّ المساجد فلا أدري لماذا إذا تكلمتم عن هذه الأنظمة الجائرة لم تحسنوا التثبّت وتبالغون حتى توصَفوا بالجهل بالواقع. كل ما هنالك إغلاق بعض المساجد التي تسمى ( مصليات ) في عرف الناس، أبى أهلها المتحزِّبون أن يرَتِّبوا لها إماما؛ لأنَّ جبهة الإنقاذ لا تجد من الأئمة كفايتها ولا من يصبر على إدارتها كما أمر الله، والحقيقة
أن غالب هذه المساجد اتُّخذ ملاجيء سياسية وتكايا حزبية، حتى
( سهَّلت الفوضى السياسيةُ الإسلاميةُ ) للمكر المتربِّص أن يُحَطِّم بعض هذه
( المصليات )، ولقد لطف ربُّك أن لم يمكِّنهم إلا من  القليل النادر. وثم شيء لا بد من التنبيه عليه وهو أن هذا الذي ذكرتُه لم يكن قد وقع يوم تكلم سفر بما نحن بصدد نقده، مما يدلكم على أن أخباره لا علاقة لها بالواقع تماما، فليُعلم.
ـ ومن أخطائه الواقعية أيضا زعمه أن بين الجبهة وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين علاقة!! وقد سبق الردّ على هذا الادِّعاء فلا نعيده، لكن الذي يلفت الانتباه هو التواطؤ على هذا الخطإ: منه ومن سلمان ومن القرني ومن بشر البشر ومن محمد سرور ـ كما سيأتي ـ  فعلى ماذا يدلّ هذا؟!
ـ ومن فضائح هذه الأخطاء الواقعية التي تعَجَّبتُ منها جدا قوله: " وحتى الجبهة ليست حزبا سياسيا، اسألوا من يَعرِف الأحزاب، اقرأوا في ( الحياة ) أو في غيرها!!! ".
ـ النقد: هذا لم يَدَّعِه حتى أهل الجبهة! {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}.
ـ وقال عن الجزائر: " هذا البلد إذا سمع أن أهل البلاد الطاهرة المقدسة الذين يَدينون الله تعالى بعقيدة التوحيد ـ والحمدلله ـ! وعندهم العلماء! وفي بلادهم الحرَمان الشريفان! أنّ موقفهم منهم هو نفس موقف الإعلام الفرنسي والغربي يسقط في أيديهم! والله! يشعرون بالمرارة ... فالمفروض أن يروا منا التأييد والتشجيع ... ".
ـ النقد: اعلم ـ يا سفر! ـ أنه لا يجوز لك أن تجامل من حسَّن ظنَّه فيك حتى تسكت عن أخطائه، بل أنت مطالب بكلمة الحق وافقت منه رضا أو سخطا، واعلم أن ما ادَّعيته عنهم مِن إحسان الظن بعلماء المملكة ليس بصحيح؛ لأنهم عندهم موضع تهمة خاصة بعد قضية الخليج ـ كما بيَّنتُه ـ ولا يعبؤون بفتاواهم إطلاقا؛ ألا ترى أن عباسي وابن حاج حين زارا السعودية تحاشيَا جهدهما لقاء هيئة كبار العلماء؟! لأنهما تصوَّرا باب التحزب موصَدا من أصله في دار الإفتاء، وإلا فهاتوا لنا شيئا مكتوباً أو مسموعاً بينهما وبين هيئة كبار العلماء. وفي الوقت الذي قلتَ فيه ما قلتَ ـ يا سفر!ـ كان
( الجَزْأَرِيون ) قد احتوَوا الجبهة، وهم القائلون: " كل ما أتانا من السعودية فهو مجروح حتى يأتينا بشاهدي عدل!! ".
الخلاصة: إنه ليس في الجزائر من يُجِلُّ علماء المملكة إلا السلفيون غير المتحزبين؛ للرحم العَقَدية التي بينهم، ولعلمهم بأن هذا البلد آخر معاقل الإسلام، وهو الوحيد اليوم في تأييد الدعوة السلفية تأييدا رسميا، فتدبر!
ـ ومن أخطائه الواقعية قوله: " الجزائر أيام أحداث الخليج جميع صحف الجزائر ـ كما بلغنا وجاء الحجاج ورأيتموهم ـ كل الصحف الجزائرية وكل الأحزاب في الجزائر والحكومة في الجزائر كانت ضد موقف المملكة من حرب الخليج ".
ـ النقد: موقف الحكومة الجزائرية لم يكن واضحا؛ لأنها كانت متكتمة، فمِن أين أخذتَ ما قلتَ؟! والصحافة الحكومية وغير الحكومية ليست لسان الحكومة، كما هو معلوم من النظام الديمقراطي، ويبدو أنك وقعت في هذا الخطأ لسببين، الأول: أنك تعيش جزائر الاشتراكية القديمة، والثاني: أنك أردت أن تدفع التهمة الحقيقية عن الجبهة لتلصِقها بالحكومة، وتأتي بأكبر فضائحك الواقعية فتقول:
" أما المسلمون الإسلاميون فما بلغنا وما قرأنا أنه .. أن ( هكذا ) قضيتهم التعاطف مع الشعب العراقي، هكذا عبَّروا، ضد الأمريكان، وهم يكرهون أشد الكره صدام ( هكذا ) ويعتقدون كفر حزب البعث! ".
ـ النقد: قد سبق عند الردّ على سلمان نقل كلمة علي بن حاج في زعمه أن صداما قد تاب وهو ينوي تحكيم الشريعة!!( ). وأزيد هنا قائلا: إنك نفيتَ عن الإسلاميين بعامة أن يكونوا أيَّدوا الحكومة العراقية ضد السعودية، والصحيح أنك خالفتَ إجماعهم على تخطئة الموقف السعودي، ومما اشتهر اشتهارا رسميا أن حزبين منها أقاما مسيرات واسعة لتأييد العراق، وهما: جبهة الإنقاذ كما سبق، وحزب الإخوان المسلمين: حماس، بقيادة محفوظ نحناح الذي حشد  الناس من أجل ذلك في تجمُّع صاخب، وإن كان هو لا يحِب أن يَعرِف عنه ( إخوان الخليج ) هذا ليبقى موصول العطاء موفور الجانب! ولولا أن السلفيين خالفوا هذا الإجماع لكان اتفاقا على الضلال، والمنة لله وحده.
تناقضٌ: نفى سفر أن يكون قد عرف عن الإسلاميين التعاطف مع العراق، وإذا به يقول بعدها بثوانٍ: " هذا الأمر، أخطأ فيه كثيرون وأصاب كثيرون! فتنة عمياء التبست على أكثر الأمة! وهذا الحال ليس خاصًّا بالجزائر، بل معظم العالم الإسلامي تعاطف لا حبا في صدام أبدا، ولكن من أجل أمريكا!! ". أقول: إذا كانت فتنة عمياء يُعتذر فيها للمخطيء فهل يصْدق الاعتذار للحكومة الجزائرية بمثل ما قلتَ؟! أم أنك بهذا تعتذر لنفسك عن خطئك الجسيم الذي صدر عنك يومها؟!( )
ومن طريف الموافقات أن هؤلاء ( الثمانين بالمائة ) الذين اعتذر لهم سفر بأنهم استيقظوا وقاموا ضد أمريكا في قضية الخليج، ما كادت تنقضي الأزمة بأيام حتى جعلت أمريكا دعاية للهجرة إلى بلادها، فإذا بك ترى جيوشا جرارة من هؤلاء ( المستيقظين ) عند السفارة الأمريكية يسألونها تأشيرة العمل، وكأنه لم يتخلّف منهم أحد! مع ذلك فهؤلاء عند سلمان لم يثوروا من أجل الخبز!! وعند سفر يريدون الإسلام!! ولا أدري هل حقيقةً تجهلون واقع أمتكم أم أنكم تتجاهلونه بدافع التفاؤل السياسي؟! وليس العجب أن يصدر من أمريكا هذا الاستهزاء، ولكن العجب أن تعجزوا عن إدراك ما علمته هي من واقع أمتكم!!
ـ ومن الأخطاء الواقعية قوله: " ودستور الجزائر الذي تسير عليه الجبهة الحاكمة دستور كفري إلحادي، من عجائب هذا الدستور أنه يتيح لفرنسا التدخل إذا اقتضى الأمر في الجزائر ".
ـ النقد: هاتِ لنا ـ ياسفر! ـ هذا النص من الدستور إن كنتَ من متتبِّعي الواقع، فنحن عشنا أيام تدوينه في الجزائر وما قرأنا ما قرأتَ!! هذا أولاً.
وثانيا: إن كنتَ علمتَ بطريقتك الخاصة أن فرنسا قد تتخِذ ذلك ذريعة لاستعمار الجزائر، فلماذا ضننتَ على إخوانك بهذا الواقع المؤلم ولم تُحذِّرهم من الدخول في معركة غير متكافئة العدة، ولم تُخبرهم بأن الأمر لعبة عليهم حتى لا يدخلوا فيه؟! بل زدتهم إغراقا فيه بمثل ما قلتَ، فعجبا لثور الخِرقة الحمراء!!
وأخيرا أقول: إن الذي بدا لي من كلامك أنك عند دراستك للمسائل تخلط الأوراق ـ كما يقولون ـ وتجمع بين الواحدة ونقيضها حتى يتميّع البحث ويُنسى أصل الموضوع، ولا يزال ظهر التأويل حينئذ ذلولاً. وقد سمعتك تنهج هذا النهج في غير ما شريط، إذ تُزوِّج بين مسألة سلفية وأخرى خلفية ـ بعد الطلاق الثلاث ـ بلا وليّ ولا نكاح محَلِّل، لتحتفل بعقيقة خنثى مشكل، قد استبان السلفيون جنسه الخلفي، وظلَّ غيرهم في حيرة: أفيه شاة أم شاتان لأن جنسه خفيّ؟ ومعناه أنك تُخرِج المسألة من موقعها الشرعي إلى موقع سياسي للرأي بل للتفلّت من قيود الشرع فيه مَسْرح، وهذا منهج خطير جدا؛ لأنه أقرب إلى تلبيس الحق على الناس بالباطل، بل وكتمانه، وقد قال تعالى: {يأَهْلَ الكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالبَاطِلِ وتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}، وإنما نبَّهتُ على خطورته؛ لأن بعضهم يغرّه بعضُ الحق الذي يكون مع المرء، ويتحاشى انتقاده ناظراً منه التصريح بالباطل! والحقيقة أنه لا يمكن لمن كان من هذه الملة أن يأتي بباطل خالص، فلذلك يغترّ بصاحبه من يغترّ، وبهذا يُهدم الحق، قال ابن تيمية: " وكل مَن سِوى أهل السنة والحديث من الفِرق فلا ينفرد عن أئمة الحديث بقول صحيح، بل لا بد أن يكون معه من دين الإسلام ما هو حق، وبسبب ذلك وقعت الشبهة؛ وإلا فالباطل المحض لا يشتبه على أحد، ولهذا سُمي أهل البدع أهل الشبهات، وقيل فيهم إنهم يلبسون الحق بالباطل، وهكذا أهل الكتاب معهم حق وباطل ... "( ). منه:
1 ـ قولك هنا: " نحن لا نحكِّم الشعب أصلا، ولكن من حيث الواقع الشعب مع من؟ ".
ـ النقد: إذن فثَمَّ حكم الشرع الذي يحرِّم التحاكم إلى الشعب، وثَمَّ حكم الواقع الذي يبيحه أو يوجبه أو يستحبه، ولا مفرّ من واحدة من هذه الأحكام الثلاثة المتبقية لأنك تقول بعدها مباشرة: " ثمانين في المائة من الشعب ... ". وتقول على لسان الجبهة: " ونَدخل جميعا الانتخابات، فإن فزنا فنحن نَحكم البلاد بكتاب الله وسنة رسوله ، وإن فازوا قلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون! والشعب قد اختار الاشتراكية علينا ".
قلتُ: بأي حكم أبحتَ لهم دخول الانتخابات؟ أبالشرع أم بالواقع؟!! والله المستعان. 
2 ـ قولك: " فإذا قيل: لماذا تتكلمون عن هذه الجبهة؟ قالوا: لأنها وقفتْ في حرب الخليج غير موقفنا، قال هو:كلهم في غير موقفنا ... بل معظم العالم الإسلامي تعاطف ـ لا حُبا في صدام أبدا ـ ولكن من أجل أمريكا!! ".
ـ النقد: هذا هو دين ردود الفعل! يُفهم منه أن مخالفة الموقف السعودي يُعَدّ مخالفة شرعية، ولكن من أجل أمريكا فلا! مع أنك مقرّ في أشرطتك أيام الفتنة بأن خطورة البعث أشد من خطورة أمريكا؛ كخطورة الشرك بالنسبة للنصرانية!!
كما يُفهَم منه أن سفراً كان مع الموقف السعودي، وهو خلاف ما صرَّح به يومها، وإذا كانت كما قلتَ أنت: " فتنة التبست على كثير من الناس! "، فلعلك تناقضتَ هذا التناقض؛ لأنك كنتَ طرفاً في هذا التلبيس بما كنتَ تُرعِد وتُزبد! ويومها اتَّهمتَ هيئة كبار العلماء بالقصور في فقه الواقع!!( )،واليوم تحدِّثنا سرًّا: " إن موقف الشيخ الألباني أقرب إلى الشرع، وموقف علمائنا أقرب إلى الواقع!!! ". اعلم ـ يا أخانا سفر! ـ أن الألباني مجتهد خالف علماء المملكة في القضية، ولكنه قال فيهم من التوقير قولاً حسنا، خاصة منهم الشيخ ابن باز، حفظ الله الجميع.
3 ـ قولك: " القضية التي نتكلم عنها ليست مجرد فلان ولا فلان، إن كان من أولياء الله فالله ولي المتقين وسينصرهم ولو بعد حين، وإن كانوا غير ذلك فقد جاءهم عُجلت إليهم بعض ذنوبهم، لكن ليست هذه هي المشكلة، لماذا تُصوَّر القضية بهذا الشكل، القضية قضية إسلام يُحارَب ".
ـ النقد: تأمّل كيف يمشي بك مشية سلفية حتى إذا كنتَ قاب قوسين من النتيجة أو أدنى صرفك عنها بدندنة خلفية، كأنه اكتشف جديدا حين علِم أن القضية قضية إسلام يُحارب!! وكأنه إذا كان الإسلام يحارَب لم يَصحّ الحديث عن التقوى والإيمان؛ لأنه يعوق ( الجهاد )!! وكأنه لا يحبّ أن تصوَّر القضية بالشكل الشرعي؛ لأنها تُخَذِّل عن الصراع السياسي!! بل ولا بأس عنده من الصبر على الهزيمة من أجل إشعار الخصم بأننا له بالمرصاد!! فلا إله إلا الله! ما أغرب هذا الاضطراب المنهجي الديني! وإنني لمشفق على أهله منه.
4 ـ ومنه قولك في شريط (252) من شرح الطحاوية: " نعتقد كذلك أن قيام الإسلام في الأرض ليس بهذه الطرق وهذه الوسيلة بالضرورة ـ أي الوسيلة الديمقراطية ـ بل الطريق الصحيح والمنهج الحق هو الدعوة وطلب العلم ونشر الفقه في الدين وتريبة الناس على ذلك .. "، قلتُ: إن أسارير البشر التي تظهر على مُحَيّا السلفي حين يسمع هذه الكلمات سرعان ما تتحوّل إلى حيرة وعبوسة قاتمة وهو يسمع نقيضه منه بعد ثوانٍ فقط؛ وهو قوله: " لكن نحن نتكلّم عن واقع، عن قضية واقعة!! ".
قلتُ: كأن المنهج الإسلامي الذي قرره أولاً يُعنَى بعالم الخيال، وأما المنهج المخالف فواقعي!! ويزيد الأمر فداحة حين يتمنَّى من هذا المنهج المخالف بل الكافر أن يقيم له دولة الإسلام!! فيقول: " ... فوالله إنه لفتحٌ كبير أن تقوم دولة لـ( لا إله إلا الله ) على منهج السلف الصالح والخلافة الراشدة في الجزائر!!! ".
 قلت: تأمّل كيف ينفي أن يكون مسلكا شرعيا، مع ذلك فهو يأمل منه قيام الخلافة الراشدة؟!!
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها     إن السفينة لا تجري على اليبس
ومن الغريب أنني استمعتُ إلى شريط مسجَّل مع سفر، فيه أنه يعلم أن جبهة الإنقاذ لم تَبْنِ عملها على الأساس الذي اعتمده النبي  في دعوته وجهاده؛ فقد قال: " ولكن هل مرَّ هذا الشعب ( يعني الجزائري ) ومرّت هذه الدعوة بمرحلة التمحيص والتربية على منهج علمي عقدي دعوي متوازن شامل، كما مرّت الجماعة الإسلامية الأولى في عهد النبي ، وكما ينبغي أن تمرّ كل الدعوات؟ ... حقيقةً إن الوضع في الجزائر كان فيه نوع واضح من التعجّل في قطف الثمرة! وربما كان هناك أيضا شيء من الإعجاب أو شيء من الأخذ بهذه الجماهير المتجمِّعة، التي لا ينقصها في الحماس، ولا نشكّ ـ إن شاء الله ـ في حماسها، لكن الحماس وحده لا يكفي، ولا بدّ من المرور بهذا المنهج والتمحيص فيه؛ ولذلك نجد مَن نكص على عقبيه، مَن خرج عن الصف الإسلامي بالكلية، مَن باع نفسه للسلطة، مَن فعل .. مَن فعل .. أفعال كثيرة تدلّ على أن الصفّ لم يُمَحَّص في الأصل ...!!"( ).
ثم تأمّل ما يدلّك ـ أخي القاريء ـ على أن هذه الأخطاء صدرت منه عن علم؛ فقد قال بعد أن بيّن شيئا من سيرة النبي  في تنقية الصفوف وتمحيصها: " فما لم يَصِل من دقّة التربية وترسيخ مفاهيم العقيدة وتصحيحها في الناس إلى مثل هذا فإنا لا نتوقّع إلا نتائج سريعة، وأيضا هذه النتائج السريعة تتقوّض سريعاً ...".
قلت: فلم غرَّرْتَ بجماعتنا ـ يا سفر!ـ وأنت تعلم كل هذا؟! نعوذ بالله من أن يُضِلَّنا اللهُ على علم، وصدق من قال: " لقد ضرّهم من غرّهم! ".
إن هذا ليدلّ على أحد أمرين:
ـ إما أنك شاكّ فيما تقول ومرتاب في سيرة النبي .
ـ وإما أنك كنت كاتماً هذا عن المسلمين؛ تزجّ بهم في ليل من الشرور حالك، وأنت تدري أنهم لا يخرجون منها إلا بين معطوب وهالك!!
والذي يترجح لديّ أن كلاهما عليك وارد؛ بدليل أنك ما كنتَ تقول هذا أيام نشاط الجبهة، وإنما قلتَه بعد هزيمتها السياسية، وقد سبق أن نقلتُ كلامَ بعض السلف في أن التنقل من رأي إلى رأي من شكّ القلوب، كما سبق أن ذكرتُ كلام بعض أتباع السلف بحقّ ـ كالشيخ الألباني ـ في الجبهة قبل الهزيمة وبعد الهزيمة، بل وحتى أيام انتصارها السياسي: كلام واحد لا تُزعزعه النتائج! وبهذا يتبيَّن القاريء معنى الرسوخ في العلم؛ قال الحسن البصري:
" إنّ هذه الفتنة إذا أقبلت عَرَفها كلُّ عالم، وإذا أدبرت عرفها كلُّ
جاهل "( ).
قلتُ: لأنه لا فائدة من معرفتها بعد وقوعها وصيرورة المرء موعظةً لغيره، بل وإهلاكه العباد بفتاواه المرتَجلة! وهذا كلام الحسن فيمن عرف أنها فتنة بعدما رأى نتائجها الوخيمة؛ أي أنه سماه جاهلاً! فما قوله ـ رحمه الله ـ فيمن لم يَعرِف بعدُ أنها فتنة، وقد رأى من نتائجها ما شيَّب الرؤوس! مِن تسلّط الكفار الشيوعيين واستضعاف المؤمنين وانتهاك الأعراض وانتشار الشرك بصفة رسمية وتفشي القتل والسرقة وتعذّر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد أن كان ممكناً وكثرة الانتكاسات الدينية والمجاهرة بالفجور وشرب الخمور بعد أن تَوارت في كثير من المدن وخراب المساجد من عمّارها بعد أن كان التورّك في الصلاة متعذِّراً لشدّة الزحام!!! ...
ولنا أن نتمثَّل بما كان يَتمثَّل به ابن عباس ؛ إذ يقول:
فما النّاسُ بالناس الذين عَهِدتُهم     ولا الدارُ بالدار التي كنتُ أَعرِف!( )
ماذا يقول الحسن فيمن عرف هذا وزيادة، ولم يفهم بعد أنه فتنة؟!
بل يُصِرّ على أنه تقدّم!! ويقول:
" وأنا في الحقيقة في تقويمي العام أعتبر أن ما حدث في الجزائر أو غيرها هو تقدّم بالنسبة للعالم الإسلامي، لو لم يكن فيه إلا التجربة!!! ".
قلتُ: هذا كلام سفر! وهو الذي جعلني أُصَدِّق فيه الأمر الثاني الذي ذكرتُه آنفاً، وإنه لتناقض محيِّر جداً! لا يكاد يصدر من عاقل؛ لأن الرجل يبني من مقدِّمات خاطئة ـ في واقع الجبهة ـ نتائج صائبة في خياله، تُعَدّ تقدّماً عنده! لكنك ـ أخي القاريء! ـ إذا عرفتَ أن هذا الفكر إرثٌ ( إخواني ) لم تستغربه من سفر؛ فكثيراً ما رأيته يمزج بين السلفية ـ التي هي دعوة بيئته الأصيلة ـ والإخوانية الوافدة عليه وعلى بيئته، خاصة من محمد قطب، وهذا هو التلبيس! ولذلك كان لَبْس الحق بالباطل أخا الكتمان، كثيراً ما يجتمعان، كما قال الله تعالى:{لِمَ تَلْبِسُونَ الحقَّ بِالبَاطِلِ وتَكْتُمُونَ الحَقَّ وأَنتُمْ تَعْلَمُون}.
قال ابن تيمية: " فمن لَبَس الحقَّ بالباطل كتم الحق ... "، إلى أن قال:
" وجمع بينهما ـ أي في الآية السابقة ـ بدون إعادة حرف النفي؛ لأنّ اللبس مستلزمٌ للكتمان، ولم يقتصر على الملزوم؛ لأنّ اللازم مقصودٌ بالنهي "( ).
ثم لعلك لم تنتبه إلى قوله: " لو لم يكن فيه إلا التجربة! "؛ فإن هذه التجارب التي يوقعها ( الإخوان المسلمون ) على الشعوب الإسلامية في أعراضهم وأموالهم ودمائهم بل وفي دينهم هي من أصولهم المعلومة، كأن هذه الشعوب بهائم في مختبر الباحثين عن النتائج الصحيحة بعد تيه طويل!! ثم هم يُسَمّون الخطأ صواباً، والتأخّر تقدّماً، والانتكاسة يقظةً حتى لا يُفطَن لهم، ولايُدرَك غَوْرُ الجرح الذي أصابوا به الأمة!
ومن أصولهم أيضا ضرورة التضحية بجيل أو أجيال للوصول ...كأن هذه الشعوب البريئة ملكٌ خالصٌ لهم!! وكل هذا ورِثوه من الشيوعيين، من خلال تجاربهم في ( الواقع ) كما أشرتُ إليه عند الردّ على سلمان الذي صرّح ـ بلا تورية ـ بأنه متأثّر بهم جدًّا.
والذي يظهر أن سبب هذا التخبط هو الخطأ في فهم الولاء للمؤمنين، وهو الأمر الثاني ـ بعد العدل ـ الذي بنى عليه سفر محاضرته ـ التي ذكرتُ شيئا منها في مطلع هذا الردّ، خاصة في مقدمتها، ومادام قد بيَّنتُ هذا الأمر في بداية الكتاب عند أصل ( الردّ على المخالف ) فلا أعيده، بل أكتفي بأن أنقل هنا ردّ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي على مَن أنكر على جمعيته ما ينكَر علينا اليوم، قال ـ رحمه الله ـ: " ولو أَنصفَ خصومُنا لعلموا أن إنكارنا عليهم هو دليل أخوّتنا لهم، بل دليل صدقنا في هذه الأخوة؛ فلو لم يكونوا إخواننا في الدين لما أنكرنا عليهم ما أنكره الدين، وأن الدين الذي أوجب علينا أن ننكر المنكر، يوجب عليهم الفيئة إلى الحق، ويوجب علينا جميعا التحاكم إلى كتاب الله وسنة نبيه والرضا بحكمهما والتسليم لهما والرجوع إلى سبيلهما الجامعة، وقد دعوناهم إلى هذا ولا نزال ندعوهم ..."( ).
5 ـ قولك: " وحتى الجبهة ليست حزباً سياسياً ..!".
ـ النقد: هل تلجأ إلى هذا التناقض لأنك خائف على الجبهة من أن ترشقها سهام السنة التي ما تذَر من التحزّب شيئا أتت عليه إلا جعلته كالرميم؟ هذا لا يُعفيك ـ يا سفر! ـ من تأصيل محاضرتك عن حكم الله في التحزب والإضراب، والمظاهرة والانتخاب، ومن قبل هذا كله عن حكم العمل السياسي، خاصة من أمثالكم من الشباب( ).
ـ ومن أخطاء سفر الواقعية التي يضحك منها أتباع الجبهة أنفسهم: زعمه في آخر شريط رقم (252) ـ المشار إليه آنفا ـ أنه لا ( جَزْأَرة ) في جبهة الإنقاذ!! بل أمْرُه قَبْله بقليل بمحاربتها وفضحها وسائر الأحزاب الأخرى؛ حيث قال: " ... وبيان القومية التي يسمونها: ( الجزْأرة ) أو أيا كانت!! ".
ـ النقد: اعلم ـ يا سفر! ـ أن انتقادك ( الجزأرة ) يعني انتقادك ( الجبهة )؛ لأنها تحمل شعارها، ولأنها تواجه الأعداء نفسهم الذين تواجههم الجبهة، فبأيّ شرع تؤيِّد هؤلاء وتردّ على أولئك؟!
ثم لقد كانت ( الجَزْأَرة ) منفصلة عن جبهة الإنقاذ عند ميلاد هذه، ثم أخذت تتوغّل فيها شيئا فشيئا حتى أضحى رئيسها محمد سعيد يمثل الرجل الثالث من الجبهة؛ ولا يكاد الناس ينسون صورة خروج علي بن حاج في بدلة عسكرية مع الهاشمي سحنوني ومحمد سعيد الونّاس هذا وغيرهم متماسكي الأيدي في مظاهرة تضامن مع العراق!! وبعد أن سجن ابن حاج وعباسي مدني تولّى محمد سعيد رئاسة الجبهة، وخطب لأول مرة في مسجد الجبهة!! في هذا الوقت الذي أضحى فيه جلّ منظري ومنظمي ومستشاري ومرشَّحي الجبهة من الجزأرة، وفي الليلة نفسها التي كان هؤلاء يفوزون في الانتخابات البرلمانية يتكلم سفر بكلمته تلك وينفي وجود ( الجزأرة ) في صفوف الجبهة!!! ودليل تأريخ كلمة سفر هذه أنه قال فيها: " وإلى الآن شيوخها في السجن؛ الشيخ عباسي مدني والشيخ علي بن حاج ... "، ثم يتحدّث عن نتائج الانتخابات فيقول: " فالحزب الحاكم ستة عشر مقعد ( كذا )، والجبهة مائتين واثنين وقد تزيد، وقد تصل الليلة ـ يمكن ـ مائتين وعشرة ".
قلتُ: إن هذا الذي وقعتَ فيه ـ يا سفر! ـ يفسَّر بأحد أمرين: إما أنك لا تدري أن الجبهة و( الجزأرة ) اسمان لمسمى واحد؛ لأنهما روحان اتَّحدا، فحرمك اللهُ حسنَ التوفيق في قضية قفوتَ فيها ما ليس لك به علم، وإما أنك تدري ولكنك ... وأنا لا أحبّ لك هذه؛ لأنَّ كبيرة الكذب شيمة تشين صاحبها، ولكن أرى أن تقنع بالأولى؛ ألا وهي أنك تكلمتَ عن واقع لا تفقهه، وهذا أصغر الكبيرتين، نسأل الله أن يتوب علينا وعليك.




    فقه واقع الجزائر عند بِشْر البِشْر
قال بشر البشر في شريط (( جراح المسلمين )) في بداية الوجه ( أ ):
" ... وذلك لأنّ أوضاع الجزائر خافية على الكثير ..! أيّها الأحبّة جذور الجبهة الإسلامية للإنقاذ تمتدّ إلى جمعية العلماء التي أسّسها العالم السّلفيّ عبد الحميد بن باديس!! ".
وقال : " وفي الجبهة ـ أيّها الأخ الكريم! ـ علماء! علماء!! فيها مجموعة طيّبة من أهل العلم تأخذ الجبهة بأقوالهم وترجع إليهم في معرفة الأحكام الشرعيّة، وهذه ميزة فريدة تتميّز بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ عن كثير من الجماعات الإسلامية التي ـ مع الأسف ـ تخلو من العلماء!! ".
النقد: هذا هراء على هراء، قد سبق أنّه نفخ في الهواء، وهو يقول هذا بعد أن مدح الشيخ أحمد سحنون، وهذا الأخير هو القائد الشرفي لا الحقيقي لـ( الجزْأَرة )، الذين استغلوا طيبة نفسه وكبر سنّه حتى كرَّهوا إليه السلفية، وما زالوا يراوِدونه حتى كان يأتي المدينة النبوية فيجمع الطلبة الجزائريّين قائلا لهم: " لا تنسوا شخصيتكم الجزائرية ومذهبكم المالكي  وعقيدتكم الأشعرية ". والطلبة عندكم فاسألوهم إن كانوا ينطقون. وهذا الرجل كان قد نهى رؤوس الجبهة عن تكوين حزبهم، وبعث إليهم تلميذه الحميم محمد سعيد يوم تأسّست الجبهة، وقال بأنّ الوقت غير ملائم لتكوين هذا الحزب، فقام في وجهه بعض رؤوس الجبهة وحرَّض الغوغاء عليه حتى كادوا يوقعون به لولا أنّه أُخرج من المسجد باكياً مشتوماً ... فإذا كنت تعتبر سحنوناً من العلماء، بل من أعضاء الجمعية كما قلتَ، فلماذا لم يأخذوا بفتواه وهم بنوا حزبهم على مشورة من العلماء كما زعمتَ؟!.
قال:" فمن العلماء الشيخ الأخضر الزّاوي وهو شيخ جليل كبير السنّ".
النقد: هذا الرجل أشعري مالكي متعصب، فأين السلفية؟
السلفيُّ مَن جمع أمرين هما:
1ـ متابعة السلف ـ لا الأشاعرة المتأخِّرين ـ في إخلاص الدين لله تعالى؛ في ربوبيته وعبادته وأسمائه وصفاته. والأشاعرة قد سَطَوا على جملة من صفات الله  وأسمائه فسلبوه إياها، ثم حرَّفوها عن معناها الذي أراده الله باسم التنزيه! والله يقول:{أَلاَ لِلَّهِ الدَّينُ الخَالِصُ}، هذا بعض ما عندهم!
2ـ تجريد المتابعة للرسول ، والمتعصّب للمذهب لا يَتبع إلا المذهب! ولئن اتّبع المذهب بعد الاطّلاع على الدليل فهو لا يزيد على دليل مذهبه؛ أي أنه لا يتبع الدليل لكون الرسولُ  قاله، ولكن لكون صاحب المذهب قال به؛ بدليل أنه يهون عليه ترك العمل بالحديث إذا خالف المذهب! ويعتذر بكون إمامه قد اطّلع على هذا الدليل، وله في تركه مسالك ...!!
 قال: " ومن علمائها الشيخ الطاهر آيت علجت، وهو عالم كبير القدركبير العمر من علماء جمعية العلماء ".
النقد: هذا الشيخ رجل فاضل لولا أشعرية فيه وتفويض! وهو ـ وإن كان بيني وبينه حسن جوار ـ فإنني لا أحابي في التوحيد أحداً. ثم إن عذري في إثارة هذا كعذر مَن جاء فيه المثل العربي القائل: " قال الجدار للوتد: لِمَ تَشُقُّني؟ قال: سل مَن يَدُقُّني ". ومن طريف ما أذكره لك ما أخبرنيه أحد أقربائه أنّه أسمعه كلام هذا المحاضر، فاستنكره الشيخ، وأنكر أن يكون يوما ما قد انخرط مع جبهة الإنقاذ!. ولو أذن لنا هذا القريب أن نذكر اسمه لفعلنا، ولكن اتّصل بالشيخ نفسه فهو خطيب بمسجد الغزالي بحي سيلي ـ حيدرة ـ الجزائر، ومن وصل تفقّهه للواقع إلى أمريكا وأبعد من أمريكا لا يعييه طلب التّحقّق ببرقيّة يكتبها إلى هذا العنوان!
قال: " ومن علمائها الشيخ يخلف شرّاطي ومن علمائها الشيخ أحمد 
الزّاوي ... وأعرف أنا الشيخ محيي الدين درويش .. ".
النقد: أما الرجل الأول فقد انتهى به الأمر في آخر أيامه إلى أن صار رأساً في التكفير، وكان لبياناته الأخيرة اليد الطولى في إراقة الدماء بشكل فظيع جداً، وكذا إضلال الشباب عن سواء السبيل! وعلى كل حال فقد سبق الحديث عنه. وأما الآخران فهما من حزب ( الجزأرة )، وما أدراك ما ( الجزأرة! )، ولهما يدٌ معروفة في منع السّلفيّين قديما وحديثا من أيّ نشاط في مساجدهما وهما معروفان بانتقاصهما أهل الحديث وانتصارهما للكوثريّ وأبي غدّة ومنهجهما.
قال: " إنّي أؤكد لك ـ يا أخي! ـ أنّ الجبهة الإسلامية للإنقاذ تعتبر من أعداء الرّافضة، لا أقول لك ليس فيها شيعيّ بل هي من أعداء الرّافضة ".
النقد: كسابقه في نقد سلمان. ثم هؤلاء الذين سمّاهم علماء لا يعرف عنهم أيّ استنكار على الشّيعة، بل كثيرا ما كانوا ينكرون علينا انتقادنا الشّيعة ويقولون: " عليكم مسحة سعوديّة! "، وهم يقصدون: سلفيّة؛ لأنهم تخرَّجوا من جامعات السعودية!! 
وقد اضطرني كلامه هذا إلى أن أُخبر القاريء بأن للشيخ أحمد سحنون ـ الذي  عدّه من علماء الجبهة ـ رثاء للرافضي الخميني، هذه هي صورته بتوقيعه، لا على أنه شيعي، ولكن بياناً للواقع لفقهاء الواقع!



هذه صورة رثاء أحمد سحنون للخميني الرافضي

هذا رثاء أحمد سحنون للخميني الرافضي
هوى النّسر!!
مهداة إلى روح الإمام الخميني رحمه الله   (3/11/1409هـ)
من الذي مات يا (( غُماري ))( )؟      يا (( مصطفى )) كُن أخا اصطبارِ
مــات الخـمـيــني الإمــام حـقــاً      يـا (( مـصـطفـى )) الشـعر لا تمار
لــقــد هـوى النســر مـن عُـلاه       وكــان يــعـلــو بــلا انـحـدار!
مـــات الإمــــام فــمــن تُـــراه       يــا (( مصـطفى )) حـامي الديار!
مـات كـأن لم يـعـش طــويــلا       وهــكــذا تــخـتــفـي الـدراري
غــاب الخـمـيــني تـبـاًّ لـدنـيــا        تـصــاب بــالـمــوت والـدَّمــار
لــكـن مـجـد الإمــام يــبـقــى        بـــــــلا زوال ولا انـــــدثــــار
مـا مـات مـن كـان كـالخـميني        قـد عــاش لـلـمـجـد والـفـخـار
إن لــم يـكـن مــوتـه الـمفاجي       أصـــاب بــالثـــكـــل كـــلَّ دار
فـصُـغ أخـا الشـعـر كـل لـحـن       يــلــيــق بــالـــقــادة الـــكــبـار
وإنّــمـا الشِّـعـر نـبــض قــلــب       يـــنـــبـــئ عــــن لاعـــج الأوار
وومــض وحــي ونــبــع حــب        بـــــــلا حــــــدود ولا قـــــرار
يــا قـاهـر (( الشـاه )) يـا مـجيـدا        طــرد الــعـدوّ مـــــن الــديـــار
يـــا صـادق الـعـزم يـا مـحيـــلا        ضـعـف الشـعـوب إلـى انـتـصار
يـا صـانــعـاً صـحــوة أحــالـت        عـزّ الــطــغــاة إلـى انــدحـــار!
عــش فـي قـلوب الشعوب حيـاًّ        يبـقــى مـدى الـلـيـل والـنـهـار!
ودُمْ مـــنــاراً إلـى الـمــعـــالــي        أعــظـم بـذكـراك مــن مـنــار!
طـهـران بـعـدك سـوف تـمـضي        تـقــفــو خــطــاك بـلا عــثــار
مـن هـذه الـقـبـسـات فــاقــدح        واستوح من شعرك يا (( غماري ))
يـا رب لا تـحـرم (( الخـمـيـني ))         مـن خــيــر دار وخــيــر جـــار
ولا تــــعــذّبــه يــا إلـــــهــــي        بــــزمــــهـــريــــر ولا بـــنـــار
فــإنّــه عــاش فــي جــــهــــاد         بـــــلا هـــــــدوء ولا قــــــرار




هذه صورة تعزية رابطة الدعوة الإسلامية الجزائرية للشعب الإيراني إثر هلاك الخميني، والتي من أعضائها:     عباسي مدني، وعلي بن حاج، ومحمد سعيد الوناس

ومن طريف تربّص الأحزاب بعضها ببعض أن سحنوناً ـ على الرغم من اعترافه بأنه أديبٌ وليس عالماً بالشرع ـ يَعتذر بأن الذي وسوس إليه بأن ينظم هذه المرثية المخزية هو محفوظ نحناح أمير الإخوان المسلمين، فهل يريد نحناح أن يلعب على الحبلين كما هي عادته؟ حتى إذا أحرجَتْه معارفُه بإيران بسؤاله عن موقف الإخوان من موت الخميني، قال: " ألم نكن معكم؟! وهذه قصيدة شاعرنا سحنون تعبِّر عما في نفوسنا من ألم!! ". وإذا جاء يوم الجذاذ من عند دول الخليج، سواء ليجمع الأموال باسم السلفية ـ وقد فعله ـ أو باسم الإخوان قال: " أرأيتم حين انشقت ( الجزْأَرة ) المحلية عن أمّها العالمية هبط بها المستوى إلى حدّ رثائهم الرافضة!! ".
قلت: وقديمًا قيل: ( مصارع الرجال تحت بروق الطمع )، بل قال الله تعالى: {قُلْ إِنّ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}( ).
قال عن الجمعية: " ومن مشاهير علمائها الشيخ عمر العرباوي ـ رحمه
الله ـ  الذي مات في الإقامة الجبرية في أول عهد ابن جديد، وهو شيخُ العالم السلفي الشهير علي بن حاج ـ كشف الله كربته ـ "!
 النقد: الشيخ العرباوي ـ رحمه الله ـ مات في بيته عزيزاً مكرَّماً، ولم يكن تحت الإقامة الجبرية، وكان يزاول عمله الدعوي بكل حرية. ومن فراسة هذا الشيخ أنه كان يقول عن عباسي مدني قبل ميلاد الجبهة ـ لأنه توفي قبلها بنحو أربع سنين ـ: " أحذِّركم هذا الغِرّ ". كما أن علي بن حاج كان يلقي أحياناً دروسه بمسجده والشيخ كاره، فكيف يكون شيخاً له؟! مع أنه قد تقدم ما فيه.
قال: " أحبّ أن أذكّركم بأمر وهو أنّ إخوتنا الجزائريّين قد استفتوا الشيخين الإمامين العالمين: الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين في ذلك، فقالوا لهم: إذا كان هذا يحقّق مصلحة الإسلام ويتمّ من خلاله الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فإنّه لا بأس أن تدخلوا الانتخابات البرلمانيّة، وهذه، كما حدّثني أحد الإخوة الثّقات الجزائريّين مسجّلة في أشرطة ".
النقد: أما ما يخصّ استفتاء الشيخين من قبل الجبهة فهذا لا يلجؤون إليه إلا كما قال الله تعالى: {وإِن يَكُن لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِين}؛ لأنهما عندهم من علماء أمريكا، لا يخرجان من الحيض والنّفاس! ويعلم الله كم وقعوا فيهما خاصة في قضيّة الخليج، وعلى رأسهم عباسي مدني فهو شديد البغض لهما، وكذا علي بن حاج على تستّر وتقيّة! أما محمد سعيد الونّاس وأصحابه
( الجَزْأَريُّون ) فإنّهم يعتبرونهما بدواً! لا جهاد لهما يعيشان القرون الوسطى على حدّ اعتقاد محمد الغزاليّ فيهما وما يلمزهما به!!( ).
أما ما يخصّ ابن باز فقد مضى. وأما الشيخ ابن عثيمين ـ حفظه الله ـ فصحيح أنّه جوّز لهم دخول البرلمان، لكن لا بدّ من التنبه إلى أنهم لم يستفتوا الشيخ إلا بعد أن دخلوا في العمل السياسي بنحو سنتين! فلو كانوا طلاب حقّ لعلموا قبل أن يعملوا كما قال البخاري: " باب العلم قبل القول والعمل "! ولو كانوا طلاَّب حقٍّ لأخذوا بعين الاعتبار الشروط التي اشترطها الشيخ في ذلك، وهي قيود أربعة ـ وليست واحدة كما زعم بِشر ـ لو تأمّلتها لرأيتَ أنّ الشيخ قد قيّدهم بوثاق شديد لا يَخْطون به خطوة واحدة، وإليكموها، قال:
ـ أولا: لايجوز الخروج على الأئمة ومنابذتهم إلا حين يكفرون كفرا صريحا لقول النبي : » إلا أن تروا كفراً بواحاً ... « الحديث متفق عليه.
ـ ثانياً: العلم بكفرهم، والعلماء هم الذين يقدّرونه، وأنا لا أَقْدر على أن أحكم على حكوماتكم؛ لأنّني لا أعرفها، وفي الحديث السابق: » عندكم فيه من الله برهان «.
ـ ثالثاً: تحقّق المصلحة في ذلك وانتفاء المفسدة، وتقديرها لأهل العلم أيضا.
ـ رابعاً: القدرة لدى المسلمين على إزاحة الحاكم الكافر.
ثم قدّم نصيحة ذهبيّة ـ حفظه الله ـ فقال ما معناه: " وعلى كل حال، فهذا الكلام نظريّ؛ لأنّ الغالب أنّ الشّوكة والقوّة لهذه الحكومات، وأنا أنصح بالرويّة والدعوة بالحكمة وترك الدّخول في هذه المواجهات ...
إلخ "( ).
قيد خامس مهمّ: وهو أن الشيخ يشترط فيمن يمارس السياسة أن يكون من أهل العلم الذين بلغوا درجة أهل الاستنباط؛ بدليل قوله: " السياسة لها قوم، والدين له قوم؛ وقد أشار الله إلى هذا في قوله تعالى:{وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ... وليس قولي هذا فصل السياسة عن الدين أبداً! الدينُ نفسُه سياسة "( ).
قلت: وهذا قيد في غاية الأهمية؛ لأن جُلّ ـ إن لم أقلْ كلهم ـ الذين يريدون خوض غمار السياسة اليوم لا يصلح أن يقال لهم: ( طلبة علم! ) فكيف يقال لهم:( علماء؟! ) أم كيف يُتَصوَّر فيهم ( علماء مستنبِطون؟! )، وكل منصف يفهم هذا الكلام.
قيد سادس: نقول لهؤلاء: لو تنزّلنا معكم جدلاً إلى أنكم سألتم الشيخ فأيّدكم فيما أنتم فيه، فلماذا تلجؤون دائماً إلى العنف بعد أن تستنفدوا قواكم في لعبة ( البرلمان )؟! فهلاّ سألتم الشيخ عن ذلك أيضاً؟! لماذا لا تسألونه عن حملكم السلاح ضدّ النظام الحاكم أو ضدّ الأحزاب التي تواجهكم؟!
والجواب هو: لأنكم لا تسألون سؤال متعلِّم! وإنما تسألون سؤال مَن حمل معتقداً، ويبحث له عن مؤيِّد!! والدليل على ذلك هو أنكم إذا قيل لكم: اسألوه: هل هذا العنف جهاد؟ قلتم: الشيخ لا يعرِف واقعنا!!
وإذا قيل لكم: إذن وَضِّحوا له واقعكم!
قلتم: الشيخ مداهن لأنظمة الطواغيت!!
فهذه ثلاثة أشياء:
ـ الأول: ليس فيكم علماء مجتهدون.
ـ الثاني: تتخذون من فتوى الشيخ متكأً للوصول إلى التكفير، ثم إلى العنف الذي تُبَيِّتونه! وأنتم تعلمون أن الشيخ يُخالفكم فيهما جميعاً؛ ولكنه الهوى ...
ـ الثالث: أن الشيخ عندكم لايعرف واقع الحكومات! أو هو مغفَّل! أو هو مداهن! فمنكم مَن صرَّح ومنكم مَن ينتظِر!! وما بدَّلْتم تبديلاً!
ثم يشاء الله أن يتأخَّر نشر هذا البحث حتى يُسمعني أحد الإخوة شريطا سُجِّل مع الشيخ في شوال (1414هـ) فيه قول السائل:
 وهل كذلك أنكم قلتم باستمرار المواجهة ضد النظام بالجزائر؟ فأجاب: " ما قلنا بشيء من ذلك! ".
قال السائل: في اشتداد هذه المضايقات هل تُشرَع الهجرة إلى بلاد الكفر؟
قال: " الواجب الصبر؛ لأن البلاد بلاد إسلام، يُنادَى بها للصلوات وتقام فيها الجمعة والجماعات، فالواجب الصبر حتى يأتي الله بأمره ".
قلت: فلمَ هذا التّمويه وهذه الخيانة في النّقل؟! ألا يعلمون أنّ الله لا ينصر إلا الصادقين؟! قال الله تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ}. أما يخافون أن يكون الشيخ خصمهم يوم القيامة؟! ما هذه الغفلة عن المعاد؟! {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونُ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ}. هؤلاء ـ يا محاضرنا! ـ هم ثقاتك؟! وعلى كواهلهم تقوم وزارة الإعلام في دولة الإسلام؟!، وهذا هو فقه الواقع؟!
ثم لما كان احتراف الكذب لتأييد الرأي صنعة الحزبيين، ولمعرفتي بأنه قد نُسِب للشيخ إباحةُ المظاهرات والاعتصامات وغيرها من مبتدعات الغرب الكافر، فلا بدّ من نقل كلامه ـ حفظه الله ـ في ذلك، فقد سئل في محرّم (1416هـ) عما يأتي:
ـ ما مدى شرعية ما يسمّونه بالاعتصام في المسـاجــد وهم ـ كما يزعمون ـ يعتمدون على فتوى لكم في أحوال الجزائر سابقا أنها تجوز إن لم يكن فيها شغب ولا معارضة بسلاح أو شِبهِه، فما الحكم في نظركم؟ وما توجيهكم لنا ؟ فأجاب:
ـ أما أنا، فما أكثر ما يُكْذَب عليَّ! وأسأل الله أن يهدي من كذب عليَّ وألاّ يعود لمثلها. والعجب من قوم يفعلون هذا ولم يتفطَّنوا لما حصل في البلاد الأخرى التي سار شبابها على مثل هذا المنوال! ماذا حصل؟ هل أنتجوا شيئاً؟ بالأمس تقول إذاعة لندن: إن الذين قُتلوا من الجزائريين في خلال ثلاث سنوات بلغوا أربعين ألفا! أربعون ألفا!! عدد كبير خسرهم المسلمون من أجل إحداث مثل هذه الفوضى! والنار ـ كما تعلمون ـ أوّلها شرارة ثم تكون جحيماً؛ لأن الناس إذا كره بعضُهم بعضاً وكرهوا ولاة أمورهم حملوا السلاح ـ ما الذي يمنعهم؟ـ فيحصل الشرّ والفوضى ... وقد أمر النبيّ عليه الصلاة والسلام من رأى من أميره شيئا يكرهه أن يصبر، وقال:  » من مات على غير إمام مات ميتة جاهلية «. الواجب علينا أن ننصح بقدر المستطاع، أما أن نظهر المبارزة والاحتجاجات عَلَناً فهذا خلاف هَدي السلف، وقد علمتم الآن أن هذه الأمور لا تَمُتّ إلى الشريعة بصلة ولا إلى الإصلاح بصلة، ما هي إلا مضرّة ... الخليفة المأمون قَتل من العلماء الذين لم يقولوا بقوله في خَلْق القرآن، قتل جمعاً من العلماء وأجبر الناس على أن يقولوا بهذا القول الباطل، ما سمعنا عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أن أحدا منهم اعتصم في أي مسجد أبدا، ولا سمعنا أنهم كانوا ينشرون معايبه من أجل أن يَحمل الناسُ عليه الحقد والبغضاء والكراهية ... ولا نؤيِّد المظاهرات أو الاعتصامات أو ما أشبه ذلك، لا نؤيِّدها إطلاقا، ويمكن الإصلاح بدونها، لكن لا بدّ أن هناك أصابع خفيّة داخلية أو خارجية تحاول بثّ مثل هذه الأمور "( ).

    فقه واقع الجزائر عند عائض القرني
أما عائض القرنيّ فقد وقع في الخطأ الذي تواصوا به جميعا وهو زعمهم أنّ جبهة الإنقاذ امتداد لجمعية العلماء الجزائريين! وقال في خطبة جمعة:
" والذي نفسي بيده لقد خرج في الجزائر في يوم واحد سبعمائة ألف امرأة مسلمة متحجّبة يطالبن بتحكيم شرع الله ". 
النقد: يا لها من مصيبة حين يهون عليك اسم الله فتقسم به على عدد وهميّ خياليّ، و تقسم على قضيّة خاسرة دنيا وأخرى، أفي المظاهرة الموروثة من الكفار والشّيوعيّين يبذل اسم الله الأعظم؟ ألم يقل الله: {ولاَ تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُمْ عَن سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؟ أبأمّة انقرض ذكورها حتى خرج إناثها تفتخر ـ أيّها الخطيب؟! ـ أبالخروج من البيت تحكم المرأة بشرع الله؟ أليس في شرع الله قول الله عزّ وجلّ: {وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهِلِيَّةِ الأُولَى}؟! كان عليك أن تقول لهن: ابدأن بأنفسكنّ فحكّمن الشرع، ثم طالبن غيركنّ بذلك بالطريق المشروع. أم أنّ السياسة الوضعيّة لم تترك لك مجالاً ـ أيها الخطيب! ـ ولا لمن افتخرتَ به لتفكّروا في حدود الشرع؟
لقد خرجت عائشة رضي الله عنها يوم الجمل فلم يحمدها عليه الصّحابة ولا هي حمدت فعلها، فقد قال ابن حجر: " وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن أبي يزيد المديني قال: قال عماربن ياسر لعائشة لمّا فرغوا من الجمل: " ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليكم يشير إلى قوله تعالى: {وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ}، فقالت: أبو اليقظان؟ قال: نعم! قالت: والله! إنّك ما علمتُ لقوّالٌ بالحق، قال: الحمد لله الذي قضى لي على لسانك "( ).
قلت: أما بلغكَ أنّ عائشة رضي الله عنها كانت تبكي على خروجها هذا بكاء شديدا؟ فعن قيس بن حازم قال: لمّا أقبلت عائشة بلغت مياه بني عامر ليلا فنبحت الكلاب، فقالت: أيّ ماء هذا؟ قالوا: ماء الحَوْأب، قالت: ما أظنني إلا راجعة، فقال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراكِ المسلمون فيصلح الله ذات بينهم، قالت: إنّ رسول الله  قال لها ذات يوم: » كيف بإحداكنّ تَنْبح عليها كِلاب الحَوْأَب « رواه أحمد وابن حبّان وصحّحه هو والحاكم والذّهبيّ وابن كثير وقال ابن حجر: " وسنده على شرط
الصحيح "( )، وقال الألبانيّ: " إسناده صحيح جدّا "( ).
فتأمّل قوله: " فيراكِ المسلمون فيصلح الله ذات بينهم "، وما بين هذه النيّة ونيّة المتظاهرات في أن يراهنّ النّاس فيتشجّع بهنّ المؤمنون ويتصاغر المجرمون في زعمهنّ، مع الفرق الواضح بين فعل عائشة هذا الذي لم تبتغ به سوى الإصلاح بين أبنائها المؤمنين وحقن دمائهم، وبين فعل المتظاهرات الداخلات في السياسة.
وقال الزيلعي: " وقد أظهرتْ عائشة الندم، كما أخرجه ابن عبد البر في كتاب » الاستيعاب « عن ابن أبي عتيق وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق قال: قالت عائشة لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن! ما مَنعَك أن تنهاني عن مسيري؟ قال: رأيتُ رجلا غلب عليكِ ـ يعني ابن الزبير ـ فقالت: أمَا والله لو نهيتني ما خرجْتُ "( ).
قال الذهبي: " وذكره، ثم ذكر رواية أخرى منه فيها أن خروجها هذا جعلها تعدل عن تَحديث نفسها بالدفن في حجرتها كما كانت تأمل، فعن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس قال: قالت عائشة وكانت تُحَدِّث نفسها أن تُدفن في بيتها، فقالت: " إني أَحْدَثتُ بعد رسول الله  حَدَثاً، ادفنوني مع أزواجه، فدُفِنَت بالبقيع رضي الله عنها ".
قال الذهبي: " قلت: تعني بالحدَث مسيرها يوم الجمل، فإنها ندمَت ندامة كلية وتابت من ذلك، على أنها ما فعلت ذلك إلا متَأوِّلة قاصدة للخير، كما اجتهد طلحة بن عبدالله والزبير بن العوام وجماعة من الكبار، رضي الله عن الجميع "( ). 
ولا تنس أنّ عائشة أمٌّ للمؤمنين جميعا، فأين هؤلاء منها، ولذلك روى البخاريّ عن أبي مريم عبد الله بن زياد الأسديّ قال: " لمّا سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة بعث علي عمار بن ياسر وحسن بن علي فقدِما علينا الكوفة فصعدا المنبر، فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه، وقام عمار أسفل من الحسن فاجتمعنا إليه، فسمعت عمّارا يقول: إنّ عائشة قد سارت إلى البصرة، والله إنّها لزوجة نبيّكم  في الدنيا والآخرة، ولكنّ الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلمَ إيّاه تطيعون أم هي؟ ".
ورحم الله زمانا كان أهله يستنبطون حكم الله في المسائل السياسية بمجرد دخول النساء فيها ويجزمون بفسادها ولو كان فيها أمّ المؤمنين، فقد روى البخاري أيضا عن أبي بكرة  قال: " لقد نفعني الله بكلمة سمعتُها من رسول الله ، أيام الجمل بعد ما كدتُ أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم، قال: لما بلغ رسولَ الله  أن أهل فارس قد ملَّكوا عليهم بنت كسرى قال:» لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة «.
فكيف يزعم سفر الحوالي في شريط رقم (185) من » شرح العقيدة الطحاوية « أنّ المظاهرة النسوية أسلوب من أساليب الدعوة والتأثير؟! وهذا سلمان يُسَرُّ بخروج النساء للمظاهرة فيقول في شريط » للنساء فقط «: " إننا سمعنا في البلاد الأخرى أخبارا سارة على العودة الصادقة ـ خاصة في أوساط الفتيات ـ إلى الله ، كل الناس سمعوا بالمظاهرة الصاخبة في الجزائر، وقادتها مجموعة من النساء، وبلغ العدد فيها ما يزيد على مئات الألوف ".
وتالله إن أمر هؤلاء لعجب! مَن كان يتصور أن جزيرة العرب ـ بعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ سوف تلد أمثال هؤلاء؟! أبعد حياة العفة التي حافظ عليها مسلموها يجيء سفر وسلمان والقرني إلى النساء ليخرجوهن من بيت عزهن تكثرا بهن وتقوِّيا بالقوارير؟! سفر يبيِّن الأثر العميق في خروج المرأة للمظاهرة! والقرني يؤكده بالقَسَم!! وسلمان يهيِّجها لتصبر على الدبابات!!! يا له من دين غريب!( )

    شبهتان والرد عليهما
الأولى: كثيرا ما نلقى بعض المخلصين لدعوة الإسلام، المشاركين المسلمين أحزانهم إذا أبلغناهم حقيقة الدعوة بالجزائر، يصابون بيأس وصدمة حتى ينقدح في نفوس ضعاف الأخلاق منهم أنّ بياننا هذا تعويق لمسار الدعوة وتعطيل للجهاد، أو خرّجوه مخرج حسد الأقران حتى لا يُتّهموا بالعناد، خاصة وأنّ كلمتهم وكلمة دعاتهم التي بيّنا مخالفتها للشرع والواقع قد طارت في الآفاق، ولا تتحمّل صدورهم تخطئتهم لأنّ ذلك إضعافٌ لمِصداقيتهم السياسية وتشكيك في الدّعاية لهم بالفطنة وسعة الاطّلاع على أحوال المسلمين، فيقولون ـ إمّا مجاملة لنا أو بعد أن لم يكن بدّ من تصديق أخبارنـا ـ: " على كل حال أنتم ترون أنّ وقت الجهاد لم يحِن بعد، وغيركم يخالفكم في ذلك، والمسألة اجتهادية، فلا معنى لأن ينكر بعضكم على بعض لأنّ
من أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر، والعدوّ لا يرضى منكم إلا
بالخلاف ... "، وغيره من زخرف القول الذي يجهضون به النصيحة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. وأحسن الظنّ بهم أنهم ـ مع إخلاصهم إن شاء الله ـ يعيشون اضطرابا في منهجهم الدّعويّ؛ أيّ إخلاص مع جهل بالطريق الإصلاحي الذي سلكه رسول الله ، وإلا فلو عرفوا شروط الجهاد، وضمّوا لإخلاصهم متابعة الرسول  بعد معرفتها لانكشف عنهم كثير من الغبش، ولكان عمدتهم خطوات الرسول  لا التخمينات والتجارب والنتائج المتخيّلة.
فنقول أولا: كيف جعلتم دماء المسلمين ودعوة الإسلام في مختبر تجربة طلبة العلم؟ وبأيّ شرع سوّغتم لهم الاجتهاد؟ كلاّ! لا يكون الاجتهاد في المقامرة بأرواح المسلمين والمغامرة بدعوة الإسلام.
ثم هاك ثانيا الجواب العلمي المفصّل: قال الشافعي ـ رحمه الله ـ: " ومن تكلف ما جهل وما لم تُثْبِته معرفته كانت موافقته للصّواب ـ إن وافقه من حيث لا يعرفه ـ غير محمودة والله أعلم، وكان بخطئه غير معذور، إذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطإ والصّواب "( )، وقال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " فإنّ من النّاس من يكون عنده نوع من الدين مع جهل عظيم، فهؤلاء يتكلم أحدهم بلا علم فيخطئ، ويخبر عن الأمور بخلاف ما هي عليه خبرا غير مطابق، ومن تكلم في الدين بغير الاجتهاد المسوّغ له الكلامَ وأخطأ فإنّه كاذب آثم كما قاله النبيّ  في الحديث الذي في السنن عن بريدة عن النبي  أنّه قال: » القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة، رجل قضى على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة «( ) ثم قال في الرجل الأول: فهو الذي يجهل وإن لم يتعمّد خلاف الحق فهو في النار، بخلاف المجتهد الذي قال فيه النبي :
(( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ))( )، فهذا الذي جعل له أجرا مع خطئه؛ لأنّه اجتهد فاتّقى الله ما استطاع، بخلاف من قضى بما ليس له به علم وتكلم بدون الاجتهاد المسوِّغ له الكلام، فإنّ هذا كما في الحديث عن ابن عباس عن النبيّ  أنّه قال: » من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار « وفي رواية: » من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ، ومن أخطأ فليتبوّأ مقعده من  النار«( )، وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبيّ  أنّه قال: » إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من النّاس ولكنّه يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالما اتّخذ النّاس رؤوسا جهّالا فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا «، وفي رواية للبخاري: » فأفتوا برأيهم «. وهذا بخلاف المجتهد الذي اتّقى الله ما استطاع، وابتغى طلب العلم بحسب الإمكان، وتكلم ابتغاء وجه الله، وعلم رجحان دليل على دليل فقال بموجب الرّاجح، فهذا مطيع لله مأجور أجرين إن أصاب، وإن أخطأ أجرا واحدا ... والمقصود أنّ من تكلم بلا علم يسوغ وقال غير الحق فإنّه يسمّى كاذبا ... ويطلق عليه الكذب، كما قال النبيّ : »كذب أبو السّنابل « ومثل هذا كثير "( ).
قلت: جاء بالإسناد الصحيح بعد حديث: » القضاة ثلاثة ... « قول قتادة: فقلت لأبي العالية: " ما بال هذا الذي اجتهد رأيه في الحق فأخطأ؟ قال: لو شاء لم يجلس يقضي وهو لا يحسن يقضي "، وعند البغوي: " ذنبه ألاّ يكون قاضيا إذا لم يعلم "،  قال البيهقي: " تفسير أبي العالية على من لم يحسن يقضي دليل على أنّ الخبر ورد فيمن اجتهد رأيه وهو من غير أهل الاجتهاد، فإن كان من أهل الاجتهاد فأخطأ فيما يسوغ فيه الاجتهاد رُفع عنه خطؤه إن شاء الله بحكم النّبيّ   في حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة
رضي الله عنهما وذلك يرد وبالله التّوفيق ".
يريد هنا حديث : » إذا اجتهد الحاكم ... «. وقال البغويّ: " قوله :
» اجتهد فأخطأ فهو في النار «، أراد به إذا كان اجتهاده على غير علم، فأما من كان من أهل الاجتهاد ففرضه الاجتهاد فيما يعنّ له من الحوادث، والخطأ فيه عنه موضوع "( ).
وبعد، فهل آن لإخواننا المجتهدين اليوم في السياسة ـ بغير الاجتهاد المسوِّغ لهم ذلك ـ أن يعتبروا فيتأنّوا ويتنحّوا ويعطوا القوس باريها؟
فإن قالوا: هذا الكلام منصبّ على غيرنا لأنّنا لم نتكلم في واقع أمّة إلا بعد الإحاطة به، ألا ترون أنّ أخبارنا جديدة وأنّ متابعتنا لوسائل الإعلام شديدة؟!.
قلنا: لئن زعمتم أنّ وسائل الإعلام مغنيتكم شيئا من الحق لقد أخطأتم مرّتين:
الأولى: هذا دليل غفلة شديدة إذ كيف يتصور مسلم أنّ عدوّه يأتيه بنبأ يقين؟ وتتبّعكم لأخباره متصورينه موضوعيا، وبناؤكم الأحكام عليه دليل على أنكم لا تفقهون من واقع عدوّكم شيئا.
الثانية: لا يمحّص الأخبار ويَحْكم عليها بما تستحق من صحّة أو ضعف إلا أهل الحديث أو من أمسك بغربالهم، وقد رأيناكم لا تفعلون شيئا من ذلك، بل أعماركم في تتبُّعها تضيع، وتُدوَّن فتاواكم فيها ويوم القيامة تَشِيع، قال سبحانه: {ستُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ ويُسْئَلُون}، ثم أيضا قد دلَّت التجربة على أن خطأكم في نقل الواقع أكثر من إصابتكم، كما بيَّنتُه لكم في رقعة واحدة من العالم الإسلامي فقط، فكيف لو تتبَّعناكم في غيرها وأنتم لا تتورَّعون عن الخوض في أخبار العالم بأسره! وقد قيل: " من ثمارهم تَعرِفونهم "، وقد تبيَّنا خطورة مسلككم هذا حين وجدناكم وراء كل فتنة، مغرِّرين بأهلها بتسميتها جهادا، ونهايتها سحق الدعوة الإسلامية.
الشبهة الثانية: فإن قيل: إذا كان لا يفتي في الأحكام السلطانية أو ما يسمّى بالقضايا السياسية إلا عالم متبحّر، فكيف يُعرف، وهل يَعرف نفسه أنّه كذلك؟
الجواب: كما اصطفى الله تعالى من البشر رجالا فجعلهم مرجع النّاس فقال: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ}، فإنّ الرسول  ـ أيضا ـ  قد اصطفى لنا قدوتنا في العلم والتّقوى حين قال: » خيرُ النّاس قَرْنِي، ثم الذين يَلُونَهم، ثم الذين يَلُونهم ... « متفق عليه.
ولا يزال أهل العلم من هؤلاء يزكّون من يجئ من بعدهم، وما أظنّ أنّ ما يسمّى بـ( الإجازة ) يخفى عليكم؛ فإنّه لحفظ هذا الدين من أن يقول فيه مَن شاء ما شاء، قد درج أهل العلم على إجازة النابغين من تلامذتهم، إما إجازةً خاصةً، وإمّا عامةً، إمّا في فنٍّ، وإمّا في أكثر، وقد قال الإمام مالك ـ رحمه
الله ـ: " ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أنّي أهل لذلك "( )، وقال: " لا ينبغي لرجل أن يَرَى نفسَه أهلاً لشيء حتى يسأل من كان أعلم منه "( ).
وينبغي أن يراعى دقّة التّعبير في هذه الإجازات؛ فإنّ تزكية امرىء بالتّقوى لا تغنيه كبير شيء في التّبليغ عن دين الله تعالى، كما أنّ تزكيته بالعلم عموماً وبإجمال لا تغنيه كثيراً في فقه النوازل، وقد قال ابن سيرين: " إنّ هذا العلم دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم " رواه مسلم في مقدمة » الصحيح «.
قال ابن رشد في شروط من يتصدى للفتوى في النوازل:
ـ " أن يراه الناس ( أي العلماء كما سيأتي في كلام الشاطبي ) أهلاً لذلك.
ـ الثاني: أن يرى نفسه قد جمع شروط الاجتهاد.
فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال مع العدالة والخير والدين صحَّ استفتاؤه فيما يَنزل من الأحكام ... "( ).
وأوضح هذا الشاطبيُّ بأبدع بيان حيث قال: " والعالِم( ) إذا لم يَشْهَد له العلماءُ فهو في الحكم باقٍ علىالأصل مِن عدَم العلم حتى يَشْهَد فيه غيره، ويَعْلَم مِن نفسه ما شُهِد له به، وإلا فهو على يقين من عدَم العلم أو على شكّ، فاختيار الإقدام في هاتين الحالتين على الإحجام لا يكون إلا باتباع الهوى؛ إذ كان ينبغي له أن يَستفتي في نفسه غيره، ولم يَفعل! وكان من حقه أن لا يقدم إلا أن يقدِّمه غيره، ولم يَفعل! ".
قال الألباني في المصدر السابق: " هذه نصيحة الإمام الشاطبي إلى
( العالِم ) الذي بإمكانه أن يتقدّم إلى الناس بشيء من العلم، ينصحه بأن لا يتقدّم حتى يَشهد له العلماءُ، خشيةَ أن يكون مِن أهل الأهواء، فماذا كان ينصح ـ يا تُرى ـ لو رأى بعض هؤلاء المتعلِّقين بهذا العلم في زمننا هذا؟! لا شكّ أنه كان يقول له: ( ليس هذا عُشّكِ فادرجي )، فهل من معتبر؟! وإني ـ والله! ـ لأخشى على هذا البعض أن يَشملهم قوله  : (( ينزع عقول ذلك الزمان، ويخلف لها هباء من الناس، يحسب أكثرهم أنهم على شيء، وليسوا على شيء!! ))( ).
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " من أفتى النّاس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص، ومن أقرّه من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم عاص. وقال أبو الفرج ابن الجوزي: ويلزم وليّ الأمر منعهم كما فعل بنو أميّة، وهؤلاء بمنزلة من يدلّ الرّكب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة من لا معرفة له بالطّب وهو يُطبُّ النّاس، بل هؤلاء أسوأ حالا من هؤلاء كلهم. وإذا تعيّن فعلى وليّ الأمر منع من لم يحسن التّطبّب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنّة ولم يتفقّه في الدين. قال: وكان شيخنا ( أي ابن تيمية ) شديد الإنكار على هؤلاء فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجُعلت محتسبا على الفتوى؟ فقلت له: يكون على الخبّازين والطبّاخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب؟! "( ).

    ‏دعوة: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ}
وبعد هذا كله أدعو الدكتور سفر الحوالي وسلمان العودة ومن هو على منهجهما أن يدَعُوا الإفتاء في النّوازل، و بتعبير أبين لبني عصرنا: أن يدَعُوا الإفتاء في القضايا السياسية لأهلها، وقد سمّينا لكم في غضون هذا البحث بعضهم كالشيخ الألبانيّ والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ الفوزان( ) وغيرهم ـ حفظهم الله ـ؛ لأنّه لا معنى لدخولكم في هذا الأمر وهيئة كبار العلماء بين أظهركم، ثم " إنّ أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطّاب لجمع لها أهل بدر"( ).
وقد بان لكم إن شاء الله أنكم تحدّثون بكل شيء ممّا أوقعكم في الإخبار بخلاف الواقع، ومنها التّحليل على غير مراد الشارع، وقد قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ لابن وهب: " اعلم أنّه ليس يسلم رجل حدّث بكل ما سمع، ولا يكون إماما أبدا وهو يحدّث بكل ما سمع"، رواه مسلم.
خاصة وليس لكم إجازة من قِبل هيئة كبار العلماء للتّكلم في هذه القضايا، بل قد نَهَوْكم عنها صراحة وعلى رأسهم العلامة الشيخ عبد العزيز ابن باز ـ حفظه الله ـ كما في هذا البيان الآتي، وقد صوّرته كما هو:

هذه صورة الوثيقة التي فيها بيان هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في توقيف سفر الحوالي وسلمان العودة

وأنصح إخواننا السّلفيّين ألاّ يوسّعوا الرقعة ويبعدوا الشقّة، فتضيق صدورهم بالخلاف الفقهي خاصة منه السياسي بين من سمّيت من العلماء السّلفيّين؛ لأنّ الاختلاف سنّة الله في خلقه، وقد كان مثله بين الصّحابة فلم يضرّهم؛ لأنهم أحسنوا استقباله فلم يطمع فيهم عدوّ. وأما أن يلقّبكم  المبتدعة اليوم بالبازييّن وإخوانكم بالألبانيّين، وفيكم سمّاعون لهم، فلا غَرْو أن تنتشر بينكم الفرقة، فاحذروا رحمكم الله، فإنّه لا يزال هؤلاء المشايخ يزكّي بعضهم بعضا بلسان صدق إن شاء الله، ومناقبهم قد ملأت الآفاق. لكن قوما لم تهنأ أفئدتهم بمحبتهم، يسعون جاهدين لصرف وجوهكم عنهم، وأنا أُبيِّن لكم أمارتهم، فإنكم تجدون مَن يثير بعض الخلاف الفقهي بين الشيخين الألباني وابن باز، وقد تكون مسألة القبض بعد الرفع من الركوع! ـ فإنهم في مثلها لا يُفَرِّطون مهما دقّت ـ فيُسقِطون إحدى الجهتين: إما جهة الألباني بزعم الجهل بالفقه، وإما جهة ابن باز بزعم الجهل بالحديث، وبقي أن يُجَنِّدوا للجهة الأخرى من الشباب مَن يتهمها بالجهل بالواقع وعدم النضج السياسي! فيُسقطون الجميع ليَخلو لهم وجه الناشئة، والله حسيبهم. وآخرون يتربَّصون بالعلماء ريْب المَنُون، لا يدركون أن مستقبلهم بعدهم غير مأمون؛ لأن هؤلاء العلماء هم بقية السلف، يذهبون ويَتركون أحزاب الشباب يتامى بين هرْج وتلف، قد أنهكهم اختلاف الآراء، وتراجموا بها تراجم الصبيان بالحصباء، والله المستعان على ذلك اليوم.
فلذا أقول في خاتمة هذه الكلمة: لو لم يكن من جني بحثي إلا أنّني حبّبت إليكم أهل العلم لكفاني ذخرا عند ربّي  الذي قال: {وأَمَّا بِنِعْمَة رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.

    الواجب اليوم
أعقد هذا الفصل ليعلم أولئك الذين سمّيتُ في هذه الدعوة، بما ينبغي أن يَشغلوا به هذه الثروة الهائلة من شباب دعوة الإسلام.
وأنقل إليكم كلمات من غرر الحكم عن ابن القيم وعبد الرحمن السعدي
ـ رحمهما الله  ـ وأرجو أن تتأمّلوها جيّدا، بارك الله فيكم.
إصلاح الوقت لإصلاح الحال:
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في فصل » كيف تُصْلِحُ حَالَكَ؟ «( ): " هَلُمَّ إلى الدّخول على الله ومجاورته في دار السلام بلا نَصَب ولا تعب ولا عناء، بل من أقرب الطّرق وأسهلها، وذلك أنك في وقت بين وقتين، وهو في الحقيقة عمرك، وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل، فالذي مضى تصلحه بالتوبة والنّدم والاستغفار، وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب ولا معاناة عمل شاقّ، إنما هو عمل القلب ".
قلت: ما مضى من وقتك في معصية الله يمكنك استرجاعه، مهما قيل
" الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك "، وهي حكمة صحيحة إلا أنّ الله استثنى منها التّائبين، فمهما ضيّعوا من وقت في زنى، بل في قتل، بل في شرك، فإنّ من تاب منها استدرك وقته ليس صحيفة بيضاء فحسب، بل قد كتب عليها الحسنات بدل السيّئات كأنّ وقته قد عُمِّر بها، والله لا يعجزه شيء وهو القائل: {والَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَــهاً ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلاَّ بِالحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
وقال: " وتمتنع فيما يُستقبل من الذّنوب، وامتناعك ترك وراحة ليس هو عملا بالجوارح يشقّ عليك معاناته، وإنما هو عزم ونيّة جازمة تريح بدنك وقلبك وسرّك، فما مضى تصلحه بالتوبة، وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنيّة ".
قلت: وبهذا يتبيّن لك سرّ اقتران التوبة بالاستغفار في مثل قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى اللهِ ويَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فالاستغفار على معنى ترك ما مضى، والتوبة على معنى عدم الإصرار في المستقبل، وقد جمع الله بينهما في آية واحدة فقال: {والَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ومَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
قال ـ رحمه الله ـ: " وليس للجوارح في هذين نصبٌ ولا تعبٌ،ولكنّ الشأن في عمرك، وهو وقتك الذي بين الوقتين، فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك، وإن حفظته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذُكر نجوت وفزت بالرّاحة واللّذة والنّعيم ".
قلت: وهذا يدلّك على سرّ اشتراط الله تعالى الإصلاح مع التوبة التي إذا أُطلقت دخل فيها الاستغفار، كقوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وكقوله: {إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فالإصلاح حينئذ يكون على معنى إصلاح الوقت الحاضر، وقد قيل:
 ما مضى حُلْم و المؤمَّل غيبٌ      ولك الساعة التي أنت فيها
وهذا يُبيِّن لك وجه ذكر ( الإصلاح ) بعد آيات التوبة، والله أعلم.
قال ـ رحمه الله ـ: " وحفظه أشقّ من إصلاح ما قبله وما بعده، فإنّ حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها وأنفع لها، و أعظم تحصيلا لسعادتها، وفي هذا تفاوت النّاس أعظم تفاوت، فهي والله أيّامك الخالية التي تجمع فيها الزّاد لمعادك، إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار ... ".
  قلت: من تدبّر القرآن وجد دعوته لا تخرج عن هذه الأوقات الثّلاثة، قال الله تعالى: {الـــر . كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ اللهَ إنَّنِي لَكُم مِنْهُ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ. وأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيُهِ}، أي إنما أَحْكَم اللهُ كتابَه وفصّله لتعبدوه في هذه الأوقات الثلاثة بما أَمر.
فقوله: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ اللهَ} لعبادة الوقت الحاضر؛ إذ التّوحيد أنفع وأصلح وأولى الطّاعات، وألزمُها مصاحَبةً لصاحبه.
وقوله: {وأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُم} للماضي.
وقوله: {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} للمستقبل( ).
وسبب التّركيز ههنا على التّوحيد لإصلاح الحاضر أمران:
الأول: أنّه لا يجوز أن يخلو وقت من الاهتمام به، وهو الجامع لتوحيد الرّبوبيّة وتوحيد الألوهيّة وتوحيد الأسماء والصّفات.
الثاني: أنّه أصل كل عمل صالح؛ ألا ترى أنّ الأعمال الصّالحة من مكمّلاته الواجبة أو المستحبّة؟! ولذلك كان أوّل شيء دعا إليه الأنبياءُ عليهم الصلاة والسلام؛ لأن من رسَخ التّوحيدُ في قلبه ظهرت بشاشتُه على سائر جوارحه، وأنبتت شجرتُه أطيبَ الثّمار كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ويَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون}.
وهذه الدعوة الثلاثية تكرّرت في السّورة نفسها عدّة مرّات، قال الله تعالى: {وَإِلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} إلى أن قال: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا ربَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}.
وقال: {وَإِلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وِاسْتَعْمَرُكْم ِفيَها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}.
وقال: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} إلى أن قال: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}.
وعن أبي سعيد الخدري  أنّ نبيّ الله  قال: » كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على راهب، فأتاه فقال: إنّه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ فقال: لا! فقتله فكمّل به مائة! ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على رجل عالم، فقال: إنّه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم! ومَن يَحُول بينه وبين التوبة؟ فانطلِقْ إلى أرض كذا وكذا؛ فإنّ بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنّها أرض سوء، فانطلقَ حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مُقْبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قطّ، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم ـ أي حَكَماً ـ فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيّتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة « متفق عليه.
في هذه القصة يظهر جليًّا إصلاحُ هذا الرجل للأوقات الثلاثة، فبعد أن تاب من ماضيه، وعزم على التوبة في مستقبله، اشتغل بما يُصْلِح حاضرَه فوراً، ألا وهو الهجرة من دار الفساد ولم يترك لطول الأمل مجالاً، ولذلك لم تجد له الملائكة من عمل صالح إلا هجرته هذه، ولما كانت هي عبادةَ الوقت غُفر له؛ لأنّ التزامه بها دليل على الإخلاص للحق جلّ  وعلا، ومنه يظهر أنه كان موحِّداً.
وعن البراء قال: أتى النبيَّ  رجلٌ مقَنَّع بالحديد، فقال: يا رسول الله! أقاتل أو أُسْلِم؟ قال: » أَسلِم ثم قاتل «، فأسلم ثم قاتل فقُتِل! فقال رسول الله : » عَمِلَ قليلاً وأُجِر كثيراً « متفق عليه.
و إنما ذكرت هذه القصة هنا لأمرين:
الأول: أنّ النبي  لم يقبل منه الجهاد إلا بعد التوحيد، ولكن قَبِل منه جهاده قبل الصلاة.
الثاني: أنّ بعض الناس يستدل به على التهوين من شأن الصلاة والعمل الصالح وأنه ليس شرطا في جهاد المسلمين، وهو صحيح لو أن وقت الصلاة كان دخل مع وقت القتال فقدِّم القتال، وهذا ليس لهم عليه دليل، ويردّه بوضوح تشريع صلاة الخوف وقت المسايفة، وإنما كل ما في الأمر أن وقت عبادة الجهاد كان قد دخل، وأما وقت عبادة الصلاة فلم يحِن بعد، فأُمِر أن يشغل وقته بعبادته المناسبة. ولمّا كان التوحيد عبادة كل وقت لم يأذن له النبي  في تأخيره، ولذلك كان من ثاقب فهم البخاري ـ رحمه الله ـ أن بوّب له بقوله: " باب: عمل صالح قبل القتال، وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون
بأعمالكم ". فتدبّر هذا تكن من الرّاشدين.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " وله عليه ( أي لله على العبد ) في كل وقت من أوقاته عبودية تقدِّمه إليه وتقرِّبه منه، فإن شغَل وقته بعبودية الوقت تقدَّم إلى ربّه، وإن شغله بهوى أو راحة أو بطالة تأخّر، فالعبد لا يزال في تقدّم أو تأخّر، لا وقوف في الطريق ألبتّة، قال تعالى: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} "( )، وقال: " فإن لم يكن في تقدم فهو متأخر ولابد؛ فالعبد سائر لا واقف، فإما إلى فوق، وإما إلى أسفل، وإما إلى أمام، وإما إلى وراء ... ما هو إلا مراحل تُطوَى أسرع طيّ إلى الجنة أو إلى النار، فمسرع ومبطئ، ومتقدم ومتأخر، وليس في الطريق واقف ألبتّة، وإنما يتخالفون في جهة المسير وفي السرعة والبطء "( ).
قلت: ويدل عليه قول النبيّ : » كلُّ النّاس يَغْدُو؛ فبائعٌ نفسَه:
فمُعْتِقُها أو مُوبِقُها « رواه مسلم، وفي رواية: (( يا كعب بن عجرة! الناس
غاديان ... ))( ).
قلت: كلُّهم يَغْدُون، فمن لم يبع نفسه لله الذي قال: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}، باعها للشيطان المترصّد( )؛ وذلك لأنّ الله خلق للإنسان وقتاً، وأمره بعبادات مناسبة لوقته فليست ( الواجبات أكثر من الأوقات ) كما زعم حسن البنا( ).
ومن لم يَعمُر وقته بما أُمر به افترسه الشيطان ولم يمهله، قال الله تعالى: {واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ}، قال ابن القيم: " إنّ الشيطان أدركه ولحقه بحيث ظفر به وافترسه، ولهذا قال: {فأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} ولم يقل تَبِعَه؛ فإنّ في معنى {أَتْبَعَهُ} أدركه ولحقه، وهو أبلغ من تبعه لفظاً ومعنًى "( ).
 قلت: تأمّل حسن موضع الفاء بين {انسَلَخَ مِنْهَا} و{أَتْبَعَهُ} لأنّها تفيد ترتيب الإتْبَاع على الانسلاخ بلا مهلة و{لاَ عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَحِمَ}.
هذا في حقّ من شغل وقت الطاعة بالمعصية أو على الأقلّ يقال: ترك الطاعة، بل وحتى في حقّ من شغل وقته بطاعة خالصة لله لكن لم يحن وقتها بعد، ولذلك كان الجهل بما يصلح الوقت من عبادة يحْرِم النّفس زكاتها ورقيّها في درجات الصّلاح، يدلّ عليه آية وحديث:
ـ أما الآية فهي قول الله : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلاَ أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} فهؤلاء نُهوا عن القتال وأُمروا بعبادة الصبر، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فشغلتهم عبادة الجهاد عن عبادة الصبر، ومن ثم لم يُحْكموا عبادة الصلاة والزكاة، فعوجلوا بعقوبة قلوبهم كما صرّحت الآية.
وأما الحديث فهو ما رواه أحمد والبخاري عن أبي سعيد بن المعلّى  قال: كنت أُصلي، فمرّ بي رسول الله   فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته، فقال: » ما منعك أن تأتي؟ ألم يقل الله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}؟ «.
ما أبلغها من موعظة! عبد يؤخِّر إجابة الرسول مشتغلا بصلاة النافلة يهدَّد بنقصان حياة قلبه؟ فكيف لو كان في لهو ولعب؟ فكيف لو استدرك على الله حين يأمره بالصبر على عدوّه أيام الاستضعاف فلا يستحيي أن يخالفه متظاهرا بحب الجهاد؟!( )
حكمة ذلك: لعل الحكمة في هذا كله ما أشار إليه الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ حين قال: " يرشد الله عباده من جهة العمل إلى قصر نظرهم على الحالة الحاضرة التي هم فيها ... وهذه القاعدة الجليلة دعا إليها القرآن في آيات عديدة، وهي من أعظم ما يدل على حكمة الله، ومن أعظم ما يرقي العالمين إلى كل خير ديني ودنيوي، فإنّ العامل إذا اشتغل بعمله الذي هو وظيفة وقته، قصر فكره وظاهره وباطنه عليه فينجح، ويتمّ له الأمر بحسب حاله، وإن تشوّقت نفسه إلى أعمال أخرى لم يحن وقتها بعد، شُغل بها ثم استبعد حصولها ففترت عزيمته، وانحلّت همّته، وصار نظره إلى الأعمال الأخرى كليلا، يُنقص من إتقان عمله الحاضر وجَمْع الهمّة عليه، ثم إذا جاءت وظيفة العمل الآخر جاءه وقد ضعفت همّته وقلّ نشاطه "( ).
 قلت: ومنه قول الله عزّ وجلّ: {وَمِنْهُم مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ ءَاتَانَا مِن فِضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا ءَاتَاهُم مِن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا وهُم مُعْرِضُونَ. فأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.
وقال أيضا: " وربما كان الثاني متوقفاً على الأول في حصوله أو تكميله، فيفوت الأول والثاني ".
قلت: ومنه قوله تعالى: {ويَقُولُ الَّذِينَ ءَاَمنُوا لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ} أي تأمر بالقتال، قال: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ. فَأَوْلَى لَهُمْ. طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ. فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ. فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا في الأَرْضِ وتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}.
فتدبّر كيف كان عاقبة السيّئة السوأى؛ إذ تولّوا عن القناعة بأمر الله لهم بالصلاة و الزكاة، وطمحت نفوسهم إلى جهاد عدوّهم قبل أن يُكتب عليهم، فلمّا كتب عليهم الجهاد تولّوا، فأصابتهم لعنة الله لأنّ ذلك الطموح كان حماسة عجول، أو دفاع منتقم، أو استشفاء متغيّظ متحرّف لقتال متحيّز إلى نفسه، إلى غير ذلك مما ترشح به قلوب الحركات الإسلامية اليوم. ولذا ترى المسلمين اليوم ـ على وعيهم الكبير لما يدور حولهم ويُدبَّر لهم فيما يقال ـ لا ينقطع سؤالهم عن سبب تأخر صلاح المشتغلين بالدعوة، وقد يكونون ذوي نشاط وتنظيم كبيرين، في حين يقرأون عن الصحابة سيرة شبيهة بالخيال في عالم الكمال، وهم لا يتنبّهون إلى هذه القاعدة الجليلة ألا وهي: اشتراك جلّ الحركات الإسلامية في الاشتغال بما لايعنيهم في حاضرهم هذا، ألا وهو السياسة، والبحث عن قتال الأعداء، وهم لم يحاربوا أنفسهم العادية، فهل تراهم خلَّصوا مجتمعاتهم بل وأنفسهم من الشركيات؟ وهل عرفوا ربهم كما عرفه السلف من غير تحريف للأسماء والصفات؟ وهل ترى مساجدهم مكتظة بأهلها في صلاة الفجر عند تنزل الملائكة من السموات؟ فإن الله يقول:{إنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ ...}. وصدق رسول الله إذ يقول:» مِن حُسْنِ إسلام المرء تَرْكُه ما لا يَعْنِيه « رواه التّرمذيّ وهو حسن. فلن يحسن إسلامنا ما أقمنا على ما لا يعنينا في وقتنا هذا( ).
ومن أسرار الكتاب العزيز أن تُرتَّبَ هذه الآيات على آية فيها الأمر بإصلاح الوقت الحاضر بالتّوحيد، وإصلاح الماضي والمستقبل بالاستغفار وذلك قول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِين وَالمُؤْمِنَاتِ}.
وما أحسن خاتمتها حين قال سبحانه: {وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ ومَثْوَاكُمْ}!
وينبّه الله تعالى على ما في هذا المنهج من ثبات على الدين فيقول: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} أي بمقاتلة العدوّ، {أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُمْ} أي بالهجرة من الأوطان الحبيبة، قال: {مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ}!
ثم قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}، فأخبر سبحانه أنّ ترك الاشتغال بمجاهدة العدوّ بالسّيف وتعويضه بمجاهدة النّفس في ذلك الوقت هو أشدّ ما يثَبِّت على هذا الدين، وإلا فقد قال الحسن ـ رحمه
الله ـ: " من علامة إعراض الله عن عبده أن يجعل شغله فيما لا يعنيه "( ).

العبادة الفضلى
سرّ المسألة يتمثل في معرفة العبادة الفضلى التي يركَّز عليها وتستوعب وقت المرء، وحول هذا جدل معروف لست بصدده، وإنما أذكر ما أعتقده حقيقا بالتّحقيق ناقلا عن ابن القيم  ـ رحمه الله ـ قوله: " من لم يكن وقته لله وبالله فالموت خير له من الحياة، وإذا كان العبد وهو في الصلاة، ليس له من صلاته إلا ما عقَل منها، فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله ولله "( ).
قلت: أما أن يكون الوقت لله فهو استنفاد العمر في العبادة على تنوعها حتى لا يكون للشيطان منه نصيب، ومن فعله فقد حقق قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.
وأما أن يكون الوقت بالله فهو ألا تشغل وقتك إلا بعبادة تناسبه، تستوحيها من الشرع الحنيف، ومن فَعَله فقد حقق قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال ابن القيم: " أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته "( ).
فأفضلها عند جهاد العدوّ جهاده، ولو آل ذلك إلى ترك قيام اللّيل وصيام النهار، قال الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْءَانِ. عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَرْضَى وءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ وءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}.
وأفضلها عند نزول الضيف القيام بحقه لقول النبيّ : » إنّ لزَوْرك عليك حقّا « رواه مسلم.
وأفضلها عند سماع الأذان أن تَترك ما أنت فيه من ذكر، وأن تجيب المؤذّن لقول النبيّ : » إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول « الخ .. الحديث الذي رواه مسلم.
وأفضلها عند أوقات الصلوات المبادرة إلى الجامع والنصح في أدائها على أكمل وجه لقول الله تعالى: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ}.
وأفضلها عند السَّحَر تلاوة القرآن والدعاء والاستغفار والصلاة لقول الله تعالى: {يَتْلُون ءَايَاتِ اللهِ ءَانَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} ولقوله: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
وأفضلها عند ضرورة المحتاج إغاثته بالجاه أو البدن أو المال لقول النبيّ :» أطعموا الجائع، وعُودُوا المريض، وفُكُّوا العاني « رواه البخاري.
وأفضلها عند لقاء أخيك التسليم عليه ولو أدى إلى قطع الذّكر، وأفضلها عند مرضه أو موته عيادته وتشييع جنازته لقول النبيّ : » حقّ المسلم على المسلم خمس: ردّ السلام وعيادة المريض واتّباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس « متفق عليه.
وأفضلها عند أذاة الناس لك أداء واجب الصبر، مع خلطتك لمجتمعهم دون الهرب منه لقول النبيّ : » المؤمن الذي يخالط النّاس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط النّاس ولا يصبر على أذاهم « رواه ابن ماجه وهو حسن، هذا في أذيّة نفسك، أما إذا خفتَ منهم على دينك فأفضل العبادة اعتزالهم، إذ خُلْطَتهم في الشر شر، ودين المرء رأس ماله، لقول النبيّ :
» كيف بك يا عبد الله بن عمرو إذا بقيتَ في حُثالة من النّاس مَرَجَت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فصاروا هكذا « وشبّك بين أصابعه، قال: قلت: يا رسول الله ما تأمرني؟ قال: » عليك بخاصة نفسك ودع عنك عوامهم « رواه ابن حبّان وهو صحيح.



 
الطاعة
 تعمّدت ذكر هذه الأمثلة بأدلّتها من الكتاب والسنة لسببين:
الأول: أنّ تنوّع العبادات تابع لأدلة الوحيين لا غير.
الثاني: أنّ انتقال العبد من عبادة إلى أخرى بحسب وقت كل منها دليل على أنّه عبد حقيقيّ لله، لأنّه لا يتحرك بهواه ولا بنتاج عقله ولا بعادة قومه، وإنما يقوم ويقعد بالله، فهو: " صاحب تعبّد مطلق، ليس له غرض في تعبّد بعينه، يُؤْثره على غيره، بل غرضه تتبّع مرضاة الله تعالى أين كانت ... فهو لا يزال متنقّلا في منازل العبودية ... فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العبّاد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذّاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدّقين المحسنين رأيته معهم ... فهذا هو العبد المطلق، لم يكن عمله على مراد نفسه وما فيها لذّتها وراحتها من العبادات، بل هو على مراد ربّه، ولو كانت راحة نفسه ولذّتها في سواه، فهذا هو المتحقق بـ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} حقًّا، القائم بها صِدقاً، ملبسه ما تهيّأ، ومأكله ما تيسّر، واشتغاله بما أَمر الله به في كل وقت بوقته، ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خالياً ... حر مجرّد، دائر مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر أنّى توجهت ركائبُه، و يدور معه حيث استقلّت مضاربُه، يأنس به كل محقّ، و يستوحش منه كل مبطل، كالغيث حيث وقع نفع، وكالنّخلة لا يسقط ورقها، وكلها منفعة  حتى شوكها، وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله، والغضب إذا انتهكت محارم الله، فهو لله وبالله ومع الله، قد صحب الله بلا خَلق، وصحب الناس بلا نفس، بل إذا كان مع الله عزل الخلْق عن البين، وتخلّى عنهم، فواهًا له ما أغربه بين الناس! وما أشد وحشته منهم! وما أعظم أنسه بالله وفرحه به وطمأنينته وسكونه إليه! والله المستعان، وعليه التكلان "( ).

الصدق في الطاعة
قد يبدو النّاس كثيرين في طاعة الله، خاصة عند أول الحماسة، وإذا حقّت الحقائق وابتلي المؤمنون تميّز النفيس من الخسيس، وبان من هو على الطاعة حريص ممن هو في الصف دسيس، وكم هم الذين استعاروا ثوب السلفية، فإذا رأوا من المهرّجين الضعفاء من يحكي صولة الأسد، جاؤوه هرعين قد نفضوا أيديهم من التصفية والتربية، وحدثاء الأسنان في غرّة شبابهم يُوعَدُون ويُمَنَّوْن زورا، {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً}.
وحرف المسألة: في الصدق، و تالله ما أُتِيت الحركات الإسلامية اليوم إلا من جهة عدم صدق معظمها في إظهار الطاعة وحب التحاكم إلى الكتاب والسنة؛ ألا ترى أنهم يؤمرون من قبل علماء السلفية بالصبر والتحمل وعدم استعداء الأعداء عليهم بالتّهييج السياسي وتتلى عليهم الآيات البيّنات والأحاديث الصحيحات فيأبون إلا تحكيم عواطفهم؟! كما فعل أشياعهم من قبل؛ محتجّين بشمولية الإسلام لكل جوانب الحياة، مع أنهم ـ في حقيقة أمرهم ـ قد حصروا الإسلام في دائرة الحكم، وإذا وصلوا إلى الحكم فلا إسلام!( ) ومحتجين بأنّ الجهاد بالسيف من الدين، غاضّين الطرف عن أننا مطالبون باتباع أحسن ما أنزل من الدين، وليس في ذلك اتباع لمسلك الذين جعلوا القرآن عضين، أليس من تنزيل رب العالمين قوله: {واتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِن رَبِّكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}؟! وقوله: {الَّذِين يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُلُو الأَلْبَابِ}؟! وقوله: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}.
والقتال إذا لم يَحِن وقته فليس أحسن ما أُنزل وإن كان مما أُنزل ولا شك، ولهذا حذّر الله تعالى الفئة المؤمنة الأولى من استعجال القتال فقال: {ويَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ}، ثم نبّه على أنّ مشكلة المستعجلين في تنكّبهم الطاعة الحاضرة فقال: {فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}، ثم نبّه على أن حرف المشكلة في الصدق، فقال سبحانه: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُم}؛ لأنه أَثبت للمرء على الحق، ولذلك قال الله تعالى: {وبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ}.
وسر إضافة القَدَم إلى الصدق أمران:
الأول: أنّه دليل على الثبات، إذ يعبَّر عنه بثبات القدم؛ لأنّه لا يثبت إلا قائم على قدميه.
الثاني: أنّه دليل على السير الحثيث إلى الله من غير التفات إلى المعوقات؛ لأنّ السير لا يكون إلا بالقدم، كما يعبَّر عن النعمة باليد؛ لأنها المعطية وعن الثناء باللسان( ).
فدلَّ هذا كله على أن الثبات على الدين والسبق إلى ربِّ العالمين إنما هما بالصدق في الطاعة( ).
فعاد الأمر حينئذ إلى القلب؛ لأنه وعاء الصدق، قال ابن القيم عند قوله تعالى: {واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ}: " وفي الآية قول آخر أن المعنى أنه سبحانه قريب من قلبه لا تخفى عليه خافيةٌ؛ فهو بينه وبين قلبه، ذكره الواقدي عن قتادة، وكان هذا أنسب بالسياق؛ لأن الاستجابة أصلها بالقلب فلا تنفع الاستجابة بالبدن دون القلب؛ فإن الله سبحانه بين العبد وبين قلبه، فيعلم هل استجاب له قلبه، وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه "( ).
روى أبو داود وأحمد بإسناد صحيح عن وهب قال: سألت جابرا عن شأن ثقيف إذ بايعت؟ قال: اشترطت على النبيّ  أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبيّ  بعد ذلك يقول: » سيتصدّقون ويجاهدون إذا أسلموا « قلت: فتأمّل سياسة رسول الله  مع قوم ظهر صدقهم من إخبارهم بتقصيرهم وعدم الغشّ في بيعة الإسلام والطاعة، فلا عجب أن يحسن إسلامهم، وأن يثبّتهم الله مع أبي بكر الصديق في حروب الردّة حين قلّ النصير، واشتد من الحبيب النكير، وأعجب منه ما رُوي عن المغيرة بن شعبة  أنه قال: " فدخلوا في الإسلام، فلا أعلم قوماً من العرب بني أَب ولا قبيلة كانوا أصح إسلاماً ولا أبعد أن يوجد فيهم غشٌّ لله ولكتابه
منهم "( ).
ولهذا كله يظهر لك سر في كتاب الله، حيث أنّ الله تعالى في كل آيات الباب ينبّه عقبها على الصدق في الطاعة بعد آيات الطاعة.
ففي آية النساء عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ..}، بيّن الله تعالى بعدها الطاعة فقال:{مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ ومَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً}، ثم حذّر من عدم الصدق فيها بما أخبر عن المنافقين فقال: {ويَقُولُونُ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ}.
وفي آية سورة محمد  بيّن الطاعة بقوله: {طَاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}، ثم بيّن الصدق فيها فقال: {فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خُيْراً لَهُمْ}.
وفي الآية الأخرى من سورة النساء بيّن الله الطاعة بقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ}، ثم بيّن فضل الصدق فيها فقال: {ومَن يُطِعِ اللهَ والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وحَسُنَ أُولَئكَ رَفِيقاً}، وإنما جعلته على معنى الصدق، لأن الصدق في الطاعة تابع للصّدق في المحبة، كما روى الطبراني في (( الصغير )) بسند قوي لشواهده عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبيّ  فقال: يا رسول الله! إنّك لأحب إليّ من نفسي، وإنك لأحب إليّ من أهلي ومالي، وأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظرَ إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفعتَ مع النّبيّين، وإنّي إذا دخلت الجنة خشيت ألاّ أراك، فلم يردّ عليه النبيّ  شيئا حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ والصَّالِحِينَ} الآية ".
قلت: بأيّ شيء صاروا لهؤلاء المنعَم عليهم رفيقا وهم أضعف منهم إيمانا؟.
 الجواب: بالحبّ الصادق الذي في قلوبهم، فعن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى النبيّ  فقال: يا رسول الله! كيف تقول في رجل أحبّ قوماً ولم يلحق بهم؟ فقال: (( المرء مع من أحبّ )) متفق عليه، وقد قيل:
تعصي الإلهَ وأنت تُظْهِر حبَّه      هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبُّك صادقا لأطعتـه      إنّ المحبّ لمـن يـحبّ مطـيع



    الخلاصة
أكثر القراء ـ في زمن الوهن العلمي ـ يخطبون من فهارس الكتب الأخبار، خاصة إذا زيَّنتْها السياسةُ! فبعضهم لا يتمالك عندها حتى لعله لا يعلق بذهنه منها إلا هي! وبعضهم ينثني عن متابعة القراءة؛ لأنه انتقِد له فيها متبوعه، وما أقل من ينتصر للحق قبل الرجال! فكل هؤلاء لا يستفيدون من الخير إن وُجِد في كتابي هذا؛ لأن أخبار الناس عُرفَت أو أُنكرت لا تغيرها {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرآءً ظَاهِراً}.
فأرجو حينئذ من القاريء إمعان النظر في الأصول والقواعد العلمية التي نقلتها عن أهل العلم، والتي منها:
1 ـ  أنني بذلت نصحي للمتصدين للدعوة أنه بدلاً من أن يستجيبوا للاستفزازات السياسية، ويُضيِّعوا مواهبهم في المهاوشات الحزبية، فليُعْنَوا بتعظيم الشريعة: تعلُّمًا وتعليمًا؛ حتى يُخرج الله منهم أو من أصلابهم علماء مجتهدين، يكونون على مستوى ما استعجلوه الآن، ليحققوا الأصل الذي من أجله ألَّفت هذا الكتاب، ألا وهو ألاّ يُفتي في النوازل السياسية إلا عالم مجتهد. وما تَغَوُّل سفلة من رجال القانون للتوغّل في هذا الميدان ـ بزعم أن الشريعة ليست حكراً على أحد ـ إلا عدوان عظيم؛ جرَّؤوا به نوابت من شباب الإسلام على ولوج هذا الباب زاعمين أن الشريعة أمرت كل مسلم بالاجتهاد في كل المستجدات!
2 ـ ومنها ما جعلته مدخلاً لكتابي، وهي:
ـ أن الطريق الذي ارتضاه لنا ربنا واحد.
ـ وأن هذا الطريق منضبط بفهم السلف الصالح للكتاب والسنة.
ـ وأن المتمسك بالسنة في أمن من الهزيمة والكفر.
ـ وأن الرد على المخالف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ـ وأن نيل السؤدد منوط بالعلم.
ـ وأن تفصيل ذلك بسلوك سبيل التصفية والتربية.
لا الثورات! وتعدد الجماعات! وتكفير المسلمين والمسلمات!
3 ـ بيّنتُ أن الزّجّ بالشباب في خنقة التحزب هو سبب الجناية على هذه الأصول، ومن حُرِم الأصول حُرِم الوصول؛ قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ـ رحمه الله ـ: " العلم .. العلم .. أيها الشباب! لا يُلهيكم عنه سمسارُ أحزاب ينفخ في ميزاب! ولا داعية انتخاب في المجامع صخاب! ولا يَلفتنَّكم عنه معلِّلٌ بسراب، ولا حاوٍ بجراب، ولاعاوٍ في خراب يأتمُّ بغراب( )، ولا يَفتننّكم عنه مُنْزَوٍ في خنقة، ولا مُلْتَوٍ في زَنقة( )، ولا جالسٌ في ساباط( ) على بساط، يُحاكي فيكم سنّة الله في الأسباط( ).
فكل واحد من هؤلاء مشعوِذ خلاّب! وساحر كذاب! إنكم إن أطعتم هؤلاء الغواة، وانصَعْتم إلى هؤلاء العُواة، خسرْتم أنفسكم وخسرَكم وطنُكم، وستندمون يوم يَجني الزارعون ما حصدوا، ولاتَ ساعة ندَم "( ).
4 ـ كما بيَّنتُ أن تضييع الدعوة إلى الدين الحق وتنكّب طريق الأنبياء سببه تفسيرُ أكثرِ الدعاة اليوم الدينَ تفسيراً سياسياً وحَصْرُ الدعوة في السبيل السياسية أو التركيز عليها؛ يُخَيَّل إليهم من سحرها أنها تسعى!! مع أنها تزيدهم كل يوم نكسة، وترجع بهم القهقرى، وهذا أيضا من إفرازات الحزبية، التي كثيراً ما تَخدع، حتى يظن الظّانُّ أن الطرق مسدودة إلا بمخالفة الأنبياء!!!
5 ـ لذا بذلت وسعي في ربط هذه الأمة بعلمائها: علماء الكتاب والسنة لا علماء ضرائر كتب العلم: الجرائد ...
ولعل القاريء يلاحظ أنه ليس لقلمي في هذا المؤلَّف سوى النقول عنهم؛ أبيِّن هذا كي لا يقال: كيف تكتب في السياسة ولستَ من أهل الاجتهاد؟!
هذا، وشباب الدعوة مع هذه المؤلفات في أمر عجب! فمنهم من أقعده العجز عن طلب معالي الأمور، وطمع في دخول حمى غيره، فزعم أن باب الاجتهاد قد أُقفل! فالكل إذًا يتكلم في السياسة؛ لأنهم في مستوى واحد!!!
ومنهم من يعبد الله على حرف، فلا يرضى بانتقاد المخِلِّين بمنهج الأنبياء؛ حتى ينظر لعلهم يَصِلون إلى الحكم! أما نحن، فلو رأيناهم يتقلَّبون في كل بلاد الله، يَطيرون من مُلْك إلى ملك لقلنا كما أمر الله نبيه  أن يقول: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}.
ومنهم الهالك في باطن الإثم، فيرى أن هذه الكتابة في زمن الجهاد تثبيط! ولا يكتب فيها إلا ( عميل ) صُنِع على عين تخطيط!!
ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم، كلما صاح باطل لم يُسمَع لهم حسّ، وإذا نطق فيه حقٌّ بحقٍّ قاموا ولم يقعدوا، وضجّوا ولم يسكتوا: ليس ذا الوقت! وليس ذا الأسلوب! هذا تنفير! ما الفائدة من هذه الكتابات والفتنة قد غلت مراجلها، وأُضرِمت نارها!!!
وهؤلاء يتظاهرون بالرجوع إلى المنهج الحق كلما طاردتهم الأدلة أو غالبتهم مطارق الأنظمة، ولا يُؤتَمَنون؛ لأنهم {كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا}، ومن أبرز أماراتهم قولُهم: لماذا لايَرُدّ على الحكومة كما رَدَّ على إخوانه؟!
ومنهم .. ومنهم .. ولله في خلقه شئون.




    الخاتمة
الله وحده يعلم أنّني ما كتبت ما كتبت تتبّعاً للعورات، ولا تفكّهاً بالسوءات، ولا طلباً للنّزال، ولا حبًّا في الجدال، ولا نصرةً لأنظمة الباطل، ولا خذلاناً للقائمين في وجه الصّائل، ولكنّني رأيت شباب الإسلام في زهرة عمره، وقوّة نشاطه، أقبل على العلم، وربما ضاقت عليه دياره حتى هان عليه مفارقتها، ( كالنحلة ترحل إلى المكان السحيق، لترجع إلى خليّتها بالرحيق )، وكلما لاحت على محيّاه مخايل النجابة مُدّت إليه يَدٌ عجلَى لتقطع عنه الطريق، بإشغاله بالسياسة العصرية التي أضحت حيلة كل محتال، وحِلية كل بطَّال، يلقط فُتات الأخبار، من موائد إعلام الكفار، يبلعها بلا هضم، ثم يتقيّؤها على أنه المحلّل الفهم، فتارة يطيع عاطفة غير معصومة، وتارة يتبع مصلحة موهومة، فتأسّى به منهم من صارت السياسة عنده غراماً، فقلت لا بد من تخبيب الزّوج على زوجها وإلا كانت الفتنة لزاماً، بتبيان منهج السلف عليهم من الله رضاه، بما لا مطمع في طَرْق حماه، وربط الأمّة بعلمائها، عصمة لها من أن يسوقها الرّويبضة سوق النعاج إلى حتفها.
فيا طلبة العلم! اصبروا على طلب العلم كتاباً وسنّةً؛ فإنكم على خير! ولا تستبطئوا الوصول فقد جدّ بكم السير، ولا تحقروا ما أنتم عليه؛ فإنه الجهاد الأكبر! قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : " فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين:
ـ جهاد باليد والسنان، وهذا المشارك فيه كثير.
ـ والثاني: الجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين؛ لعظم منفعته وشدّة مؤنته وكثرة أعدائه، قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكّيّة: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً. فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً}، فهذا جهاد لهم بالقرآن، وهو أكبر الجهادين، وهو جهاد المنافقين أيضا( )؛ فإن المنافقين لم يكونوا يقاتِلون المسلمين، بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتِلون عدوَّهم معهم، ومع هذا فقد قال تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}، ومعلوم أنّ جهاد المنافقين كان بالحجة والقرآن .." ( )، وفي (( جامع بيان العلم )) لابن عبد البر قول بعضهم ( ):
ومِداد ما تجري به أقلامهم     أزكى وأفضل من دم الشّهداء
يا طالبي عِـلـم النّبيّ محـمـد     مــا أنتـمُ  وسـواكــمُ بسـواء

تمّ تبييض أصله في الجزائر في شعبان 1414 هـ

والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات.

فهرس الكتاب
ـ تقريظ العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني    7
ـ تقريظ العلامة الشيخ عبد المحسن بن حمد العبّاد البدر    12
ـ تمهيد: فيه التذكير بنعمة الإسلام ونعمة السنة    20
ـ ستة أصول:
الأول: الطريق واحد    25
الثاني: طريق الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح    27
الثالث: نيل السؤدد بالعلم    36
*     الجهاد الأكبر عند ابن القيم    40
*     لطيفة فيها الرد على الذين ظنوا سؤددهم في التفوق الحضاري أو التمكن من السلطة    42
الرابع: صِمام الأمان من الكفر والهزيمة باتباع الكتاب والسنة    45
•    معنى النصر الموعود    53
•    تهديد مخالف الرسول بالزيغ والكفر    55
•    المخالفة نوعان    57
•    تعجيل الهزيمة لمخالفي الرسل    59
•    أهل الحديث أقل الطوائف اختلافاً    60
•    تعظيم السنة سبـب دوام الملك    62
الخامس: الرد على المخالف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر    67
•    معنى (( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ))     70
•    فيه دفاع عن الإسلام من الخطر الخارجي فضلا عن الداخلي    70

•    كلام نفيس لابن تيمية في أن المبتدع قد يكون أخطر من الكافر    71
•    مثله عن الإبراهيمي    74
•    أيهما أعظم: جهاد العلم أو جهاد السيف؟    75
•    استعمال الشدة في الإنكار على المبتدعة لا يعني الولاء للكفار    80
السادس: التصفية والتربية    84
•    بين الشيخ الألباني وأحد قادة جبهة الإنقاذ الجزائرية    86
مختصر تاريخ الدعوة الحديث في الجزائر    91
•    الجماعات الموجودة بعد الاستقلال مع تعريف دقيق بالجزأرة    92
•    سبب ظهور الروافض في الجزائر    93
•    المرحلة الذهبية للدعوة    98
•    جناية السياسة على الدعوة    103
•    علي بن حاج والعلماء، وتأثّره بالإخوان    108
•    وفي الهامش: التخبط العقدي عند تلاميذ محمد قطب    109
•    تعليق الألباني على كتاب سفر الحوالي في الإرجاء    119
•    الأطوار التي مرّ بها علي بن حاج    129
•    جناية السياسة على العلم    134
•    جناية الفكر الخارجي علىالدين    135
ـ حال الدعوات السياسية اليوم    138
ـ معنى السياسة    142
ـ الإصلاح السياسي    149
ـ السياسة الشرعية قاصرة علىالمجتهد    155
•    أثر عظيم في منع تعليم العوامّ السياسة، وفتوى للشيخ ابن عثيمين    163
•    الشيخ الألباني ينهى ناصر العمر عن إسناد فقه الواقع لطلبة العلم    173
ـ الجامعون لفنون الشريعة هم السياسيون الشرعيون    176
ـ نكت في آيات الكتاب    178
الردّّ على ممارسي السياسة المستدِلِّين بفعل يوسف  وابن تيمية    182
ـ آية تأصيل حكم الباب وبعض فوائدها    186
•    حكم إذاعة الأخبار السياسية    193
•    قصة عظيمة في نهي الصحابة عن تتبع الأخبار    196
•    ناصر العمر يتتبع قصة يونانية خمسة عشر عاما‎    197
•    الجهل بالواقع غير قادح في صاحبه‎    199
•    توسم ابن مسعود في الخوارج والألباني في جماعة التبليغ    203
•    فقه الواقع ليس إلى طالب العلم    208
•    اعتراف علي بن حاج بعدم وجود كفاية من العلماء في صفوفه‎    211
•    أمثلة من انخداع الحزبيين السياسيين بالسياسات الجائرة وجهلهم بالواقع    213
•    من منشورات محمد المسعري    216
•    دفاع عن أئمة السنة، وردّ على ( الإخوان المسلمين ) في موالاتهم لليهود والنصارى    219
•    نصيحة الشيخ الألباني لجبهة الإنقاذ    223
•    طعن علي بن حاج في العلماء ( هامش )    228
•    نص بيان استغاثة جبهة الإنقاذ بالبرلمان العالمي وما فيه من كلمات الكفر    230
•    علي بن حاج يتحاكم إلى الديمقراطية وينبهر بالحرية الغربية    245
•    كلمة عن المرجئة    259
ـ كلمة ذهبية لابن القيم في التفريق بين فقه الواقع وفقه النفس    266
•    سلمان العودة ينفي وجود المرجعية العلمية الصحيحة في الجزيرة وغيرها    271
•    كيف نصيحة الرعية للولاة    272
•    نصيحة عظيمة من الألباني لناصر العمر في حكم اتخاذ وسائل الإعلام مصدراً لمعرفة الواقع    278
•    سلمان العودة يوجب على عامة الناس الدخول في الشورى الديمقراطية    283
•    الشورى في الإسلام    288
•    سلمان العودة يقدِّم فقه الواقع على العقيدة (هامش)    299
ـ متفقهون حول الواقع لا يفقهون الواقع:    302
1 ـ فقه واقع الجزائر عند سلمان العودة    304
•    جبهة الإنقاذ والرافضة    307
•    جبهة الإنقاذ والعلم    308
•    جبهة الإنقاذ والعقل    311
•    مشاورة علي بن حاج العوام لإقامة المسيرات والمظاهرات    312
•    إقرار رئيس الجبهة على اتهام الألباني بالعمالة الصهيونية    314
•    سلمان يدعو جبهة الإنقاذ ونساء السعودية إلى التمثل بالثورة الشيوعية في مقاومة الأنظمة بالعنف    318
•    فتوى الشيخ الألباني فيمن تقتله الأنظمة الجائرة اليوم    321
•    بين جبهة الإنقاذ وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين    322
•    كلمة مختصرة دقيقة للشيخ الإبراهيمي في حكم التحزب    323
•    كلمة الشيخ ابن باديس في العمل السياسي    325
•    غزو الإقلميين ( الجزأرة ) لجبهة الإنقاذ    329
•    كلمة عظيمة من الألباني عقب فوز الجبهة بالانتخابات البرلمانية    332
•    تكذيب الألباني وابن باز فيما ادّعاه عليهما سلمان من تأييد الجبهة    334
•    صورة فاكس الشيخ الألباني لجبهة الإنقاذ ونصّه    335
•    الردّ على عبد الرحمن عبد الخالق فيما نسبه للشيخ الألباني (هامش)    344
•    فتوى الشيخ ابن باز في نازلة الجزائر    347
•    الجبهة وقضية الخليج    354
•    وصف علي بن حاج لعلماء السعودية    354
•    نتائج تحريض سلمان لجبهة الإنقاذ من تكفير وتقتيل    356
•    رسالة سريّة فيها أن علي بن حاج وراء الاغتيالات (هامش)    360
•    سلمان العودة يطلب من شعبه حماية ولو بالدماء ( هامش )‎    362
•    واقع مكذوب    368
2 ـ فقه واقع الجزائر عند الدكتور سفر الحوالي    372
•    القضاء عند سفر    373
•    أكبر أخطائه في الموضوع    376
•    احتضانه المبتدعة    378
•    واقع قديم يحسبه حديثاً    380
•    سلوك الطريق الديمقراطي عنده‎    381
•    معنى يقظة الشعب عنده    382
•    رأي الحزبيين في علماء السعودية    386
•    موقف الجبهة و( الإخوان المسلمين ) من قضية الخليج    387
•    خطأ في النقل عن الدستور الجزائري    388
•    الخلط بين الطريقة السلفية والطريقة الخلفية    389
•    تناقضاته    390
•    كلام ساقط جدا في الطعن في العلماء ( هامش )    391
3 ـ فقه واقع الجزائر عند بشر البشر:
•    زعمه أن الشيخ أحمد سحنون من جبهة الإنقاذ    400
•    مشايخ الأشعرية يُنسبون إلى السلفية    401
•    مرثية سحنون للخميني    403
•    الكلام على محفوظ نحناح    408
•    قيود الشيخ ابن عثيمين على المتحزبين    411
•    تكذيبه لمن نسب إليه تأييد مواجهة النظام الجزائري وكذا المظاهرات    414
4 ـ فقه واقع الجزائر عند عائض القرني:
•    تأييده هو وسفر الحوالي وسلمان العودة للمظاهرة النسوية    416
ـ شبهتان والرد عليهما:‎    421
أ ـ قولهم: هم مجتهدون مأجورون أخطأوا أو أصابوا.
ب ـ قولهم: كيف يُعرف مجتهدو النوازل؟
ـ دعوة: تعالوا إلى كلمة سواء    429
•    توقيف هيئة كبار العلماء لسلمان وسفر    431
    ـ الواجب اليوم:  إصلاح الوقت لإصلاح الحال:    433
•    العبادة الفضلى    445
•    الطاعة    448
•    الصدق في الطاعة    450
ـ الخلاصة: فيها وَصْف الشيخ الإبراهيمي للحزبيين‎    455
ـ الخاتمة: وفيها كلام مهمّ عن الجهاد لابن القيم‎    460
ـ فهرس الكتاب    462


----------------------------------------------------------------
تحديث :  إضافة من الأخ / مراد المغيري الطائي 



وفيها زيادات ( ملونة )
الحجم ٦٠ ميقا


_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..