عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (كَانَت
امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَ، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ
إِحْدَاهُمَ، فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ،
وَقَالَت الْأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى
دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى
سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَام فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ:
ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَ، فَقَالَت الصُّغْرَى: لَا
تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَ، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى). قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلَّا يَوْمَئِذٍ وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةَ(1).
شرح المفردات:
(الْمُدْيَة) بِضَمِّ الْمِيم وَكَسْرهَا وَفَتْحهَ، سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهَا تَقْطَع مَدَى حَيَاة الْحَيَوَان.
(وَالسِّكِّين) تُذَكَّر وَتُؤَنَّث لُغَتَانِ، وَيُقَال أَيْضًا: سِكِّينَة لِأَنَّهَا تُسَكِّن حَرَكَة الْحَيَوَان.
شرح الحديث:
قال
النووي: اسْتَدَلَّ سُلَيْمَان بِشَفَقَةِ الصُّغْرَى عَلَى أَنَّهَا
أُمّه، وَأَمَّا الْكُبْرَى فَمَا كَرِهَتْ ذَلِكَ; بَلْ أَرَادَتْهُ
لِتُشَارِكهَا صَاحِبَتهَا فِي الْمُصِيبَة بِفَقْدِ وَلَدهَا. قَالَ
الْعُلَمَاء: يَحْتَمِل أَنَّ دَاوُدَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى لِشَبَهٍ رَآهُ فِيهَ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي
شَرِيعَته التَّرْجِيح بِالْكَبِيرِ، أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي يَدهَ،
وَكَانَ ذَلِكَ مُرَجِّحًا فِي شَرْعه. وَأَمَّا سُلَيْمَان فَتَوَصَّلَ
بِطَرِيقٍ مِن الْحِيلَة وَالْمُلَاطَفَة إِلَى مَعْرِفَة بَاطِن
الْقَضِيَّة، فَأَوْهَمَهُمَا أَنَّهُ يُرِيد قَطْعه لِيَعْرِف مَنْ يَشُقّ
عَلَيْهَا قَطْعه فَتَكُون هِيَ أُمّه، فَلَمَّا أَرَادَت الْكُبْرَى
قَطْعه، عَرَفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أُمّه، فَلَمَّا قَالَت الصُّغْرَى مَا
قَالَتْ عَرَفَ أَنَّهَا أُمّه، وَلَمْ يَكُنْ مُرَاده أَنَّهُ يَقْطَعهُ
حَقِيقَة، وَإِنَّمَا أَرَادَ اخْتِبَار شَفَقَتهمَا؛ لِتَتَمَيَّز لَهُ
الْأُمّ، فَلَمَّا تَمَيَّزَتْ بِمَا ذَكَرْت عَرَفَهَ، وَلَعَلَّهُ
اسْتَقَرَّ الْكُبْرَى فَأَقَرَّتْ بَعْد ذَلِكَ بِهِ لِلصُّغْرَى،
فَحَكَمَ لِلصُّغْرَى بِالْإِقْرَارِ لَا بِمُجَرَّدِ الشَّفَقَة
الْمَذْكُورَة، قَالَ الْعُلَمَاء: وَمِثْل هَذَا يَفْعَلهُ الْحُكَّام
لِيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى حَقِيقَة الصَّوَاب، بِحَيْثُ إِذَا اِنْفَرَدَ
ذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّق بِهِ حُكْم(2).
من فوائد الحديث:
1- قال ابن الجوزي: وإنما حكما بالاجتهاد إذ لو كان بنص لما ساغ خلافه وهو دال على أن الفطنة والفهم موهبة من الله تعالى(3).
2- من
المقرر في الشريعة أن القاضي إذا اجتهد وأخطأ فله أجر وإن اجتهد وأصاب
فله أجران كما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو ابن العاص
رضي الله عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر»(4).
والأنبياء
عليهم الصلاة والسلام كانوا يحكمون فيما يعرض عليهم من قضايا باجتهادهم
في إنزال الحكم على الواقعة بحسب البينات والقرآن، ففي الصحيحين عن أم
سلمة- رضي الله عنها- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنما
أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض،
فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من
النار»(5). فالحاكم بعلم مثاب أصاب أو أخطأ، إذا اجتهد ما استطاع.
3- مشروعية القضاء بالأمارات والقرائن، قال ابن القيم تعليقاً على القصة: قوله: (فقضى به للصغرى) ، فأي شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة ، فاستدل برضا الكبرى بذلك ، وأنها قصدت الاسترواح إلى التأسي بمساواة الصغرى في فقد ولدها، وبشفقة الصغرى عليه ، وامتناعها من الرضا بذلك على أنها هي أمه، وأن الحامل لها على الامتناع هو ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله تعالى في قلب الأم ، وقويت هذه القرينة عنده ، حتى قدمها على إقرارها ، فإنه حكم به لها مع قولها " هو ابنها " . وهذا هو الحق ، فإن الإقرار إذا كان لعلة اطلع عليها الحاكم لم يلتفت إليه أبدا(6).
4- عظم
رحمة الأم وشفقتها على ابنها، ولذا آثرت أن يبقى حياً ولو كان بعيداً
عنها، ومنه أجل هذا ونحوه عظم الشارع الحكيم حق الأم وجعله من أهم الحقوق
وأجلها، كما في قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا به شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [ النساء: 36 ].
(1) متفق عليه، صحيح البخاري، رقم:(6769)، وصحيح مسلم، رقم :(1720).
(2) شزح صحيح مسلم (12/18).
(3) عمدة القاري [ 16 - 17 ].
(4) متفق عليه، صحيح البخاري، رقم:(6919)، وصحيح مسلم، رقم: (1716).
(5) متفق عليه، صحيح البخاري، رقم:(6566)، وصحيح مسلم، رقم: (1713).
(6) الطرق الحكمية (1/6).
1434/8/24
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..