الجمعة، 26 يوليو 2013

رمّانة الميزان بين العسكر والإخوان

الحمد لله، وبعد:  فلا بد لمن أراد تقييم أفراد أو جماعات أن يلمّ بصورة الحال, وأن يحسن ردّها لحكم من
له الحكم المطلق وهو رب العالمين سبحانه, وما من حادثة جلّت أو دقّت إلا ولله فيها حكم. وأعلمُ بمصالح الخليقة من خلقهم "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" ولو ردّ الناس التحكيم لغيره لاختلفوا مهما أوتوا من حصافة وحدّة نظر, بعد هذا أقول:
إن كلا الفريقين يدّعي الحق والإصابة, ولكلّ حُججه أو شُبَهه, والدعاوى لا تكفي لترجيح طرف:
والدعاوى إذا لم تكن لها    ...   بيّنات أصحابها أدعياءُ
ولنجمل القول لضيق المساحة, ولنترك الدعاوى والضجيج وننظر في الأمر الكلّي والثمرات الحقيقيّة سواء أكانت عنبًا أم حنظلًا. مع تسجيل عتبي على بعض كُتَّاب بلدي, فمع تفهّمي لخلافهم مع حكومة الثورة, إلا أنّي لم أستطع هضم انقلابهم على المسلّمات العدلية الإنسانية العامّة في تقييم المجتمعات والشعوب بلْه الأفكار! وكيف تنادون اليوم بما كنتم تنقمونه بالأمس, ولم أكلتم صنمكم الديمقراطي الذي طالما روّجتموه؟!
ولندع ذلك جانبًا وندلف لموضوعنا, فنقول: إن الموازنة بين الطائفتين ستكون عبر محاور محدّدة تضبط المسار لنظر النَّقَدة, وهي كالتالي بإيجاز شديد:
أولًا: تحكيم الشريعة: فيزعم الداخلون للمسار الديمقراطي من النخب السياسية الدعوية أنّهم لا يقصدون بذلك سوى تحكيم شرع الله تدريجيًّا عبر اختيار الشعب المنضبط بمحكمات القرآن, وأنها من باب دفع أكبر الضررين, وهي أشبه بأكل الميتة, وهي دعوى لها نقاش آخر, ولكن مخرجاتها في الميدان تكشف أن حكم الإخوان _ برغم الحرب المسعورة ضده _ على ما فيه من مخالفات وعظائم وموبقات فهو أمثل شرعًا من حكم العسكر قبل وبعد.
ثانيًا: العدل: من تطبيقات الحكومات الديمقراطية العالمية _ نظريًا وعمليًا _ الاستحواذ على غالب مراكز إدارة المؤسسات الخدمية والوظيفية في البلاد للتمكّن من تنفيذ وعودهم الانتخابية التي سترحل مع رحيلهم, فليس في (أخونتهم) مدخل قانوني للطعن فيهم. ويصعب تقييم أدائهم العام بتجرّد دون إعطائهم فرصتهم كاملة, وهذا مالم يكن.
ثالثًا: الاقتصاد: وهذا مربط فرس الفلول التي راهنوا عليها, وليس سرًّا أن دولتهم العميقة وقنواتها الخارجيّة كانت حاضرة بكامل عدّتها في خلفية مشهد التجويع الخدمي الدرامي الذي تبخّر فور سقوط حكومة الثورة!
رابعًا: الأمن: ومع تسجيل فشل حكومة الثورة في تحقيقه على وجه التفصيل, إلا أنّ المراقب يرى أنّها كان مكبّلة بكل ما تحمله الكلمة من معنى, وشاهد ذلك وزارةُ الداخلية التي لم تكن يومًا من أيّامهم القليلة أداةً رئاسية, ولذلك سرّ كبير سيظهر يومًا!
خامسًا: الثورة السورية المجيدة: والحق أن قول الإخوان فيها أسوأ من فعلهم, وبخاصة في آخر أسابيعهم التي كادوا أن يستفيقوا فيها من غيبوبتهم, وإن كانوا لم يوفّقوا في الجملة للوقوف مع شرعية الشعب السوري المظلوم, فهم ليسوا كغيرهم! ولعل بعضًا مما أصابهم إنما هو عقوبة إلهية على خذلان السوريين في جهادهم ضد طغاتهم.
خطأ الإخوان أنهم ركبوا الخطر ومخروا البحر الهائج بمركب متخرّق, فغرق بهم وبمن تعلق بهم, ربما لو كان البحر هادئًا لأوشكوا أن يسدوا ما تخرق من مركبهم, لكنها الثورة المضادة التي هي كالحتمية التاريخية الأشبه بالسنن والنواميس الكونية. ذلك أن منطق الثورات وروحها هو اجتثاث أنظمة عميقة الجذور غزيرة الفروع, فلها امتداد بالطول والعرض والزمكان, ويحتاج قلع جذورها إلى قطع جذعها أكثر من مرة, مع منع الغذاء عن الجذور حتى لا تترعرع الأغصان من جديد, وهذا ما لم يحدث في نظام عميق في مصر, ولن يذهب بسهولة, ومن شواهد التاريخ _المتكررة بمتلازمة مدهشة في أكثر من بقعة_ الثورة الفرنسية, ولك أن تتذكر أن المقصلة التي أُعدِم فيها الملك والملكة وكثير من حاشيتهما, قد تبعتها على مدى سنين رؤوس ثورية لا تحصى, ومن كان بالأمس يقصل الكبار نرى رأسه اليوم يتدحرج بين قائمتي مقصلته!
وتردد القتل والسحل بين أنصار اليعاقبة وأعداءهم الجيروند _ إخوان الثورة بالأمس _ ولا عجب فهذه هي سنن الثورات وإن تغيرت مسمياتها إلى ثورات تصحيحية أو مضادة وغير ذلك.. ولك أن تتذكّر بل أن تعجب أن ذلك النزيف الهائل من الدماء الجارية لم يوقفه إلا انقلاب أبيض! من ضابط بالجيش حَكَمَهُم حكمًا شموليًّا بوليسيًا, ومن ثم دوّخ العالم بأطماعه وهو نابليون بونابرت, الذي استولى على السلطة بحركة سريعة مع تسلّط إعلامي, واستغلال بل وصنع بعض الحوادث الأمنية التي مثّلته المنقذ لروح الثورة الفرنسية, لكن شرهَهُ وطمعه الأسطوري في السلطة لم يتوقف به حتى تدرّج _ وهو المدافع والحارس للثورة _ من منصب القنصل الأول, إلى أن يكون قنصلًا مدى الحياة, إلى إعلانه إمبراطورًا ليس لفرنسا فقط بل خليفة لأباطرة الرومان, وبالطبع فقد كان البابا حاضرًا في المشهد وقلّده التاج الكاثوليكي بيده عام 1803م
ولم يكتف (حارس الثورة!) بذلك بل حارب القريب والبعيد لإرضاء نزواته السلطوية حتى حفر حتفه بظلفه, إذ سقط من أبّهة عرشه أخيرًا بعد معركته البائسة في واترلو سنة 1815م وبعد هزيمته سجنه أعداؤه الإنجليز في جزيرة تائهة قيل عنها: إنها أحزن بقاع العالم, تلك هي سانت هيلانة, ولم يقف الأمر عند ذلك بل سامه حاكمها الإنجليزي صنوف الأذى والعذاب المعنوي والجوع والإهانة حتى مات بعد خمس سنوات ونصف كآبة وحزنًا, ولم يرحل هذا العبقري الجبار حتى سطّر في التاريخ دروسًا وعبرًا جليلة مع أنهار الدماء التي أهراقها في سبيل مجد دنياه, منها ما خطّه قبيل وفاته قائلًا: "أتعرفون أكثر الأشياء إثارة لدهشتي؟! ذلك هو عجز القوّة عن تنظيم أي شيء, فليس في العالم سوى قوّتين: الروح والسيف, ولا بد أن تنتصر الروح في النهاية" ومن التراجيديا الحقيقية عبارة أمّه العجوز التي هدتها السنون وأثقلتها الهموم فقالت لمّا أُخبرت بإعادة تمثاله إلى عمود فندوم في وسط باريس: لقد عاد الإمبراطور إلى باريس!
العبرة من ذلك يا سادة هو أن من يركب قارب رئاسة أي بلد بعد ثورة حقيقية _ لا مزيفة كثورات ضباط جيوش العرب في منتصف القرن الماضي _ فلا بد أن يُواجه بحرب طحون لا قبل له بها, والغالب أنه سيسقط سريعًا صريعًا, ولن أعجب إن شنق وسُحل إلا إن كان قد أخذ أُهبته التامّة للحرب السياسية والاقتصادية وغيرها لكل خصوم الثورة الأولى, وهي الهزيمة التي غالبًا ستحرق كل من اقترب منها.
لذا؛ فبما أن الإسلاميين عمومًا والإخوان خصوصًا لم يتأهبوا للأمر كما ينبغي له: فلو أنهم تركوا دفة القيادة في الفترات الأولى للرئاسة حتى يتفرغوا لدعوة الناس للخير والاكتفاء في المراحل الأولى _المحرقة_ بأن يحكم البلاد قائد مصلٍّ لا يحول بينهم وبين نفع الناس لكان خيرًا. ولعلّهم خافوا _ وحقّ لهم ذلك _ أن يلي البلاد ناصريٌّ آخر فيعيد البلاد لسني الحرب لكل ما هو إسلامي! ولله في تقديره حِكَمٌ وألطاف لا نتبيّنها.
وبالجملة؛ فإن كان الإخوان قد أخطأوا؛ فإن العسكر قد أجرموا! ولئن صدقت فراستي ليعودُنّ لحكم مصر في الزمن المنظور وإن تأخر قليلًا لأخذهم بأسبابه الماديّة, أما التمكين التام فلم يحققوا أسبابه الشرعية بعد, وليت شعري: أي قومٍ هم حينذاك, وهل جرّدوا المنهج حينئذٍ من علائق التمييع والانتهازية وخلف الوعود والقفز على ثوابت الملّة؟! وإن غدًا لناظره قريب.
 فاصلة: على الروح طبقات من رواسب المادة, رمضان لمن قام ببعض حقّه كفيل بإزالتها, ففي كل يوم وليلة منه تحسّ باقترابٍ من نبضك الروحاني
إبراهيم الدميجي
١٧/رمضان/١٤٣٤

_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..