الجمعة، 12 يوليو 2013

قواعد في قرائن الترجيح بين الروايات

 كتاب شرح النظم المطلول في قواعد الحديث المعلول (17)


 
واعتَمَدواالترجيحَ بالقرائنِ
وأغلبُ الترجيح منها فاعْتنِ
وهي وسيلةُ انكشافِ العللِ
تحتاج فطنةً من المعلِّلِ
وهي كثيرةٌ وليستْ تُحصَرُ
وما لها من ضابطٍ يقدَّرُ
وكلُّها ليس على الإطلاقِ
إعمالُها في الحكمِ باتفاقِ
وإنما بالاِجتهادِ والنظَرْ
فيالباب كلِّه وهذا المعتبَرْ
فكلُّ مرويٍّ له قرائنُ
تخصُّه بعينِه وتُقرَنُ
منهااعتبارُ الحفظ والإتقانِ
وكثرةُ الرواةِ في أحيانِ
والعلمُ بالأثبت في الثقاتِ
وطبقات كافَةِ الرواةِ
كذلك البلدانُ واتفاقُهَا
كالشامِ فيها قدِّمت رواتُهَا
والاختلافُ في المجالسِ ومنْ
له سماعٌ باختلاف في الزمنْ
أو ما رَوَوه تحت بابٍ لم يصحّْ
فيه حديثٌ فالحديث لا      يصحّْ
أو ضعف راوٍ ثقة أو إن عُرِفْ
بوهمِه أو باضطرابه وُصِفْ
أو من حديثه شبيهٌ وصفهُ
بما رَوَى راوٍ ضعيفٌ حالُهُ
ومَن مِن الكتاب حدَّثَ فقطْ
وكاتب عند السماع قد ضبطْ
وكل إسنادٍ أتى ولم يصحّْ
به حديثٌ فاعتبره قد طُرِحْ
والاضطرابُ أو إذا الراوي رَجَعْ
عمَّا روى بعينِه فيتَّبعْ
ومَن روى مخالفًا لرأيهِ
مظنة لخطأ أتى بِهِ
كذلك التلقين أو ما اشتَهَرَا
من الحديثِ طرقًا وانتَشَرَا
أو قصة في الخبرِ المرويِّ
جاءتْ خلاف رفعِهِ المحكيِّ
ومَن رَوَى حديثه ولم يُرَ
في كتْبِ شيخِه كأنه افتَرَى
أو مَن رَوَى حديثًا دون كُتْبِهْ
في وطنٍ أو مَن تفرَّد انتَبِهْ
ومَن رَوَى عن أهلِه مقدمُ
كابنِ أبي إسحاق قيل أسلمُ
أو مَن بأمرٍ في الرواية اشتهرْ
كالاختصارِ للمتون إن ظهرْ

 



(واعتمدوا)؛ أي: المحدِّثون (الترجيح) بين الروايات عند ورود الاختلاف بين الرواة، (بالقرائن) التي تحتف بتلك الروايات، فيترجح بسببها أحدُ الوجوه؛ كأن يكون أحد الراويَينِ أثبتَ في الشيخ المختلف في الرواية عنه، أو أن يخالف ثقةٌ عددًا من الثقات، فيترجح ما رواه العدد على الفرد، أو لمزيد ضبطٍ وإتقان في أحد الراويينِ، ونحو ذلك مما سيأتي في هذا الباب.

(في المتن: وأغلب الترجيح) بين الأحاديث (منها)؛ أي: من توظيف القرائن التي تجعل النقَّاد يطمئنُّون لترجيح هذه الرواية على تلك، ولا يستلزم بيان علَّة الحديث أن تدلَّ عليه قرينة إلا إذا كان مدارُ العلة على الاختلاف، أما غير ذلك؛ كانتفاء السماع ونحوه، فلا.

(فاعتنِ) بمعرفة هذه القاعدة؛ فإنها نفيسة في علم علل الحديث، كما قال ابن رجب - رحمه الله -: "معرفة مراتب الثقات وترجيح بعضهم على بعض عند الاختلاف، إما في الإسناد، وإما في الوصل والإرسال، وإما في الوقف والرفع، ونحو ذلك، وهذا هو الذي يحصل من معرفتِه وإتقانه وكثرةِ ممارسته الوقوفُ على دقائق علل الحديث"[1].

(و) قرائن الترجيح (هي وسيلة انكشاف العلل) القادحة في الحديث عند الاختلاف عليه بين رواته، ولكن (تحتاج) ملاحظتها ومعرفتها (فطنةً) وذكاءً (مِن) المحدِّث الناقد (المعلِّل) للحديث؛ وذلك نظرًا لدقتها؛ فلا يعرفها إلا عارفٌ بأحوال الرواة ومراتبهم، وحافظٌ للروايات والأسانيد، ومطَّلع عليها، وصاحب فطنة، وفهم لمَّاح ثاقب؛ كما هو حال النقَّاد؛ أمثال: شعبة، وابن المديني، والإمام أحمد، والدارقطني، وأبي زرعة، وغيرهم - رحم الله الجميع.

(وهي)؛ أي: هذه القرائن (كثيرةٌ وليستْ تُحصر) بعدد معيَّن أو أقسام، (وما لها) من قاعدةٍ كلية، أو (ضابط) عام (يقدَّر) لها فتنضبط به لتعرف به دائمًا؛ كما قال الإمام ابن رجب - رحمه الله - عند كلامه على تفرد الرواة الثقات: "ولهم (أي: الأئمة النقَّاد) في كل حديثٍ نقدٌ خاص، وليس لذلك ضابط يضبطه"[2]، وقال الصنعاني - رحمه الله - في توضيح الأفكار: "وجوه الترجيح بين المتماثلين عددًا ووصفًا كثيرة لا تنحصر، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كل حديث يقوم به مرجح خاص، لا يخفى على الممارس الفَطِن، الذي أكثَرَ من جمع الطرق؛ ولهذا كان مجال النظر في هذا أكثر من غيره".

(وكلها)؛ أي: جميعها (ليس على الإطلاق إعمالُها في الحكم) على الأحاديث؛ وإنما لكل حديث قرينةٌ تخصه؛ كما سبق توضيحه، وهذا (باتفاق) النقَّاد، (و) هذا (إنما) يكون (بالاجتهاد والنظر في الباب كله)؛ للوقوف على طرق الحديث، ووجوه رواياته؛ لمعرفة القرائن التي يرجح بها الحديث المحفوظ عن الرواة، (وهذا) هو (المعتبر) عند النقَّاد؛ كما قال ابن المديني - رحمه الله -: "الباب إذا لم تُجمَع طرقه، لم يتبيَّن خطؤه"، وكما قال الإمام أحمد: "الحديث إذا لم تَجمَعْ طُرُقَه، لم تَفهمه، والحديثُ يفسِّرُ بعضُه بعضًا"، وكما قال ابن المبارك - رحمه الله -: "إذا أردتَ أن يصح لك الحديث، فاضرب بعضه بعض"[3].

(فكل) حديثٍ (مروي) (له قرائن) معينة (تخصه بعينه) وذاته، فهي مقصورة عليه، ولا يصلح تطبيقُها على غيره؛ كالقاعدة المطردة، إلا إذا تشابهت الأحوال بما يقتضي التماثل في ذلك، فهذا من باب توافق القرائن، لا من باب الاطِّراد الذي تختص به القواعد، (وتُقرَن) بالبناء على ما لم يُسَمَّ فاعله؛ أي: وتصاحبه، وتحتف به؛ من القِرَان الذي معناه المصاحبة.

وهذه القرائن؛ (منها) على سبيل المثال، وذكر الأجناس المشهورة لا الحصر: (اعتبار الحفظ والإتقان) في الرواة، وهي من القرائن المشهورة عند المحدِّثين، فالنقَّاد يقدِّمون الأحفظ إذا خالفه مَن دونه في الحفظ إذا استويا في الثقة، وهذا كما تقدَّم ليس على الإطلاق، وأعني بذلك: ما لم تظهر قرائن أخرى تُوجِب اختلاف الحكم، (و) منها: (كثرة الرواة في أحيان)، وقد تقدَّم الكلام على الترجيح بالحفظ والعدد في "باب قواعد اختلاف الرواة".

(في المتن: والعلمُ بالأثبت في الثقاتِ) باعتبار الأوثق في الترجيح، والأقدم في الصحبة؛ كأن يكون مَن اختلفا عن الشيخ في الرواية أحدهما أوثق من الآخر.

قال الصنعاني - رحمه الله -:
"وإن لم يتساوَوا في الثقة، فالحكم للثقة"[4]، ويدخل في الترجيح بمراتب الثقات: الترجيح بطول الصحبة، والحفظ، والإتقان، والضبط، وقد تقدَّم، كما يدخل الترجيح بالإمامة والديانة، وهو ما يعبَّر عنه بكبار الثقات، وهو كسابقه، وكما بيَّنا في مقدمة هذا الباب مِن أنه ليس على إطلاقه؛ وإنما بحسب ما يَرِد على الحديث من القرائن كلها.

(و) كذلك اعتبار (طبقات كافة الرواة) في وجوه الأسانيد التي يُرَاد الترجيح بالقرائن بينها، وأصحاب الطبقة الواحدة هم: (الرواة الذين تقاربوا في السن والإسناد، أو في الإسناد فقط)، وتقاربهم في الإسناد يعني اتفاقهم في الشيوخ.

(كذلك) معرفة (البلدان)؛ أي: بلدان الرواة، وقد تقدم أيضًا في باب قواعد في كشف العلة، وهو مهم في تحديد هوية الرواة ونسبتهم؛ فقد يشترك الراويان في الاسم ويختلفان في النسبة إلى البلد، فيكون هذا مكي والآخر مدني، ومن ذلك ينشأ الوهم، (واتفاقها)؛ أي: اتفاق البلدان على ضبط روايات معيَّنة، فإذا خالفهم في ذلك أحدٌ، سواء من البلاد نفسها، أو كان غريبًا عنها، كان ضبط أهل البلد للحديث واتفاقهم على ذلك قرينةً مرجِّحة؛ (كـ) بلاد (الشام) مثلاً، (فيها قدمت رواتها) فيما ضبطوه من الأحاديث.

قال أبو حاتم: "وأهل الشام أضبط لحديثهم من الغرباء"[5]، وقال حماد بن زيد: "بلديُّ الرجل أعرف بالرجل"[6].

(والاختلاف) بين الرواة (في المجالس) التي سَمِعوا فيها الحديث، فبعضهم سَمِعه في مجالس عدة، وبعضهم سَمِعه في مجلس واحد، فيقدَّم مَن سمعه في مجالس متعددة، فالترجيح هنا بكثرة المجالس؛ لأنه مظنَّة للضبط.

قال الترمذي - رحمه الله - في حديث: ((لا نكاح إلا بولي)):
"أصح؛ لأن سماعهم (أي: الرواة) من أبي إسحاق في أوقات مختلفة (أي: مجالس مختلفة)، وإن كان شعبة والثوري أحفظَ وأثبت من جميع هؤلاء الذين رَوَوا عن أبي إسحاق هذا الحديث، فإن رواية هؤلاء عندي أشبه؛ لأن شعبة والثوري سَمِعا هذا الحديث من أبي إسحاق في مجلس واحد"[7].

(ومَن) من الرواة (له سماع) عن شيخه (باختلافٍ في الزمن)؛ أي: روى عن شيخه في أوقات مختلفة؛ كما تقدم مثاله، (أو ما رَوَوه) من الأحاديث داخل (تحت باب لم يصحّ فيه حديث)، ونص العلماء على ذلك، وقد صنَّف في ذلك الشيخ العلامة بكر أبو زيد كتابًا بعنوان: "التحديث بما لا يصحُّ فيه حديث"، وذكر ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - عددًا من الأحاديث في كتابه شرح علل الترمذي[8]، فما ثبت من الحديث مذكورًا تحت هذا الباب، فهو قرينةٌ على ترجيح إعلاله، فيفتش على موطن الوهم في أحد رجال الإسناد، (فالحديث لا يصح)، وهو ما يدلُّ على وهم رواته، وإن كانوا ثقات، (أو ضعف راوٍ ثقة)؛ كأن يكون ضعفه مقيَّدًا بروايته عن شيخ معين، أو في مكان معين، أو بسبب اختلاطه في آخر حياته، أو نحو ذلك، وقد تقدَّم الكلام عليه في "باب قواعد في مراتب الثقات"، فليراجع، (أو إن عُرِف) الراوي (بوهمه) في هذا الحديث المختلف فيه، أو عرف بوهمه اليسير، (أو باضطرابه) قد (وصف) من قِبَل النقَّاد بسبب تغيره بعد فقدان كتبه، أو اختلاطه، ونحوه؛ فهذه قرائن مشهورة غالبًا ما يقع الترجيح بسببها، ويخفى أمرها على غير النقَّاد المتمرِّسين.

(أو من حديثه شبيه وصفه) من اتحادِ المخارج والمعاني (بما روى راوٍ ضعيف حاله)، فتكون مشابهة الحديث الذي رواه الثقةُ لحديثٍ رواه الضعيف علَّة، ولو كانت المشابهة على سبيل المقاربة لا المماثلة الكلية، فإنها تقتضي الاتحاد في المعنى الذي دلَّ عليه الحديث الضعيف، والعمدة في معرفة ذلك هو معرفة الأحاديث سقيمها وصحيحها، ومعرفة أحوال الرواة، والفهم، فقد تكون قوة الحفظ هي الدافع للحكم بهذه المشابهة، وقد تكون المعرفة بالراوي وشيوخه بما يقتضي روايته لهذا الحديث، وما يؤدِّي إلى هذه المعرفة هو الفهم، ودقة الملاحظة، والربط بين القرائن؛ ولذلك قال ابن رجب - رحمه الله -: "قاعدة مهمة: حذَّاق النقَّاد من الحفَّاظ؛ لكثرة ممارستهم ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم - لهم فهمٌ خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك، وهذا مما لا يعبَّر عنه بعبارة تحصره، وإنما يرجع فيه إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خُصُّوا بها عن سائر أهل العلم"[9].

(ومَن من الكتاب حدَّث فقط)؛ أي: إذا حدَّث مِن كتبه ضبط، وإذا حدَّث من حفظه حصل له الوهم، ومن ذلك ما تقدم مثالُه في "قواعد مراتب الرواة الثقات"، وهو عبدالعزيز الداروردي، وقد قال الحافظ ابن رجب: "ومن هذا النوع أيضًا قوم ثقات لهم كتاب صحيح، وفي حفظهم بعض الشيء"[10].

(وكاتب عند السماع قد ضبط)؛ أي: مَن كان يكتب من الرواة الحديثَ عند سماعه فضبط كتابه، وكان يروي منه، وذلك نحو: عبدالله الأشجعي، قال عنه أحمد: "كان يكتبُ في المجلس؛ فمِن ذلك صحَّ حديثُه"[11]، (وكل إسناد أتى ولم يصحّ به الحديث)، لكن قد يصحُّ بغيره من الأحاديث، (فـ) هذا (اعتبره قد طرح)؛ أي: اتركه، ولا تصحِّح الحديث به.

(والاضطراب) أيضًا من قرائن الترجيح، وهو رواية الحديث على أوجهٍ مختلفة متساوية من دون ترجيح، وقد يكون الاضطراب في السند، وقد يكون في المتن، أو فيهما معًا، (وقد يكون على شخص واحد، وقد يكون على أكثر من ذلك)[12].

قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -:
"فحديثٌ لم يختلَف فيه على راويه أصلاً، أصح من حديث اختُلِف فيه في الجملة"[13].

(أو إذا الراوي) للحديث (رجع عما روى بعينه)؛ بحيث صرَّح بوهمه، كأن يكون روى الحديث من حفظه فأخطأ، ثم بعد مراجعة كتابه تبيَّن له الوهم، فصرَّح بذلك، وهذا وقع لبعض الرواة الثقات، (فيتبع) الراوي حينئذٍ على تصريحه برجوعه عن رواية ذلك الحديث، ويكون تصريحه هذا قرينةً من قرائن الترجيح بين الروايات.

(و) كذلك (مَن روى) من الثقات (مخالفًا لرأيه) وفتواه، قال الحافظ ابن رجب: "قاعدة في تضعيف حديث الراوي، إذا روى ما يخالف رأيه، وقد ضعَّف الإمام أحمد وأكثر الحفَّاظ أحاديث كثيرة بمثلِ هذا"[14]؛ وذلك لأن في روايتِه للحديث الذي يخالف رأيه (مظنة لخطأ أتى به)، سواء خالفه غيره، أو انفرد.

(كذلك التلقين) يعدُّ قرينةً، وقد سبق الكلام عليه في "باب قواعد التلقين"، (أو ما اشتهر من الحديث طرقًا وانتشر) بين الناس، فيدل انتشاره من طريق الثقات على غلط رواية طريق آخر، قال أبو حاتم: "لأن الناس أقبلوا قِبَل نافعٍ فيما حكى عن ابن عمر في قوله: ﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 223] في الرخصة، فلو كان عند زيد بن أسلم عن ابن عمر، لكانوا لا يولعون بنافع"[15].

(أو قصة في الخبر) وهو الحديث (المروي جاءت) مروية (بوفق)؛ أي: موافقة لـ (رفعه المحكي)، ومثاله: قول ابن أبي حاتم: "سألتُ أبي عن حديثٍ رواه أشعث بن عبدالملك، عن الحسن، عن سعد بن هشام، عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التبتل"؛ رواه معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن عن سمرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التبتل"، قلت: أيهما أصح؟ قال أبي: قتادة أحفظ من أشعث، وأحسب الحديثين صحيحين؛ لأن لسعد بن هشام قصة في سؤاله عائشة عن ترك النكاح؛ يعني: التبتل"[16].

(ومَن روى) من الرواة (حديثَه ولم يُرَ) ما رواه (في كتْبِ) بتسكين التاء - ويصح لغة تسكينها وضمها - (شيخه)؛ أي: بعد الاطلاع تبيَّن أن الحديث لا يوجد في كتب الشيخ المروي عنه، وقد سئل الإمام أحمد عن حديث: ((الأئمة من قريش))، فقال: "ليس هذا في كتب إبراهيم، لا ينبغي أن يكون له أصل"[17]، فلهذا قلتُ عنه: (كأنه افترى)؛ أي: إن هذه تعد قرينة تُرد بها الرواية.

(أو مَن روى حديثًا دون كتبه في وطن)؛ أي: حدث في مكان لم تكن فيه كتبه معه، فهذه من القرائن التي يرجح بها، وهذا من ضروب الضعف المقيد بالبلدان؛ ومثاله: "معمر بن راشد الأزدي، حديثه بالبصرة فيه اضطراب كثير؛ لأن كتبه لم تكن معه، وحديثه باليمن جيد"[18].

(أو مَن تفرَّد) من الرواة فـ(انتبِه) لهذا؛ فإنه هام، وهو من قرائن الترجيح المهمة التي يرجح بها، ولكن ليس كل مَن تفرد يُرَد حديثه، فالتفرُّد ليس علة في حدِّ ذاته، وإنما صفة المتفرِّد وما يقترن به من الأحوال، هو ما يبيِّن حقيقة التفرد وحكمه، وفي هذا قال ابن رجب - رحمه الله - قاعدة ذهبية، هذا نصها: "أما أكثر الحفَّاظ المتقدِّمين، فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد، وإن لم يروِ الثقات خلافه: إنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه، واشتهرت عدالته وحديثه؛ كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضًا، ولهم في كل حديث نقدٌ خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه"[19].

قال ابن الصلاح - رحمه الله -:
"وفي غرائبِ الصحيح أشباه لذلك غير قليلة، وقد قال مسلم بن الحجاج: "للزهري نحوٌ من تسعين حرفًا يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يشاركه فيها أحد بأسانيد جياد"، والله -تعالى- أعلم"[20].

ومن أمثال ما تفرَّد به الثقات حديث: ((إنما الأعمال بالنيات))، قال ابن الصلاح:
"فإنه حديث فردٌ تفرَّد به عمر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم تفرَّد به عن عمر علقمةُ بن وقاص، ثم عن علقمة محمد بن إبراهيم، ثم عنه يحيى بن سعيد، على ما هو الصحيح عند أهل الحديث"[21].

ومثاله أيضًا حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الولاء وهبته"؛ تفرَّد به عبدالله بن دينار، وحديث مالك عن الزهري عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "دخل مكة وعلى رأسه المغفر"، تفرَّد به مالك عن الزهري؛ فكل هذه الأحاديث مخرَّجة في الصحيحين، مع أنه ليس لها إلا إسناد واحد تفرد به ثقة"[22].

قال ابن تيمية - رحمه الله - في الفتاوى: "وأكثر الغرائب لا تصح".

(ومَن روى عن أهله)؛ أي: عن أهل بيته كرواية الأبناء عن الآباء، وفيها مصنفات مشهورة، (مقدم)؛ لأن الرواية قرينة مرجِّحة للقبول، قال ابن حجر - رحمه الله -: "ولا شك أن آلَ الرجل أخصُّ به من غيرهم"[23]؛ (كابن أبي إسحاق)، وهو يونس بن أبي إسحاق عن أبيه أبي إسحاق، (قيل أسلم)؛ نظرًا لطول ملازمته وصحبته، (أو من بأمر في الرواية اشتهر) وعرف به، (كالاختصار للمتون إن ظهر)، أي: كمَن يروي متون الأحاديث باختصارها، فقد يقع بسبب ذلك تحريف المعنى لمن لا دراية له، وقد يكون ممَّن له دراية إن اختصره، لكنه قد يهم ويبدل معناه خطأ؛ فلذلك عد اختصار الحديث لمن اشتهر به من قرائن الترجيح، ومثل الاختصار مَن اشتهر بالتصحيف، أو الإدراج، أو جمع الرواة حال الرواية، وقد تقدم في "باب قواعد في كشف العلة"، فهذه جملة من أجناس قرائن الترجيح عند الأئمة[24]، وقد أفردت بعض القرائن؛ كرواية الراوي عن عددٍ من الشيوخ، وتطلب العلة للحديث الذي توجد به علة - بأبواب؛ لأهميتها، وذكرت بعضها في ثنايا الكتاب؛ كالرواية بالمعنى في باب أجناس العلة وغيرها، والقرائن متعللة بالأجناس، والأجناس لا حصر لها، وبالله التوفيق، والله - تعالى - أعلم.


[1] شرح علل الترمذي (2/467).
[2] شرح علل الترمذي (1/352).
[3] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/212 - 2/297).
[4] توضيح الأفكار 2/112.
[5] العلل؛ لابن أبي حاتم (1/ 369).
[6] الكفاية ص 106.
[7] جامع الترمذي (3/407).
[8] شرح علل الترمذي (2/ 732).
[9] شرح علل الترمذي 2/757.
[10] شرح علل الترمذي 2/584.
[11] سؤالات أبي داود للإمام أحمد ص (367).
[12] علوم الحديث ص (85) .
[13] النكت (2/810).
[14] شرح علل الترمذي (2/796).
[15] العلل لابن أبي حاتم (1/ 409)
[16] العلل لابن أبي حاتم 1/ 402).
[17] شرح علل الترمذي (1/596).
[18] انظر ضوابط الجرح والتعديل؛ لشيخنا العبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم العبداللطيف - رحمه الله - ص 12.
[19] شرح علل الترمذي (1/ 352).
[20] علوم الحديث ص 70.
[21] علوم الحديث ص 69-70.
[22] علوم الحديث ص 70.
[23] النكت (2/606).
[24] وقد اختصر هذه القرائن وغيرها الشيخ الدكتور علي عبدالله الصياح - حفظه الله - في كتابه النافع: "المنهج العلمي في دراسة الحديث المعل"، وذكرها الإمام ابن رجب في كتاب شرح علل الترمذي، وقد استفدتُ من اختصار الشيخ الصياح، وحسن ترتيبه وانتقائه لهذه المرجحات، وما نقله عن الأئمة، سواء من شرح علل الترمذي أو غيره، وكتابه: "المنهج العلمي في دراسة الحديث المعل" غاية في النفع والفائدة في باب معرفة المعلول على صغر حجمه.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..