بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمــة
الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده . أما بعد :
فقد جعل الله تعالى الأرض ذلولاً وسلك فيها فجاجاً سبلاً ليسعى الناس في مناكبها لمصالحهم في الدين والدنيا ؛ كطلب العلم أو الجهاد أو الحج والعمرة ، أو لطلب الرزق من وظيفة أو تجارة ، أو لأغراض أخرى من زيارة أو نزهة ؛ فصار الإنسان في سعيه لهذه المصالح بين حَلٍّ وتَرحال .
فإذا سافر المرء ثم نزل لشيء من هذه الأغراض بدا لـه سؤال قديـم جديد وهو إلى متى يُشرعُ لـه قصرُ الصلاة والفطرُ في نـهار رمضان ؟
وقد تنوعت مذاهب الناس في ضبط ذلك فمنهم من يرى نفسه مقيماً يجب عليه الإتمام والصوم إذا نوى النـزولَ مدة معينة ، وهي أربعة أيام ، وقريب من هؤلاء من جعل هذه المدة خمسةَ عشر يوماً .
ومنهم من يرى أن وجوب الإتمام والصوم لا يكونان إلا فـي الوطن فقط ؛ فإذا سافر المرء ثم نزل مكاناً لا يريد الإقامة فيه على التأبيد أخذ بالرخصة ؛ فقصر وأفطر ، مهما كانت مدةُ إقامته وصفتُها ، ويرون في بعض أحاديث النبي الفعلية ، وفي أخبار بعض الصحابة رضي الله عنهم من الترخص المدد الطويلة ما يصحِّح هذا القول .
كما استدل بـهذه الأخبار نفسها من قال من العلماء : إن مَنْ قيَّد إقامته بنهاية وقت أو عمل فهو مسافر ، مهما كانت مدةُ إقامته وصفتُها ؛ فقالوا بمشروعية رخص العبادة للمغتربين من الطلبة والعمال وغيرهم الذين وُجِدت فيهم هذه الصفة ، وقد نُسب هذا القول إلى الإمام ابن تيمية .
فكان هذا البحث لتحرير الكلام في مسائل :
الأولى : حد الإقامة الذي تنتهي به أحكام السفر ، وذكر الأقوال في هذه المسألة وأدلة كل قول ، وما أُورد عليها ، وبيان الراجح .
الثانية : حكم ترخص هؤلاء المغتربين وأمثالِهم ، حيث كثر الآخذون بالرخصة في مثل هذه الأحوال ، ظناً منهم أن هذا موافق لهدي النبي وطريقة أصحابه ؛ فوجب البيان والتنبيه .
الثالثة : بيان فقه الأخبار الواردة عن النبي وبعض الصحابة والتابعين في ترخصهم مدداً طويلة ، وبيان ما يُخَرَّجُ عليه هذا الترخصُ من أصول الشريعة وقواعدها ، في ضوء كلام الفقهاء .
فإذا تبين سبب ترخصهم فإن متابعتهم في الرخصة خير من متابعة مَنْ بعدهم في العزيمة والاحتياط .
الرابعة : نسبة بعض هذه الأقوال إلى بعض العلماء كشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله وغيره ، وصحة أقوالهم في المسألة .
فما كان في هذه الرسالة من صواب فمن الله وحده ، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسـوله بريئان منه . ولا بد لعمـل البشر من
خطأ أو نقصٍ ، علاجها التقويم والتصحيح من أهل الفضل والنصيحة .
اللهم استعملنا في طاعتك واجعل أعمالنا خالصة لوجهك واغفر لنا ولوالدينا ومشايخنا وأزواجنا وذرياتنا .
أشهر أقوال العلماء في هذه المسألة
تحرير محل النزاع :
اتفق العلماء في حد الإقامة الذي تنتهي به أحكام السفر على حالين :
الأولى : أن من استوطن بلداً فقد انقطعت عنه أحكام المسافر([1]).
الثانية : أن من نزل مكاناً وهو يقول : أخرج اليوم أخرج غداً فهو مسافر مهما طال مكثه ([2]).
ثم اختلفوا فيما سوى ذلك ، وهذه أشهر أقوالهم في المسألة :
القول الأول : أن الحد بين حكمي المقيم والمسافر هو نية المكث أربعة أيام .
وبـهذا القول أخذ مالك ([3]) والشافعي ([4]) ، ولا يُحتسب عند الشافعية يوما الدخول والخروج من هذه الأربعة .
وهو قول أحمد ، إلا أنه يرى احتساب يومي الدخول والخروج ([5]) .
وقد استدل بعضهم لذلك بحديث العلاء بن الحضرمي قال :
قال : "يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً" ([6]) .
ووجهه : أن الثلاثة تدل على بقاء حكم السفر بخلاف الأربعة ([7]).
واستدل بعضهم بنـزوله مكة للحج من اليوم الرابع من ذي الحجة حتى اليوم الثامن ؛ فبلغت إقامتُه هناك ـــ وهو يترخص ـــ أربعةَ أيام ([8]) .
ووجه هذا الدليل أن هذه الأيام الأربعة هي أكثر مدة قصر فيها
النبي نازلاً مع علمنا بوقت مكثه في ذلك المكان ؛ وذلك لأنه لن يخرج إلا في اليوم الثامن ؛ فمشروعية القصر مستيقنة لمن نوى المكث دون هذه المدة ، وما زاد عليها فمشكوك في مشروعيته ؛ فنرجع فيما زاد إلى أصل الإتمام عند نزول الأمصار وترك النقلة . وحملوا ما زاد على ذلك في بقية الأخبار على حال من يقول : اليوم أسافر .. غداً أسافر ، أو على احتمال انقضائها في أقل من أربعة .
وقد أُجيب عن أدلة هذا القول بأوجه منها :
الأول : أن أقصى مدة نزلها يقصر الصلاة لو كانت حداً فاصلاً بين السفر والإقامة لبينها أوضح بيان شأنـها شأن بقية الأحكام الشرعية المحدودة بعدد من الأيام ؛ كمدة المسح على الخفين للمقيم والمسافر ، وعدة الآيسة والصغيرة والمتوفى عنها زوجها ، ومدة التربص في الإيلاء ، وعدد أيام الصيام في الكفارات الشرعية ؛ كالقتل والظهار والجماع في نهار رمضان وفدية الأذى للمحرم وكفارة اليمين ، هذه في الأيام .
أما غير الأيام من الأعداد في مقادير الأحكام الأخرى فأكثر من أن تحصى ، وذلك كمقدار صدقة الفطر ، وأنصباء الأموال الزكوية ، ومقدار الواجب في هذه الأنصباء ، وبيان مقدار حولها ، وغيرها كثير ؛ فما من أمر يكون العدد فيه مقصوداً إلا بُيِّن بأوضح كلام وأجلى عبارة .
وهذه الأحكام التي بُيِّنت أعدادها لا يُحتاج إليها كحاجة حد الإقامة ، بل كثير منها لا يحتاجه المرء في حياته إلا مرة واحدة ، وبعضها قد لا يحتاج إليها مطلقاً ، ومع ذلك كان لها هذا الحظ من البيان .
فلما لم تبين الشريعة مدة الإقامة التي تنتهي بـها أحكام السفر مع قرب
مأخذها ، وسهولة بيانـها ، وعظم الحاجة إليها دلَّ ذلك كله على أن أعداد الأيام في ضبط الإقامة ـــ حداً مشتركاً لجميع الناس ـــ غير مرادة ،
وأن سبيل ضبط ذلك هو شيء غيرُ الأيام ؛ فليُرجع فيه إلى أدلة الشريعة ليُستجلى ، ويُضبط بـه ما اختلف فيه الناس .
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في معرض نقضه على من قال بتحديد الإقامة بأربعة أيام قال : ( ولو كان هذا حداً فاصلاً بين المقيم والمسافر لبينـه للمسلمين ) ([9]) اهـ .
الثانـي : أنه لم يقل لأصحابـه الذين رافقوه في حجته : إنه قصر الصلاة لأنـه لم يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام ، وبيان هذا من أهم المهمات ، أفاده العلامة ابن القيم رحمه الله ([10]) .
الثالث : أنه لم يقل لمن جاء للحج قبله بيومٍ أو أ كثر ، أو جاء معه ونوى التأخر بعده إلى صبيحة عرفة لم يقل لـه : ليس لك الترخص ؛ لانقطاع إقامتك بنـية المكث أكثر من أربعة أيام ، رغم كثرتـهم
وتواردهم من الأقطار لشهود حجته وحاجتهم العظيمة للتعلم والفقه في الدين ، وحرصه العظيم على بيان الدين ، مع علمه بدنو أجله .
قال ابن تيمية عن قصر النبي في حجة الوداع : (.. لكن من أين لهم أنه لو قدم صبح ثالثة وثانية كان يتم ، ويأمر أصحابـه بالإتمام ؟ ليس في قوله وعمله ما يدل على ذلك ) ([11]) .
الرابع : قال ابن تيمية : ( معلوم بالعادة أن ما كان يُفعل بمكة وتبوك
لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام ولا أربعة حتى يقال : إنـه كان يقول : اليوم أسافر غداً أسافر ، بل فَتَحَ مكةَ وأهلُها وما حولها كفار محاربون لـه ،
وهي أعظم مدينة فتحها ، وبفتحها ذلت الأعداء ، وأسلمت العرب ، وسرّى السرايا إلى النواحي ينتظر قدومهم ، ومثل هذه الأمور مما يُعلم
أنـها لا تنقضي في أربعة أيام .. ) ([12]) .
الخامس : أن تحديد الإقامة التي تنتهي بـها أحكام السفر مسألة عامة يحتاجها جميع الناس في جميع الأمكنة والأزمنة ، أما تحديد إقامة المهاجر في حديث العلاء هذا فهو خاص بالمهاجرين ، في خصوص زمان معين هو وقت حياتـهم ، في خصوص مكان معين هو مكة ؛ فهل يُظن أن تُعنى الشريعة بتحديد هذا مع خصوصه في الزمان والمكان والأشخاص ، وتدع بيان حد الإقامة مع عمومه لهذه الأحوال ؟
السادس : دل حديث العلاء هذا على أنه ليس للمهاجر أن يقيم
في مكة بعد قضاء نسكه أكثر من ثلاثة أيام ، أي أن من زاد على الثلاثة
من المهاجرين عُدَّ مخالفاً للأمر ، بيد أن بعض الفقهاء الذين استدلوا به لتصحيح هذا القول جعلوا نـهاية الرخصة أربعة أيام ؛ فعليه لا مطابقة بين الدليل والمدلول عليه .
قال ابن تيمية في هذا المعنى : ( وقد رخَّص النبي للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا ، والقصر في هذا جائز عند الجماعة ، وقد سمَّاه إقامة ، ورخَّص للمهاجر أن يقيمها ؛ فلو أراد المهاجر أن يقيم أكثر من ذلك بعد قضاء النسك لم يكن لـه ذلك ، وليس في هذا ما يدل على أن هذه المدة فرقُ ما بين المسافر والمقيم . . فعُلم أن هذا التحديد لا يتعلق بالقصر ،
ولا بتحديد السفر ) ([13]) اهـ .
القول الثاني : أن هذا الحد هو خمسة عشر يوماً .
وهذا هو مذهب الحنفية ([14]).
واستدلوا لذلك بقول ابن عباس رضي الله عنهما : ( إذا قدمت بلدة وأنت مسافر ، وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوماً أكمل الصلاة بـها ، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها ! ) ([15]).
ووجه الاستدلال بـهذا الأثر أن هذا لا يقال إلا عن توقيف ([16]).
وقد أجيب عن هذا الاستدلال بأنه غير مسلَّم لوجهين :
الأول : أن للرأي فيه مجالاً ؛ فلا يُعطى حكم الرفع .
الثانـي : أنه قد صحَّ عنهما ما يعارض هذا القول ([17]) .
ويَرِدُ على هذا التحديد أيضاً ما أُورد على أدلة القول الأول .
القول الثالث : أن حد ذلك في قصر الصلاة هو مكث النازل عشرين يوماً .
وهو قول ابن حزم ([18]) .
واستدل لذلك بقصر النبي الصلاة في تبوك عشرين يوماً ([19]) .
ووجهه أن أكثر مدة نزلها وهو يقصر الصلاة هي ما ورد في هذه الغزوة ؛ فخرج هذا المقدار من الإقامة عن سائر الأوقات بـهذا الخبر ([20]) .
ويَرِدُ على هذا القول ودليله ما ورد على أدلة القول الأول .
القول الرابع : أن المعتبر في تحديد الإقامة هنا هو العُرْف .
فمن سمَّاه الناس مسافراً فهو مسافر لـه الأخذ برخص السفر ، ومن سمَّوه مقيماً فهو مقيم لا رخصة لـه .
وهذا هو قول الإمام بن تيمية ، وسيأتـي تحرير قوله في آخر الرسالة ، وهو قول العلامة عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ([21]) . وعليه تُحمل طريقة السلف ، حيث يصح عن الصحابي الواحد أقوال متعددة .
واعتبار العرف في تحديد الإقامة في أسبابـها ـــ عدا المدة ـــ هو طريقة أكثر الفقهاء ؛ بل إن المدة نفسها تخضع عندهم لبعض الأسباب العرفية ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى .
ودليل هذا القول هو قاعدة الأسماء المطلقة في الشريعة ، وهي : كل اسم ليس لـه حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف ([22]) .
القول الخامس : أن من قيَّد إقامته بانتهاء عمل أو زمن فهو مسافر .
وهذا هو قول العلامة الشيخ محمد بن صالح ابن عثيمين أثابه الله ([23]).
وبناء على ذلك فهو يرى أنه لا أثر للتأهل في ثبوت وصف الإقامة ؛ لأن النبي اصطحب زوجاته في أسفاره ، ومع ذلك ترخص ، ولا أثر عنده لاتخاذ البيوت ؛ لأنـهم إنما يشترونـها لسكناها إلى انتهاء غرضهم فقط ؛ كما أنه لا يَعتبرُ أثراً لمدة المكث لعدم الفرق بين المدد في الشريعة ([24]).
ولذلك أفتى المغتربين من الطلبة والعمال الذين يقيدون نزولهم بنهاية وقت أو عمل بأنـهم مسافرون ، ولو علموا طول الإقامة .
وقد استدل أثابه الله لذلك من الكتاب بقول الله تعالى : "وَإِذَا ضَرَبْـتُمْ في الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ" الآية .
ووجه هذا الدليل أن الله أطلق الضرب في الأرض وعمَّم في وقته ، والضرب في الأرض هو السفر فيها ، والله تعالى يعلم أن من الضاربين في الأرض التاجر والمجاهد ، وأنـهما يحتاجان إلى نزول مدة ، ولم يستثن الله عز وجل ضارباً من ضارب ولا حالاً من حال ؛ فكل نزولٍ للمسافر مشمولٌ بـهذا العموم ؛ فيكون صاحبه مستحقاً للرخصة ، ولا يُستثنى
من ذلك إلا المستوطن ، ومن نوى إقامة مطلقة ([25]).
ومن السنة : استدل أثابه الله بإقامة النبي في مكة للحج ([26]) ثم قال :
( ووجه الدلالة منه أن النبي أقام إقامة لغرض الحج مقيدة بزمن معين ، وقد نواها من قبل بلا ريب ، ومع ذلك بقي يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة ؛ فدل ذلك على أن الإقامة لغرض معين متى انتهى منه رجع إلى
وطنه لا ينقطع بـها حكمُ السفر . . ) ([27]) اهـ .
واستدل من السنة كذلك بأن النبي أقام في مكة عام الفتح وفي غزوة تبوك ، وأنه : ( . . قصر لأن العلة في الإقامتين واحدة وهي انتظار انتهاء ما أقام من أجله ) ([28]) اهـ .
ومن آثار الصحابة والتابعين : استدل أثابه الله بأن بعض الصحابة رضي الله عنهم أقاموا بِرَامَهُرْمُز تسعة أشهر يقصرون الصلاة ([29]).
وبأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أقام مجاهداً بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة ([30]) .
وبما صح عنه أن رجلاً سأله عن إطالة القيام بالغزو في خراسان ؟ فقال : صل ركعتين وإن أقمت عشر سنين ! ([31]) .
وبأن عبد الرحمن بن سمرة قصر بكابل شتوة أو شتوتين ([32]).
واستدل أيضاً بإقامة سعد بن مالك شهرين بعمان يقصر الصلاة ([33]).
وبما جاء عن أبي وائل قال : أقمت مع مسروق سنتين يصلي ركعتين بالسلسلة ، قال : فقلت لـه : ما حملك على هذا يا أبا عائشة ؟ فقال : التماس السنة ([34]).
وبما جاء عن أبي المنهال أنه قال : قلت لابن عباس رضي الله عنه : إنـي أقيم بالمدينة حولاً لا أشد على سير ؟ قال : صل ركعتين ! ([35]).
ووجه الاستدلال من هذه الآثار أنـها دلت على مشروعية الترخص مع المدة الطويلة ([36]) .
وقد استدل أثابه الله من القياس بأشياء إنما هي إيرادات واعتراضات على أدلة المحددين بمدة ، وليست استدلالاً يثبت صحة ضابط إرادة الوقت والعمل الذي ذكره ؛ لذلك لم أذكرها هنا ؛ فراجعها هناك ([37]) .
مراجعةٌ لأدلة هذه الفتوى :
قد يُجاب عن الاستدلال بالآية بأن عمومها للمغتربين غير مُسلَّم ؛ فلا يجوز أن يقال بـهذا العموم إلا في أفراد الحقيقة المعتبرة فقط ؛ فإذا كانت الحقيقةُ شرعيةً مثلاً شمل لفظُ العموم الواردُ أفرادَ هذه الحقيقة فقط ، دون أفراد اللغوية والعرفية .
مثال ذلك : قولـه "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" ([38]) ؛ فالصـلاة
نكرة في سياق النفي ؛ فهي لفظ عام ، ولكن هل يقال : إن عموم هذا اللفظ يشمل الصلاة اللغوية كالدعاء ؛ فنقول بناء على ذلك : لا يصح الدعاء إلا بوضوء ؟ أو يقال ـــ وهو الصحيح ـــ : إن هذا العموم يشمل أفراد الحقيقة الشرعية فقط ؛ لأنـها المعتبرة هنا ؛ فيشمل عمومُ هذا الحديث الصلوات الشرعية ؛ كالفرائض والجنازة والعيدين والكسوفين والوتر ، وغيرها مما يُعرف شرعاً باسم الصلاة إذا أُطلق .
فلا بد ـــ قبل إجراء العموم ـــ من تحديد مقصد الشارع من اللفظ هل يريد به الحقيقة اللغوية أو الشرعية أو العرفية ؟ فإذا ثبتت إحدى هذه الحقائق لتعيين المراد باللفظ كان العموم منتظماً لأفراد هذه الحقيقة المعيَّنة دون سواها من الحقائق ([39]).
وفي مسألتنا هذه إذا كانت الحقيقة المعتبرة في لفظ السفر هي الحقيقة العرفية على الصحيح ، وهو اختيار شيخنا ابن عثيمين ([40]) أثابه الله ؛ فإن دعوى العموم لا تصح إلا فيما كان سفراً عرفاً فقط .
وما دام أن حالات نزول المغتربين وأمثالهم ـــ ممن يقيد إقامته بوقت أو عمل في حالٍ من الاستقرار في سكن المثل في مدة طويلة ـــ لا تُعدُّ في العرف من السفر لا حقيقة ولا حكماً فإن دعوى عموم لفظي السفر والضرب في الأرض لأحوالهم غير مسلمة ، وهذا هو المطلوب في هذا الجواب .
حول علة الترخص في الحديثين :
ذكر شيخنا العلامة ابن عثيمين أثابه الله أن علة الترخص هي إرادة النازل مدة معينة أو إنجاز غرض محدد ؛ لكون الوصف الأول ـــ وهو إرادة المدة ـــ موجوداً في مقامه في مكة عام حجة الوداع ، وكون
الثاني ـــ وهو النـزول لأجل الغرض ـــ موجوداً في إقامة النبي في مكة عام الفتح ، وكذلك في تبوك .
وهذا استخراج للعلة بـ "مسلك الطرد" ، حيث يقول المستدل : إن الحكم وُجِد عند وجود هذا الوصف ، وهو تقييد الإقامة بزمن ، أو نـهاية عمل ؛ فيكون هذان الوصفان علةَ الرخصة ؛ فمتى وُجدا في محل النـزاع ثبت الترخص .
والصحيح أن مسلك الطرد هذا غيرُ معتبر في استنباط العلة ([41]).
ولو صح اعتبارُ كلِ وصف مقارن مطرد دون سبرٍ صحيح وتنقيحٍ
معتبر ، ودون بيانٍ لدليل تأثير ذلك الوصف للزم من ذلك اعتبارُ أوصافٍ أخرى في أسفاره ككونه لم يؤبِّد إقامته في منازله تلك ، أو كونه في
رفقة ، أو كون السفرِ بِرُمَّته طاعةً أو طويلاً ، وغيرها من الأوصاف التي لم تدل الشريعة أو العقل على اعتبارها مؤثرة في حكم الرخصة .
ووصف إقامة النبي بذلك لا يختلف عن هذه الأوصاف المذكورة ؛ فهي أوصاف طردية لا يصح أن يُعتبر منـها وصف ؛ لأن الشريعة لم تعتبر شيئاً منها مؤثراً في الحكم لا بالنص ولا بالاستنباط .
قال ابن تيمية : ( ومن علَّل بوصف فعليه أن يبين تأثير ذلك الوصف ، إما لكون الشرع جعل مثله مقتضياً للحكم ، وإما لمناسبة تقتضي ترتيب الحكم على الوصف ؛ فإن لم يظهر التأثير لا شرعياً ولا عقلياً كان الوصف طردياً عديـم التأثير) ([42]) .
وقال الغزالي في الأوصاف الطردية المقرونة بالحكم قال : ( .. فإن قيل : ثبوت حكمها معها ، واقترانه بـها دليل على كونـها علة ، قلنا : غلطتم في قولكم : ثبوت حكمها ؛ لأن هذه إضافة للحكم لا تثبت إلا بعد قيام الدليل على كونـها عـلة ؛ فإذا لم تثبت لم يكن حكمَها.. والاقترانُ لا يدل على الإضافة ؛ فقـد يلزم الخمرَ لونٌ وطـعمٌ يقترن به التحريم ، ويطرد وينعكس .. واقترانـه بما ليس بعلـة كاقتران الأحـكام بطلوع كوكب وهبوب ريح ) ..
.. ( وبالجملة فنصب العلة مذهب يفتقر إلى دليل ؛ كوضع الحكم ،
ولا يكفي في إثبات الحكم أنه لا نقض عليه ، ولا مفسد لـه ، بل لا بد من
دليل ؛ فكذلك العلة ) ([43]) .
فإن قيل : إن هذا الوصف ليس مُطَّرداً فقط ، بل هو منعكس أيضاً ؛ فقد وُجِد الحكم وهو الترخص عند وجود هذا الوصف ؛ وذلك في أحوال نزول النبي أثناء سفره ، وانتفى حكم الترخص عند انتفاء هذا الوصف ؛ وذلك حين نزل المدينة ولم يقيد إقامته بوقت أو عمل ، ومذهب الجمهور على صحة التعليل بالدوران ، وهو دوران الحكم مع العلة وجوداً وعدماً !؟
فالجواب : أن القائلين بالدوران يشترطون لصحة التعليل به "انتفاء المزاحم" ، والمـتأمل في الأوصاف التي وُجدت في أسفار النبي وفي نزوله أثناءها يرى أنـها كثيرة متزاحمة :
فمن هذه الأوصاف الاستيطان ؛ فقد ترخص النبي حين لم يؤبد إقامته ، وترك الرخصة حين صار مستوطناً .
ومنها : الوصف العرفـي للإقامة ؛ فقد ترخص حين لم يكن مقيماً عرفاً في مسيره ونزوله ، وترك ذلك في المدينة حين كان في إقامة عرفية .
ومنها : أنه ترخص حين كان نازلاً لحج وعمرة وجهاد ، وترك ذلك في المدينة حين كان نزوله لمجرد السكنى .
فهذه الأوصاف كلها مطردة منعكسة فأيها نعتبر ؟ فلا بد ـــ إذاً ـــ لبناء الحكم على أحد هذه الأوصاف دون البقية من دليل أو مناسبة معتبرة يتعين بـها أحد الأوصاف دون الآخر .
قال ابن تيمية : ( القياس إنما يصح .. إذا سبرنا أوصاف الأصل فلم يكن فيها ما يصلح للعلة إلا الوصف المعين ، وحيث أثبتنا علة الأصل بالمناسبة أو الدوران أو الشبه المطرد ـــ عند من يقول به ـــ فلا بد من السبر ؛ فإذا كان في الأصل وصفان مناسبان لم يجز أن[يقول] الحكم بـهذا دون هذا ..) ([44]) .
إلى أن قال في تتمة هذا الكلام : ( .. فإذا كانت هذه المعانـي وغيرها موجودة في الأصل فدعواهم أن الشارع علَّق الحكم بما ذكروه من الأوصاف معارَض بـهذه الأوصاف ، والمعارضة تبطل كل نوع من الأقيسة ، إن لم يتبين أن الوصف الذي ادعوه هو العلة دون هذا ) ([45]).
حول الاستدلال بآثار الصحابة والتابعين :
وأما ما جاء عن بعض الصحابة والتابعين من أنـهم أقاموا مدداً طويلة يقصرون الصلاة ، وأن في هذا دلالة على صحة هذا القول .
فالجواب عن ذلك هو : أن هذه الأخبار لم تتضمن أي دلالة على أن الصحابة والتابعين اعتبروا الغرض والوقت حداً بين حالي المقيم والمسافر ؛ فلا حجة فيها لعدم الملاقاة .
ويقال من وجه آخر : بأنه لم يأت في هذه الأخبار ما يدل على أنـهم نووا هذه المدة عند النـزول ، وغاية الأمر أنـهم أخبروا بمكثها بعد قفولهـم ؛ فلا حجة فيها على قصد المدة الطويلة ؛ فإن من ينتظر فراغ حاجته كل عشرة أيام أو عشرين أو ثلاثين مثلاً يُعتبر مسافراً عند الناس ، وقد يبقى على هذه الحال سنة ؛ فيُخْبِرُ عند قفوله أنه مكثها ، ولكن ذلك لا يعني أنه نوى هذه المدة كلها عند نزوله ، وهذا في أحوال المسافرين كثير ؛ فلا يلزم من اجتماع المدة الكثيرة أن صاحبها قد نواها عند نزوله .
ومن وجه ثالث يقال : إن القائل بضابط الاستيطان يستدل أيضاً من هذه الأخبار بطول المدة ، دون أن تظهر وجه حجيته لكل منهما ، والبرهان الواحد في الشريعة لا يصحح أمرين مختلفين .
فلا بد من البحث عن سبب آخر لترخص الصحابة والتابعين هذه المدد الطويلة غير هذين السببين ؛ وذلك لعدم صلاحهما لبناء حكم الرخصة .
ومما يَرِدُ على هذا القول أن مثل حالات المغتربين كانت تقع في المدينة في عهد النبي وعهد الصحابة رضي الله عنهم ، وهي مما يكثر وتعم بـها البلوى ، وتتوفر الدواعي والهمم على نقلها ، لاسيما أنـها خلاف المعهود ، والمعهود هو أن المقيم المطمئن بسكن وتأهل في مدة طويلة لا يترخص .
وبعيد أن تقع مثل هذه الصور من الترخص المخالفة للمعهود ثم لا تجد من يسأل عنها ، ولا من ينكرها من الصحابة والتابعين ، لاسيما أنـهم كانوا يقولون بانقطاع الرخصة فيما هو أقل من هذه الأحوال بكثير ؛ فلما لم يكن ذلك دل على أنـهم لم يكونوا يترخصون في مثل هذه الأحوال ، وهم أحرص الناس على الأخذ بالرخصة ، لاسيما في الصلاة .
القول السادس : أن للمرء الترخص برخص السفر حتى يرجع إلى وطنه .
حكاه الحافظ ابن عبد البر ولم يسمِّ قائله ([46]) .
والاستيطان في اللغة هو الإقامة ، والموطن كل مقام قام به الإنسان لأمر فهو موطن لـه ([47]) . وعرَّفه الفقهاء بأنه نية الإقامة على التأبيد ([48]).
والقائلون بـهذا القول يستدلون بالآثار المذكورة في أدلة القول الخامس .
ولعل وجه هذا الدليل أنـهم ترخصوا لأنـهم كانوا على نية الرحيل ، أو لم يكونوا مستوطنين ، وأنـهم تركوا الرخصة حين كانوا في أوطانهم .
وهذا استدلالٌ بمسلك الطرد أو الدوران ؛ فأما الأول فباطل عند جماهير الأصوليين ، لما تقدم قريباً ، وأما المسلك الثاني فمن شرط صحته عند القائلين به انتفاءُ المزاحم ، والأوصاف المزاحمة لوصف الاستيطان موجودة متساوية ؛ فلا اعتبار لأحدها دون الآخر إلا بدليل .
كما يرد على هذا القول الإيراد المذكور في الصحيفة السابقة .
أسباب الخلاف وآثاره والترجيح
أسباب الخلاف :
من عرض أدلة الأقوال ظهر أن خلاف العلماء يعود للأسباب الآتية :
1. دلالة حديث إقامة المهاجر على التحديد بأربعة أيام .
2. اعتبار حد الرخصة هو المدة التي قصر فيها نازلاً مع علمنا بوقت ارتحاله ، وكان ذلك في نزوله مكة للحج مدة أربعة أيام .
3. اعتبار الآثار الواردة عن بعض الصحابة في ذلك في حكم الرفع .
4. اعتبار أكثر مدة قصر فيها نازلاً ، وهي عشرون يوماً في تبوك .
5. اعتبار العرف لضبط الإقامة ؛ لعدم الشرعي واللغوي .
6. أن سبب الرخصة هو تقييد النبي نزوله بنهاية وقت أو عمل .
7. أن سببها هو عزم الرسول على الرحيل ، أو عدم نية الاستيطان .
8. طول مدة المكث التي كان يترخص فيه الرسول والصحابة والتابعون .
ويُلحظ هنا أن هذه الأسباب ـــ عدا الخامس ـــ قد جعلت المعتبر في حد الإقامة هو الحقيقة الشرعية ؛ كما هو ظاهر من استنباطات أصحابـها .
آثار الخلاف :
تظهر آثار الخلاف والفرق بين كل قول وآخر فيما يلي :
1. أن القائلين بالتحديد بمدة سواء كانت أربعة أيام أو سواها يرون أن من نوى إقامة تلك المدة وجب عليه أن يقطع الترخص ؛ فعند المالكية مثلاً من نوى إقامة أربعة أيام أتم ، ومن نوى أقل منها ترخص .
2. أن القائلين بالعرف يحيلون على أهله في كل حال تعرض ؛ ففي محل النـزاع في الأزمنة المتأخرة : من نوى الإقامة للدراسة أو العمل في محل المثل وسكنه ومدته الطويلة ؛ كسنة ، بنية مستقرة فهو مقيم يُمنع من الترخص .
3. أن القائلين بالاستيطان حداً في هذه المسألة يرون أنه لا أثر لتحديد المدة أو الغرض وعدم ذلك ؛ كما أنـهم لا يرون أثراً للعرف ؛ فما دام أن النازل لا يريد الإقامة على التأبيد فهو مسافر ؛ فعلى هذا القول يُعتبر مسافراً من نزح من الأرياف والبوادي إلى المدينة لطلب الرزق ، وهو يريد العودة إلى وطنه ، ولو بعد حين .
4. أن القائلين بأثر تعليق الإقامة بمدة معينة أو إنجاز غرض معين يرون أن من أطلق إقامته من المدة والغرض فهو مقيم ؛ فكثير من النازحين من القرى يُعتبرون على هذا القول من المقيمين لعدم وجود هذين الوصفين فيهم ، وأن الطلبة المغتربين وأمثالهم في حكم المسافرين مهما غلب على ظنهم طول وقت الإقامة ؛ لأنـهم يُعَلِّقُون إقامتهم بإنـهاء دراستهم ، ومثل ذلك الموظفون الذين يرتبطون مع بعض الشركات بعقد عمل مدة سنتين مثلاً يُعتبرون على هذا القول من المسافرين لكونـهم يعلقون إقامتهم بمضي مدة محددة .
5. أن القائلين بالعرف لا يَعتبرون طول المدة سبباً لثبوت الإقامة مطلقاً ، ولا قِصَرَها سبباً لنفيها مطلقاً ؛ كما لا يَعتبرون نية العودة إلى الوطن ، أو تحديد الإقامة بوقت أو عمل سبباً في نفي هذه الإقامة ، بل متى وُجدت أعمال الطمأنينة التي يُعتبر بـها المرء مقيماً عند الناس فقد انقطعت في حقه رخص السفر .
الراجح وأوجه الترجيح :
من عرض الأقوال وأدلتها ، وما يَرِدُ عليها من اعتراضات ، وأن القول الرابع ـــ وهو ضبط الإقامة بمقتضى العرف ـــ قد سلم من هـذه الاعتراضات ظهر أن الراجح هو هذا القول ؛ وقد ترجح ذلك بأوجه :
الوجه الأول : أن اعتبار العرف في هذه المسألة هو مقتضى قاعدة الأسماء المطلقة في الشريعة ، ومقتضى هذه القاعدة هو اعتبار الحقيقة الشرعية ؛ فإن لم يوجد فيها تحديد فاللغوية ؛ فإن لم يوجد فيها تحديد فالعرفية .
قال الفقهاء : كل اسم ليس لـه حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف ([49]) .
وحيث تقدم في استقراء ابن تيمية عدم وجود دلالة صحيحة من الشريعة على الحدود الزمنية ؛ كالأربعة أيام والخمسة عشر يوماً والعشرين ؛ كما لم تظهر دلالة صحيحة أيضاً على الاستيطان ولا ضابط إرادة الوقت والغرض : وجب المصير إلى اللغة ، وحيث لا حد في اللغة ؛ لأنه لا يمكن أن يكون للإقامة حد لغوي تتعلق به أحكام العبادة ، دون أن ينقله أهل اللغة ، وقد حرصوا أعظم الحرص على نقل حدود اللغة ومعانيها فيما هو أدقُ وأقلُ حاجةً من حدي السفر والإقامة ومعناهما ، لاسيما أن حملة اللغة هم فقهاء الأمة من أصحاب النبي والتابعين ومن بعدهم من العلماء ؛ فلم يبق من هذه الحقائق ما تُحَدُّ به الإقامة إلا العرف .
وهذه هي طريقة الفقهاء في المسائل المماثلة التي اعتبروا فيها المعنى العرفي لتحديد المراد من نصوص الشريعة عند عدم الشرعي واللغوي ؛ وذلك في مسائل كثيرة ([50]) ، وقد طبَّق هذه القاعدة في هذه المسألة الإمام ابن تيمية ، والعلامة عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ، وغيرهما .
والمتأمل يرى أن كثيراً من الفقهاء يَعتبرون العرف فـي أكثر أحوال الإقامة ؛ كما سيأتـي في مبحث "أسباب الإقامة العرفية" في صحيفة (40) إن شاء الله ، وهذا عرض موجز لبعض هذه الأحوال :
فمن ذلك اشتراط بعض الفقهاء المكان الصالح للإقامة عرفاً ، وهو مذهب أبـي حنفية ، والشافعي في قوله الآخر وأحمد في الرواية الثانية ؛ فلا يجري حكم المدة عند هؤلاء الفقهاء إلا في مكان معتبر عرفاً ، أي أن من نزل مكاناً غير صالح للإقامة عادةً فهو مسافر ، وإن اجتمعت له مدة كثيرة .
ومنه : اعتبار أكثر الفقهاء أن النازل للحرب غير مقيم مطلقاً ، وإن جاوز المدة المعتبرة في مذاهبهم ؛ لما يلحظ في الحرب من معانـي الاضطراب والتردد وعدم الاستقرار .
ومن ذلك اعتبار بعض العلماء التأهل مؤثراً في ثبوت وصف الإقامة وملغياً لتأثير المدة التي يرونـها حداً لهذه الإقامة .
ومن ذلك حال العَزَب واعتبار مقر إقامة والدية مقر إقامة له .
ومن ذلك اعتبار المسكن سبباً للإقامة .
ومن ذلك اعتبار نوع هذا المسكن ؛ فتُعتبر الإقامة للبدوي في الأخبية والخيام في البرية ، ولا تُعتبر للحضري في مثل هذه المساكن .
ومنها اعتبار العلماء لأثر اتخاذ المتاع والأثاث في بعض الأحوال .
ومن ذلك سقوط اعتبار الوطن إذا مر به المسافر عابراً .
ومما يُعتبر من نتائج اعتبار العرف : ما في مذهب أحمد في قوله الآخر ، وهو أن من أقام لحاجة ينتظر نجاحها بلا نية إقامة فهو مسافر ، ولو نوى أكثر من مدة الإقامة في المذهب ، إذا كان يحتمل قضاؤها قبل المدة .
ونحو ذلك في مذهبي أبي حنيفة والشافعي كما سيُذكر هناك .
فاعتبار أولئك العلماء هذه الأمورَ العرفيةَ دون جعل المدة معياراً وحيداً لثبوتـها هو الملائم لظاهر هدي النبي وعمل الصحابة رضي الله عنهم .
فهذا يؤكد أن المدة عندهم ليست علة مطردة في الترخص أو عدمه ، وإنما هي ضرب من الاحتياط ([51]).
ولعل الواحد منهم حين اعتبر حصول الإقامة ببعض هذه الأسباب قد نظر إلى الإقامة من بعض زواياها ، ولا يعني ذلك عنده ضرورة أنه لم يعتبر أسباباً أخرى لثبوت هذه الإقامة .
الوجه الثاني : أن ظاهر هدي النبي يدل على ذلك .
فقد كان يرافق النبي في أسفاره وإقامته عدد كبير جداً من أصحابه ، وقد سكتوا عن سؤاله عن سبب ترخصه في أوقات مسيره ونزوله أثنـاء سفره ؛ كما سكتوا عن سؤاله عن سبب تركه للرخصة في نزوله في المدينة ، وسكت هو عن بيان هذا السبب في الحالين ؛ فلا يخلو هذا الإطباق على ترك السؤال ، وسكوت النبي عن البيان من احتمالات ثلاث :
الأول : أن سبب ذلك هو كون الحد معلوماً عند الصحابة رضي الله عنهم من الشريعة .
الثانـي : أن ذلك لكونه معلوماً عندهم من لغة العرب .
الثالث : أن سبب ذلك هو أنه أحالهم على ما هو معروف عندهم من معنى السفر والإقامة .
وليس ثمة احتمال رابع .
فالاحتمال الأول غير وارد ، حيث لا يمكن أن يكون الحد معلوماً عند هذه الجموع أخذت علمه من الشريعة ، حتى تصل درجة معرفته ووضوحه وانتشاره إلى ترك السؤال عنه ، ودون أن يُحفظ عنه أنه علَّمه لهم ولو مرة واحدة ، ودون أن يصل هذا الحد الشرعي إلى من بعدهم بالدرجة نفسها من الوضوح والانتشار .
وأنت عليم بمقدار خلاف الصحابة والتابعين في هذا التحديد ، ولو كان علمه بـهذه الدرجة من الوضوح لما اختلفوا .
والاحتمال الثانـي غير وارد أيضاً ؛ لما تقدم قريباً من أن هذا الحد لو كان معلوماً من اللغة لنقلته الأمة .
فتعين الاحتمال الثالث وهو أنه اعتبر العرف .
وذلك لأن الرسول لا يختص بالعلم به دونـهم ؛ كاختصاصه بمسائل التوقيف والتعبد التي لا تُعرف إلا من طريقه ؛ فيحتاجون معها إلى بيانه .
ولكن الجميع يشتركون في معرفة حد الإقامة والسفر ؛ فلذلك لم يبينه لهم ، ولم يحتاجوا للسؤال عنه .
فكان اعتبار العرف هو المناسب لسكوت النبي عن البيان وترك أصحابه للسؤال .
فصار في ظاهر هدية ما يدل على اعتبار العرف في هذه المسألة ؛ فيترجح على بقية الأقوال .
الوجه الثالث : أن تعليل العزيمة بوصف الإقامة العرفـي مطرد منعكس .
ففي الطرد : أتم النبيُ وأصحابُه صلاتـهم في المدينة في أحوال هي عند أهل العرف من الإقامة ، وهو مطرد كذلك حين لم يُحفظ ترخصٌ لمقيم مطمئن غير مستوطن ، ولا حُفظ أيضاً ترخصٌ لمقيم إقامة عرفية معلقة بوقت أو تحقيق غرض ، رغم عموم البلوى بمثل هذه الإقامات ، وتوفر الهمم والدواعي على نقل الترخص فيها لو كان موجوداً .
وفي العكس : كان النبي يترخص في أحوال تُعتبر عند أهل العرف من السفر ، أو من توابعه ، أي ليست من الإقامة ، سواء كان ذلك حالَ الشخوص والحركة ، أو حالَ النـزول في مصر أو فضاء ، ولم يوجد فـي منازله ما يُعتبر فيها مقيماً مطمئناً قاطعاً لسفره .
ومسلك الدوران وإن اختلف الفقهاء فـي اعتباره طريقاً لاستنباط العلة ابتداء إلا أن المخالفين فـي ذلك من فقهاء الأصول يعتبرون وجوده دليلاً على سلامتها من النقض ، وعلامةً على شدة تأثيرها ([52]) .
أما ما جاء في أحاديث النبي وآثار بعض الصحابة والتابعين المذكورة فـي صحيفة (14) ؛ فعند تأملها لا تجد فيها ما ينتقض به اعتبار العرف ، ولا ما يفسد دوران العلة مع الحكم .
فليس فيها حال واحدة ثبتت فيها الإقامة بمعناها المعروف عند الناس من وجود الطمأنينة واتخاذ سكن ومتاع المثل فـي مدة طويلة ، ونية مستقرة ، وفـي مكان صالح للنـزول ، وغيرها من أوصاف الإقامة العرفية التي يَعْتبِرُ الناسُ النازلَ فيها مقيماً .
والأصل هو عدم تحقق الإقامة بـهذه الأوصاف حتى يُثبت المخالف وجودها ؛ فإن لم يُثْبِتْ ذلك فالأصل هو بقاء السفر أو حكمِه .
فهذه الأحوال إنما هي من السفر ، أو من توابعه عُرفاً ، قال ابن تيمية رحمه الله : ( .. وقد أقام المهاجرون مع النبي عام الفتح قريباً من عشرين يوماً بمكة ، ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بـها عن السفر ) ([53]) .
وقال ابن القيم في فوائد غزوة تبوك : ( ..ومنـها أنـه أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة ، ولم يقل للأمة : لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك ، ولكن اتفقت إقامته هذه المدة ، وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر ، سواء طالت أو قصرت إذا كان غير مستوطن ، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع ) ([54]) .
وسيأتـي مزيد بسط لفقه هذه الأحاديث والآثار في صحيفة (62) .
وأما وجود زوجات النبي معه في أسفاره فلا ينتقض به هذا
التعليل ؛ وذلك لأن التأهل الذي يُعتبر به المرء مقيماً عرفاً هو كون الزوجة مقيمة في المكان الذي ينـزله المسافر .
أما إذا كانت هي مسافرة فلا تأثير لها في حال زوجها . بل قال كثير من العلماء : إن المرأة هي التي تتبع زوجها في حكم سفره وإقامته ([55]) .
وزوجات النبي لم يَكُنَّ معه إلا مسافرات ؛ فلا يعتبر وجودهن معه مفسداً لهذه العلة ، ولا مانعاً من دورانـها .
الأسباب العرفية للسفر
حيث ظهر أن الراجح هو اعتبار العرف في هذه المسألة فإن من مكملاتـها ذكر بعض أسباب وتطبيقات السفر والإقامة ؛ لأن فقه الأخبار الواردة في الترخص لا يُتصورُ تصوراً تاماً إلا بعد تأمل هذه الأسباب والتطبيقات العرفية .
ونظراً إلى أن وصفي السفر والإقامة العرفيين نقيضان لا يجتمعان معاً ، ولا يرتفعان معاً ؛ فثبوت أحدهما نفي للآخر ، وأننا قد نحتاج إلى استبقاء
أو نفي وصف الإقامة فلا بد من معرفة حدود السفر عند أهل العرف ؛ لهذا السبب ذكرت هنا الأسباب العرفية للسفر ([56]) :
السبب الأول : البروز من دار الإقامة ومفارقة عمرانـها .
فمكان ابتداء السفر هو الأرض الفضاء التي لا عمران فيها ، ومفارقة العمران مسألة عرفية ([57]) ؛ فلا يدخل في ذلك الضياع والمزارع ([58]) ، ولو كان الناس يقيمون فيها بعض الفصول ([59])، ومثل ذلك المعارض والمستودعات ومحطات الوقود ، وإن كانت مزدهرة ، وإذا جرت عادة أهل البلد بسكنى مزارعهم دوماً ـــ كبعض أهل الأرياف ـــ فلا بد من مجاوزتـها ([60]) .
السبب الثاني : الطريق وطبيعة المركب .
فالطرق الوعرة التي تمر في الحرار والجبال والغابات تختلف في حكمها العرفـي عن الطرق السهلة المعبدة ؛ فخمسة عشر كِيلاً مثلا في جَوَادِّ جبال تـهامة التي لا تُقطع إلا بالمشي أو الدواب قد تُعَدُّ سفراً ، بينما لا تُعَدُّ كذلك مع سهولة الطريق أو وجود المراكب السريعة ، هذا في حال المسافة القصيرة ، أما الشاسعة عرفاً فلا تأثير لنوع المركب ؛ فتُعتبرُ سفراً مهما كان المركب وطريقة السير ؛ كما سيأتـي في السبب التالي .
قال ابن تيمية عن اختلاف أحوال المسافرين بحسب اختلاف الحال :
( .. وقد يكون في المسافة صعود ، وقد يطول سفر بعضهم لبطء
حركته ، ويقصر سفر بعضهم لسرعة حركته ، والسبب الموجب هو نفس السفر ، لا نفس مساحة الأرض ) اهـ ([61]) .
وقال : ( فالسفر حال من أحوال السير لا يُحَدُّ بمسافة ولا زمان ) ([62]) .
وقال عن حد السفر بالمسافة : ( ولا يمكن أن يُحدَّ ذلك بحد صحيح ؛ فإن الأرض لا تُذرع بذرع مضبوط في عامة الأسفار ، وحركة المسافر تختلف ، والواجب أن يُطلق ما أطلقه صاحب الشرع ، ويُقيَّد ما قيَّده ؛ فيقصر المسافر الصلاة في كل سفر .. ) ([63]) .
وقال : ( .. وقد يركب الرجل فرساً يخرج به لكشف أمر ، وتكون المسافة أميالاً ويرجع في ساعة أو ساعتين ، ولا يُسمى مسافراً ، وقد يكون غيره في مثل تلك المسافة مسافراً ، بأن يسير على الإبل والأقدام .. ) ([64]) .
السبب الثالث : مسافة السفر ونية قطعها .
لا يكون الشاخص مسافراً إلا بوجود مسافة السفر مع نية قطعها ، وهذا وصف رئيس من أوصاف السفر عند الناس ؛ فأول ما يتبادر إليهم عند ذكر السفر هو طول المسافة ؛ فتراهم عند طولها يقولون : إن هذا سفر .
وأهل اللغة يُعَرِّفون السفر بأنه "قطع المسافة" ([65]) .
وإذا أردت تصور تأثير المسافة في السفر العرفي فانظر هذا في شخصين كل منهما جاوز بنيان بلده سائراً ؛ فأحدهما أراد قطع مسافة ألف كيل ، والآخر أراد قطع خمسة عشر كيلاً ، وكل منهما يرجع من مسيره هذا إلى بلده دون تزود أو مبيت ؛ فالناس يقطعون في صاحب الألف كيل بأنه مسافر ، وأن الآخر غيرُ مسافر ؛ فلم يُفرِّقِ الناسُ بين الحالين إلا بالمسافة .
وكان كثير من السلف يَعتبرون طول المسافة دون جعلها حداً مشتركاً ؛ فعن معاذ وعقبة بن عامر وابن مسعود قالوا : ( لا تغرنكم مواشيكم يطأ أحدكم بماشيته أحداب الجبال ، أو بطون الأودية ، وتزعمون بأنكم سَفْرٌ ، لا ولا كرامة ، إنما التقصير في السفر البات من الأفق إلى الأفق ) ([66]).
وقيل لإبراهيم : أتـُقْصَرُ الصلاة إلى المدائن ؟ قال : إن المدائن قريب ، ولكن إلى الأهواز ، ونحوها ([67]) .
وتقدير أدنـى المسافة المعتبرة لقيام وصف السفر ، وكذلك الشاسع منها هو من المسائل العرفية التي تختلف باختلاف الأحوال .
وأدنـى مسافة السفر قد لا تستقل بقيام وصفه ؛ فقد تحتاج هذه المسافة القليلة إلى أوصاف أخرى ؛ كنوع المراكب في ذلك الزمان أو المكان ، وكذلك وعورة الطريق والتزود والمبيت والانقطاع والغيبة .
وقد قرر ابن تيمية أن المسافة ليست سبب السفر الوحيد بل لا بد من مبيت وتزود أو أحدهما ؛ كالبريد إذا ذهب بلا تزود ورجع من يومه من غير نزول ؛ فلا يُسمى مسافراً ، وغيره في تلك المسافة قد يُسمى مسافراً ([68]).
وقال رحمه الله في موضع آخر : ( .. فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفراً ، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفراً ) اهـ ([69]).
وقال : ( .. وكلام الصحابة .. يدل على أنـهم لم يجعلوا قطع مسافة محدودة ، أو زمان محدود : يشترك فيه جميع الناس ، بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل ؛ فمن رأوه مسافراً أثبتوا لـه حكم السفر ، وإلا فلا ) اهـ ([70]).
ترخص من لا نية له أو كانت نيته مترددة :
ومن شخص عن بلده ولا نية لـه في مسافة السفر العرفي فهو مقيم لا رخصة لـه ؛ كالهائم ومتتبع الكلأ ومن خرج لرد ضالة ، إلا أن يبلغ مكاناً يكون رجوعه منه إلى بلده سفراً عرفاً ؛ فحينئذ يُشرع لـه الترخص ([71]) .
ومن علَّق سفره بلحاق القافلة بضاحية البلد ؛ فإن حصل لـه ذلك سافر وإلا أقام ، ولم يغلب على ظنه حصول مراده فهو باق على حكم الإقامة ؛ وذلك لعدم النية العازمة على السفر ([72]) .
ونظير هذا في الوقت الحاضر ما يُسمى "بحجز الانتظار" ، و"الحجز المؤكد" في الطائرات والقطارات والسفن :
فإذا كان المطار خارج بنيان البلدة أو في بلدة أخرى ، ولم تكن مسافته سفراً ، وكان الحجز مؤكداً ، أي يغلب على ظنه أن يسافر فهو في المطار وفي الطريق إليه مسافر ، وإن كان غير مؤكد ، وهو ما يُسمى بالانتظار فلا رخصة لـه ؛ لأن الأصل بقاء الإقامة فلا نخرج منها إلا بيقين أو غلبة ظن .
وهل نية السفر للذي تجب عليه طاعة متبوعه معلقة بنية ذلك المتبوع ؛ كالزوجة مع زوجها والجندي ذي الرزق مع قائده والرقيق مع سيده والابن مع أبيه ونحوهم ؟ فإذا ترخص ترخصوا ؟ فيها قولان مشهوران لأهل العلم ، أصحهما عدم مشروعية الترخص لهؤلاء ؛ لأن طاعة البشر لا يصح أن تكون سبباً لاستباحة الرخصة بمجرد التبعية ؛ فالأصل إذاً هو أن على هؤلاء الأخذ بالعزيمة حتى يثبت عندهم سبب الرخصة ، ولا تكفي رؤيتهم متبوعهم يترخص ، ولا بأس هنا بالعمل بالأمارات وقرائن الأحوال .
وسؤالُ التابعِ متبوعَه عن مقصده لا ينافي كمال الطاعة والتعظيم .
إذا طالت المسافة فصاحبها مسافر ولو عاد من يومه دون مبيت :
ومن قطع مسافة شاسعة كمائة كيل ونحوها فهو مسافر وإن رجع من يومه ؛ وذلك لأن أهل العرف يرونه كذلك .
وقد صحَّ عن علي أنه خرج إلى "النخيلة" ؛ فصلى بـها الظهر والعصر ركعتين ثم رجع من يومه ؛ فقال : أردت أن أعلمكم سنة
نبيكم ([73]) . فقد ترخص رغم أنه رجع من يومه .
ومن احتج بكلام الإمام ابن تيمية هذا من أن المسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفراً ، حتى في الشاسع منها ؛ فاعتبروا أن من قطع ثلاثمائة كيل مثلاً دون مبيت أو تزود أنه غير مسافر فهو محل نظر وتأمل ؛ لأمرين :
الأول : أن ابن تيمية لم يتعرض للمسافات الشاسعة التي يَعتبرها أهل العرف سفراً حتى وإن رجع من ساعته ويومه ؛ كالمائتي كيل ونحوها ؛ فالناس لا يكادون يختلفون في اعتباره مسافراً ، ومثال ابن تيمية رحمه الله في كلامه هذا إنما كان بالمسافة القصيرة جداً .
ومما يؤكد ذلك أنه ذكر هذه القاعدة في مواضع عدة ([74])، ومثَّل لها بمسافات قصيرة ، وهي البريد والفرسخ ، وبالمسافة بين مكة وعرفة ، وبالمسافة بين المدينة وقباء ، وبمسير الساعة والساعتين ، ولم يذكر مع هذه القاعدة مسافات شاسعة .
الثاني : على تسليم أن ابن تيمية يرى عموم تلك القاعدة لجميع المسافات فإنه إنما يتكلم في تقدير ذلك بصفته من أهل العرف لا بصفته مجتهداً مستدلاً من الشريعة ؛ فإذا كان الأمر كذلك فإن الأعراف قد تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال ، هذا من وجه ، ومن وجه آخر : قد يختلف أهل العرف أنفسهم في التقدير والحكم ، وإن اتحد المكان والزمان والحال .
ويلزم من طرد هذه القاعدة وهي عدم اعتبار المسافة الطويلة في المدة القليلة يلزم من ذلك أن نقول : إن من سافر بالطائرة مسافة ثلاثة آلاف
كيل ، أو بالسيارة ألف كيل مثلاً ، ثم عاد من فوره أنه غير مسافر ؛ لأنه يعود من نـهاره ولا يبيت ، وهذا مخالف للمقطوع به عرفاً .
تنبيه حول كلام لابن تيمية في المسافة :
قول ابن تيمية رحمه الله : ( .. فالتحديد بالمسافة لا أصل لـه في شرع ولا لغة ولا عرف ولا عقل .. ) ([75]) لا يُعتبر معارضاً لاعتبار المسافة العرفية في بعض أحوال السفر .
وذلك لما ظهر خلال كلامه من أن نكيره إنما هو على من جعل ضبط السفر بالمسافة حداً عاماً يشترك فيه جميع الناس في كل أحوالهم ؛ كأن يقال مثلاً : إن من قصد دون أربعة بُرُدٍ فليس بمسافر في جميع الأمكنة والأزمنة والطرق والمراكب .
يوضح ذلك ويجليه حكايتُه ـــ رحمه الله ـــ أقوال بعض الصحابة التي تضمنت تحديداً بمسافة ، وهذا يدل على أنه لا يعترض على اعتبار المسافة مطلقاً ، وإنما على جعلها حداً مشتركاً .
كما أن ابن تيمية يَعتبر المسافة القليلة والمدة الكثيرة في ثبوت وصف السفر العرفـي ، حيث قال هنا : ( فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفراً ، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفراً ) ([76]) ؛ فهل تمكن معرفة المسافات القريبة والبعيدة والمدة الطويلة والقصيرة إلا بتقدير تقريبي ؟ وهل يمكن ذلك إلا بالعرف ؟
وقد حكى رحمه الله أقوال بعض الصحابة الذين مثَّلوا للسفر بمسافات ثم قال : ( وكلام الصحابة يدل على أنـهم لم يجعلوا قطع مسافة محدودة أو زمان محدود يشترك فيه جميع الناس ، بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل ؛ فمن رأوه مسافراً أثبتوا لـه حكم السفر ، وإلا فلا ) ([77]) .
السبب الرابع : حمل الزاد والمزاد .
وهذا الوصف وإن كان قليلاً في زماننا بسبب انتشار مراكز التسويق على طول الطريق ، وفي أماكن النـزول ، إلا أن أهل العرف يستدلون بـه مع أوصاف أخرى على تحقق وصف السفر .
قال ابن سيرين : ( كانوا يقولون : السفر الذي تُقصَرُ فيه الصلاة الذي يُحْمَل فيه الزاد والمزاد ) ([78]) .
وهذا الوصف من الأوصاف المؤكدة لوجود السفر ، ولكنها لا تستقل بنفيه ولا إثباته ؛ فقد يُعتبر مسافراً دون تزود ، وقد يُعتبر مقيماً مع تزوده .
السبب الخامس : الانقطاع والغيـبة .
وهي سمة من سمات السفر عند أهل العرف إذا كان سببـها بعد الطريق أو وعورته أو غلاء قيمة وسائل النقل أو بطؤها أو اضطراره إلى المبيت هناك ليلةً أو ليالي بسبب تشعب حاجاته أو طول وقت معالجتها حتى مع قرب مقصده كأربعين كِيلاً أو خمسين .
هذا كله مع شرط البروز وقطع أدنـى مسافة يعرفها أهل العرف من مسافة السفر .
قال رجل لابن عباس : أقصر إلى الأُبلة ؟ قال : تذهب وتجيء في
يوم ؟ قلت : نعم ، قال : لا إلا في يوم متاّح ([79]).
وعن ابن عمر قال : ( لا تُقصر الصلاة إلا في يوم تام ) ([80]).
فلعل ابن عمر أراد تأثير الغيبة ، ولو أراد المسافة لقال : مسيرة يوم تام ، ومما يؤكد إرادة تأثير الغيبة أنه ترخص في مسافات قصيرة تُقطع في نصف نـهار ؛ فقد صح عنه أنه قصر الصلاة إلى "ريم" ([81]) .
وقد تقدم في صحيفة (34) كلام ابن تيمية في أثر المبيت والغيبة في وصف السفر .
واعتبار هذا السبب مع بقية الأسباب هو أصح ما يُوجَّه بـه قصر أهل مكة مع النبي في عرفة ؛ فلم يكن ترخصهم لأجل النسك ، وإنما لكونـهم من المسافرين ([82]) ؛ فإن من يذهب إلى عرفة من أهل مكة ـــ في ذلك الوقت ـــ لغرض ويرجع من ساعته أو يومه لا يُعتبر مسافراً ، ولكنه إذا برز وقطع تلك المسافة وتزود وبات وغاب اعتُبر مسافراً .
هل التوديع والاستقبال وصفان لازمان للسفر ؟
درج الناس في القديـم على توديع المسافر واستقباله ، ولا زال عمل بعضهم على ذلك إلى الآن ، لا سيما مع طول الغيبة ؛ فهما مؤكدان لوجود السفر ، ولكنهما ليسا لازمين لقيام وصفه . ومثل ذلك حمل الزاد والمزاد ، حيث قد يُعتبر المرء مسافراً دون حملٍ لزاد أو مزاد ؛ فهذه الأوصاف وأمثالها لا تُعتبر من شروط السفر ؛ لأنه لا يلزم من عدمِها عدمُه .
وذلك بخلاف سبـب المسافة مثلاً فإنه يلزم من عدمه عدمُ السفر ؛ فلا يكون الشاخص مسافراً إلا بـه .
الأسباب العرفية للإقامة
إن حقيقة الإقامة هي: وجود أسباب التعلق بمكان النـزول ؛ فمتى اكتملت هذه الأسباب أو كثرت أو قويت عُدَّ النازل من المقيمين في
ذلك المكان ، ومتى عُدمت هذه الأسباب كلها أو قلَّت أو ضعفت ـــ وكان قد أحدث سفراً ـــ فصاحبها مسافرٌ ، أو في حكم المسافرين .
وهذا عرض لأسباب الإقامة عند أهل العرف :
السبب الأول : نية الإقامة المستقرة ومدتـها .
إن للنية تأثيراً كبيراً في ثبوت وصف الإقامة ، أو نفيه :
فقد أجمع العلماء في السفر والإقامة على حالين مبناهما على نية النازل :
الأولى : الاستيطان ، وهو نية الإقامة على التأبيد ؛ فمن نوى المكث في المكان على التأبيد فهو مقيم بإجماع أهل العلم .
والثانية : التردد كل يوم في السفر والإقامة ، وهو حال من يقول : اليوم أخرج .. غداً أخرج ؛ فقد أجمعوا أن مَنْ هذه حاله فهو مسافر .
فالحال الأولى نية ومدة مؤبدة وحال عليا من الطمأنينة والاستقرار ، والثانية مدة أيضاً ، وهي اليوم الواحد ، ونية مترددة ، وحال عليا من الاضطراب والتردد .
ويوجد بين هذين الحالين المجمع عليهما أحوال متفاوتة تؤثر في ثبوت الوصف أو نفيه كلها تُبنى على نية النازل ، مع حاله أو عمله .
إرادة المدة أول أسباب الإقامة :
إن قصد المدة الطويلة عرفاً هو أول أسباب الإقامة عند الناس ؛ فالغالب أن المرء لا يتخذ أسباب الإقامة العملية من سكن المثل أو متاعه ، وقد
لا يتأهل إلا حين يريد المدة الطويلة ، أما إذا كان ينوي مدة قصيرة ، أو كان متردداً مضطرباً فإنه لا يتخذ هذه الأسباب .
وتأثير المدة في الإقامة عند أهل العرف واضح بيِّن ؛ فالمرء إذا نزل بلداً أياماً معدودة ـــ كعشرة أيام أو عشرين ـــ لم يُعتبر قاطعاً لسفره بذلك ، ولا يُوصف عندهم بأنه مقيم في هذا البلد ، ولا أنـها صارت من دور إقامته ، حتى مع حصول بعض أسباب الإقامة الأخرى ؛ كوجود أهله معه في نزوله ذاك ، أو كون البيت مملوكاً أو مستأجراً ، بيد أنه باجتماع هذه الصفات ، مع قصد المكث مدةً طويلةً بنية مستقرة فإنه يُعتبر مقيماً .
أثر المدة في وصف الإقامة العرفي عند الهيتمي :
وقد سُئِل العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله عمن أوقف على الفقراء المقيمين ببلد .. ما المراد بالإقامة هل هو الإقامة الشرعية أربعة أيام ، أو المجاورة سنة أو سنتين ، أو الاستيطان ؟ فكان من إجابته أن المقيم هو من : (مكث مدة ثَمَّ ، بحيث صار أهل العرف يعدونه مقيماً بذلك المحل) ([83]) .
فلم يَعْتَبِرْ فـي ضبط الإقامة ما يراه في مذهب الشافعية فيما تُقْصرُ فيه الصلاة ، وهي الأربعة الأيام ، وإنما اعتبر مراد الناس من لفظ الإقامة عند إطلاقه وهو المعنى العرفـي ؛ كما أنه اعتبر لقيام هذا المعنى وجود المدة .
وتنـزيل لفظ الإقامة في الشريعة على المعنى العرفـي عند إطلاقه لا يختلف عن هذه الطريقة ، لا سيما مع عدم وجود حد في الشريعة أو اللغة .
لا إقامة مع نية مضطربة :
الاضطراب والتردد في نية الإقامة ، أو عدم وجود هذه النية منافٍ للإقامة بمعناها المعروف عند الناس ، وهذه بعض أحوال الاضطراب التي تمنع من قيام وصف الإقامة :
حال الحرب :
وحال الحرب والخوف من أعظم أسباب الاضطراب المنافـي للإقامة .
لذلك ذهب جماهير علماء المذاهب الأربعة وغيرهم إلى أن حكم المدة التي تُقصر فيها الصلاة في كل مذهب لا يجري في حال الحرب أو في داره ؛ فيجوز الترخص وإن جاوزت نية المكث خمسة عشر يوماً ([84]) .
وقد قرر ابن نجيم أن حكم الترخص يشمل حرب الكفار والبغاة في دار الإسلام أو دار الحرب ، وعلَّل ذلك بأن حال المقاتلين يخالف عزيمتهم ([85]) .
وقال الشرنبلالي : ( ولا تصح نية الإقامة ببلدتين لم يعين المبيت
بإحداهما ، ولا في مفازة لغير أهل الأخبية ، ولا لعسكرنا بدار الحرب ،
ولا بدارنا في محاصرة أهل البغي ) ([86]) .
وقال ابن مفلح : ( إن إقامة الجيش للغزو لا يمنع الترخص ، وإن طال ؛ لفعله ) ([87]).
نزول المسافر لحاجة ينتظر نجاحها :
ومن أحوال عدم الاستقرار حالُ من نزل لحاجة ؛ كإدارة تجارة عاجلة أو شراء حوائج ، أو منتظراً رفقة ، وهو لا ينوي الإقامة ، بل متى انقضت حاجته عاد إلى بلده فهو مسافر ، ولو اجتمع لـه بعد ذلك مدة طويلة .
وذلك لأن الإقامة مبناها على الاستقرار والطمأنينة ، ومَنْ هذه حاله ففيه انزعاج المسافرين ؛ فلم تتحقق لـه الإقامة مع بقاء هذه الحال ؛ فهو إذاً باقٍ على سفره ، أو في حكم ذلك السفر .
ولكن إذا كانت هذه الحاجة لا تُقضي عادة إلا في وقت طويل كسنة مثلاً ، وقد قام بأعمال الإقامة ؛ كسكن المثل واتخاذ المتاع فهو مقيم .
وعلى هذا مذهب أبـي حنفية وأحمد في قوله الآخر ، وهو أن من أقام لحاجة ينتظر نجاحها بلا نية إقامة فهو مسافر ، ولو نوى أكثر من مدة الإقامة في المذهبين ، ما دام يحتمل قضاء حاجته قبل المدة ([88]) .
وهو مذهبُ الشافعي رحمه الله في المحارب في أحد أقواله ، وحكاه بعض أصحابه في غير المحارب ؛ كالتاجر والمتفقه ، وغلَّطهم آخرون ([89]) .
وإذا كان سبب الترخص بعد الأربعة ـــ حالَ القتال ـــ هو اضطراب النية فإن طرد هذا السبب يقتضي أن مَنْ وُجدت فيه تلك الحال يُعتبر مسافراً وإن لم يكن في قتال ؛ فإنه لا فرق بين المقاتل وغيره في حكم القياس ([90]) .
وقد جاء عن مورق أنه سأل ابن عمر فقال : إنـي تاجر أتنقل في قرى الأهواز ؛ فأقيم في القرية الشهر وأكثر ، قال : تنوي الإقامة ؟ قلت : لا ! قال : لا أراك إلا مسافراً ، صل صلاة مسافر! ([91])
من نزل مضطراً لعائق لا يدري متى يزول ؟ :
وذلك كمن حبسه مرض ، أو حصره عدو ، أو منعته ريح ، أو عاقه ثلج أو واد يسيل ، وكمن سُجن وهو لا يدري متى يُخلى سبيله .
فقد ذهب كثير من الفقهاء الذين يحددون الإقامة بمدة معينة إلى أن حكم المدة لا يجري في أمثال هؤلاء ؛ فيعتبرونـهم في حكم السفر ([92]) ؛ وذلك لتخلف نية الإقامة .
وهو كذلك عند الناس ؛ وذلك لأن أكثر أصحاب هذه الأحوال
لا ينوون الإقامة فضلاً عن إرادة مدة طويلة ، وغالب حالـهم أنـهم ينتظرون زوال العائق في مدة يسيرة ؛ لذلك فهم باقون على حكم السفر السابق ، بسبب عدم النية أو اضطرابـها .
النية المستقرة إذا كانت مدتـها قليلة :
وإذا نزل المسافر بلداً في مدة قليلة لا يقوم بـها وصف الإقامة عرفاً ؛ كخمسة عشر يوماً أو عشرين ، ونحو ذلك ، ولا أهل لـه فيها ؛ فهو باق على حكم سفره ، ولو كان جازماً بمكثها ؛ لأن الناس لا يعتبرون النازل في مثل هذه المدد مقيماً ، ولا يعتبرون مكان نزوله هذا من دور إقامته .
سبيل العلم بالمدة :
وضابط ذلك هو غلبة الظن أو القطع في نية مقدار الإقامة ؛ فمتى غلب على ظن النازل أنه يريد مدة طويلة صار مقيماً مع تحقق الأسباب الأخرى ، ومتى ظن قِصَر المدة ؛ فهو مسافر أو في حكمه ، ومن شك في ذلك فهو باقٍ على حكم حاله السابقة وهي السفر .
ومن المعلوم أن الشريعة تبني كثيراً من أحكامها على غلبة الظن .
مدة الإقامة ليست حداً مشتركاً لجميع الأحوال :
ليس لمدة الإقامة حداً معيناً مشتركاً لضبط جميع الأحوال ، بل يختلف تأثير المدة باختلاف هذه الأحوال ، وليست المدة أيضاً وصفاً يستقل بثبوت وصف الإقامة ولا نفيه ؛ فهي لا تؤثر إلا بمشاركة غيرها من الأسباب .
فمن نزل مكاناً غير صالح لإقامة مثله ؛ كنـزول الحضري في صحراء من الأرض ، أو نزول جميع الناس في حال من الاضطراب أو الخوف فهم مسافرون ، مهما اجتمعت لهم مدة كثيرة في نزولهم هذا .
وفي المقابل قد تقل المدة ومع ذلك يظل وصف الإقامة عند الناس ثابتاً ؛ كمن نزل مكان المثل وسكنه وله فيه زوجة مقيمة ؛ فلا تأثير للمدة في هذه الحال ، حيث يُعتبر مقيماً مهما قلَّ وقت نزوله .
وبـهذا يُعلم أن اعتبار المدة سبباً من أسباب الإقامة العرفية لا يُعارض اعتبار أقوال من حدها بأيام بـها أقوالاً مرجوحة .
ووجه ذلك أن المدة عند القائلين بالحدود الزمنية تُعتبر حداً مشتركاً ثابتاً لا يختلف باختلاف الأحوال ، مصدره دلالة الشريعة ؛ كمدة المسح على الخفين وعِدَدِ النساء ، بيد أنـها هنا ليست حداً مشتركاً ، بل تختلف باختلاف الأحوال ، ومصدرها هو العرف .
إيراد وجوابه :
قد يقال : لا فرق بين مدد الإقامة في الشريعة ؛ فلماذا يُفَرَّقُ بينها ؟
فالجواب هو أنه قد ترجح في هذا البحث أن سبيل ضبط هذه المسألة هو العرف ؛ فيكون التفريق بين أحوال الإقامة راجع إلى أهله ؛ فلم يُنسب هذا التفريق إلى الشريعة ، ونظائر اعتبار المدد والمسافات في فقهها كثير :
ففي المدد : طول الفصل بين أعضاء الوضوء ، وطول الفصل بين الصلاة وما نُسي منها ، ومقدار خطبة الجمعة ، وعدد مرات تعريف اللقطة في الحول ، وقدر ما بين المرة والتي تليها ، وكذلك التراخي في الجمع بين الصلاتين ، والتراخي في الشفعة عند من يقول بشرطية الفور فيهما .
وفي المسافات : مسافة السفر ، وما يُعتبر به الصف متصلاً بالآخَر ، وما يُعتبر به المرء مصلياً إلى القبر ، وقدر ما بين المصلي وسترته ، وما يُعتبر به تفرق البيِّعين مسقطاً لخيار المجلس في الصحاري .
وقد تقدمت هذه الأمثلة العرفية وغيرها في صحيفة (25) .
ويقال لمن يعتبر العرف في ثبوت السفر : إن كل إيراد على الإقامة العرفية لإبطال تأثيرها في حكم الرخصة وارد على السفر العرفي ولا فرق :
فالاعتراض على سببـي المكان والمسكن في الإقامة يُعترض بمثله على اشتراط البروز ومفارقة العمران في السفر .
والاعتراض على المدة في الإقامة يُعترض بمثله على المسافة في السفر .
وتأمل هذا في شخصين كل منهما قد برز عن بنيان بلده وفارق ما يُنسب إليه ثم رجعا إليه من نـهارهما بلا تزود ، وقد سارا على طريق واحدة ووسيلتي نقل متماثلتين ، ولكن أحدهما قطع ألف كيل والآخر عشرين كيلاً ؛ فالأول ـــ عند الناس ـــ مسافر ، والثاني عندهم مقيم ؛ فلا فرق بين حاليهما إلا المسافة .
والمدة في الإقامة لا تَخْرُجُ عن هذا المسرب ؛ فإذا نزل اثنان سكنَ مثليهما ، وأراد أحدهما النـزول خمسة عشر يوماً بنية مستقرة لم يكن عند الناس مقيماً بمجرد نزوله هذه المدة ، بل يعتبرونه مسافراً ، ولو أراد الآخر سنـتين مثلاً بنية مستقرة اعتبروه مقيماً .
ولو قالوا بأن السفر العرفي هو مجموع أسباب لا تُجعل فيها المسافة حداً مشتركاً لجميع الأحوال ! يقال : والإقامة العرفية هي أيضاً مجموع أسباب
لا تُجعل فيها المدة حداً مشتركاً لجميع الأحوال .
إيراد آخر وجوابه :
لو قيل : لا نجد فرقاً بين من نزل بلداً لعلاج أو زيارة أو سؤال أو تجارة في مدة يسيرة ـــ ممن اُعتبر هنا مسافراً ـــ وبين من نزل البلد للدراسة ، إذْ كلٌ من الفريقين ينتظر انتهاء مهمته ، ولو حصل لكل منهما الرجوع إلى بلده فوراً لفعل ؛ فيكون حكم الحالين واحداً ، وهو مشروعية الترخص .
فالجواب أن يقال : لو كان تعليق السفر بتنجيز الحاجة هو علة الرخصة لاعتُبر هؤلاء المغتربون من المسافرين بلا ريب ، بيد أن هذا الوصف ـــ كما تقدم ـــ لا يصلح أن يكون سبباً للرخصة ، وإنما سببها الصحيح هو وجود السفر العرفي ، أو ما يُلحق به من أحوال الاضطراب وسبب العزيمة هو وجود الإقامة العرفية بحدودها المعلومة عند الناس .
فمن أقام في مدة قليلة ـــ أو في مدة كثيرة ولكنه يتوقع قضاء حاجته كل وقت في مدة قليلة ـــ فليس مقيماً عند الناس ؛ لاضطراب حاله ؛ فهو باق على حكم سفره ، بخلاف من غلب على ظنه طول المكث في مكان المثل وسكنه بنية مستقرة ؛ فهو عندهم مقيم .
فسبب التفريق بين الحالين ـــ إذاً ـــ هو رأي الناس العرفـي فقط .
السبب الثاني : صلاحية المكان للإقامة .
فالإقامة لا تكون إلا في مكانـها المعتبر المعتاد ، وإلا فالنازل مضطرب منـزعج ؛ فالمكان المعتاد للحضر ـــ مثلاً ـــ هو القرى والمدن ، ومتى ما تحول هذا الحضري عن عادته في مكان الإقامة لم يره الناس مقيماً .
وإذا كنا لا نتصور ابتداء السفر إلا في المكان المعتبر وهو الصحاري والفضاء فإن الإقامة لا تُتصور أيضاً إلا في مكانـها المعتاد ، وهو المدن والقرى لأهلها .
فمن نزل مكاناً غير صالح للإقامة عادةً فهو مسافر مهما طال مكثه ؛ وذلك لأن المدة ليست معيار الإقامة الوحيد .
والذي يعوِّل على المدة في إثبات الإقامة دون اعتبارات أخرى هو كالذي يعول على غرس الفسائل في إثبات الإحياء العرفـي دون أن يشترط صلاحية الأرض أو مناسبة الهواء لغرس مثل هذا الشجر ؛ فإن الناس لا يَعتبرون مثل هذا محيياً ؛ لأن هذه الفسائل لا تثمر في الحالين .
والإقامة بمعناها العرفي لا تخرج عن هذه الحدود والاعتبارات .
وعلى اشتراط صلاحية المكان لصحة الإقامة قولُ كثير من أهل العلم :
فقد ذكر الكاساني شروط الإقامة المعتبرة عند أبي حنيفة وعدَّ منها المكان الصالح للإقامة ، ثم قال : ( فهو موضع اللبث والقرار في العادة نحو الأمصار والقرى ، وأما المفازة والجزيرة والسفينة فليست موضع الإقامة ، حتى لو نوى الإقامة في هذه المواضع خـمسة عشر يوماً لا يصير مقيماً..) ([93]).
وقال ابن الهمام : ( .. أما من ليس من أهل البادية ـــ بل هو مسافر ـــ فلا يصير مقيماً بنـية الإقامة في مرعى أو جزيرة ) ([94]).
وهذا هو أحد قولي الشافعي ، واختاره الغزالي ؛ فقد عدَّ من شروط جريان حكم المدة عند الشافعية المكانَ الذي تُتصور فيه الإقامة ، ثم قال :
( .. فإن كان لا يُتصور فالأصح أنه يترخص ؛ لأن العزم فاسد ) ([95]) .
وكذلك الأمر في مذهب أحمد ؛ فقد قال في "المبدع" : ( .. إذا نوى الإقامة بموضع يتعذر فيه الإقامة كالبرية لا يقصر ؛ لأنـه نوى الإقامة ، والمذهب : بلى ؛ لأنه لا يمكنه الوفاء بـهذه النية فلغت .. ) ([96]) .
وقال : ( يشترط في الإقامة التي تقطع السفر ـــ إذا نواها ـــ الإمكان ، بأن يكون موضع لبث وقرار في العادة ) ([97]) .
بل جاء في الرواية الثانية عن أحـمد أنه لا يلزم المرء ترك الرخصة إلا في بلد تُقام فيه الجمعة ([98]) .
وهو قول مالك في دار الحرب للعسكر ؛ فلا يجري فيها عنده حكم المدة ([99]).
والمكان وإن كان وطَناً فلا تأثير لـه عند بعض أهل العلم إذا مرَّ به صاحبه عابراً ؛ كما جاء ذلك في الرواية الثانية عن أحمد ([100]).
السبب الثالث : المسكن .
فالمسكن سبب من أسباب التعلق بمكان النـزول ، سواء كان ذلك بشرائه أو استئجاره ، بيد أنه لا يستقل بإثبات الإقامة .
والناس يختلفون في المسكن بداوةً وتحضراً وغنىً وفقراً ؛ فالبدوي يسكن عادةً خيامَ الشعر ، في بطون الأودية ومنابت الكلأ ويحتمل شعث ذلك وجَهْده ؛ فهي مكان وسكن مثله ، ولغيره قد تُعتبر مكان وسكن مسافر .
وقد ذكر الكاسانـي أن بعض العلماء يقول في الأعراب الذين يسكنون بيوت الشعر بأنـهم لا يكونون مقيمين أبداً ؛ لأنـهم في مفازة ، وهي ليست موضع الإقامة عادة ، هكذا حكاه عنهم ، ثم عَقَّبَ على ذلك بقوله : ( والأصح أنـهم مقيمون ؛ لأن عادتـهم الإقامة في المفاوز دون الأمصار والقرى ) ([101]) اهـ .
ووجود الدور والعقارات مملوكة أو مستأجرة في بلد ليست دليل الإقامة مطلقاً ، بل لا بد من أوصاف وأحوال أخرى ؛ كالمدة ، أو إقامة زوجة
فيها ؛ فبعض الأثرياء يوجد لـه في كل حاضرة أو مدينة كبيرة بيت أو قصر ؛ فلا يُعتبر عند الناس مقيماً إذا نزلها في إجازة أو نحوها مدةً يسيرة .
قال الإمام الشافعي : ( قد قصر أصحاب النبي معه عام الفتح وفي حجة أبـي بكر ولعدد منـهم بمكة دار أو أكثر وقرابات ) ([102]) اهـ .
وفي انقطاع السفر بوجود الدور قولان في مذهب أبي حنـيفة ([103]).
ووجود الدار قد يكون هو المؤثر في ثبوت وصف الإقامة إذا لم يكن لـه مأوى سواه ، وإن كان لا ينـزله إلا أياماً معدودة في السنة ؛ كربابنة السفن وسائقي الشاحنات وأمثالهم ؛ وذلك لأن هذه هي دور إقامتهم ([104]) .
السبب الرابع : التأهل .
والإتمام بالتأهل هو قول الجمهور ([105]) . وله عند أهل العرف أحوال :
فإذا وُجِدَ مكان المثل وسكنه ولـه فيه زوجة مقيمة فلا اعتبار للمدة مطلقاً ؛ فمهما نزل هذا البلد فهو مقيم ، وإن كان نزوله ساعات .
فقد ظهر هنا أثر التأهل ، وهو إلغاء تأثير المدة .
ويسقط عند أهل العرف تأثير التأهل إذا كانت الزوجة تقيم وتظعن مع زوجها ؛ وذلك لأنه يتبعها في حكم الإقامة إذا كانت مقيمة ؛ فإذا كانت هي مسافرةً انقطع تأثيرها في حال زوجها .
قال ابن القيم : ( .. والمسافر إذا تزوج في طريقه لم يثبت لـه حكم الإقامة بمجرد التزوج ، ما لم يزمع الإقامة وقطع السفر ) ([106]).
كما أن التأهل لا يُعتبر مؤثراً إذا كان لا يأوي إلى بيت الزوجية المعتاد ؛ كأن يكون نزوله عند والدها مدة يسيرة ، وله مكان إقامة آخر .
وقد سأل ابنُ القاسم مالكاً رحمه الله عن : ( .. الرجل المسافر يمر بقرية من قراه في سفر ، وهو لا يريد أن يقيم بقريته تلك إلا يومه وليلته ، وفيها عبيده وبقره وجواريه ، وليس له بـها أهل ولا ولد ؟ قال : يقصر الصلاة ، إلا أن يكون .. فيها أهله وولده ؛ فإن كان فيها أهله وولده أتم الصلاة . قلت : أرأيت إن كانت هذه القرية التي فيها أهله وولده مر بـها في سفره ، وقد هلك أهله وبقي فيها ولده أيتم الصلاة أم يقصر ؟ قال : يقصر ) ([107]) .
ومَنْ كان عزباً لا زوجة لـه ، ولم ينو القرار في مكان فدار إقامته هي مكان إقامة والديه ([108]) ؛ كما هي عادة أكثر العُزَّاب .
وإذا نزل المسافر في دار أبيه أو ابنه فلا يُعتبر مقيماً بمجرد ذلك ([109]) .
السبب الخامس : المتاع والأثاث .
بنقله أو شرائه من مكان نزوله ، وهذا وصف مساعدٌ مؤكدٌ ، لا يستقل وجودُه بوجود الإقامة ، ولا انتفاؤه بنفيها . ابن الهمام (5/106) مهم
وقد قرر أحمد بأن الملاّح الذي معه أهله وتنوره لا يقصر ([110]).
السبب السادس : الارتباط بمصالح البلد الذي نزله .
وهي في الوقت الحاضر علامة من علامات الإقامة والطمأنـينة ؛ كفتح العمل التجاري ، وتسجيل الأولاد في المدارس أو توظيفهم ، ونحو ذلك .
فالناس إذا سُئِلوا عن شخص هل هو مقيم أو لا ؟ كانت إجابتهم بذكر هذه الارتباطات أو بعضها .
وهذا عند أهل العرف وصف مساعد فقط .
دقائق أولي النهى (3/469) ( و ) إن حلف ( لا يسكن الدار ) أو البلد ( فدخلها أو كان فيها غير ساكن ) كالزائر ( فدام جلوسه لم يحنث ) قال الشيخ تقي الدين : الزيارة ليست بسكنى اتفاقا ولو طالت مدتها
كشاف القناع (6/267) أن الانتقال لا يكون إلا بالأهل والمال ) ولهذا يقال : فلان ساكن في البلد الفلاني وهو غائب عنه
ولو خرج ثم عاد إليها لنحو عيادة أو زيارة لم يحنث ما دام يطلق عليه زائر أو عائد عرفا وإلا حنث
رد المحتار (3/752)قال في الخلاصة وفي الأصل لو دخل عليه زائرا أو ضيفا فأقام فيه يوما أو يومين لا يحنث والمساكنة بالاستقرار والدوام وذلك بأهله ومتاعه
حكم الحلف على سكنى البيت : 16 - لو حلف لا يسكن بيتا , ولا نية له , فسكن بيتا من شعر أو فسطاطا أو خيمة , لم يحنث إن كان من أهل الأمصار , وحنث إن كان من أهل البادية ; لأن البيت اسم لموضع يبات فيه , واليمين تتقيد بما عرف من مقصود الحالف , وأهل البادية يسكنون البيوت المتخذة من الشعر , فإذا كان الحالف بدويا يحنث , بخلاف ما إذا كان من أهل الأمصار .
تطبيقات عرفية في الإقامة والسفر
أمثلة على الإقامة أو بقاء حكمها :
1. من ملك أو استأجر بيت المثل ، ونوى النـزول مدة طويلة عرفاً بنية مستقرة ؛ كسنة مثلاً ، ويقوى وصف إقامته إذا كان متأهلاً .
2. الطالب المغترب داخل البلاد أو خارجها الذي يقصد الإقامة مدة طويلة في سكن الجامعة ، أو سكن خاص .
3. إذا كان الطالب المغترب قبل اغترابه يسكن عند والده ـــ كالعزب ومن يسكن مع والده متأهلاً ، وكان لـه فـي بيت والده ما يؤويه عادة ـــ فيُعتبر نزوله عند والده فترة الإجازة الصيفية من الإقامة ، بل قد يُعتبر مستوطناً ؛ لأنه بسكناه مكان دراسته لم يرفض سكنى وطنه الأول .
4. من نزل بيت المثل وله فيه زوجة مقيمة فهو فيه مقيم ، وإن كان نزوله أياماً معدودات ، وإذا تخلف وصف التأهل لم يُعتبر مقيماً بمجرد النـزول فلا بد من نية مدة الإقامة .
5. الحجاج المكيون في المشاعر يُعتبرون في حكم الإقامة ؛ لكون المشاعر قد صارت جزءاً من مكة ، أو من توابعها ؛ فإن الأحياء التي امتدت شرقاً بمحاذاة المشاعر قد قاربت عرفة ؛ فالأقرب عدم ترخصهم ؛ فشأنـهم في ذلك هو شأن المزارعين الذين يخرجون إلى مزارعهم في ضواحي
البلد ، ويحتاجون مع ذلك إلى مبيت وتزود ، ولكن هؤلاء المزارعين
لا يُعتبرون مسافرين عرفاً لكون مزارعهم من توابع البلد ، وأن ما يقطعونه من المسافة لا يُعتبر أدنـى مسافة السفر العرفية ([111]) ، وكذلك الحال في المكيين من الحجاج عند خروجهم إلى عرفة .
وغاية الأمر أن يكون الحكم العرفي مشكوكاً فيه عند الحجاج المكيين ؛ فعليهم استصحاب حكم الإقامة ؛ فلا رخصة لهم .
وقد يُعتبر حجاج الطائف وجدة مثلاً من المسافرين ؛ لأن المشاعر ليست مما يتبع بلدانـهم ؛ كما أنـهم يقطعون مسافة غير قصيرة ، ويبيتون ، وقد يتزودون ؛ فالأظهر في حال أولئك أنـهم مسافرون .
6. النـزهة في المواضع القريبة من بلد الإقامة ـــ كعشرين كيلاً أو ثلاثين ،
ونحو ذلك ـــ تُعتبر من أحوال الإقامة ، لاسيما إذا لم يكن مبيت وتزود .
7. هل يُعتبر النازلون في المصايف أو في أريافهم سنوياً بصورة منتظمة
أو غالبة مدة طويلة متصلة ؛ كالنـزول وقت الإجازات شهرين
أو ثلاثة في بيوت مؤثثة مملوكة أو مستأجرة بعقود طويلة ، حتى صار الناس يعرفون البلد والمنـزل ، هل هم مقيمون ؟ الأظهر عرفاً أنـهم كذلك ، بل إنـهم أقرب إلى الاستيطان ؛ فهم كالرعاة والبدو الذين ينتجعون الكلأ ويتتبعون المراعي ([112]) .
وذلك بخلاف من لـه فيها عادة سنوية ولكن مدتـها قليلة ؛ كخمسة عشر يوماً أو عشرين ، أو في منـزل غير ثابت .
أمثلة على السفر أو بقاء حكمه :
1. من قصد مسافة مائة كيل في غير بنيان فهو مسافر وإن رجع من يومه ، دون مبيت وتزود .
2. أن حجاج الآفاق ممن تلبسوا بوصف السفر ، ونزلوا لغرض الحج يُعتبرون في المشاعر من المسافرين ؛ وذلك من أجل قِصَر المدة .
3. من كانت وظيفته أو دراسته في بلد ولم يتخذ فيها أهلاً ، ولا سكناً ، ويتردد يومياً على محل إقامته ؛ فهو في مكان دراسته أو عمله مسافر .
4. من نزل قرب الحرم المكي أو المدني مثلاً ، أياماً معدودة من السنة هي أيام المواسم ؛ كخمسة عشر يوماً أو عشرين ؛ فالناس لا يسمونه
مقيماً ، حتى وإن كان معه أهله في حَلِّه وتَرحاله .
وأما إذا كان يملك المنـزل مؤثثاً ويطيل فيه المكث فهو كصاحب المصيف .
5. من نزل بلداً لزيارة أو لإدارة تجارة مؤقتة ، أو مقاولة ، أو مرافعة
أو علاج ، ونحو ذلك ، ولم يتخذ سكن المثل في مدته ؛ كالحال التي تعرف عن المقيم عادة ، وإنما نزل الفنادق أو غيرها من الدور بعقد يومي أو أسبوعي أو شهري ، وهو يقول : أخرج في عشرين يوماً أو نحوها ؛ كلما انقضت هذه المدة نظر إلى مثلها ؛ فهذا عند الناس مسافر وإن
بقي على حاله سنين ؛ وذلك بسبب اضطراب نيته ، وقِصَرِ المدة التي قصدها للإقامة .
أما إن كان فراغ هذه الحاجة لا يكون في غالب الظن إلا بعد مدة
طويلة ؛ كستة أشهر أو سنة ، ثم هو لا يحتمل نجاحها في مدة قليلة كشهر مثلاً ؛ كالمغتربين من الطلبة والموظفين ؛ فهؤلاء في حكم المقيمين عرفاً ؛ وذلك بسبب النية المستقرة للمكث مدة طويلة .
6. إذا سافر الحضري ، ثم نزل خيمة في صحراء من الأرض لأي غرض فإنه يُعتبر من المسافرين مهما طال مكثه ، إذا لم يؤبد إقامته ؛ وذلك لعدم تحقق مكان السكن ونوعه المعروفين لإقامة مثله ، وهذا السبب العرفي هو مذهب أبي حنفية والشافعي في قوله الآخر ورجحه الغزالي ، وهو مذهب أحمد في الرواية الثانية ورجحها بعض أصحابه ؛ كما تقدم ذلك في مبحث "صلاحية المكان للإقامة" في صحيفة (48) .
7. نزول الجنود والموظفين غير متأهلين في نقاط التفتيش ومنافذ الحدود على الطرق البرية ، في صحراء من الأرض ، أو في جزائر البحر ، أو في عرضه ، أو على شواطئه ، أو في مراكز التدريب الصحراوية ؛ بعيداً عن المدن والقرى ، وفي نوبات في السنة تصل إلى شهرين أو ثلاثة ،
وفي مساكن متنقلة مؤقتة ، لا يُعتبر هذا النـزول عند أهل العرف
من الإقامة ؛ فمن سافر ثم نزل على هذه الصفة فهو مسافر مهما طال مكثه ؛ وذلك لعدم صلاحية المكان .
وعن أحمد أنه لا يلزمه ترك الرخصة إلا في بلد تُقام فيه الجمعة .
تنبيهات مهمة حول هذه الأسباب والفروع :
1. أن الوقائع العرفية متجددة :
إن بعض هذه الأسباب والتطبيقات عرضة لتغير الأعراف ، وما ذُكر من ذلك فهو رأي كاتبه ، ومن سألهم من الناس ، ولم أوردها إلا للتقريب
فقط ؛ فقد يَرِدُ التمثيل بعددٍ أو حالٍ من أحوال السفر والإقامة ، ولا يعني ذلك أن ما هو أقل أو أكثر منها بقليل أنه لا يُعتبر كذلك ، وإنما اُختير المثال لوضوحه ، أو لأن أكثر أهل العرف يقولون به .
وإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي للناظر أن ينشغل بـهذه الأمثلة كثيراً ما دام مسلماً بسلطان العرف هنا .
وإذا عرضت له مسألة فله الاجتهاد ، أو يتحرى العرف عند أهله بنفسه .
2. أن الإقامة والسفر معنيان :
إن الإقامة والسفر إنما هما معنيان لا يُحَدَّان بما تُحدُّ به الأجسام ؛ كالذرع أو الوزن أو الكيل ؛ فلا يمكن فيهما وضع حد واحد أو اثنين ينتظم جميع الأحوال والأزمنة والأمكنة لا يختلف باختلاف شيء من ذلك ؛ فكما أن السفر هو مجموع أعمال وأحوال يصير بـها المرء مسافراً فإن الإقامة أيضاً مجموع أعمال وأحوال يصير بـها المرء مقيماً .
فإذا اجتمعت أسباب وشروط الإقامة فقد تحقق في النازل أعلى درجات الإقامة والطمأنينة ، وإذا اجتمع لـه جميع أسباب السفر المذكورة ـــ ولم يقع لـه أي سبب من أسباب الإقامة ـــ فقد اجتمع لـه أعلى درجات وصف السفر ، وبين هاتين الحالين مراتب عديدة .
فالعزوبة مثلاً لا تأثير لها عند أهل العرف إذا كان المسافر قد نزل في سكن المثل ومكانه ومدته ؛ كحال العمال المغتربين الذي لم يتأهلوا ، حيث يعتبرهم الناسُ مقيمين .
والمدة ـــ أيضاً ـــ لا تأثير لها إذا كان للنازل زوجة مقيمة في سكن المثل في بلد النـزول فيُعتبر مقيماً ، ولو كان نزوله يوماً واحداً .
فلعلك لحظت من مثالي التأهل والمدة أنه لا يُشترط من أجل قيام وصف الإقامة اجتماع هذه الأسباب والشروط كلها ؛ كما أن كل وصف
لا يستقل بإثبات الإقامة أو السفر وحده دون سبب آخر .
3. أن الإقامة من الألفاظ التي يختلف معناها عند الجمع والتفريق :
قد يقول قائل : لا تمكن معرفة العرف في الإقامة ؛ فنحن نصف النازل ساعة من نـهار بأنه قد أقام في بلد كذا ؛ كما أننا نسمي المستوطن
مقيماً ؛ فلا يمكن أن نضبط هذه المسألة !؟
فالجواب : أنه ينبغي في ذلك مراعاة معنى لفظ الإقامة عند إفراده
أو ذكره مع غيره ؛ وذلك لأن اصطلاحات الاستيطان والإقامة والنـزول من الألفاظ التي قد تختلف معانيها عند الجمع والتفريق ؛ فقد يُعَبَّر ببعضها عن الآخر عند إفراد كل لفظ ، ولكن عند جمعها يصبح لكل واحد منها حده الخاص به ، والفرق بينها يظهر عند مقارنة لفظ النـزول بلفظ الإقامة في شيء من الأمثلة ؛ فإذا كان سؤالك لأهل العرف عن حال معينة بقولك : هل هو مقيم أو نازل وجدت جواباً لسؤالك ، ورأيتهم ـــ حينئذ ـــ يفرقون بين الحالين ، ولكنك حين تسأل عن كل واحد من اللفظين منفرداً فقد يُعَبَّر بأحدهما عن الآخر ، وتأمل هذا فيما يقوله أهل العرف عن ثلاثة أشخاص :
الأول : متأهل في بيت مستأجر يزمع البقاء سنتين من أجل عمله أو دراسته مثلاً بنية مستقرة وحال مطمئنة . والثاني : متأهل في بيت مستأجر أو مملوك لا يرغب ترك بلده إلا بإكراه ونحوه . والثالث : من نزل مدينة للإشراف على تجاراته مدة شهر مثلاً دون تأهل أو سكن معلوم .
فهم يسمون الأول مقيماً والثاني مستوطناً والثالث نازلاً ، ولا يقبلون عند جمع هذه المصطلحات أن يُـبدل شيء منها بالآخر .
4. أن أكثر المسائل العرفية في السفر والإقامة ظاهرة جلية :
إن أغلب أحوال الناس في الإقامة واضحة بينة بالنظر الظاهر عند أهل العرف لا تحتاج إلى حفظ مثل هذه الأسباب ؛ وذلك كحال المستوطنين في بلدانـهم ، وحال المغتربين مدة طويلة من الموظفين والمدرسين والطلبة ؛ فبمجرد نظرة عجلى لهؤلاء يعطيهم الناظر حكم الإقامة دون تردد ، ودون تكلف التعرف على أسباب الإقامة المذكورة هنا .
ومثل أحوال الإقامة في الوضوح أكثر أحوال السفر ، حيث إن حال الشخوص أثناء الطريق ظاهرة بينة ؛ كما أن أحوال النـزول التابعة للسفر واضحة كذلك .
ولكن يبقى بين الحالين مسائل قليلة مشكلة نسبة إلى سائر أحوال الناس وأوقاتـهم ؛ فكانت هذه الأسباب المذكورة في هذا البحث محاولة لضبط هذا القليل المشكل فقط .
وقد جعلت هذا تنبيهاً حتى لا يقول قائل : إن عامة الناس لا يستطيعون تطبيق بعض هذه الأسباب ؛ فكيف يُناط بـها تكليف ؟
فيقال لـه : إن هذا غير صحيح ؛ لأن غالب هذه المسائل واقع تحت مدارك الناس وقدرتـهم .
5. العمل عند المسائل العرفية المشكلة :
لا تخلو الإقامة العرفية من أحوال ثلاث :
الأولى : حال عليا في ثبوت وصف الإقامة ، يتفق أهل العرف أو أكثرهم على وجود هذا الوصف ؛ كحال المستوطنين ، والمقيمين من أجل وظائفهم أو دراستهم في مكان المثل وسكنه ومدته الطويلة بنية مستقرة .
والثانية : حال عليا في انتفائه ، يتفق أهل العرف أو أكثرهم على نفي وصف الإقامة ؛ كنـزول المسافر يومين أو ثلاثة لعلاجٍ أو إنجازِ معاملة .
والثالثة : حال مشكلة بسبب تجاذب وصفي السفر والإقامة ؛ كذهاب المرء منتدباً فترة شهرين مثلاً ، وقد سكن شقة مفروشة بعقد شهري
أو بمدة مكثه المذكورة ، دون تأهل ؛ فهذه تتنازعها الحالان ، وقد تثير عند الناس حيرة وتردداً .
فهذه أحوال ثلاث لا رابع لها ؛ فيقال عنها : إن ما حكم أهل العرف بإثباته أو نفيه أخذنا فيها بحكمهم نفياً أو إثباتاً ، وبنينا عليه حكم الرخصة
أو العزيمة ؛ فهذا حكم الحالين الأُوْلَيَيْن .
وأما الحال الثالثة ، وهي المشكلة فلها مخرجان فقهيان :
المخرج الأول : استصحاب الأصل الأول ، وهو انشغال ذمة العبد بالصلاة تامة ووجوب الصوم في نـهار رمضان ؛ فمادام شاكاً فعليه إبراء ذمته من ذلك ؛ فيُمنع من الترخص في حال وجود الشك .
المخرج الثاني : أن يستصحب الحال الأخيرة من سفر أو إقامة ؛ فإن كان مقيماً وحصل التردد في وصف السفر بنى على أصل الإقامة . وذلك كمن كان في دار إقامته وخرج على سيارة لزيارة قريب لـه فـي قرية مجاورة تبعد أربعين كِيلاً في طريق معبد دون حمل زاد أو مزاد ، وكون ذهابه ورجوعه فـي يوم واحد ؛ فتردد هل يُعتبر مسافراً أو لا ؟
فهذا وإن كان شاخصاً مفارقاً لبلده فيما لا يشبه هيئة المقيمين إلا أن
قِصَرَ المسافة وقلة الوقت منعت قيام وصف السفر ؛ فلذلك يَعتبرُ نفسه مقيماً استصحاباً لحكم الحال السابقة ؛ فهذا مقيم حكماً ([113]).
وأما استصحاب أصل السفر فكمن سافر مسافة تزيد على ألف كيل من الدمام إلى مكة مثلاً ؛ فهذا مسافر قطعاً ، ولكن أشكل عليه نزوله في مكة مدة شهر في فندق هل يُعتبر إقامة أو لا ؟ ومثل ذلك حضري نزل ثلاثة أشهر في صحراء من الأرض ، أو في مدينة ، ولكن في غير سكن معلوم .
فهذا وأمثاله وإن كانت حاله لا تشابه هيئة المسافرين بتركه النقلة ـــ التي هي أبرز أوصاف السفر ـــ إلا أن الناس لا يسمونه مقيماً أيضاً ؛ وذلك لعدم اكتمال الأسباب التي يقوم بـها وصف الإقامة ؛ فهو إذاً مستصحبٌ لحكم حاله السابقة وهي السفر ؛ فهذا مسافر حكماً .
قال الحموي الحنفي : ( .. مقتضى قولهم الأصل بقاء ما كان على ما كان .. أن يستمر حكم السفر مع الشك في الوصول إلى بلده .. ) ([114]) .
وهذا المخرج ـــ وهو استصحاب حال السفر وأحكامه عند الشك في حصول الإقامة ـــ هو أرجح القولين ، وهو وجه عند الشافعية ، ذكر ذلك النووي ، وعلَّل هذا الوجه بقوله : ( .. لأنه شاك في زوال سبب الرخصة ، والأصل عدمه ) اهـ ([115]) .
و يدل على صحة قاعدته قوله فيما جاء فـي الصحيحين لمن شك في الحدث : "لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً" . فلم يجعل الشك مؤثراً في حكم الطهارة السابقة . وهذا الحديث هو أصل قاعدة اطراح الشك العارض ، واستصحاب حكم الحال السابقة .
لذلك لم يأمر الله عز وجل بإتمام الصلاة إلا بعد حصول الإقامة ؛ فقال جل شأنه : "وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوْا مِنَ الصَّلاةِ " ثم قال : "فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيْمُواْ الصَّلاةَ " الآية .
فإذا نزل المسافرُ في غير مكان المثل ، أو دون سكن ، أو في مدة قصيرة ، أو طويلة بلا نية مستقرة فلا يُعدُّ مقيماً ؛ فهو إذاً باق على حكم سفره .
والاحتياط في مسائل الشك هو من تمام الديانة ؛ فإذا تردد المرء هل يُعتبر مقيماً أو مسافراً ؟ فالأحوط لـه هو عدم الترخص بقصر ولا فطر . هذا الاحتياط إنما هو في مسائل الشك التي يتساوى فيه حالا السفر والإقامة ، أما الشك اليسير المعارض ليقين أو غلبة ظن فلا تعويل عليه ([116]) .
فقه ما جاء في بعض الأخبار من الترخص مدداً طويلة
تقدم في عرض الأقوال ذكر بعض الأخبار التي ترخص فيها النبي والصحابة برخص السفر مدداً طويلة ، وقد كانت من أقوى أسباب خلاف العلماء في هذه المسألة ، وبمعرفة فقهها لن يبقى فيها إشكال إن شاء الله .
فعند تأمل هذه الأخبار تجد أنـها لا تخرج عن أحوال خمس كلها تُعتبر من السفر أو ملحقة به حكماً ؛ لعدم تحقق الإقامة بوصفها العرفـي :
الحال الأولى : عـدم صلاحية المكان للإقامة عادةً ، والإقامة عند أهل العرف ـــ مهما كانت مدتـها ـــ لا تصح إلا في مكانـها المعتبر ، وعلى هذا الحكم العرفي قولُ أبي حنيفة والقول الآخر لكل من الشافعي وأحمد .
والحال الثانية : عدم وجود نية الإقامة المستقرة التي لا اضطراب فيها ولا تردد . ونية الإقامة المستقرة شرط معتبر عند العلماء لحصول الإقامة ؛ لذلك حكم الحنفية والحنابلة في الرواية الثانية عن أحمد بعدم تأثير إرادة مدة الإقامة في المذهبين ولو نوى إقامتها ؛ وذلك إذا نزل المسافر لحاجة ، وكان يحتمل قضاء حاجته قبل المدة ؛ فاعتبروه في حكم السفر ؛ كما تقدم بيانه .
وهذا الاضطراب يكثر جداً في أحوال نزول المسافرين قديـماً وحديثاً ، ومَنْ هذه حاله فهو مسافر ، أو هو مستصحب لحكم السفر .
ومن أمثلة الاضطراب هذه حالُ الجهاد ، حيث لا توجد نية مستقرة عند المجاهدين للإقامة ، سواء كان ذلك في الطريق أو في مكان المعركة ؛ فلا يُعتبر النازل في هذه الحال مقيماً عند الناس ، مهما طال مكثه ، وعلى ذلك مذاهبُ كثير من أهل العلم ؛ كما تقدم بيانه .
ومن أهمل هذه الحال الثانية أشكلت عليه تلك الأخبار ؛ لظنه أن الصحابة الذين جاء عنهم الترخص قد نووا هذه المدد الطويلة عند نزولهم ، وأنـهم في حال من الطمأنينة والاستقرار ؛ فبنى على هذا الظن أنـهم مستقرون كاستقرار المقيمين ؛ فرأى أنـها تصلح دليلاً لقول من اعتبر الاستيطان حداً ، أو لقول من جعل الحد إرادة الوقت أو إنجاز الغرض .
بيد أن النازلين في هذه الأخبار كانوا في اضطراب وتردد وانزعاج ؛ فلم تحصل لهم الإقامة في أبرز سماتـها عند أهل العلم ، وكذلك عند الناس .
والحال الثالثة : قِصَر مدة النـزول في بعض هذه الأخبار ؛ كأربعة أيام وتسعة عشر ، مما لا يُعتبر معها النازل مقيماً عرفاً ، ولو بنية مستقرة .
والحال الرابعة : عدم وجود مسكن المثل والإقامة لا تُتَصور إلا به ؛ فمن نزل بلداً ولم يتخذ مسكنه المعتبر عادة فإن الناس لا يسمونه مقيماً .
والحال الخامسة : أخبار لم يوجد فيها ما يُثْبِتُ وصف الإقامة العرفي ، ولا ما ينفيه ، والأصل في هذه الحال هو بقاء السفر أو بقاءُ حكمِه حتى تَثْـبُتَ الإقامة بأسبابـها العُرفية ، وهذه قاعدة مهمة لفهم مثل هذا النوع من الأخبار .
وهذا عرض للأخبار التي وقع فيها الترخص :
فمن ذلك : نزول النبي في تبوك عشرين يوماً ، وفي مكة عام الفتح تسعة عشر يوماً ؛ فقد كان نزوله في مدة يسيرة بلا نية مستقرة ؛ كما أنه كان في حال حرب ، ولم يوجد في هذه الحال مسكن المثل .
قال الإمام ابن تيمية : ( .. وقد أقام المهاجرون مع النبي عام الفتح قريباً من عشرين يوماً بمكة ، ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بـها عن السفر ) ([117]) .
وقال ابن القيم عن إقامة النبي في تبوك : ( .. وهذه الإقامة في حال السفر لا تَخْرُجُ عن حكم السفر ، سواء طالت أو قصرت ، إذا كان غير مستوطن ، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع ) ([118]) .
* * * * *
ومن هذه الأخبار المشكلة ترخص بعض الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم في حال الحرب ؛ كأثر أنس في ترخصه في نيسابور ،
وفي رامَهُرْمُز ، وابن عمر في أذربيجان ، وعبدالرحمن بن سمرة في كابل ، وسعد بن مالك في عمَّان ، وأبي جمرة في خراسان .
فهذه غزوات الصحابة ، وتلك مواطئ أقدامهم مجاهدين فاتحين .
فأحوال الحرب هذه ليست ظرفاً للإقامة المعتبرة عرفاً ، والمجاهدون فيها بين خوفٍ ، أو حصارٍ عسكري ، أو فتحٍ للبلدان ، أو تجهيزٍ للجيوش ، أو انتظارٍ للسرايا ، أو نـزولٍ في مـدن الثغور لترقُبِ مددٍ أو إذنٍ بقتال .
وهذه الأحوال لا يُحْضِرُ المجاهدون معهم فيها أهلاً ولا مالاً ، ولا يتخذون منـزلاً ولا مستقراً ؛ فمن ذا يقول : إن حقيقة شرعيةً أو لغوية أو عرفية تقضي أن مثل هذه الحال إقامة ؟
وقد يُخَرَّج ترخصهم في تلك الأحوال على القاعدة التي ذكرها الحنفية والمالكية ، وهي أن النـزول في دار الحرب للعسكر لا يُعتبر إقامة ، وإن جاوزت المدة المعتبرة في المذهبين ، وهذه الغزوات لم تكن إلا في دار حرب .
ثم إن النـزول في أكثر هذه الأحوال لا يتوجه إلى مدد طويلة غالباً ؛ فالمجاهدون وإن كانوا عادة ينتظرون المدد أو الإذن بالقتال أو ذوبان الثلج أو فك الحصار ، ونحو ذلك من أحوال الجهاد إلا أن هذه الأحوال لا تخلو من ترقب لزوالها في وقت يسير عرفاً ؛ كعشرين يوماً أو ثلاثين أو أربعين ؛ كما أن المجاهد لا يخلو أيضاً من تلمس أنواع الحيل والمخارج من مثل هذه الأحوال ، وطلب هذه المخارج لا يجعل قصده للمدة عند النـزول يتوجه إلى وقت طويل ، ولكن قد لا تفلح حيلته فيسعى لأخرى ، وهكذا حتى يتمادى به الأمر إلى مثل هذه المدة الطويلة ؛ كما أن كل فرد من المجاهدين في حال تأهب أن يُرْسَل في سرية استطلاع أو مدد أو حراسة أو بريد ؛ فليست هذه حال المقيم المطمئن ، بل هي حال المسافر المضطرب .
فمادام أن هذه هي أحوال الجهاد فلم يتحقق قصد هذه المدد الطويلة ، وغاية ما في الأمر أن الصحابة أخبروا ـــ بعد قفولهم ـــ أنـهم مكثوها ؛ فلا تعتبر هذه الأخبارُ معارضةً للتعليل بالوصف العرفـي .
وحتى لو أثبت مثبتٌ في بعض الأخبار أنـهم قصدوا المدة الطويلة عرفاً فلا بد من تحقق بقية أوصاف الإقامة ؛ كصلاحية المكان والمسكن عادة .
* * * * *
ومن هذه الأخبار نزوله في حجة الوداع ؛ فقد دلت الأحوال أن إقامته ليست إقامة عرفية ؛ فلم يكن لـه بيتٌ يعرفه الناس ؛ كالذي يُعرف
عن المقيم ، ولو سألت الناس : هل هو مقيم بمكة ؟ أو أنـها صارت دار إقامة لـه ؟ لكان الجواب بالنفي .
وحين سأله أسامة بن زيد قائلا : أتنـزل في دارك بمكة ؟ قال : "وهل ترك عقيل من رباع أو دور" ؟ ([119]) .
قال ابن تيمية : ( وأما في حجة الوداع ؛ فقد كان النبي آمناً ، لكنه لم يكن نازلاً بمكة ، وإنما كان نازلاً بالأبطح خارج مكة هو وأصحابـه ؛ فلم يكونوا نازلين بدار إقامة ، ولا بمكان فيه الزاد والمزاد ..) ([120]) اهـ .
فقد كان نزول النبي ملحقاً بالسفر ؛ وذلك لقِصَر المدة ، ولعدم السكن المعتاد لمثله ، وكون المكان ليس مكان إقامة معتبر ؛ فمَنْ كانت هذه حاله لا يُسمى مقيماً ؛ فالنازل فيها باقٍ على حكم سفره السابق .
* * * * *
وثمة أخبارٌ دلت القرائن على عدم تحقق الإقامة بمعناها عند أهل العرف :
فمن ذلك إقامة مسروق بن الأجدع رحمه الله بالسلسلة سنتين يقصر الصلاة ؛ فليس فيها ما يدل على أنـه اجتمع لمسروق ما يُسمى عند أهل العرف إقامة .
بل ظهرت قرائن تدل على عدم توفر أسباب الإقامة العرفية ؛ فلم تثبت صلاحية المكان ، ولا إرادة المدة الطويلة ، ولم يكن في نزوله هذا متأهلاً :
فأما المكان : فقد بحثت عن هذه البقعة التي نُصب فيها مسروقُ والياً والمسماة "السلسلة" في مظانـها في مشهور كتب معاجم البلدان والتاريخ واللغة فلم أجد لها ذكراً .
ثم وجدت في "المُغْرِب" ما يدل على أنـها ليست مدينة أو قرية ، حيث قال عنها المصنف بعد ذكر ولاية مسروق عليها : ( هي التي تُمد على نـهر أو على طريق يُحبس بـها السفن أو السابلة ؛ ليؤخذ منهم العشور ، وتسمى المأصر..) ([121]).
وقال الجصاص في "المأصر" : ( إنه حبل يُمد على طريق أو نـهر تحبس به المارة ، ويعطفون به عن النفوذ ؛ ليؤخذ منهم العشور والمكس ) ([122]) اهـ .
وما جاء في تعريف صاحب "المغرب" بقوله : ( هي التي تُمد ) يدل على أن السلسة ليست مدينة أو قرية ، وإنما هي حاجز يمنع المسافرين من العبور إلا بعد أداء الحقوق ، حيث كانت تؤخذ العشور من النصارى والزكوات من المسلمين ، وقد جُعلت ولاية هذا العمل لمسروق .
فإذا كانت في صحراءَ أو شاطئٍ بعيد عن البنيان ؛ كما هو الظاهر
ـــ حيث لا تُنصب مثل هذه السلاسل والحواجز في المدن ـــ فلا يُعتبر النازل فيها أنه في دار إقامة ؛ فقد تخلف هنا شرط صلاحية المكان للإقامة عرفاً وعادة ؛ فلا يُعتبر مقيماً وإن طال مكثه ؛ كما هو مذهب الحنفية والشافعية في القول الآخر والحنابلة في الرواية الثانية .
وأما المدة الطويلة : فلم يظهر هنا من حاله أنه نواها عند النـزول ، وغاية ما هنالك أنه مَكَثَ هذه المدة يترخص دون دلالة على قصدها عند قدومه ؛ فلعله ترخص لكونه يترقب رجوعه إلى أهله في مدة قصيرة عرفاً .
ومما يؤكد احتمال اضطراب حاله أن عمله هذا لم يكن باختياره ، حيث أكرهه عليه واليه زياد ([123]) ؛ فلعله كان ينتظر أمر إعفائه من عمله مع كل مسافر أو بريد ؛ فلم يتخذ لأجل ذلك أسباب الإقامة المعتادة ؛ فتكون نيته في المكث مضطربة مترددة ، حتى اجتمعت لـه هذه المدة ؛ فإذا كانت هذه حاله في الاضطراب فإن الناس لا يعتبرونه مقيماً .
وأما التأهل : فإن الذهبي ذكر ما يدل على عدم تأهله فقد أسند إلى أبي الضحى قال : غاب مسروقُ عاملاً على السلسلة سنتين ، ثم قدم فنظر أهلُه في خرجه فأصابوا فأسا ؛ فقالوا : غبت ثم جئتنا بفأس بلا عود ! قال : إنا لله ! استعرناها نسينا نردها ([124]) . وهذا يدل على عدم تأهله هناك .
وفي هذا الخبر أيضاً ما يدل على زهده وتخففه وتعففه في ولايته رحمه الله تعالى رحمة واسعة .
وأما المسكن : فالغالب في حال من نزل مكاناً غير صالح للإقامة أنه لا يتخذ سكن المثل ؛ كبيوت الحجر والمدر ، وإنما يسكن القباب أو الخيام .
فمَنْ لم يُردِ الإقامة مدة طويلة بنية مستقرة ولم يتخذ مكان المثل ولا سكنه متأهلاً فلا يُعتبر عند الناس مقيماً ، ولا عند كثير من أهل العلم .
* * * * *
ومِنْ هذه الأخبار ما لم يتحقق فيها وجود وصف الإقامة ، والأصول تقضي في هذه الحال ببقاء وصف السفر ، حتى يُثْبِتَ المخالف وجود أسباب الإقامة المعلومة عند الناس .
ومِنْ أمثلة هذه الحال ما جاء عن أبـي المنهال الذي قال لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما : إنـي أقيم بالمدينة حولاً لا أشد على سير ؟ فقال : صل ركعتين !
فليس فيه ما يدل على حال أبي المنهال ، وهل هو متلبس بوصف الإقامة العرفـي أو لا ؟ فقد يكون من التجار الذين ينـزلون البلد لبيع بضاعتهم ، وشراء بضاعة المدينة لنقلها إلى بلده ؛ كحال كثير من التجار في القديـم والحديث ، حيث إن بعضهم يقصد بلداً بعيداً للتجارة ؛ فينـزله لبيع بضاعته أو انتظار بضاعة قادمة ، وهو يتوقع الخروج كل عشرة أيام أو عشرين أو ثلاثين ، ولكن قد لا يحصل لـه مقصوده في مثل هذا الوقت القريب ؛ فيتمادى به الأمر إلى مدة مثلها حتى تجتمع لـه مدة كثيرة ، دون أن يتأهل أو يتخذ سكن المثل ومتاعه ؛ لأنه يرجو الخروج كل حين في حال من الاضطراب ؛ فمن كانت هذه حاله لا يعتبره الناس مقيماً .
وتأمل هذا في عبارته في سؤاله : (لا أشد على سير ) ؛ فمَنْ يقول هذا لا يُتصور مِن حاله أنه مقيم في بيت مملوك أو مستأجر في بعض أحياء المدينة ينوي المكث فيه سنين ؛ فلو كان على هذه الحال المطمئنة لم يحتج أن يقول هذه العبارة ، وإنما حاله حالُ مضطرب متردد ؛ فربما كان لا يأوي إلى سكن معتاد ؛ فرخص لـه ابن عباس رضي الله عنهما ؛ لأنه رآه غير مقيم .
ولعل حال أبي المنهال هذه كحال مورِّق حين سأل ابن عمر فقال : إني تاجر أتنقل في قرى الأهواز ؛ فأقيم في القرية الشهر وأكثر ، قال : تنوي الإقامة ؟ قلت : لا ، قال : لا أراك إلا مسافراً ، صل صلاة مسافر! ([125]) .
وليس لأحد أن يقول : ما الدليل على وجود هذا التردد والاضطراب في مثل هذه الأحوال ، ليس لـه ذلك لأن الدليل إنما يُطلب ممن يدعي وجود الطمأنينة المعتادة ؛ وذلك لأن الأصل هو بقاء السفر ، بل إن الظاهر من أحوال المجاهدين وأصحاب الأعمال الطارئة هو عدم وجود أسباب الاستقرار والطمأنينة التي يصير بـها المسافر مقيماً .
وإذا نظرت في أحوال المغتربين من الطلبة والموظفين لم ترَ أنـهم قد تلبسوا بشيء من أسباب بقاء السفر المذكورة في هذه الأخبار .
تحرير كلام بعض أهل العلم في هذه المسألة
اُشتُهِر عند بعض طلبة العلم أن قول ابن تيمية وابن القيم وغيرهما في هذه المسألة هو أن علة الترخص هي إرادة النازل وقتاً محدداً أو إنجاز غرضٍ
معين ؛ كالقول الخامس ، وفي هذا المبحث أذكر ما وقفت عليه من أقوالهم :
كلام ابن تيمية([126]) :
لم يظهر أن شيخ الإسلام ابن تيمية ـــ فيما وقفت عليه من كلامه ـــ قد قال بـهذا القول ، حيث لم يقرر ذلك في تخريج المناط ولا في تحقيقه :
ففي الاستنباط وتخريج المناط : لم يقل : إن علة الترخص هي كون إقامة النبي مقيدة بعمل ينتهي أو زمن ينتهي ، بل كان مدار كلامه على تحقق مطلق الوصف سفراً أو إقامة ؛ كما سيأتـي ذلك قريباً .
وفي تحقيق المناط : فإنه لم يقل أيضاً بالنص أو المعنى : إن المغترب وأمثاله لهم الترخص برخص السفر ، وإن نزل أحدهم في دار غربته إقامة عرفية ، ولم أَرَ بعد طول بحث وسؤالٍ لأهل العلم أنـه أفتى بذلك أو مثَّل له .
بل ظهر في فتاواه أنه لا يرى الترخص لمن يقيد إقامته بنهاية وقت أو غرض ، حيث أفتى أهل البادية ؛ كأعراب العرب والأكراد والترك وغيرهم الذين يُشتُّون في مكان ويُصيِّفون في مكان أنـهم لا يترخصون في مشتاهم
ومصيفهم ، وإنما لهم أن يترخصوا في حال السفر بينهما فقط ([127]) .
فهؤلاء ينـزلون المكان بنية مغادرته بعد مدة معلومة هي ستة أشهر تقريباً ، ولم ير أن لهم الترخص .
كما أفتى ملاح السفينة بعدم الترخص إذا كان معه امرأته وجميع مصالحه ([128]) ، رغم أنه يضرب البحر بنية العودة إلى وطنه بعد فصل أو فصلين أو سنة أو أكثر من ذلك بقليل أو كثير .
ومن المعلوم أن الملاحين والرعاة أحوج إلى الرخصة من الطلبة المغتربين وأمثالهم من العمال والموظفين ؛ وذلك لكثرة تنقلهم واضطراب حالهم .
تحرير قول ابن تيمية في المسألة :
وقد ظهر من كلام الإمام ابن تيمية الله أنه يرى أن تحقق الوصف العرفي للإقامة قاطع للسفر ورخصه ؛ وذلك من وجوه :
الوجه الأول : اعتباره للاسم المطلق للإقامة :
فقد ساق اسم الإقامة في كلامه عن قاعدة الأسماء المطلقة التي سبيلها العرف عنده ؛ كالخفاف التي يُمسح عليها وحقيقة الماء الذي يُرفع به
الحدث ، ثم قال : (.. ومن ذلك أنـه علَّق الحكم بمسمى الإقامة ؛ كما علقه بمسمى السفر ، ولم يُفَرِّقْ بين مقيم ومقيم ..) ([129]).
وقال في موضع آخر بعد تقريره أن الإقامة لا تُحد بأربعة أيام قال بعد ذلك مباشرة : (.. ما أطلقه الشارع يُعمل بمطلق مسماه ووجوده ، ولم يجز تقديره وتحديده بمدة ..) ([130]) .
الوجه الثاني : كلامه في السفر .
لا يستقيم فهمُ كلام الإمام ابن تيمية في الإقامة إلا بالنظر في كلامه في السفر ؛ فالسفر والإقامة عنده نقيضان لا يجتمعان معاً ولا يرتفعان معاً ؛ كما يقول الأصوليون .
فوجود الإقامة بمعناها العرفي نفي للسفر بمعناه العرفي ؛ كما هو ظاهر ؛ فمن كان مقيماً عرفاً فليس بمسافر في عرف الناس أيضاً ؛ فلا رخصة له .
وتأمل هذا في كلامه :
يقول رحمه الله : ( وأما الإقامة فهي خلاف السفر ؛ فالناس رجلان مقيم ومسافر ، ولهذا كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحـد هذين الحكمين إما حكمُ مقيمٍ ، وإما حكم مسافر ) ([131]) .
ويقول : ( .. والقصر معلق بالسفر وجوداً وعدماً ؛ فلا يصلي ركعتين إلا مسافر ، وكل مسافر يصلي ركعتين .. ) ([132]) اهـ .
ويقول رحمه الله : ( .. وهذا مما يعرفه الناس بعاداتـهم ، ليس لـه حد في الشرع ولا اللغة ، بل ما سموه سفراً ؛ فهو سفر ) اهـ ([133]) .
وقال عن حد الإقامة : ( .. وإذا كان التحديد لا أصل لـه فمادام المسافر مسافراً فإنه يقصر الصلاة ، ولو أقام في مكان شهوراً ) ([134]) .
يقال هنا : والناس لا يسمون المقيم إقامة عرفية مسافراً لا حقيقة ولا حكماً ؛ فهو عند ابن تيمية غير مسافر ؛ فلا رخصة لـه .
فهذا الوجه لازم لكل من قال بأن تحديد السفر راجع إلى العرف ثم اعتبر للإقامة حدوداً أخرى لم يأت بـها نص ، ولم يدل عليها عرف ؛ وذلك لأن المسافر ـــ عند الناس ـــ يخرج من سفره بإقامة عرفية ، وكذلك المقيم عرفاً يخرج من إقامته بسفر عرفي .
الوجه الثالث : أن كلام العلماء عند الإطلاق يُحمل على العرف .
رأيتَ في كلام الإمام ابن تيمية أنه يعتبر لانقطاع الرخصة زوال وصف السفر ، وأن الرسول وأصحابه كانوا يترخصون لأنـهم لم يقيموا إقامة خرجوا بـها عن السفر .
فمتى يزول السفر عند ابن تيمية ، وما هي الإقامة التي يعتبرها مخرجة للمسافر عن سفره ؟
إن أقرب ما يُحمل عليه كلام العلماء عند الإطلاق هو إرادة الوضع العرفي ؛ لأنه الأقرب إلى مراد المتكلم ، والمتبادر إلى فهم السامع ؛ فالنتيجة هنا أن من أقام إقامة عرفية فقد انقطع سفره ؛ وبذلك ينتهي ترخُصُه .
وهذا هو منهج ابن تيمية نفسه ؛ فقد حَمَلَ كلام العلماء عند الإطلاق على المعنى العرفي ؛ فقال عن سب الرسول : ( فما كان فـي العرف سباً للنبي فهو الذي يجب أن يُنـزَّل عليه كلام الصحابة والعلماء ) ([135]) اهـ .
قال ذلك دون أن يذكر تصريحاً من الصحابة والعلماء باعتبار العرف في ضبط شتم الرسول ، وقد اعتبر في ذلك إطلاق اللفظ .
ومن قال : إن مراد ابن تيمية هنا هو شيء غير الأوضاع المشتركة
ـــــ كتأثير إرادة الوقت أو العمل ـــــ فهذا هو الذي يحتاج إلى تصريح وبيان .
الوجه الرابع : أنه اعتبر في فتاواه أموراً عرفية .
فقد اعتبر رحمه الله أموراً عرفية في ثبوت أحكام الإقامة ، حين قرر أنه ليس للملاح أن يترخص مادام في رفقته امرأته ، وجميع مصالحه ؛ كما تقدم
قريباً ؛ فقد رتب آثار الإقامة على الملاح رغم أنـه على ظهر سير ؛ وذلك بسبب أمرين عرفيين ، هما التأهل ، ووجود المصالح .
ومما يدل على أن مراده هو الوضع العرفي لا سواه أن أدلته وأمثلته في السفر والإقامة كانت موافقة للمعنى العرفي ، وما بقي منها فلا يعارضه لعدم التصريح بوجود أسباب الإقامة :
فمن أدلته : أحوال نزول النبي في مكة عامي الفتح وحجة الوداع ، وكذلك في تبوك ، ومنها أحوال نزول الصحابة في الجهاد .
ومن أمثلته رحمه الله على عدم تحقق الإقامة التاجر الذي يقدم ليبيع بضاعة ([136]) .
وكل هذه ملحقة بالسفر عرفاً وعادة .
ولم أرَ لـه دليلاً واحداً أو مثالاً واحداً تضمن شيء منها إقامة النازل في مكان المثل وسكنه متأهلاً في مدة طويلة ونية مستقرة .
فأدلته وأمثلته هي أولى ما يُفسر بـها كلامُه .
فيكون الظاهر من كلامه أن الذي يستحق الرخصة هو من سافر ثم
نزل مكاناً لم ينو فيه المقامَ ولا قطعَ السفر ؛ فبقي مضطرباً غير مستقر
ينظر إلى مواصلة سيره ، أو الرجوع إلى بلده في وقت يسير عادة ، أو في وقت كثير لم تُوجد فيه بقية أسباب الإقامة الأخرى كالمكان والمسكن ؛ كحال من نزل بلداً لتجارة أو مرافعة أو ملازمة غريم أو سؤال لأهل العلم أو تحصيل دين أو زيارة أو نزهة ، ومثل ذلك في الوقت الحاضر مراجعةُ المؤسسات الحكومية والأهلية ، مما لا يُعتبر المسافر معها مقيماً قاطعاً لسفره ، ولو سئل الناس عنه لقالوا بأنه غير مقيم ؛ فهو باق على حكم سفره .
وقد أكد رحمه الله هذا المعنى بقوله : ( وقد أقام المهاجرون مع النبي عام الفتح قريباً من عشرين يوماً بمكة ، ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بـها عن السفر) ([137]) .
وتراه يقول : ( .. لأن الفطر مشروع للمسافر في الإقامات التي تتخلل السفر ؛ كالقصر ) ([138]) .
فاتضح أن مراده بالإقامة التي تتبع السفر إنما هي إقامة تتخلله ، ويراها الناس جزءاً من ذلك السفر ، وليست إقامة ينقطع بـها هذا السفر .
كلام ابن القيم :
أما الإمام ابن القيم فقد قال في فوائد غزوة تبوك : ( ..ومنـها أنـه أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة ، ولم يقل للأمة : لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك ، ولكن اتفقت إقامته هذه المدة ، وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر ، سواء طالت أو قصرت ، إذا كان غير مستوطن ، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع ) ([139]) .
فيُلحظ في كلامه ما يلي :
1. أنه رحمه الله لم يجعل الوقت والعمل حداً بين مقيم ومسافر ، وإنما أناط الحكم بوجود السفر دون أن يظهر في كلامه قيد آخر على مطلق الوصف .
2. أن في كلام ابن القيم ما يدل على منع ترخص أمثال هؤلاء المغتربين ؛ وذلك لأن انقطاع الرخصة عنده يكون بواحد من أمرين : الأول : الاستيطان . والثاني : العزم على الإقامة .
وهؤلاء المغتربون من الطلبة والعمال والموظفين خارج أوطانـهم وإن لم يكونوا مستوطنين إلا أنـهم قد عزموا على الإقامة وقطع السفر .
3. أن قولـه هنا : ( .. وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر .. ) يدل على أن مراده هو أحوال النـزول التي تتخلل السفر ؛ كمن نزل مكاناً فبقي يترقب مواصلة سفره ، أو عودته فـي وقت قريب ، ولم يتخذ من أسباب الإقامة ما يُعتبر به قاطعاً لسفره ، طالت مدة نزوله تلك أو قصرت ؛ فهذه هي ( الإقامة في حال السفر ) ، لا إقامة المغتربين ونحوهم .
4. أن الظاهر من مراده بقطع السفر ، والعزم على الإقامة هو العرف حملاً لكلام العلماء عليه عند الإطلاق ؛ كما تقدم في كلام ابن تيمية رحمه الله ، وإذا نظرت في موضع استدلاله وهو نزول النبي في غزوة تبوك وجدت أن الرسول وأصحابه لم يتخذوا من أسباب الإقامة ما يُعتبرون به قاطعين لسفرهم ، حيث لا مكان معتبر ، ولا نية مستقرة لإقامة مدة طويلة .
فما ذكره من الدليل هو أقرب ما يُفسر به كلامه .
كلام عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب :
ولم أَرَ في كلامه أنه ذكر هذا الضابط ، بل ظهر منه ما يلي :
1. أنه ذكر أن المعتبر في ثبوت وصف الإقامة هو العُرف ([140]).
2. أنه جعل نـهاية الرخصة واحداً من أمرين ؛ فقرر : ( .. أن المسافر يجوز لـه القصر والفطر ، ما لم يجمع على إقامة أو يستوطن ؛ فحينئذ يزول عنه حكم السفر .. ) ([141]) ، ويقال في كلامه هذا ما قيل عن كلام ابن تيمية وابن القيم في المقصود من الإجماع على الإقامة .
3. أنه يرى أن من قصد مدة وغرضاً فهو مقيم ؛ فلم يَعتبرْ قيدي الوقت والعمل ([142]).
كلام ابن سعدي :
قال العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله : ( والصحيح أيضاً أن المسافر إذا أقام بموضع ، لا ينوي فيه قطع السفر ؛ فإنـه مسافر ، وعلى سفر ، وإن كان ينوي إقامة أكثر من أربعة أيام ؛ لكونـه داخلاً في عموم المسافرين ، ولأن إقامة أربعة أيام أو أقل أو أكثر حكمها واحد ؛ فلم يرد المنع من الترخص في شيء منـها ) ([143]) .
ويقال هنا أيضاً : إن المغتربين قد قطعوا سفرهم ، وأن كلام العلماء وغيرهم يُحمل عند الإطلاق على المعنى العرفي .
كلام رشيد رضا :
قال الأستاذ العلامة رشيد رضا في فتواه : ( .. المسافر الذي يمكث في بلد أربعة أيام ، أو أكثر ـــ وهو ينوي أن يسافر بعد ذلك منها ـــ لا يُعتبر مقيماً منتفياً عنه وصف السفر لا لغة ولا عرفاً ، وإنما يُعدُّ مقيماً من نوى قطع السفر واتخاذ سكن لـه في ذلك البلد ، وإن لم يتم له فيه إلا يوم أو بعض يوم . إننا نرى المسافر يخرج من بلده وقد قدَّر لسفره تقديراً منه أن يقيم في بلد كذا ثلاثة أيام ، وفي بلد كذا عشرة أيام ، وفي بلد كذا عشرين يوماً ..الخ ، وهو إذا سئل في أي بلد ، أو سئل عنه : هل هو من المسافرين السائحين ؟ أم من المقيمين الوطنيين أو المستوطنين ؟ لم يكن الجواب إلا أنه من المسافرين السائحين ؛ فالمكث المؤقت لا يسمى إقامة إلا بقيد التوقيت ، بحيث لو سئل هل أنت مقيم في هذا البلد ؟
يقول : لا ، وإنما أنا مسافر بعد كذا يوماً ) ([144]).
فقد ظهر من كلام الأستاذ الشيخ رشيد رضا ما يلي :
1. أنه لم يصرح بقيدي الوقت والعمل ؛ فلا تصح نسبة هذا القول إليه .
2. أن المدد التي ذكرها ـــ وهي ثلاثة أيام وعشرة وعشرين ـــ هي من الأحوال التابعة للسفر ، ولا تعتبر عرفاً من الإقامة .
3. أن الشيخ رضا ذكر أن السفر ينقطع باتخاذ المنـزل ، وهذه مسألة عرفية ، بل إنه صرح أن العرف لـه أثر في بقاء وصف السفر ؛ كما هو ظاهرٌ من كلامه ، واعتباره لنظرة الناس إليه .
فقد ظهر أن قصد الشيخ محمد رشيد رضا هو حالات النـزول أثناء السفر في مدد يسيرة ، ودون اتخاذ أسباب الإقامة من سكن ونحوه .
خاتمة بأهم نتائج البحث
1. لم يظهر ـــ من خلال استقراء الإمام ابن تيمية وغيره ـــ أن الشريعة دلت على اعتبار المدد التي ذكرها بعض الفقهاء ـــ كالأربعة أيام أو الخمسة عشر يوماً أو العشرين ـــ حداً فاصلاً بين السفر والإقامة .
2. لم يظهر من هدي النبي والصحابة تصحيح قول من قال بأن من قيَّد نزوله بوقت
أو عمل فهو مسافر ؛ فتَثْـبُتُ الرخصة ـــ على هذا القول ـــ للطلبة والموظفين والعمال الذين وجدت فيهم هذه الصفة ؛ كما لم تظهر صحة قول من حدها بالاستيطان .
3. ظهر أن الراجح في ضبط الإقامة هو العرف ؛ فمن وصفه الناس بأنه مسافر أو مقيم فهو كذلك تُبنى على حاله العرفية جميع أحكام السفر أو الإقامة .
4. أن حقيقة الإقامة في العرف هي : وجود أسباب التعلق بمكان النـزول ؛ فمتى اكتملت هذه الأسباب أو كثرت أو قويت عُدَّ النازل من المقيمين ، ومتى عُدمت هذه الأسباب كلها أو قلَّت أو ضعفت فصاحبها مسافرٌ ، أو في حكم المسافرين .
فمن هذه الأسباب نية الإقامة المستقرة ومدتـها : فالطمأنينة لا تتحقق أصلا إلا بقصد المدة الطويلة بنية مستقرة لا تردد فيها ، وحدها هو العرف . ومنها المكان : فالإقامة لا تكون إلا في مكانـها المعتاد . ومنها المسكن : فمن نزل بلداً ولم يتخذ فيه سكن مثله لم يره الناس مقيماً . ومنها التأهل : وله أحوال فُصِّلت في هذا البحث .
5. أن الوصفين الرئيسين للسفر هما مجاوزة بنيان البلد وقطع المسافة الطويلة ، وكلاهما أمر عرفي ؛ فما دام الشاخص على هذه الحال سائراً متنقلاً فهو في أعلى أحوال السفر .
6. أن من أحوال النـزول التابعة للسفر هي حال من نزل مكاناً لم ينو فيه المقامَ ولا قطعَ السفر ؛ فبقي مضطرباً غير مستقر ينظر إلى مواصلة سيره ، أو الرجوع إلى بلده في وقت يسير عادة ؛ كعشرين يوماً أو ثلاثين ونحو ذلك ، أو في وقت كثير لم تُوجد فيه بقية أسباب الإقامة الأخرى ؛ كالمكان والمسكن ، أو وُجد مكان المثل وسكنه في هذه المدة الطويلة ، ولكنه يتوقع خروجه كل حين في مثل ذلك الوقت القليل ، وأمثلة هذه الأحوال في أسفار الناس كثيرة ؛ فمنها : حال من نزل بلداً لجهاد أو إدارة تجارة عاجلة أو لأجل علاج أو مرافعة أو سؤال لأهل العلم أو زيارة أو نزهة ، أو مراجعةٍ لدائرة ، في مدة قصيرة لا يُعتبر معها المسافر مقيماً قاطعاً لسفره ؛ كما لا يُعـدُّ بلد نزوله هذا من دور إقامته ، ولو سُئل الناس عنه لقالوا بأنه غير مقيم فهو مسافر حقيقة ، أو هو باقٍ على حكم سفره ؛ لعدم تحقق الإقامة بحدودها المعلومة عند الناس ؛ إذْ أن حكم السفر العرفي لا ينتهي إلا بإقامة عرفية .
7. أن ما سوى هذه الأحوال هي أحوال إقامة لا سفر ؛ كحال المستوطنين في بلدانـهم والمغتربين من الموظفين و الطلبة والعمال وأصحاب الدورات المطولة ، ونحوهم ، حيث ينـزلون مكاناً صالحاً للإقامة ، في سكن المثل ، مع نية مستقرة للمكث مدة طويلة .
8. أن أكثر أحوال الناس العرفية في السفر والإقامة واضحة بينة ، وما قد يُشكل من المدد والمسافات أو غيرها من الأسباب فهو قليل ، ومع قِلته فإنه لا يُبنى على التحديد الدقيق وإنما يُبنى على التقدير التقريبي ، ونظير ذلك مما تُعتبر فيه المدد والمسافات كثير .
9. إذا أشكل على العبد شيء من المسائل العرفية هل يُعتبر بـها النازل مقيماً أو مسافراً استصحب في ذلك الحال السابقة للوصف الطارئ ؛ فإن كان مقيماً وشك في قيام وصف السفر فهو مقيم ، وإن كان مسافراً وشك في قيام وصف الإقامة فهو مسافر .
10.عند تأمل أحاديث النبي وآثار بعض الصحابة والتابعين المذكورة فـي هذا البحث وما جاء فيها من الترخص المدد الطويلة لا تجدها معارضة لاعتبار العرف في ضبط الإقامة ؛ فليس فيها حال واحدة ثبتت فيها الإقامة بمعناها المعروف عند الناس ، ولم تكن أحوالهم إلا كأحوال النـزول المذكورة قريباً في الفقرة السادسة .
11.لم يظهر أن ابن تيمية وابن القيم وعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب وابن سعدي ورشيد رضا قد قالوا بتأثير تقييد النـزول بوقت أو عمل في ثبوت الرخصة .
12.ظهر من خلال هذا البحث أن ابن تيمية وعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ورشيد رضا يعتبرون العرف في تحديد الإقامة .
13. ظهر من كلامَي ابن القيم وابن سعدي ما يدل على عدم مشروعية ترخص المغتربين وأمثالهم ممن عزموا على الإقامة مدة طويلة بنية مستقرة .
قائمة المراجع
ط الطبعة ت الطبع دار النشر المحقــق شهــرة المؤلف اسم المرجــع
ـ ـ عالم الكتب ـ ابن مفلح 1. الآداب الشرعية
1 1418 رمادي وابن حزم بكري وعاروري ابن القيم 2. أحكام أهل الذمة
ـ ـ الفكر ـ الجصاص 3. أحكام القرآن
ـ ـ الكتاب الإسلامي ـ السيوطي 4. أسنى المطالب
1 1413 الكتب العلمية ـ السيوطي 5. الأشباه والنظائر
1 1411 الكتب العلمية عبد الموجود و عوض التاج السبكي 6. الأشباه والنظائر
1 413هـ الرشد العنقري والشويخ ابن الوكيل 7. الأشباه والنظائر
1 1399 المكتب الإسلامي ـ الألباني 8. إرواء الغليل
ـ ـ إدارة القرآن ـ التهانوي 9. إعلاء السنن
ـ ـ الكتب العلمية ـ ابن القيم 10. إعلام الموقعين
ـ ـ إحياء التراث محمد الفقي المرداوي 11. الإنصاف
ـ ـ ـ ـ الزريراني 12. إيضاح الدلائل
ـ ـ المعرفة ـ ابن نجيم 13. البحر الرائق
ـ ـ الكتاب العربي ـ الكاساني 14. بدائع الصنائع
4 1418 الوفاء عبدالعظيم الديب أبو المعالي الجويني 15. البرهان
2 1398 الفكر ـ العبدري 16. التاج والإكليل
1 1406 عالم الكتب كركيس عواد أسلم بن سهل الواسطي 17. تاريخ واسط
1 1403 الفكر محمد هيتو الشيرازي 18. التبصرة
ـ ـ المكتبة الإسلامية ـ البجيرمي 19. تحفة الحبيب
ـ ـ إحياء التراث ـ الهيتمي 20. تحفة المحتاج
1 1417 الرشد عبدالعزيز الخليفة أحمد ابن تيمية 21. تفسير آيات أشكلت
1 1417 الباز ـ ابن حجر العسقلاني 22. التلخيص الحبير
ـ 1387 أوقاف المغرب العلوي والبكري ابن عبد البر 23. التمهيد
2 1386 الحلبي ـ ابن عابدين 24. حاشية ابن عابدين
ـ ـ إحياء التراث ـ العجيلي 25. حاشية الجمل
ـ ـ الفكر محمد عليش الدسوقي 26. حاشية الدسوقي
ـ ـ إحياء الكتب ـ قليوبي وعميرة 27. حاشيتا قليوبي وعميرة
ـ ـ العربية ـ عبد الرحمن القاسم 28. الدرر السنية
ـ ـ الكتاب متن أسنى المطالب أبو يحيى الأنصاري 29. روض الطالب
ـ ـ الباز عبدالموجود ومعوض النووي 30. روضة الطالبين
15 1410 مؤسسة الرسالة الأرناؤوط ابن القيم 31. زاد المعاد
1 1418 ابن الجوزي صبحي حلاق الصنعاني 32. سبل السلام
ـ ـ الفكر ـ البيهقي 33. السنن الكبرى
ـ 1413 مؤسسة الرسالة أرناؤوط وعرقسوسي الذهبي 34. سير أعلام النبلاء
ـ ـ الفكر ـ الخرشي 35. شرح مختصر خليل
1 1390 المكتب الإسلامي الشاويش والأرنؤوط البغوي 36. شرح السنة
2 1397 الفكر ـ ابن الهمام 37. شرح فتح القدير
1 1417 ابن حزم الحلواني وشودري أحمد ابن تيمية 38. الصارم المسلول
2 1398 الفكر فؤاد عبد الباقي الإمام مسلم 39. صحيح مسلم
3 1418 العاصمة الدخيل الله ابن القيم 40. الصواعق المرسلة
ـ ـ الكتب العلمية ـ الحموي 41. غمز عيون البصائر
1 1407 مكتبة العلوم موفق عبد القادر ابن الصلاح 42. فتاوى ابن الصلاح
ـ ـ الباز ـ ابن حجر الهيتمي 43. الفتاوى الفقهية
1 390هـ الكتاب العربي جمع صلاح المنجد محمد رشيد رضا 44. فتاوى رشيد رضا
ـ ـ المعرفة ابن باز ابن حجر العسقلاني 45. فتح الباري
1 1418 الكتب حازم القاضي ابن مفلح 46. الفروع
ـ ـ الجيل ـ الفيروز أبادي 47. القاموس المحيط
1 1418 الرشد عبدالرحمن الشعلان تقي الدين الحصني 48. القواعد
1 1398 الرياض محمد الموريتاني ابن عبد البر 49. الكافي
ـ 1402 الفكر هلال البهوتي 50. كشاف القناع
ـ ـ صادر ـ ابن منظور 51. لسان العرب
ـ 1394 المكتب الإسلامي ـ ابن مفلح 52. المبدع
ـ ـ الفكر ـ النووي 53. المجموع
ـ ـ ـ جمع محمد القاسم أحمد ابن تيمية 54. مجموع الفتاوى
1 1420 الثريا للنشر جمع فهد السليمان محمد ابن عثيمين 55. مجموع الفتاوى
ـ ـ الجيل أحمد محمد شاكر ابن حزم 56. المحلى بالآثار
ـ ـ السعدية ـ ابن سعدي 57. المختارات الجلية
ـ ـ السعادة ـ مالك بن أنس 58. المدونة
ـ ـ المعرفة رشيد رضا أبو داود 59. مسائل الإمام أحمد
1 1417 مؤسسة الرسالة محمد الأشقر الغزالي 60. المستصفى
2 1398 الفكر ـ أحمد بن حنبل 61. المسند
1 1400 السلفية مختار الندوي ابن أبي شيبة 62. المصنف
2 1403 المكتب الإسلامي حبيب الأعظمي عبد الرزاق الصنعاني 63. المصنف
ـ ـ الكناب العربي ـ المطرزي 64. المغرب
1 408هـ هجر التركي و الحلو الموفق ابن قدامة 65. المغني
ـ 415هـ الفكر ـ الخطيب الشربيني 66. مغني المحتاج
ـ ـ وزارة الأوقاف تيسير فائق أحمد الزركشي 67. المنثور
ـ ـ المعرفة ـ النووي 68. منهاج الطالبن
1 1417 ابن عفان مشهور سلمان الشاطبي 69. الموافقات
ـ ـ الفكر ـ الحطاب 70. مواهب الجليل
2 1393 المجلس العلمي ـ الزيلعي 71. نصب الراية
ـ ـ الكتاب العربي ـ ابن مفلح 72. النكت
1 1383 إحياء التراث ـ ابن الأثير 73. النهاية
ـ 1985 الحكمة ـ الشرنبلالي 74. نور الإيضاح
1 1417 السلام ابراهيم وتامر الغزالي 75. الوسيط
فهرس المحتويات
مقدمة.................................... 50
أشهر أقوال العلماء في هذه المسألة وما يرد عليها .......... 70
القول الأول : أن هذا الحد هو نية المكث أربعة أيام.............. 70
الثانـي : أن هذا الحد هو خمسة عشر يوماً.................. 11
الثالث : أن حد ذلك في قصر الصلاة هو مكث النازل عشرين يوماً....... 12
الرابع : أن المعتبر في تحديد الإقامة هنا هو العرف............... 12
الخامس : أن من قيد إقامته بعمل أو زمن فهو مسافر.............. 13
السادس : أن للمرء الترخص برخص السفر حتى يرجع إلى وطنه........ 21
سبب الخلاف وآثاره والترجيح....................... 22
الراجح هو اعتبار العرف لأوجه هي :................... 24
الوجه الأول : أن هذا هو مقتضى قاعدة الأسماء المطلقة في الشريعة..... 24
كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف......... 24
قرر بعض العلماء أنه لا حد في الشريعة للإقامة ................ 24
لا يمكن أن يكون للإقامة حد لغوي دون أن يُنقل فلم يبق ما يُعتبر إلا العرف..... 24
كثير من الفقهاء يعتبرون العرف في أكثر أسباب الإقامة............. 26
بعض الفقهاء يرى أن التحديد بمدة إنما هو احتياط............... 27
الوجه الثاني : أن ظاهر هدي النبي يدل على ذلك.......... 27
لِمَ كان تركُ النبيِ بيانَ حد الإقامة دليلاً على اعتبار العرف في ضبطها ؟..... 28
الوجه الثالث : أن تعليل العزيمة بالإقامة العرفية مطرد منعكس....... 29
لَمْ يتمَ النبيُ صلاته إلا في إقامة عرفية ولم يقصر إلا في سفر عرفي ....... 29
وجود زوجات النبي معه في منازله لا ينتقض به اعتبار العرف ...... 29
الأسباب العرفية للسفر .......................... 31
الأول : البروز من دار الإقامة ومفارقة عمرانـها.............. 31
ضابط المفارقة............................. 31
تجاوز المزارع وحكم مزارع أهل الأرياف.................. 31
الثاني : الطريق وطبيعة المركب...................... 32
بين الطرق السهلية والجبلية........................ 32
اختلاف المراكب............................ 32
الثالث : مسافة الطريق ونية قطعها..................... 33
قطع المسافة أبرز أوصاف السفر...................... 33
تأثير المسافة في ثبوت وصف السفر العرفي ضروري لا مدفع له .......... 33
كان كثير من السلف يَعتبرون طول المسافة مطلقاً دون اعتبار حد مشترك...... 33
أدنى مسافة السفر عرفاً قد لا يقوم بـها وصفه ................ 34
ترخص من لا نية له أو كانت نيته مترددة................... 34
ترخص الهائم ونحوه ........................... 34
من علق سفره بلحاق القافلة وإلا أقام .................... 34
نظيره الحجز المؤكد والانتظار لمن يعلق إقامته أو سفره بـهما........... 35
الترخص في المطارات ومحطات القطار.................... 35
نية التابع مع المتبوع كالزوجة مع زوجها والجندي مع قائده........... 35
إذا طالت المسافة فصاحبها مسافر ولو عاد من يومه دون مبيت .......... 35
تَرَخَّصَ عليٌ وقد رجع من يومه..................... 35
توجيه كلام ابن تيمية في أن من يرجع من يومه فليس بمسافر........... 36
تنبيه حول كلام لابن تيمية في المسافة ..................... 37
الرابع : حمل الزاد والمزاد.......................... 38
الخامس : الانقطاع والغيبة......................... 38
لم قصر أهل مكة مع النبي في المشاعر ؟.................. 39
هل التوديع والاستقبال وصفان لازمان للسفر ؟................ 39
الأسباب العرفية للإقامة......................... 40
الأول : نية الإقامة المستقرة ومدتـها.................... 40
إرادة المدة أول أسباب الإقامة........................ 41
أثر المدة في وصف الإقامة العرفي عند الهيتمي.................. 41
لا إقامة مع نية مضطربة........................... 42
حال الحرب أعظم أحوال الاضطراب..................... 42
أكثر العلماء على مشروعية الترخص حال الحرب دون تحديد مدة......... 42
نزول المسافر لحاجة ينتظر نجاحها....................... 43
كثير من الفقهاء يرونه مسافراً ولو نوى أكثر من مدة الرخصة عندهم بشرط..... 43
صاحب هذه الحال كالمحارب إذْ لا فرق بينهما في حكم القياس ......... 43
من نزل مضطراً لعائق لا يدري متى يزول ................... 44
النية المستقرة إذا كانت مدتـها قليلة..................... 44
سبيل العلم بالمدة............................. 45
مدة الإقامة ليست حداً مشتركاً لجميع الأحوال................. 45
الفرق بين اعتبار المدة عند القائلين بالتحديد واعتبارها في العرف .......... 45
إيراد : لا دليل على التفريق بين المدد في الشريعة ! وجوابـه............ 46
نظائر اعتبار المدد والمسافات في كلام الفقهاء ................. 46
كل إيراد على الإقامة العرفية لإبطالها وارد على السفر العرفي ولا فرق........ 46
إيراد آخر : لا فرق بين ترخص المغتربين ومن ينتظر نجاح حاجته ! وجوابـه...... 47
الثاني : صلاحية المكان للإقامة....................... 48
المدة ليست معيار الإقامة الوحيد فلا يكون النازل مقيماً إلا في مكان مثله...... 48
بين الإحياء العرفي والإقامة العرفية ..................... 48
على اشتراط صلاحية المكان قول كثير من أهل العلم.............. 48
كثير من الفقهاء لا يرى جريان حكم المدة في مكان غير صالح للإقامة ....... 48
دار الحرب عند الإمام مالك........................ 49
ترخص المسافر عند عبور وطنه....................... 49
الثالث : المسكن.............................. 50
اختلاف المساكن باختلاف عادات الأمم................... 50
وجود المسكن ليس دليل الإقامة مطلقاً.................... 50
مساكن ربابنة السفن وسائقي السيارات................... 51
الرابع : التأهل............................... 51
التأهل يلغي تأثير المدة.......................... 51
متى يكون التأهل إقامة ؟......................... 51
إقامة العزب .............................. 52
النـزول في داري الأب والابن لا يُعتبر إقامة مطلقاً............... 52
الخامس : المتاع والأثاث.......................... 52
الارتباط بـها وصف مساعد فقط..................... 52
السادس : الارتباط بمصالح البلد الذي نزله................. 52
تطبيقات عرفية في السفر والإقامة................... 53
أمثلة على الإقامة أو بقاء حكمها...................... 53
الطالب المغترب في دار غربته وعند أهله في إجازته................. 53
الحجاج المكيون في المشاعر هل يترخصون ؟................... 53
حجاج الطائف وجدة ونحوهما........................ 54
النـزهة في المواضع القريبة من البلد...................... 54
النازلون في المصايف وفي أريافهم وقت الإجازة .................. 54
أمثلة على السفر أو بقاء حكمه ...................... 55
حجاج الآفاق في المشاعر........................... 55
الموظف في غير بلده دون سكن........................ 55
النازل للعمرة............................... 55
أصحاب الحاجات العاجلة.......................... 55
نزول الحضري في الصحراء.......................... 56
نزول الجنود وأمثالهم في نقاط التفتيش ومراكز الحدود والتدريب في الصحاري...... 56
تنبيهات مهمة حول هذه الأسباب والفروع :............. 56
1. أن الوقائع العرفية متجددة...................... 56
2. أن الإقامة والسفر معنيان....................... 57
3. أن الإقامة من الألفاظ التي يختلف معناها عند الجمع والتفريق..... 57
4. أن أكثر المسائل العرفية في السفر والإقامة ظاهرة جلية........ 58
5. العمل عند المسائل العرفية المشكلة.................. 59
المسافر لا يخرج من حكم سفره إلا بإقامة عرفية............... 59
فقه ما جاء في بعض الأخبار من الترخص مدداً طويلة........... 62
هذه الأخبار لا تخرج عن أحوال خمس كلها من السفر أو حكمه........... 62
فمن هذه الأحوال : عدم صلاحية المكان للإقامة عادة............... 62
ومنها : عدم وجود النية المستقرة للمكث مما لا يُعتبر معه النازل مقيماً......... 62
إهمال هذه الحال سبب للاضطراب في فهم تلك الأخبار............. 63
ومن هذه الأحوال : قصر المدة مما لا يُعتبر معه النازل مقيماً ولو بنية مستقرة ...... 63
ومنها : عدم وجود بيت المثل ولا يصير المسافر مقيماً إلا به............. 63
ومنها : ما لم يثبت فيها وصف إقامة ولا سفر ، والعمل مع هذه الحال........ 63
عرض للأخبار التي وقع فيها الترخص وسبب بقاء السفر في كل خبر...... 63
سبب بقاء السفر في نزول الرسول في مكة عام الفتح وتبوك........... 63
سبب بقائه في نزول الصحابة للجهاد في نيسابور ورامهرمز وأذربيجان وغيرها...... 64
قصد المدة الطويلة لم يثبت عند نزول الصحابة وإنما أخبروا بذلك بعد قفولهم ...... 65
سبب بقاء السفر في نزول النبي في مكة عام حجة الوداع........... 65
سبب بقائه في نزول مسروق والياً على السلسلة سنتين............... 66
سبب بقائه في فتوى ابن عباس لأبي المنهال.................. 68
بين ترخص الصحابة وترخص المغتربين ..................... 69
تحرير كلام بعض أهل العلم في هذه المسألة............... 70
ابن تيمية.................................. 70
لم يذكر رحمه الله قيدي الوقت والعمل لا بالنص ولا بالمعنى ............. 70
أفتى الرعاة والملاحين أن لا يترخصوا رغم أنـهم يزمعون العودة بعد وقت أو عمل.... 70
الرعاة والملاحون أحوج إلى الرخصة من الطلبة والموظفين والعمال ........... 71
ابن تيمية يعتبر مطلق السفر للرخصة ومطلق الإقامة للعزيمة.............. 71
لا يستقيم فهم كلامه في الإقامة إلا بالنظر في كلامه السفر.............. 72
المسافر عرفاً لا يخرج من سفره إلا بإقامة عرفية................... 73
كلام العلماء عند الإطلاق يُحمل على العرف ومنهج ابن تيمية نفسه في ذلك...... 73
ابن تيمية يقرر أن الرخصة مشروعة للمسافر في الإقامات التي تتخلل السفر ........................................................................................... 74
ابن القيم.................................. 75
عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب...................... 77
ابن سعدي................................. 77
رشيد رضا................................. 78
خاتمة بأهم نتائج البحث.......................... 79
قائمة المراجع................................ 81
فهرس المحتويات............................. 85
* * *
________________________________________
([1]) الاستيطان هو نية الإقامة على التأبيد ، انظر "حاشية الشرح الكبير" للدسوقي (1/373) .
([2]) انظر "المغني" لابن قدامة (3/153) .
([3]) انظر "الكافي" لابن عبد البر (1/245) .
([4]) انظر "المجموع" للنووي (4/364) .
([5]) انظر "المغني" لابن قدامة (3/ 147، 148) ، و"الإنصاف"للمرداوي (2/329) .
([6]) رواه مسلم في "صحيحه" (2/985) .
([7]) انظر "روض الطالب" لأبي يحيى الأنصاري (1/236 متن "أسنى المطالب" للسيوطي) .
([8]) لحديث ابن عباس في "صحيح البخاري" (3/422 فتح) ، وحديث أنس فيه أيضا (3/507) .
([9]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/138) .
([10]) انظر "زاد المعاد" لابن القيم (3/564) .
([11]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/138) .
([12]) المرجع السابق (24/136، 137) .
([13]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/140) .
([14]) انظر "بدائع الصنائع" للكاساني (1/97) .
([15]) و بمثله عن ابن عمر ، انظر "نصب الراية" للزيلعي (2/183) ، وقال : أخرجه الطحاوي عنهما .
([16]) انظر "تبيين الحقائق" للزيلعي (1/212) و"بدائع الصنائع" للكاساني (1/97) .
([17]) فقد صح عن ابن عباس أنه حددها بتسعة عشر يوماً كما رواه البخاري في "صحيحه"(2/561) ، وصح عن ابن عمر أنه حددها باثني عشر يوماً ، رواه مالك في "الموطأ "(312) بسند صحيح .
([18]) انظر "المحلى" لابن حزم (3/216) .
([19]) رواه أحمد في "المسند" (3/295) وأبو داود في "السنن" (1235) ، وهو صحيح .
([20]) انظر "المحلى" (3/220) .
([21]) انظر "الدرر السنية" (3/209) .
([22]) وانظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/ 18 ، 36 ، 40 ، 135 ، 136 ، 137) .
([23]) انظر "مجموع فتاوى فضيلة الشيخ ابن عثيمين"(15/288) جمع الشيخ فهد السليمان . وقد لقي قول شيخنا العلامة محمد ابن عثيمين أثابه الله هذا انتشاراً كبيراً ، على قدر ما لـه من قبول عظيم عند الناس ، ولم يُعز هذا القبول إلا إلى تجرد الشيخ للحق ، وتعظيم النصوص ، ومنهجه المتميز في تحري الدليل ونبذ التقليد المذموم ، فلم يكن عنده للمذهب أو الأستاذ أو المكان أو ما جرت به العادة مخالفاً للدليل تأثير في اختياراته ، بارك الله في عمله ونفعنا بعلومه وجزاه عن الأمة خير الجزاء .
([24]) انظر المرجع السابق (15/300 ، 301 ، 302) .
([25]) انظر المرجع السابق (15/294) .
([26]) لحديث ابن عباس في "صحيح البخاري" (3/422 فتح) ، وحديث أنس فيه أيضا (3/507) .
([27]) "مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ ابن عثيمين" (15/296) .
([28]) المرجع السابق (15/306 ، 307) ، وانظر (15/335) من المرجع نفسه .
([29]) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (3/152) من قول أنس ، وصححه النووي كما في "نصب الراية" (2/186) ، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل" (3/27) .
([30]) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (4339) ، وصححه ابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/554) .
([31]) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/453) ، وصححه التهانوي في"إعلاء السنن" (7/282) .
([32]) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (4352) ، و أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف" (2/454) .
([33]) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/207) .
([34]) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/443و454) بنحوه .
([35]) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/453) .
([36]) انظر "مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ ابن عثيمين"(15/304 ، 305) .
([37]) انظر المرجع السابق (15/305 ، 309) .
([38]) أخرجه مسلم في "صحيحه" (224) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
([39]) وانظر كلام الإمام الشاطبي في كتابه "الموافقات" (4/18 فما بعدها إلى 27) من أن جريان العموم إنما يكون بحسب مقصد الشارع في حقيقة اللفظ من شرعية أو لغوية أو استعمالية .
([40]) انظر "مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ ابن عثيمين" (15/316) .
([41]) وهو قول جمهور الفقهاء ، وانظر "البرهان"لأبي المعالي الجويني (2/518) و"التبصرة"للشيرازي
(1/460) و"المستصفى" للغزالي (1/315) .
([42]) "تفسير آيات أشكلت" لابن تيمية (2/647) .
([43]) "المستصفى" للغزالي (2/315) .
([44]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (25/244) ، ولعل صحة ما بين المعقوفين : (يُعلَّق الحكم ..الخ) .
([45]) المرجع السابق (25/245 ، 246) .
([46]) انظر "التمهيد" (11/183) .
([47]) انظر "لسان العرب" (13/451) ، و"المغرب" (2/361) .
([48]) انظر "حاشية الدسوقي" (1/373) و"كشاف القناع" (2/27) و"مغني المحتاج" (1/282) .
([49]) انظر "الموافقات" للشاطبي (4/24) ، و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (7/9 و24/40)، و"الفروق" للقرافي (3/283) ، و"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2/365) ، و"الأشباه والنظائر" لجلال الدين السيوطي (98) .
([50]) وهي مبثوثة في أبواب الفقه :
فمنها : الموالاة في الوضوء ، انظر "المغني" لابن قدامة (1/192) .
ومنها : الخفاف ما يعتبر منها خفاً وما لايعتبر ، انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (19/242) .
ومنها : اتصال الصفوف في الصلاة ، انظر "حاشية الجمل" للعجيلي (1/508) و"المبدع" (2/89) .
ومنها : مسافة السترة من المصلي ، وما يُعد بـها مستتراً ، انظر "الإنصاف" للمرداوي (1/495) .
ومنها : النهي عن الصلاة إلى القبور ، ومتى يعد مصلياً إليها ، انظر "سبل السلام" للصنعاني (2/122) .
ومنها : العمل في الصلاة فيما يُعتبر مخرجاً عن سمتها ، انظر "القواعد" للحصني الشافعي (1/360) .
ومنها : خطبة الجمعة وضابط القدر الواجب منها ، انظر "بدائع الصنائع" للكاساني (1/262) .
ومنها : الاستطاعة في الحج ، انظر "الغرر البهية" لزكريا الأنصاري (2/265) .
ومنها : التشبه بين الرجل والمرأة ، انظر "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/536) .
ومنها : الفقر الذي يترتب عليه استحقاق الزكاة وغيره ، انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (19/243) .
ومنها : مقدار إطعام المسكين في الكفارات وغيرها ، انظر المرجع السابق (19/252) .
ومنها : المرض المؤثر في صحة الهبة وغيرها ، انظر "إعلام الموقعين" لابن القيم (1/203) .
ومنها : التفرق بعد البيع انظر "الأشباه والنظائر" للسبكي (1/52) و"الإنصاف" للمرداوي (4/368) .
ومنها : قبض المعقود عليه المؤثر في الضمان وغيره ، انظر "الأشباه والنظائر" لابن الوكيل (1/141) .
ومنها : الغبن الذي يثبت به الخيار في المعاوضات ، انظر "المغني" لابن قدامة (3/894) .
ومنها : اختلاف الأصناف الذي يمنع جريان ربا الفضل ، انظر "مواهب الجليل" للحطاب (4/348) .
ومنها : الإعسار المانع من حبس صاحبه ، انظر "حاشيتي قليوبي وعميرة" (4/71) .
ومنها : العشرة بين الزوجين من النفقة والجماع والواجبات المنـزلية ، انظر "الإنصاف" (8/354) .
ومنها : الرضعات المُحرِّمات ، والمعتبر في قدرها وصفتها ، انظر "مغني المحتاج" (3/417) .
ومنها : السفه الموجب أو المبيح للحجر ، انظر "إعلام الموقعين" لابن القيم (1/203) .
ومنها : التعدي والتفريط المؤثران في ضمان المتلفات ، انظر "كشاف القناع" للبهوتي (4/170) .
ومنها : الحرز في السرقة ، انظر "البيان" لابن رشد (16/216) و"المغني" لابن قدامة (8/177) .
ومنها : الإكراه المؤثر في أهلية التصرف ، انظر "نـهاية المحتاج"للرملي (6/477) .
ومنها : ما يُعرف به السكران ، ويستحل به الظهر ، انظر "مغني المحتاج" (3/279) .
ومنها : سب الرسول ما يُعتبر سباً وما لا يُعتبر ، انظر "الصارم المسلول" لابن تيمية (3/992) .
([51]) انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/140 ، 141) ، وفيها أنه سئل أحمد عن سبب قوله بالإتمام فيما زاد عن الأربعة فقال : لأنـهم اختلفوا فيأخذ بالأحوط فيتم ، فعلق على ذلك ابن تيمية
بقوله : (.. فأحمد لم يذكر دليلاً على وجوب الإتمام ، إنما أخذ بالاحتياط ..) .
([52]) انظر "المستصفى" للغزالي (2/381) .
([53]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/139) .
([54]) "زاد المعاد" لابن القيم (3/561) .
([55]) انظر "المبسوط" (2/106) ، و"الإنصاف" (2/316) .
([56]) السفر يرجع تحديده إلى العرف أيضاً في قول جمع من المحققين من علماء المذاهب الأربعة وغيرهم ، وأدلة ذلك ومرجحاته هي أدلة ومرجحات اعتبار العرف في الإقامة نفسها .
([57]) انظر "تحفة الحبيب " للبجيرمي (2/172) ، و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/135) .
([58]) انظر "المغني" لابن قدامة (3/113) و"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (1/360) .
([59]) انظر "المجموع شرح المهذب" (4/226) ، و"حاشية رد المحتار" لابن عابدين (2/121) .
([60]) وانظر "الوسيط" للغزالي (2/244) .
([61]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/40) .
([62]) المرجع السابق (19/244) .
([63]) المرجع السابق (24/13) .
([64]) المرجع السابق (24/42) .
([65]) انظر "القاموس المحيط" (2/51) .
([66]) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/336) .
([67]) المرجع السابق (2/232) .
([68]) انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (19/243) ، وعلى ذلك يُحمل ما صح في بعض الآثار من الترخص في ثمانية عشر ميلاً وثلاثة فراسخ وثلاثة أميال . انظر "المصنف" لابن أبي شيبة (2/332) .
([69]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/135) .
([70]) المرجع السابق (24/123 ، 135) .
([71]) وانظر "المجموع" للنووي (3/221 - 218) ، و"الانصاف" للمرداوي (2/320) .
([72]) انظر "تحفة الحبيب " للبجيرمي (1/355) .
([73]) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/231) .
([74]) انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (19/244) و (24/ 38 ، 42 ، 48 ، 119 ، 135) .
([75]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/134 ، 135) .
([76]) المرجع السابق (24/135) .
([77]) المرجع السابق (24/ 123) ، وانظر منه (24/119) و (19/243) .
([78]) رواه أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف" (2/446) ، و"ابن حزم في "المحلى" (5/3) .
([79]) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/333) ، وقال في "النهاية" (4/291) عن معنى متاح : (.. أي يوم يمتد سيره من أول النهار إلى آخره ، ومتح النهار : إذا طال وامتد) .
([80]) رواه عبدالرزاق في "المصنف" (2/528) ، وابن حزم في "المحلى" (5/6) .
([81]) رواه عبدالرزاق في "المصنف" (2/525) ، وبين "ريم" والمدينة ثلاثون ميلاً فقط ، ذكره عبدالرزاق رحمه الله ، فتكون المسافة خمسين كِيلا تقريباً .
([82]) انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (17/480) و (19/244) و (26/170) .
([83]) "الفتاوى الفقهية الكبرى" (3/290) ، ونحو هذا في "فتاوى ابن الصلاح" (1/382) .
([84]) انظر "المدونة" للإمام مالك (1/209) ، و"المجموع شرح المهذب" للنووي (4/362) ، و"البحر الرائق" لابن نجيم (2/144) ، و"المبدع " لابن مفلح (2/114) .
([85]) انظر "البحر الرائق" لابن نجيم (2/144) .
([86]) "نور الإيضاح" للشرنبلالي (70) .
([87]) "المبدع" لابن مفلح (2/114) .
([88]) انظر "المغني" لابن قدامة (2/67 ط إحياء التراث) ، و"الإنصاف" للمرداوي (2/330) ، و"البحر الرائق" لابن نجيم (2/144) ، و"حاشية رد المحتار" لابن عابدين (2/126) .
([89]) انظر "روضة الطالبين" للنووي (1/487 ، 488) ، و"المجموع" له (4/241 ، 242 المنيرية) ، وقد ذكر ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج" (2/378) في المقصود بالمتفقه هنا أنه من يأتي بقصد السؤال عن حكم في مسألة أو مسائل معينة .
([90]) وانظر "الوسيط" للغزالي (2/249) ، فقد مال إلى عدم التفريق بين المقاتل وغيره .
([91]) ذكره ابن مفلح في "الفروع" (2/56) ، وقال : رواه الأثرم ، وانظر "المغني" (2/68) .
([92]) انظر "البحر الرائق" لابن نجيم (2/150) ، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/513) .
([93]) "بدائع الصنائع" للكاساني (1/97) .
([94]) "شرح فتح القدير" لابن الهمام (2/38) .
([95]) "الوسيط" للغزالي (2/246) ، وانظر "المجموع شرح المهذب" للنووي (4/361) .
([96]) "المبدع في شرح المقنع" لابن مفلح (2/114) .
([97]) "النكت على المحرر" لابن مفلح (1/132) .
([98]) انظر "الإنصاف" (2/330) .
([99]) انظر "المدونة" (1/209) .
([100]) انظر "الإنصاف" (2/331) .
([101]) "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 97 ، 99) .
([102]) "السنن الكبرى" للبيهقي (3/153) .
([103]) انظر "حاشية رد المحتار" لابن عابدين (2/131) .
([104]) وانظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (25/213) .
([105]) انظر "المدونة" (1/120) ، و"المبدع" (2/115) ، و"حاشية رد المحتار" (2/132) .
([106]) "الصواعق المرسلة" لابن القيم (1/187) .
([107]) "المدونة" (1/207 ، 208) .
([108]) انظر "حاشية رد المحتار" لابن عابدين (2/ 131) .
([109]) انظر "السنن الكبرى" للبيهقي (3/153) و"إيضاح الدلائل في الفرق بين المسائل" للزريراني الحنبلي
(1/192 ، 193) ، و"حاشية رد المحتار" لابن عابدين (2/ 131، 132) .
([110]) انظر "مسائل الإمام أحمد" لأبي داود (74) .
([111]) قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (19/244 ، 245) : (. . وما زال الناس يخرجون من مساكنهم إلى البساتين التي حول مدينتهم . . ولا يُسَمَّوْنَ مسافرين ، ولو أقام أحدهم طول النهار ، ولو بات في بستانه وأقام فيه أياماً ، ولو كان البستان أبعد من بريد ، فإن البستان من توابع البلد عندهم ، والخروج إليه كالخروج إلى بعض نواحي البلد) .
([112]) وانظر المرجع السابق (25/213) ، و"الدرر السنية" (3/209) .
([113]) وانظر "المغني" لابن قدامة (3/110) .
([114]) "غمز عيون البصائر" للحموي (1/238) .
([115]) "المجموع شرح المهذب" للنووي (1/212) .
([116]) وانظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (23/7 ـــ 16) .
([117]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/139) .
([118]) "زاد المعاد" لابن القيم (3/561) .
([119]) رواه البخاري في "صحيحة" (3/450 فتح) .
([120]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/95) .
([121]) "المغرب" لناصر المطرزي (مادة "سلل") ، ومادة سلسلة في غير هذا المعجم هي : "سلسل" .
([122]) "أحكام القرآن" (1/736) .
([123]) انظر "تاريخ واسط" لأسلم بن سهل (1/37) ، و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية" (24/18) ، و"أحكام أهل الذمة" لابن القيم (1/336) .
([124]) انظر "سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/66) .
([125]) ذكره ابن مفلح في "الفروع" (2/56) ، وقال : رواه الأثرم ، وانظر "المغني" (2/68) .
([126]) انظر "مجموع الفتاوى" (19/243) و (24/8) فما بعدها إلى صحيفة (162) و (25/ 209).
([127]) انظر المرجع السابق (25/213) .
([128]) انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (25/213) .
([129]) المرجع السابق (24/36) ، وانظر منه (19/235) .
([130]) "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (4/434) .
([131]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/136) .
([132]) المرجع السابق (24/12) .
([133]) المرجع السابق (24/135) ، وانظر (21/356) من المرجع نفسه .
([134]) المرجع السابق (24/18) .
([135]) "الصارم المسلول" لابن تيمية (3/1009) ، وانظر "حاشيتي قليوبي وعميرة" (4/71) في اعتبار المعنى العرفي في الإعسار عند إطلاق العالم للفظه .
([136]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/140) .
([137]) المرجع السابق (24/139) .
([138]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/185) .
([139]) "زاد المعاد" لابن القيم (3/561) ، و"الصواعق المرسلة" له (1/187) .
([140]) انظر "الدرر السنية" (3/209) .
([141]) المرجع السابق " (3/372) .
([142]) انظر المرجع السابق (3/209) .
([143]) "المختارات الجلية" (47– 48) .
([144]) "فتاوى السيد رشيد رضا" (3/1180) .
28/12/1429 - الشيخ سليمان الماجد
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
المقدمــة
الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده . أما بعد :
فقد جعل الله تعالى الأرض ذلولاً وسلك فيها فجاجاً سبلاً ليسعى الناس في مناكبها لمصالحهم في الدين والدنيا ؛ كطلب العلم أو الجهاد أو الحج والعمرة ، أو لطلب الرزق من وظيفة أو تجارة ، أو لأغراض أخرى من زيارة أو نزهة ؛ فصار الإنسان في سعيه لهذه المصالح بين حَلٍّ وتَرحال .
فإذا سافر المرء ثم نزل لشيء من هذه الأغراض بدا لـه سؤال قديـم جديد وهو إلى متى يُشرعُ لـه قصرُ الصلاة والفطرُ في نـهار رمضان ؟
وقد تنوعت مذاهب الناس في ضبط ذلك فمنهم من يرى نفسه مقيماً يجب عليه الإتمام والصوم إذا نوى النـزولَ مدة معينة ، وهي أربعة أيام ، وقريب من هؤلاء من جعل هذه المدة خمسةَ عشر يوماً .
ومنهم من يرى أن وجوب الإتمام والصوم لا يكونان إلا فـي الوطن فقط ؛ فإذا سافر المرء ثم نزل مكاناً لا يريد الإقامة فيه على التأبيد أخذ بالرخصة ؛ فقصر وأفطر ، مهما كانت مدةُ إقامته وصفتُها ، ويرون في بعض أحاديث النبي الفعلية ، وفي أخبار بعض الصحابة رضي الله عنهم من الترخص المدد الطويلة ما يصحِّح هذا القول .
كما استدل بـهذه الأخبار نفسها من قال من العلماء : إن مَنْ قيَّد إقامته بنهاية وقت أو عمل فهو مسافر ، مهما كانت مدةُ إقامته وصفتُها ؛ فقالوا بمشروعية رخص العبادة للمغتربين من الطلبة والعمال وغيرهم الذين وُجِدت فيهم هذه الصفة ، وقد نُسب هذا القول إلى الإمام ابن تيمية .
فكان هذا البحث لتحرير الكلام في مسائل :
الأولى : حد الإقامة الذي تنتهي به أحكام السفر ، وذكر الأقوال في هذه المسألة وأدلة كل قول ، وما أُورد عليها ، وبيان الراجح .
الثانية : حكم ترخص هؤلاء المغتربين وأمثالِهم ، حيث كثر الآخذون بالرخصة في مثل هذه الأحوال ، ظناً منهم أن هذا موافق لهدي النبي وطريقة أصحابه ؛ فوجب البيان والتنبيه .
الثالثة : بيان فقه الأخبار الواردة عن النبي وبعض الصحابة والتابعين في ترخصهم مدداً طويلة ، وبيان ما يُخَرَّجُ عليه هذا الترخصُ من أصول الشريعة وقواعدها ، في ضوء كلام الفقهاء .
فإذا تبين سبب ترخصهم فإن متابعتهم في الرخصة خير من متابعة مَنْ بعدهم في العزيمة والاحتياط .
الرابعة : نسبة بعض هذه الأقوال إلى بعض العلماء كشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله وغيره ، وصحة أقوالهم في المسألة .
فما كان في هذه الرسالة من صواب فمن الله وحده ، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسـوله بريئان منه . ولا بد لعمـل البشر من
خطأ أو نقصٍ ، علاجها التقويم والتصحيح من أهل الفضل والنصيحة .
اللهم استعملنا في طاعتك واجعل أعمالنا خالصة لوجهك واغفر لنا ولوالدينا ومشايخنا وأزواجنا وذرياتنا .
أشهر أقوال العلماء في هذه المسألة
تحرير محل النزاع :
اتفق العلماء في حد الإقامة الذي تنتهي به أحكام السفر على حالين :
الأولى : أن من استوطن بلداً فقد انقطعت عنه أحكام المسافر([1]).
الثانية : أن من نزل مكاناً وهو يقول : أخرج اليوم أخرج غداً فهو مسافر مهما طال مكثه ([2]).
ثم اختلفوا فيما سوى ذلك ، وهذه أشهر أقوالهم في المسألة :
القول الأول : أن الحد بين حكمي المقيم والمسافر هو نية المكث أربعة أيام .
وبـهذا القول أخذ مالك ([3]) والشافعي ([4]) ، ولا يُحتسب عند الشافعية يوما الدخول والخروج من هذه الأربعة .
وهو قول أحمد ، إلا أنه يرى احتساب يومي الدخول والخروج ([5]) .
وقد استدل بعضهم لذلك بحديث العلاء بن الحضرمي قال :
قال : "يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً" ([6]) .
ووجهه : أن الثلاثة تدل على بقاء حكم السفر بخلاف الأربعة ([7]).
واستدل بعضهم بنـزوله مكة للحج من اليوم الرابع من ذي الحجة حتى اليوم الثامن ؛ فبلغت إقامتُه هناك ـــ وهو يترخص ـــ أربعةَ أيام ([8]) .
ووجه هذا الدليل أن هذه الأيام الأربعة هي أكثر مدة قصر فيها
النبي نازلاً مع علمنا بوقت مكثه في ذلك المكان ؛ وذلك لأنه لن يخرج إلا في اليوم الثامن ؛ فمشروعية القصر مستيقنة لمن نوى المكث دون هذه المدة ، وما زاد عليها فمشكوك في مشروعيته ؛ فنرجع فيما زاد إلى أصل الإتمام عند نزول الأمصار وترك النقلة . وحملوا ما زاد على ذلك في بقية الأخبار على حال من يقول : اليوم أسافر .. غداً أسافر ، أو على احتمال انقضائها في أقل من أربعة .
وقد أُجيب عن أدلة هذا القول بأوجه منها :
الأول : أن أقصى مدة نزلها يقصر الصلاة لو كانت حداً فاصلاً بين السفر والإقامة لبينها أوضح بيان شأنـها شأن بقية الأحكام الشرعية المحدودة بعدد من الأيام ؛ كمدة المسح على الخفين للمقيم والمسافر ، وعدة الآيسة والصغيرة والمتوفى عنها زوجها ، ومدة التربص في الإيلاء ، وعدد أيام الصيام في الكفارات الشرعية ؛ كالقتل والظهار والجماع في نهار رمضان وفدية الأذى للمحرم وكفارة اليمين ، هذه في الأيام .
أما غير الأيام من الأعداد في مقادير الأحكام الأخرى فأكثر من أن تحصى ، وذلك كمقدار صدقة الفطر ، وأنصباء الأموال الزكوية ، ومقدار الواجب في هذه الأنصباء ، وبيان مقدار حولها ، وغيرها كثير ؛ فما من أمر يكون العدد فيه مقصوداً إلا بُيِّن بأوضح كلام وأجلى عبارة .
وهذه الأحكام التي بُيِّنت أعدادها لا يُحتاج إليها كحاجة حد الإقامة ، بل كثير منها لا يحتاجه المرء في حياته إلا مرة واحدة ، وبعضها قد لا يحتاج إليها مطلقاً ، ومع ذلك كان لها هذا الحظ من البيان .
فلما لم تبين الشريعة مدة الإقامة التي تنتهي بـها أحكام السفر مع قرب
مأخذها ، وسهولة بيانـها ، وعظم الحاجة إليها دلَّ ذلك كله على أن أعداد الأيام في ضبط الإقامة ـــ حداً مشتركاً لجميع الناس ـــ غير مرادة ،
وأن سبيل ضبط ذلك هو شيء غيرُ الأيام ؛ فليُرجع فيه إلى أدلة الشريعة ليُستجلى ، ويُضبط بـه ما اختلف فيه الناس .
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في معرض نقضه على من قال بتحديد الإقامة بأربعة أيام قال : ( ولو كان هذا حداً فاصلاً بين المقيم والمسافر لبينـه للمسلمين ) ([9]) اهـ .
الثانـي : أنه لم يقل لأصحابـه الذين رافقوه في حجته : إنه قصر الصلاة لأنـه لم يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام ، وبيان هذا من أهم المهمات ، أفاده العلامة ابن القيم رحمه الله ([10]) .
الثالث : أنه لم يقل لمن جاء للحج قبله بيومٍ أو أ كثر ، أو جاء معه ونوى التأخر بعده إلى صبيحة عرفة لم يقل لـه : ليس لك الترخص ؛ لانقطاع إقامتك بنـية المكث أكثر من أربعة أيام ، رغم كثرتـهم
وتواردهم من الأقطار لشهود حجته وحاجتهم العظيمة للتعلم والفقه في الدين ، وحرصه العظيم على بيان الدين ، مع علمه بدنو أجله .
قال ابن تيمية عن قصر النبي في حجة الوداع : (.. لكن من أين لهم أنه لو قدم صبح ثالثة وثانية كان يتم ، ويأمر أصحابـه بالإتمام ؟ ليس في قوله وعمله ما يدل على ذلك ) ([11]) .
الرابع : قال ابن تيمية : ( معلوم بالعادة أن ما كان يُفعل بمكة وتبوك
لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام ولا أربعة حتى يقال : إنـه كان يقول : اليوم أسافر غداً أسافر ، بل فَتَحَ مكةَ وأهلُها وما حولها كفار محاربون لـه ،
وهي أعظم مدينة فتحها ، وبفتحها ذلت الأعداء ، وأسلمت العرب ، وسرّى السرايا إلى النواحي ينتظر قدومهم ، ومثل هذه الأمور مما يُعلم
أنـها لا تنقضي في أربعة أيام .. ) ([12]) .
الخامس : أن تحديد الإقامة التي تنتهي بـها أحكام السفر مسألة عامة يحتاجها جميع الناس في جميع الأمكنة والأزمنة ، أما تحديد إقامة المهاجر في حديث العلاء هذا فهو خاص بالمهاجرين ، في خصوص زمان معين هو وقت حياتـهم ، في خصوص مكان معين هو مكة ؛ فهل يُظن أن تُعنى الشريعة بتحديد هذا مع خصوصه في الزمان والمكان والأشخاص ، وتدع بيان حد الإقامة مع عمومه لهذه الأحوال ؟
السادس : دل حديث العلاء هذا على أنه ليس للمهاجر أن يقيم
في مكة بعد قضاء نسكه أكثر من ثلاثة أيام ، أي أن من زاد على الثلاثة
من المهاجرين عُدَّ مخالفاً للأمر ، بيد أن بعض الفقهاء الذين استدلوا به لتصحيح هذا القول جعلوا نـهاية الرخصة أربعة أيام ؛ فعليه لا مطابقة بين الدليل والمدلول عليه .
قال ابن تيمية في هذا المعنى : ( وقد رخَّص النبي للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا ، والقصر في هذا جائز عند الجماعة ، وقد سمَّاه إقامة ، ورخَّص للمهاجر أن يقيمها ؛ فلو أراد المهاجر أن يقيم أكثر من ذلك بعد قضاء النسك لم يكن لـه ذلك ، وليس في هذا ما يدل على أن هذه المدة فرقُ ما بين المسافر والمقيم . . فعُلم أن هذا التحديد لا يتعلق بالقصر ،
ولا بتحديد السفر ) ([13]) اهـ .
القول الثاني : أن هذا الحد هو خمسة عشر يوماً .
وهذا هو مذهب الحنفية ([14]).
واستدلوا لذلك بقول ابن عباس رضي الله عنهما : ( إذا قدمت بلدة وأنت مسافر ، وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوماً أكمل الصلاة بـها ، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها ! ) ([15]).
ووجه الاستدلال بـهذا الأثر أن هذا لا يقال إلا عن توقيف ([16]).
وقد أجيب عن هذا الاستدلال بأنه غير مسلَّم لوجهين :
الأول : أن للرأي فيه مجالاً ؛ فلا يُعطى حكم الرفع .
الثانـي : أنه قد صحَّ عنهما ما يعارض هذا القول ([17]) .
ويَرِدُ على هذا التحديد أيضاً ما أُورد على أدلة القول الأول .
القول الثالث : أن حد ذلك في قصر الصلاة هو مكث النازل عشرين يوماً .
وهو قول ابن حزم ([18]) .
واستدل لذلك بقصر النبي الصلاة في تبوك عشرين يوماً ([19]) .
ووجهه أن أكثر مدة نزلها وهو يقصر الصلاة هي ما ورد في هذه الغزوة ؛ فخرج هذا المقدار من الإقامة عن سائر الأوقات بـهذا الخبر ([20]) .
ويَرِدُ على هذا القول ودليله ما ورد على أدلة القول الأول .
القول الرابع : أن المعتبر في تحديد الإقامة هنا هو العُرْف .
فمن سمَّاه الناس مسافراً فهو مسافر لـه الأخذ برخص السفر ، ومن سمَّوه مقيماً فهو مقيم لا رخصة لـه .
وهذا هو قول الإمام بن تيمية ، وسيأتـي تحرير قوله في آخر الرسالة ، وهو قول العلامة عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ([21]) . وعليه تُحمل طريقة السلف ، حيث يصح عن الصحابي الواحد أقوال متعددة .
واعتبار العرف في تحديد الإقامة في أسبابـها ـــ عدا المدة ـــ هو طريقة أكثر الفقهاء ؛ بل إن المدة نفسها تخضع عندهم لبعض الأسباب العرفية ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى .
ودليل هذا القول هو قاعدة الأسماء المطلقة في الشريعة ، وهي : كل اسم ليس لـه حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف ([22]) .
القول الخامس : أن من قيَّد إقامته بانتهاء عمل أو زمن فهو مسافر .
وهذا هو قول العلامة الشيخ محمد بن صالح ابن عثيمين أثابه الله ([23]).
وبناء على ذلك فهو يرى أنه لا أثر للتأهل في ثبوت وصف الإقامة ؛ لأن النبي اصطحب زوجاته في أسفاره ، ومع ذلك ترخص ، ولا أثر عنده لاتخاذ البيوت ؛ لأنـهم إنما يشترونـها لسكناها إلى انتهاء غرضهم فقط ؛ كما أنه لا يَعتبرُ أثراً لمدة المكث لعدم الفرق بين المدد في الشريعة ([24]).
ولذلك أفتى المغتربين من الطلبة والعمال الذين يقيدون نزولهم بنهاية وقت أو عمل بأنـهم مسافرون ، ولو علموا طول الإقامة .
وقد استدل أثابه الله لذلك من الكتاب بقول الله تعالى : "وَإِذَا ضَرَبْـتُمْ في الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ" الآية .
ووجه هذا الدليل أن الله أطلق الضرب في الأرض وعمَّم في وقته ، والضرب في الأرض هو السفر فيها ، والله تعالى يعلم أن من الضاربين في الأرض التاجر والمجاهد ، وأنـهما يحتاجان إلى نزول مدة ، ولم يستثن الله عز وجل ضارباً من ضارب ولا حالاً من حال ؛ فكل نزولٍ للمسافر مشمولٌ بـهذا العموم ؛ فيكون صاحبه مستحقاً للرخصة ، ولا يُستثنى
من ذلك إلا المستوطن ، ومن نوى إقامة مطلقة ([25]).
ومن السنة : استدل أثابه الله بإقامة النبي في مكة للحج ([26]) ثم قال :
( ووجه الدلالة منه أن النبي أقام إقامة لغرض الحج مقيدة بزمن معين ، وقد نواها من قبل بلا ريب ، ومع ذلك بقي يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة ؛ فدل ذلك على أن الإقامة لغرض معين متى انتهى منه رجع إلى
وطنه لا ينقطع بـها حكمُ السفر . . ) ([27]) اهـ .
واستدل من السنة كذلك بأن النبي أقام في مكة عام الفتح وفي غزوة تبوك ، وأنه : ( . . قصر لأن العلة في الإقامتين واحدة وهي انتظار انتهاء ما أقام من أجله ) ([28]) اهـ .
ومن آثار الصحابة والتابعين : استدل أثابه الله بأن بعض الصحابة رضي الله عنهم أقاموا بِرَامَهُرْمُز تسعة أشهر يقصرون الصلاة ([29]).
وبأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أقام مجاهداً بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة ([30]) .
وبما صح عنه أن رجلاً سأله عن إطالة القيام بالغزو في خراسان ؟ فقال : صل ركعتين وإن أقمت عشر سنين ! ([31]) .
وبأن عبد الرحمن بن سمرة قصر بكابل شتوة أو شتوتين ([32]).
واستدل أيضاً بإقامة سعد بن مالك شهرين بعمان يقصر الصلاة ([33]).
وبما جاء عن أبي وائل قال : أقمت مع مسروق سنتين يصلي ركعتين بالسلسلة ، قال : فقلت لـه : ما حملك على هذا يا أبا عائشة ؟ فقال : التماس السنة ([34]).
وبما جاء عن أبي المنهال أنه قال : قلت لابن عباس رضي الله عنه : إنـي أقيم بالمدينة حولاً لا أشد على سير ؟ قال : صل ركعتين ! ([35]).
ووجه الاستدلال من هذه الآثار أنـها دلت على مشروعية الترخص مع المدة الطويلة ([36]) .
وقد استدل أثابه الله من القياس بأشياء إنما هي إيرادات واعتراضات على أدلة المحددين بمدة ، وليست استدلالاً يثبت صحة ضابط إرادة الوقت والعمل الذي ذكره ؛ لذلك لم أذكرها هنا ؛ فراجعها هناك ([37]) .
مراجعةٌ لأدلة هذه الفتوى :
قد يُجاب عن الاستدلال بالآية بأن عمومها للمغتربين غير مُسلَّم ؛ فلا يجوز أن يقال بـهذا العموم إلا في أفراد الحقيقة المعتبرة فقط ؛ فإذا كانت الحقيقةُ شرعيةً مثلاً شمل لفظُ العموم الواردُ أفرادَ هذه الحقيقة فقط ، دون أفراد اللغوية والعرفية .
مثال ذلك : قولـه "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" ([38]) ؛ فالصـلاة
نكرة في سياق النفي ؛ فهي لفظ عام ، ولكن هل يقال : إن عموم هذا اللفظ يشمل الصلاة اللغوية كالدعاء ؛ فنقول بناء على ذلك : لا يصح الدعاء إلا بوضوء ؟ أو يقال ـــ وهو الصحيح ـــ : إن هذا العموم يشمل أفراد الحقيقة الشرعية فقط ؛ لأنـها المعتبرة هنا ؛ فيشمل عمومُ هذا الحديث الصلوات الشرعية ؛ كالفرائض والجنازة والعيدين والكسوفين والوتر ، وغيرها مما يُعرف شرعاً باسم الصلاة إذا أُطلق .
فلا بد ـــ قبل إجراء العموم ـــ من تحديد مقصد الشارع من اللفظ هل يريد به الحقيقة اللغوية أو الشرعية أو العرفية ؟ فإذا ثبتت إحدى هذه الحقائق لتعيين المراد باللفظ كان العموم منتظماً لأفراد هذه الحقيقة المعيَّنة دون سواها من الحقائق ([39]).
وفي مسألتنا هذه إذا كانت الحقيقة المعتبرة في لفظ السفر هي الحقيقة العرفية على الصحيح ، وهو اختيار شيخنا ابن عثيمين ([40]) أثابه الله ؛ فإن دعوى العموم لا تصح إلا فيما كان سفراً عرفاً فقط .
وما دام أن حالات نزول المغتربين وأمثالهم ـــ ممن يقيد إقامته بوقت أو عمل في حالٍ من الاستقرار في سكن المثل في مدة طويلة ـــ لا تُعدُّ في العرف من السفر لا حقيقة ولا حكماً فإن دعوى عموم لفظي السفر والضرب في الأرض لأحوالهم غير مسلمة ، وهذا هو المطلوب في هذا الجواب .
حول علة الترخص في الحديثين :
ذكر شيخنا العلامة ابن عثيمين أثابه الله أن علة الترخص هي إرادة النازل مدة معينة أو إنجاز غرض محدد ؛ لكون الوصف الأول ـــ وهو إرادة المدة ـــ موجوداً في مقامه في مكة عام حجة الوداع ، وكون
الثاني ـــ وهو النـزول لأجل الغرض ـــ موجوداً في إقامة النبي في مكة عام الفتح ، وكذلك في تبوك .
وهذا استخراج للعلة بـ "مسلك الطرد" ، حيث يقول المستدل : إن الحكم وُجِد عند وجود هذا الوصف ، وهو تقييد الإقامة بزمن ، أو نـهاية عمل ؛ فيكون هذان الوصفان علةَ الرخصة ؛ فمتى وُجدا في محل النـزاع ثبت الترخص .
والصحيح أن مسلك الطرد هذا غيرُ معتبر في استنباط العلة ([41]).
ولو صح اعتبارُ كلِ وصف مقارن مطرد دون سبرٍ صحيح وتنقيحٍ
معتبر ، ودون بيانٍ لدليل تأثير ذلك الوصف للزم من ذلك اعتبارُ أوصافٍ أخرى في أسفاره ككونه لم يؤبِّد إقامته في منازله تلك ، أو كونه في
رفقة ، أو كون السفرِ بِرُمَّته طاعةً أو طويلاً ، وغيرها من الأوصاف التي لم تدل الشريعة أو العقل على اعتبارها مؤثرة في حكم الرخصة .
ووصف إقامة النبي بذلك لا يختلف عن هذه الأوصاف المذكورة ؛ فهي أوصاف طردية لا يصح أن يُعتبر منـها وصف ؛ لأن الشريعة لم تعتبر شيئاً منها مؤثراً في الحكم لا بالنص ولا بالاستنباط .
قال ابن تيمية : ( ومن علَّل بوصف فعليه أن يبين تأثير ذلك الوصف ، إما لكون الشرع جعل مثله مقتضياً للحكم ، وإما لمناسبة تقتضي ترتيب الحكم على الوصف ؛ فإن لم يظهر التأثير لا شرعياً ولا عقلياً كان الوصف طردياً عديـم التأثير) ([42]) .
وقال الغزالي في الأوصاف الطردية المقرونة بالحكم قال : ( .. فإن قيل : ثبوت حكمها معها ، واقترانه بـها دليل على كونـها علة ، قلنا : غلطتم في قولكم : ثبوت حكمها ؛ لأن هذه إضافة للحكم لا تثبت إلا بعد قيام الدليل على كونـها عـلة ؛ فإذا لم تثبت لم يكن حكمَها.. والاقترانُ لا يدل على الإضافة ؛ فقـد يلزم الخمرَ لونٌ وطـعمٌ يقترن به التحريم ، ويطرد وينعكس .. واقترانـه بما ليس بعلـة كاقتران الأحـكام بطلوع كوكب وهبوب ريح ) ..
.. ( وبالجملة فنصب العلة مذهب يفتقر إلى دليل ؛ كوضع الحكم ،
ولا يكفي في إثبات الحكم أنه لا نقض عليه ، ولا مفسد لـه ، بل لا بد من
دليل ؛ فكذلك العلة ) ([43]) .
فإن قيل : إن هذا الوصف ليس مُطَّرداً فقط ، بل هو منعكس أيضاً ؛ فقد وُجِد الحكم وهو الترخص عند وجود هذا الوصف ؛ وذلك في أحوال نزول النبي أثناء سفره ، وانتفى حكم الترخص عند انتفاء هذا الوصف ؛ وذلك حين نزل المدينة ولم يقيد إقامته بوقت أو عمل ، ومذهب الجمهور على صحة التعليل بالدوران ، وهو دوران الحكم مع العلة وجوداً وعدماً !؟
فالجواب : أن القائلين بالدوران يشترطون لصحة التعليل به "انتفاء المزاحم" ، والمـتأمل في الأوصاف التي وُجدت في أسفار النبي وفي نزوله أثناءها يرى أنـها كثيرة متزاحمة :
فمن هذه الأوصاف الاستيطان ؛ فقد ترخص النبي حين لم يؤبد إقامته ، وترك الرخصة حين صار مستوطناً .
ومنها : الوصف العرفـي للإقامة ؛ فقد ترخص حين لم يكن مقيماً عرفاً في مسيره ونزوله ، وترك ذلك في المدينة حين كان في إقامة عرفية .
ومنها : أنه ترخص حين كان نازلاً لحج وعمرة وجهاد ، وترك ذلك في المدينة حين كان نزوله لمجرد السكنى .
فهذه الأوصاف كلها مطردة منعكسة فأيها نعتبر ؟ فلا بد ـــ إذاً ـــ لبناء الحكم على أحد هذه الأوصاف دون البقية من دليل أو مناسبة معتبرة يتعين بـها أحد الأوصاف دون الآخر .
قال ابن تيمية : ( القياس إنما يصح .. إذا سبرنا أوصاف الأصل فلم يكن فيها ما يصلح للعلة إلا الوصف المعين ، وحيث أثبتنا علة الأصل بالمناسبة أو الدوران أو الشبه المطرد ـــ عند من يقول به ـــ فلا بد من السبر ؛ فإذا كان في الأصل وصفان مناسبان لم يجز أن[يقول] الحكم بـهذا دون هذا ..) ([44]) .
إلى أن قال في تتمة هذا الكلام : ( .. فإذا كانت هذه المعانـي وغيرها موجودة في الأصل فدعواهم أن الشارع علَّق الحكم بما ذكروه من الأوصاف معارَض بـهذه الأوصاف ، والمعارضة تبطل كل نوع من الأقيسة ، إن لم يتبين أن الوصف الذي ادعوه هو العلة دون هذا ) ([45]).
حول الاستدلال بآثار الصحابة والتابعين :
وأما ما جاء عن بعض الصحابة والتابعين من أنـهم أقاموا مدداً طويلة يقصرون الصلاة ، وأن في هذا دلالة على صحة هذا القول .
فالجواب عن ذلك هو : أن هذه الأخبار لم تتضمن أي دلالة على أن الصحابة والتابعين اعتبروا الغرض والوقت حداً بين حالي المقيم والمسافر ؛ فلا حجة فيها لعدم الملاقاة .
ويقال من وجه آخر : بأنه لم يأت في هذه الأخبار ما يدل على أنـهم نووا هذه المدة عند النـزول ، وغاية الأمر أنـهم أخبروا بمكثها بعد قفولهـم ؛ فلا حجة فيها على قصد المدة الطويلة ؛ فإن من ينتظر فراغ حاجته كل عشرة أيام أو عشرين أو ثلاثين مثلاً يُعتبر مسافراً عند الناس ، وقد يبقى على هذه الحال سنة ؛ فيُخْبِرُ عند قفوله أنه مكثها ، ولكن ذلك لا يعني أنه نوى هذه المدة كلها عند نزوله ، وهذا في أحوال المسافرين كثير ؛ فلا يلزم من اجتماع المدة الكثيرة أن صاحبها قد نواها عند نزوله .
ومن وجه ثالث يقال : إن القائل بضابط الاستيطان يستدل أيضاً من هذه الأخبار بطول المدة ، دون أن تظهر وجه حجيته لكل منهما ، والبرهان الواحد في الشريعة لا يصحح أمرين مختلفين .
فلا بد من البحث عن سبب آخر لترخص الصحابة والتابعين هذه المدد الطويلة غير هذين السببين ؛ وذلك لعدم صلاحهما لبناء حكم الرخصة .
ومما يَرِدُ على هذا القول أن مثل حالات المغتربين كانت تقع في المدينة في عهد النبي وعهد الصحابة رضي الله عنهم ، وهي مما يكثر وتعم بـها البلوى ، وتتوفر الدواعي والهمم على نقلها ، لاسيما أنـها خلاف المعهود ، والمعهود هو أن المقيم المطمئن بسكن وتأهل في مدة طويلة لا يترخص .
وبعيد أن تقع مثل هذه الصور من الترخص المخالفة للمعهود ثم لا تجد من يسأل عنها ، ولا من ينكرها من الصحابة والتابعين ، لاسيما أنـهم كانوا يقولون بانقطاع الرخصة فيما هو أقل من هذه الأحوال بكثير ؛ فلما لم يكن ذلك دل على أنـهم لم يكونوا يترخصون في مثل هذه الأحوال ، وهم أحرص الناس على الأخذ بالرخصة ، لاسيما في الصلاة .
القول السادس : أن للمرء الترخص برخص السفر حتى يرجع إلى وطنه .
حكاه الحافظ ابن عبد البر ولم يسمِّ قائله ([46]) .
والاستيطان في اللغة هو الإقامة ، والموطن كل مقام قام به الإنسان لأمر فهو موطن لـه ([47]) . وعرَّفه الفقهاء بأنه نية الإقامة على التأبيد ([48]).
والقائلون بـهذا القول يستدلون بالآثار المذكورة في أدلة القول الخامس .
ولعل وجه هذا الدليل أنـهم ترخصوا لأنـهم كانوا على نية الرحيل ، أو لم يكونوا مستوطنين ، وأنـهم تركوا الرخصة حين كانوا في أوطانهم .
وهذا استدلالٌ بمسلك الطرد أو الدوران ؛ فأما الأول فباطل عند جماهير الأصوليين ، لما تقدم قريباً ، وأما المسلك الثاني فمن شرط صحته عند القائلين به انتفاءُ المزاحم ، والأوصاف المزاحمة لوصف الاستيطان موجودة متساوية ؛ فلا اعتبار لأحدها دون الآخر إلا بدليل .
كما يرد على هذا القول الإيراد المذكور في الصحيفة السابقة .
أسباب الخلاف وآثاره والترجيح
أسباب الخلاف :
من عرض أدلة الأقوال ظهر أن خلاف العلماء يعود للأسباب الآتية :
1. دلالة حديث إقامة المهاجر على التحديد بأربعة أيام .
2. اعتبار حد الرخصة هو المدة التي قصر فيها نازلاً مع علمنا بوقت ارتحاله ، وكان ذلك في نزوله مكة للحج مدة أربعة أيام .
3. اعتبار الآثار الواردة عن بعض الصحابة في ذلك في حكم الرفع .
4. اعتبار أكثر مدة قصر فيها نازلاً ، وهي عشرون يوماً في تبوك .
5. اعتبار العرف لضبط الإقامة ؛ لعدم الشرعي واللغوي .
6. أن سبب الرخصة هو تقييد النبي نزوله بنهاية وقت أو عمل .
7. أن سببها هو عزم الرسول على الرحيل ، أو عدم نية الاستيطان .
8. طول مدة المكث التي كان يترخص فيه الرسول والصحابة والتابعون .
ويُلحظ هنا أن هذه الأسباب ـــ عدا الخامس ـــ قد جعلت المعتبر في حد الإقامة هو الحقيقة الشرعية ؛ كما هو ظاهر من استنباطات أصحابـها .
آثار الخلاف :
تظهر آثار الخلاف والفرق بين كل قول وآخر فيما يلي :
1. أن القائلين بالتحديد بمدة سواء كانت أربعة أيام أو سواها يرون أن من نوى إقامة تلك المدة وجب عليه أن يقطع الترخص ؛ فعند المالكية مثلاً من نوى إقامة أربعة أيام أتم ، ومن نوى أقل منها ترخص .
2. أن القائلين بالعرف يحيلون على أهله في كل حال تعرض ؛ ففي محل النـزاع في الأزمنة المتأخرة : من نوى الإقامة للدراسة أو العمل في محل المثل وسكنه ومدته الطويلة ؛ كسنة ، بنية مستقرة فهو مقيم يُمنع من الترخص .
3. أن القائلين بالاستيطان حداً في هذه المسألة يرون أنه لا أثر لتحديد المدة أو الغرض وعدم ذلك ؛ كما أنـهم لا يرون أثراً للعرف ؛ فما دام أن النازل لا يريد الإقامة على التأبيد فهو مسافر ؛ فعلى هذا القول يُعتبر مسافراً من نزح من الأرياف والبوادي إلى المدينة لطلب الرزق ، وهو يريد العودة إلى وطنه ، ولو بعد حين .
4. أن القائلين بأثر تعليق الإقامة بمدة معينة أو إنجاز غرض معين يرون أن من أطلق إقامته من المدة والغرض فهو مقيم ؛ فكثير من النازحين من القرى يُعتبرون على هذا القول من المقيمين لعدم وجود هذين الوصفين فيهم ، وأن الطلبة المغتربين وأمثالهم في حكم المسافرين مهما غلب على ظنهم طول وقت الإقامة ؛ لأنـهم يُعَلِّقُون إقامتهم بإنـهاء دراستهم ، ومثل ذلك الموظفون الذين يرتبطون مع بعض الشركات بعقد عمل مدة سنتين مثلاً يُعتبرون على هذا القول من المسافرين لكونـهم يعلقون إقامتهم بمضي مدة محددة .
5. أن القائلين بالعرف لا يَعتبرون طول المدة سبباً لثبوت الإقامة مطلقاً ، ولا قِصَرَها سبباً لنفيها مطلقاً ؛ كما لا يَعتبرون نية العودة إلى الوطن ، أو تحديد الإقامة بوقت أو عمل سبباً في نفي هذه الإقامة ، بل متى وُجدت أعمال الطمأنينة التي يُعتبر بـها المرء مقيماً عند الناس فقد انقطعت في حقه رخص السفر .
الراجح وأوجه الترجيح :
من عرض الأقوال وأدلتها ، وما يَرِدُ عليها من اعتراضات ، وأن القول الرابع ـــ وهو ضبط الإقامة بمقتضى العرف ـــ قد سلم من هـذه الاعتراضات ظهر أن الراجح هو هذا القول ؛ وقد ترجح ذلك بأوجه :
الوجه الأول : أن اعتبار العرف في هذه المسألة هو مقتضى قاعدة الأسماء المطلقة في الشريعة ، ومقتضى هذه القاعدة هو اعتبار الحقيقة الشرعية ؛ فإن لم يوجد فيها تحديد فاللغوية ؛ فإن لم يوجد فيها تحديد فالعرفية .
قال الفقهاء : كل اسم ليس لـه حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف ([49]) .
وحيث تقدم في استقراء ابن تيمية عدم وجود دلالة صحيحة من الشريعة على الحدود الزمنية ؛ كالأربعة أيام والخمسة عشر يوماً والعشرين ؛ كما لم تظهر دلالة صحيحة أيضاً على الاستيطان ولا ضابط إرادة الوقت والغرض : وجب المصير إلى اللغة ، وحيث لا حد في اللغة ؛ لأنه لا يمكن أن يكون للإقامة حد لغوي تتعلق به أحكام العبادة ، دون أن ينقله أهل اللغة ، وقد حرصوا أعظم الحرص على نقل حدود اللغة ومعانيها فيما هو أدقُ وأقلُ حاجةً من حدي السفر والإقامة ومعناهما ، لاسيما أن حملة اللغة هم فقهاء الأمة من أصحاب النبي والتابعين ومن بعدهم من العلماء ؛ فلم يبق من هذه الحقائق ما تُحَدُّ به الإقامة إلا العرف .
وهذه هي طريقة الفقهاء في المسائل المماثلة التي اعتبروا فيها المعنى العرفي لتحديد المراد من نصوص الشريعة عند عدم الشرعي واللغوي ؛ وذلك في مسائل كثيرة ([50]) ، وقد طبَّق هذه القاعدة في هذه المسألة الإمام ابن تيمية ، والعلامة عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ، وغيرهما .
والمتأمل يرى أن كثيراً من الفقهاء يَعتبرون العرف فـي أكثر أحوال الإقامة ؛ كما سيأتـي في مبحث "أسباب الإقامة العرفية" في صحيفة (40) إن شاء الله ، وهذا عرض موجز لبعض هذه الأحوال :
فمن ذلك اشتراط بعض الفقهاء المكان الصالح للإقامة عرفاً ، وهو مذهب أبـي حنفية ، والشافعي في قوله الآخر وأحمد في الرواية الثانية ؛ فلا يجري حكم المدة عند هؤلاء الفقهاء إلا في مكان معتبر عرفاً ، أي أن من نزل مكاناً غير صالح للإقامة عادةً فهو مسافر ، وإن اجتمعت له مدة كثيرة .
ومنه : اعتبار أكثر الفقهاء أن النازل للحرب غير مقيم مطلقاً ، وإن جاوز المدة المعتبرة في مذاهبهم ؛ لما يلحظ في الحرب من معانـي الاضطراب والتردد وعدم الاستقرار .
ومن ذلك اعتبار بعض العلماء التأهل مؤثراً في ثبوت وصف الإقامة وملغياً لتأثير المدة التي يرونـها حداً لهذه الإقامة .
ومن ذلك حال العَزَب واعتبار مقر إقامة والدية مقر إقامة له .
ومن ذلك اعتبار المسكن سبباً للإقامة .
ومن ذلك اعتبار نوع هذا المسكن ؛ فتُعتبر الإقامة للبدوي في الأخبية والخيام في البرية ، ولا تُعتبر للحضري في مثل هذه المساكن .
ومنها اعتبار العلماء لأثر اتخاذ المتاع والأثاث في بعض الأحوال .
ومن ذلك سقوط اعتبار الوطن إذا مر به المسافر عابراً .
ومما يُعتبر من نتائج اعتبار العرف : ما في مذهب أحمد في قوله الآخر ، وهو أن من أقام لحاجة ينتظر نجاحها بلا نية إقامة فهو مسافر ، ولو نوى أكثر من مدة الإقامة في المذهب ، إذا كان يحتمل قضاؤها قبل المدة .
ونحو ذلك في مذهبي أبي حنيفة والشافعي كما سيُذكر هناك .
فاعتبار أولئك العلماء هذه الأمورَ العرفيةَ دون جعل المدة معياراً وحيداً لثبوتـها هو الملائم لظاهر هدي النبي وعمل الصحابة رضي الله عنهم .
فهذا يؤكد أن المدة عندهم ليست علة مطردة في الترخص أو عدمه ، وإنما هي ضرب من الاحتياط ([51]).
ولعل الواحد منهم حين اعتبر حصول الإقامة ببعض هذه الأسباب قد نظر إلى الإقامة من بعض زواياها ، ولا يعني ذلك عنده ضرورة أنه لم يعتبر أسباباً أخرى لثبوت هذه الإقامة .
الوجه الثاني : أن ظاهر هدي النبي يدل على ذلك .
فقد كان يرافق النبي في أسفاره وإقامته عدد كبير جداً من أصحابه ، وقد سكتوا عن سؤاله عن سبب ترخصه في أوقات مسيره ونزوله أثنـاء سفره ؛ كما سكتوا عن سؤاله عن سبب تركه للرخصة في نزوله في المدينة ، وسكت هو عن بيان هذا السبب في الحالين ؛ فلا يخلو هذا الإطباق على ترك السؤال ، وسكوت النبي عن البيان من احتمالات ثلاث :
الأول : أن سبب ذلك هو كون الحد معلوماً عند الصحابة رضي الله عنهم من الشريعة .
الثانـي : أن ذلك لكونه معلوماً عندهم من لغة العرب .
الثالث : أن سبب ذلك هو أنه أحالهم على ما هو معروف عندهم من معنى السفر والإقامة .
وليس ثمة احتمال رابع .
فالاحتمال الأول غير وارد ، حيث لا يمكن أن يكون الحد معلوماً عند هذه الجموع أخذت علمه من الشريعة ، حتى تصل درجة معرفته ووضوحه وانتشاره إلى ترك السؤال عنه ، ودون أن يُحفظ عنه أنه علَّمه لهم ولو مرة واحدة ، ودون أن يصل هذا الحد الشرعي إلى من بعدهم بالدرجة نفسها من الوضوح والانتشار .
وأنت عليم بمقدار خلاف الصحابة والتابعين في هذا التحديد ، ولو كان علمه بـهذه الدرجة من الوضوح لما اختلفوا .
والاحتمال الثانـي غير وارد أيضاً ؛ لما تقدم قريباً من أن هذا الحد لو كان معلوماً من اللغة لنقلته الأمة .
فتعين الاحتمال الثالث وهو أنه اعتبر العرف .
وذلك لأن الرسول لا يختص بالعلم به دونـهم ؛ كاختصاصه بمسائل التوقيف والتعبد التي لا تُعرف إلا من طريقه ؛ فيحتاجون معها إلى بيانه .
ولكن الجميع يشتركون في معرفة حد الإقامة والسفر ؛ فلذلك لم يبينه لهم ، ولم يحتاجوا للسؤال عنه .
فكان اعتبار العرف هو المناسب لسكوت النبي عن البيان وترك أصحابه للسؤال .
فصار في ظاهر هدية ما يدل على اعتبار العرف في هذه المسألة ؛ فيترجح على بقية الأقوال .
الوجه الثالث : أن تعليل العزيمة بوصف الإقامة العرفـي مطرد منعكس .
ففي الطرد : أتم النبيُ وأصحابُه صلاتـهم في المدينة في أحوال هي عند أهل العرف من الإقامة ، وهو مطرد كذلك حين لم يُحفظ ترخصٌ لمقيم مطمئن غير مستوطن ، ولا حُفظ أيضاً ترخصٌ لمقيم إقامة عرفية معلقة بوقت أو تحقيق غرض ، رغم عموم البلوى بمثل هذه الإقامات ، وتوفر الهمم والدواعي على نقل الترخص فيها لو كان موجوداً .
وفي العكس : كان النبي يترخص في أحوال تُعتبر عند أهل العرف من السفر ، أو من توابعه ، أي ليست من الإقامة ، سواء كان ذلك حالَ الشخوص والحركة ، أو حالَ النـزول في مصر أو فضاء ، ولم يوجد فـي منازله ما يُعتبر فيها مقيماً مطمئناً قاطعاً لسفره .
ومسلك الدوران وإن اختلف الفقهاء فـي اعتباره طريقاً لاستنباط العلة ابتداء إلا أن المخالفين فـي ذلك من فقهاء الأصول يعتبرون وجوده دليلاً على سلامتها من النقض ، وعلامةً على شدة تأثيرها ([52]) .
أما ما جاء في أحاديث النبي وآثار بعض الصحابة والتابعين المذكورة فـي صحيفة (14) ؛ فعند تأملها لا تجد فيها ما ينتقض به اعتبار العرف ، ولا ما يفسد دوران العلة مع الحكم .
فليس فيها حال واحدة ثبتت فيها الإقامة بمعناها المعروف عند الناس من وجود الطمأنينة واتخاذ سكن ومتاع المثل فـي مدة طويلة ، ونية مستقرة ، وفـي مكان صالح للنـزول ، وغيرها من أوصاف الإقامة العرفية التي يَعْتبِرُ الناسُ النازلَ فيها مقيماً .
والأصل هو عدم تحقق الإقامة بـهذه الأوصاف حتى يُثبت المخالف وجودها ؛ فإن لم يُثْبِتْ ذلك فالأصل هو بقاء السفر أو حكمِه .
فهذه الأحوال إنما هي من السفر ، أو من توابعه عُرفاً ، قال ابن تيمية رحمه الله : ( .. وقد أقام المهاجرون مع النبي عام الفتح قريباً من عشرين يوماً بمكة ، ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بـها عن السفر ) ([53]) .
وقال ابن القيم في فوائد غزوة تبوك : ( ..ومنـها أنـه أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة ، ولم يقل للأمة : لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك ، ولكن اتفقت إقامته هذه المدة ، وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر ، سواء طالت أو قصرت إذا كان غير مستوطن ، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع ) ([54]) .
وسيأتـي مزيد بسط لفقه هذه الأحاديث والآثار في صحيفة (62) .
وأما وجود زوجات النبي معه في أسفاره فلا ينتقض به هذا
التعليل ؛ وذلك لأن التأهل الذي يُعتبر به المرء مقيماً عرفاً هو كون الزوجة مقيمة في المكان الذي ينـزله المسافر .
أما إذا كانت هي مسافرة فلا تأثير لها في حال زوجها . بل قال كثير من العلماء : إن المرأة هي التي تتبع زوجها في حكم سفره وإقامته ([55]) .
وزوجات النبي لم يَكُنَّ معه إلا مسافرات ؛ فلا يعتبر وجودهن معه مفسداً لهذه العلة ، ولا مانعاً من دورانـها .
الأسباب العرفية للسفر
حيث ظهر أن الراجح هو اعتبار العرف في هذه المسألة فإن من مكملاتـها ذكر بعض أسباب وتطبيقات السفر والإقامة ؛ لأن فقه الأخبار الواردة في الترخص لا يُتصورُ تصوراً تاماً إلا بعد تأمل هذه الأسباب والتطبيقات العرفية .
ونظراً إلى أن وصفي السفر والإقامة العرفيين نقيضان لا يجتمعان معاً ، ولا يرتفعان معاً ؛ فثبوت أحدهما نفي للآخر ، وأننا قد نحتاج إلى استبقاء
أو نفي وصف الإقامة فلا بد من معرفة حدود السفر عند أهل العرف ؛ لهذا السبب ذكرت هنا الأسباب العرفية للسفر ([56]) :
السبب الأول : البروز من دار الإقامة ومفارقة عمرانـها .
فمكان ابتداء السفر هو الأرض الفضاء التي لا عمران فيها ، ومفارقة العمران مسألة عرفية ([57]) ؛ فلا يدخل في ذلك الضياع والمزارع ([58]) ، ولو كان الناس يقيمون فيها بعض الفصول ([59])، ومثل ذلك المعارض والمستودعات ومحطات الوقود ، وإن كانت مزدهرة ، وإذا جرت عادة أهل البلد بسكنى مزارعهم دوماً ـــ كبعض أهل الأرياف ـــ فلا بد من مجاوزتـها ([60]) .
السبب الثاني : الطريق وطبيعة المركب .
فالطرق الوعرة التي تمر في الحرار والجبال والغابات تختلف في حكمها العرفـي عن الطرق السهلة المعبدة ؛ فخمسة عشر كِيلاً مثلا في جَوَادِّ جبال تـهامة التي لا تُقطع إلا بالمشي أو الدواب قد تُعَدُّ سفراً ، بينما لا تُعَدُّ كذلك مع سهولة الطريق أو وجود المراكب السريعة ، هذا في حال المسافة القصيرة ، أما الشاسعة عرفاً فلا تأثير لنوع المركب ؛ فتُعتبرُ سفراً مهما كان المركب وطريقة السير ؛ كما سيأتـي في السبب التالي .
قال ابن تيمية عن اختلاف أحوال المسافرين بحسب اختلاف الحال :
( .. وقد يكون في المسافة صعود ، وقد يطول سفر بعضهم لبطء
حركته ، ويقصر سفر بعضهم لسرعة حركته ، والسبب الموجب هو نفس السفر ، لا نفس مساحة الأرض ) اهـ ([61]) .
وقال : ( فالسفر حال من أحوال السير لا يُحَدُّ بمسافة ولا زمان ) ([62]) .
وقال عن حد السفر بالمسافة : ( ولا يمكن أن يُحدَّ ذلك بحد صحيح ؛ فإن الأرض لا تُذرع بذرع مضبوط في عامة الأسفار ، وحركة المسافر تختلف ، والواجب أن يُطلق ما أطلقه صاحب الشرع ، ويُقيَّد ما قيَّده ؛ فيقصر المسافر الصلاة في كل سفر .. ) ([63]) .
وقال : ( .. وقد يركب الرجل فرساً يخرج به لكشف أمر ، وتكون المسافة أميالاً ويرجع في ساعة أو ساعتين ، ولا يُسمى مسافراً ، وقد يكون غيره في مثل تلك المسافة مسافراً ، بأن يسير على الإبل والأقدام .. ) ([64]) .
السبب الثالث : مسافة السفر ونية قطعها .
لا يكون الشاخص مسافراً إلا بوجود مسافة السفر مع نية قطعها ، وهذا وصف رئيس من أوصاف السفر عند الناس ؛ فأول ما يتبادر إليهم عند ذكر السفر هو طول المسافة ؛ فتراهم عند طولها يقولون : إن هذا سفر .
وأهل اللغة يُعَرِّفون السفر بأنه "قطع المسافة" ([65]) .
وإذا أردت تصور تأثير المسافة في السفر العرفي فانظر هذا في شخصين كل منهما جاوز بنيان بلده سائراً ؛ فأحدهما أراد قطع مسافة ألف كيل ، والآخر أراد قطع خمسة عشر كيلاً ، وكل منهما يرجع من مسيره هذا إلى بلده دون تزود أو مبيت ؛ فالناس يقطعون في صاحب الألف كيل بأنه مسافر ، وأن الآخر غيرُ مسافر ؛ فلم يُفرِّقِ الناسُ بين الحالين إلا بالمسافة .
وكان كثير من السلف يَعتبرون طول المسافة دون جعلها حداً مشتركاً ؛ فعن معاذ وعقبة بن عامر وابن مسعود قالوا : ( لا تغرنكم مواشيكم يطأ أحدكم بماشيته أحداب الجبال ، أو بطون الأودية ، وتزعمون بأنكم سَفْرٌ ، لا ولا كرامة ، إنما التقصير في السفر البات من الأفق إلى الأفق ) ([66]).
وقيل لإبراهيم : أتـُقْصَرُ الصلاة إلى المدائن ؟ قال : إن المدائن قريب ، ولكن إلى الأهواز ، ونحوها ([67]) .
وتقدير أدنـى المسافة المعتبرة لقيام وصف السفر ، وكذلك الشاسع منها هو من المسائل العرفية التي تختلف باختلاف الأحوال .
وأدنـى مسافة السفر قد لا تستقل بقيام وصفه ؛ فقد تحتاج هذه المسافة القليلة إلى أوصاف أخرى ؛ كنوع المراكب في ذلك الزمان أو المكان ، وكذلك وعورة الطريق والتزود والمبيت والانقطاع والغيبة .
وقد قرر ابن تيمية أن المسافة ليست سبب السفر الوحيد بل لا بد من مبيت وتزود أو أحدهما ؛ كالبريد إذا ذهب بلا تزود ورجع من يومه من غير نزول ؛ فلا يُسمى مسافراً ، وغيره في تلك المسافة قد يُسمى مسافراً ([68]).
وقال رحمه الله في موضع آخر : ( .. فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفراً ، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفراً ) اهـ ([69]).
وقال : ( .. وكلام الصحابة .. يدل على أنـهم لم يجعلوا قطع مسافة محدودة ، أو زمان محدود : يشترك فيه جميع الناس ، بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل ؛ فمن رأوه مسافراً أثبتوا لـه حكم السفر ، وإلا فلا ) اهـ ([70]).
ترخص من لا نية له أو كانت نيته مترددة :
ومن شخص عن بلده ولا نية لـه في مسافة السفر العرفي فهو مقيم لا رخصة لـه ؛ كالهائم ومتتبع الكلأ ومن خرج لرد ضالة ، إلا أن يبلغ مكاناً يكون رجوعه منه إلى بلده سفراً عرفاً ؛ فحينئذ يُشرع لـه الترخص ([71]) .
ومن علَّق سفره بلحاق القافلة بضاحية البلد ؛ فإن حصل لـه ذلك سافر وإلا أقام ، ولم يغلب على ظنه حصول مراده فهو باق على حكم الإقامة ؛ وذلك لعدم النية العازمة على السفر ([72]) .
ونظير هذا في الوقت الحاضر ما يُسمى "بحجز الانتظار" ، و"الحجز المؤكد" في الطائرات والقطارات والسفن :
فإذا كان المطار خارج بنيان البلدة أو في بلدة أخرى ، ولم تكن مسافته سفراً ، وكان الحجز مؤكداً ، أي يغلب على ظنه أن يسافر فهو في المطار وفي الطريق إليه مسافر ، وإن كان غير مؤكد ، وهو ما يُسمى بالانتظار فلا رخصة لـه ؛ لأن الأصل بقاء الإقامة فلا نخرج منها إلا بيقين أو غلبة ظن .
وهل نية السفر للذي تجب عليه طاعة متبوعه معلقة بنية ذلك المتبوع ؛ كالزوجة مع زوجها والجندي ذي الرزق مع قائده والرقيق مع سيده والابن مع أبيه ونحوهم ؟ فإذا ترخص ترخصوا ؟ فيها قولان مشهوران لأهل العلم ، أصحهما عدم مشروعية الترخص لهؤلاء ؛ لأن طاعة البشر لا يصح أن تكون سبباً لاستباحة الرخصة بمجرد التبعية ؛ فالأصل إذاً هو أن على هؤلاء الأخذ بالعزيمة حتى يثبت عندهم سبب الرخصة ، ولا تكفي رؤيتهم متبوعهم يترخص ، ولا بأس هنا بالعمل بالأمارات وقرائن الأحوال .
وسؤالُ التابعِ متبوعَه عن مقصده لا ينافي كمال الطاعة والتعظيم .
إذا طالت المسافة فصاحبها مسافر ولو عاد من يومه دون مبيت :
ومن قطع مسافة شاسعة كمائة كيل ونحوها فهو مسافر وإن رجع من يومه ؛ وذلك لأن أهل العرف يرونه كذلك .
وقد صحَّ عن علي أنه خرج إلى "النخيلة" ؛ فصلى بـها الظهر والعصر ركعتين ثم رجع من يومه ؛ فقال : أردت أن أعلمكم سنة
نبيكم ([73]) . فقد ترخص رغم أنه رجع من يومه .
ومن احتج بكلام الإمام ابن تيمية هذا من أن المسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفراً ، حتى في الشاسع منها ؛ فاعتبروا أن من قطع ثلاثمائة كيل مثلاً دون مبيت أو تزود أنه غير مسافر فهو محل نظر وتأمل ؛ لأمرين :
الأول : أن ابن تيمية لم يتعرض للمسافات الشاسعة التي يَعتبرها أهل العرف سفراً حتى وإن رجع من ساعته ويومه ؛ كالمائتي كيل ونحوها ؛ فالناس لا يكادون يختلفون في اعتباره مسافراً ، ومثال ابن تيمية رحمه الله في كلامه هذا إنما كان بالمسافة القصيرة جداً .
ومما يؤكد ذلك أنه ذكر هذه القاعدة في مواضع عدة ([74])، ومثَّل لها بمسافات قصيرة ، وهي البريد والفرسخ ، وبالمسافة بين مكة وعرفة ، وبالمسافة بين المدينة وقباء ، وبمسير الساعة والساعتين ، ولم يذكر مع هذه القاعدة مسافات شاسعة .
الثاني : على تسليم أن ابن تيمية يرى عموم تلك القاعدة لجميع المسافات فإنه إنما يتكلم في تقدير ذلك بصفته من أهل العرف لا بصفته مجتهداً مستدلاً من الشريعة ؛ فإذا كان الأمر كذلك فإن الأعراف قد تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال ، هذا من وجه ، ومن وجه آخر : قد يختلف أهل العرف أنفسهم في التقدير والحكم ، وإن اتحد المكان والزمان والحال .
ويلزم من طرد هذه القاعدة وهي عدم اعتبار المسافة الطويلة في المدة القليلة يلزم من ذلك أن نقول : إن من سافر بالطائرة مسافة ثلاثة آلاف
كيل ، أو بالسيارة ألف كيل مثلاً ، ثم عاد من فوره أنه غير مسافر ؛ لأنه يعود من نـهاره ولا يبيت ، وهذا مخالف للمقطوع به عرفاً .
تنبيه حول كلام لابن تيمية في المسافة :
قول ابن تيمية رحمه الله : ( .. فالتحديد بالمسافة لا أصل لـه في شرع ولا لغة ولا عرف ولا عقل .. ) ([75]) لا يُعتبر معارضاً لاعتبار المسافة العرفية في بعض أحوال السفر .
وذلك لما ظهر خلال كلامه من أن نكيره إنما هو على من جعل ضبط السفر بالمسافة حداً عاماً يشترك فيه جميع الناس في كل أحوالهم ؛ كأن يقال مثلاً : إن من قصد دون أربعة بُرُدٍ فليس بمسافر في جميع الأمكنة والأزمنة والطرق والمراكب .
يوضح ذلك ويجليه حكايتُه ـــ رحمه الله ـــ أقوال بعض الصحابة التي تضمنت تحديداً بمسافة ، وهذا يدل على أنه لا يعترض على اعتبار المسافة مطلقاً ، وإنما على جعلها حداً مشتركاً .
كما أن ابن تيمية يَعتبر المسافة القليلة والمدة الكثيرة في ثبوت وصف السفر العرفـي ، حيث قال هنا : ( فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفراً ، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفراً ) ([76]) ؛ فهل تمكن معرفة المسافات القريبة والبعيدة والمدة الطويلة والقصيرة إلا بتقدير تقريبي ؟ وهل يمكن ذلك إلا بالعرف ؟
وقد حكى رحمه الله أقوال بعض الصحابة الذين مثَّلوا للسفر بمسافات ثم قال : ( وكلام الصحابة يدل على أنـهم لم يجعلوا قطع مسافة محدودة أو زمان محدود يشترك فيه جميع الناس ، بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل ؛ فمن رأوه مسافراً أثبتوا لـه حكم السفر ، وإلا فلا ) ([77]) .
السبب الرابع : حمل الزاد والمزاد .
وهذا الوصف وإن كان قليلاً في زماننا بسبب انتشار مراكز التسويق على طول الطريق ، وفي أماكن النـزول ، إلا أن أهل العرف يستدلون بـه مع أوصاف أخرى على تحقق وصف السفر .
قال ابن سيرين : ( كانوا يقولون : السفر الذي تُقصَرُ فيه الصلاة الذي يُحْمَل فيه الزاد والمزاد ) ([78]) .
وهذا الوصف من الأوصاف المؤكدة لوجود السفر ، ولكنها لا تستقل بنفيه ولا إثباته ؛ فقد يُعتبر مسافراً دون تزود ، وقد يُعتبر مقيماً مع تزوده .
السبب الخامس : الانقطاع والغيـبة .
وهي سمة من سمات السفر عند أهل العرف إذا كان سببـها بعد الطريق أو وعورته أو غلاء قيمة وسائل النقل أو بطؤها أو اضطراره إلى المبيت هناك ليلةً أو ليالي بسبب تشعب حاجاته أو طول وقت معالجتها حتى مع قرب مقصده كأربعين كِيلاً أو خمسين .
هذا كله مع شرط البروز وقطع أدنـى مسافة يعرفها أهل العرف من مسافة السفر .
قال رجل لابن عباس : أقصر إلى الأُبلة ؟ قال : تذهب وتجيء في
يوم ؟ قلت : نعم ، قال : لا إلا في يوم متاّح ([79]).
وعن ابن عمر قال : ( لا تُقصر الصلاة إلا في يوم تام ) ([80]).
فلعل ابن عمر أراد تأثير الغيبة ، ولو أراد المسافة لقال : مسيرة يوم تام ، ومما يؤكد إرادة تأثير الغيبة أنه ترخص في مسافات قصيرة تُقطع في نصف نـهار ؛ فقد صح عنه أنه قصر الصلاة إلى "ريم" ([81]) .
وقد تقدم في صحيفة (34) كلام ابن تيمية في أثر المبيت والغيبة في وصف السفر .
واعتبار هذا السبب مع بقية الأسباب هو أصح ما يُوجَّه بـه قصر أهل مكة مع النبي في عرفة ؛ فلم يكن ترخصهم لأجل النسك ، وإنما لكونـهم من المسافرين ([82]) ؛ فإن من يذهب إلى عرفة من أهل مكة ـــ في ذلك الوقت ـــ لغرض ويرجع من ساعته أو يومه لا يُعتبر مسافراً ، ولكنه إذا برز وقطع تلك المسافة وتزود وبات وغاب اعتُبر مسافراً .
هل التوديع والاستقبال وصفان لازمان للسفر ؟
درج الناس في القديـم على توديع المسافر واستقباله ، ولا زال عمل بعضهم على ذلك إلى الآن ، لا سيما مع طول الغيبة ؛ فهما مؤكدان لوجود السفر ، ولكنهما ليسا لازمين لقيام وصفه . ومثل ذلك حمل الزاد والمزاد ، حيث قد يُعتبر المرء مسافراً دون حملٍ لزاد أو مزاد ؛ فهذه الأوصاف وأمثالها لا تُعتبر من شروط السفر ؛ لأنه لا يلزم من عدمِها عدمُه .
وذلك بخلاف سبـب المسافة مثلاً فإنه يلزم من عدمه عدمُ السفر ؛ فلا يكون الشاخص مسافراً إلا بـه .
الأسباب العرفية للإقامة
إن حقيقة الإقامة هي: وجود أسباب التعلق بمكان النـزول ؛ فمتى اكتملت هذه الأسباب أو كثرت أو قويت عُدَّ النازل من المقيمين في
ذلك المكان ، ومتى عُدمت هذه الأسباب كلها أو قلَّت أو ضعفت ـــ وكان قد أحدث سفراً ـــ فصاحبها مسافرٌ ، أو في حكم المسافرين .
وهذا عرض لأسباب الإقامة عند أهل العرف :
السبب الأول : نية الإقامة المستقرة ومدتـها .
إن للنية تأثيراً كبيراً في ثبوت وصف الإقامة ، أو نفيه :
فقد أجمع العلماء في السفر والإقامة على حالين مبناهما على نية النازل :
الأولى : الاستيطان ، وهو نية الإقامة على التأبيد ؛ فمن نوى المكث في المكان على التأبيد فهو مقيم بإجماع أهل العلم .
والثانية : التردد كل يوم في السفر والإقامة ، وهو حال من يقول : اليوم أخرج .. غداً أخرج ؛ فقد أجمعوا أن مَنْ هذه حاله فهو مسافر .
فالحال الأولى نية ومدة مؤبدة وحال عليا من الطمأنينة والاستقرار ، والثانية مدة أيضاً ، وهي اليوم الواحد ، ونية مترددة ، وحال عليا من الاضطراب والتردد .
ويوجد بين هذين الحالين المجمع عليهما أحوال متفاوتة تؤثر في ثبوت الوصف أو نفيه كلها تُبنى على نية النازل ، مع حاله أو عمله .
إرادة المدة أول أسباب الإقامة :
إن قصد المدة الطويلة عرفاً هو أول أسباب الإقامة عند الناس ؛ فالغالب أن المرء لا يتخذ أسباب الإقامة العملية من سكن المثل أو متاعه ، وقد
لا يتأهل إلا حين يريد المدة الطويلة ، أما إذا كان ينوي مدة قصيرة ، أو كان متردداً مضطرباً فإنه لا يتخذ هذه الأسباب .
وتأثير المدة في الإقامة عند أهل العرف واضح بيِّن ؛ فالمرء إذا نزل بلداً أياماً معدودة ـــ كعشرة أيام أو عشرين ـــ لم يُعتبر قاطعاً لسفره بذلك ، ولا يُوصف عندهم بأنه مقيم في هذا البلد ، ولا أنـها صارت من دور إقامته ، حتى مع حصول بعض أسباب الإقامة الأخرى ؛ كوجود أهله معه في نزوله ذاك ، أو كون البيت مملوكاً أو مستأجراً ، بيد أنه باجتماع هذه الصفات ، مع قصد المكث مدةً طويلةً بنية مستقرة فإنه يُعتبر مقيماً .
أثر المدة في وصف الإقامة العرفي عند الهيتمي :
وقد سُئِل العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله عمن أوقف على الفقراء المقيمين ببلد .. ما المراد بالإقامة هل هو الإقامة الشرعية أربعة أيام ، أو المجاورة سنة أو سنتين ، أو الاستيطان ؟ فكان من إجابته أن المقيم هو من : (مكث مدة ثَمَّ ، بحيث صار أهل العرف يعدونه مقيماً بذلك المحل) ([83]) .
فلم يَعْتَبِرْ فـي ضبط الإقامة ما يراه في مذهب الشافعية فيما تُقْصرُ فيه الصلاة ، وهي الأربعة الأيام ، وإنما اعتبر مراد الناس من لفظ الإقامة عند إطلاقه وهو المعنى العرفـي ؛ كما أنه اعتبر لقيام هذا المعنى وجود المدة .
وتنـزيل لفظ الإقامة في الشريعة على المعنى العرفـي عند إطلاقه لا يختلف عن هذه الطريقة ، لا سيما مع عدم وجود حد في الشريعة أو اللغة .
لا إقامة مع نية مضطربة :
الاضطراب والتردد في نية الإقامة ، أو عدم وجود هذه النية منافٍ للإقامة بمعناها المعروف عند الناس ، وهذه بعض أحوال الاضطراب التي تمنع من قيام وصف الإقامة :
حال الحرب :
وحال الحرب والخوف من أعظم أسباب الاضطراب المنافـي للإقامة .
لذلك ذهب جماهير علماء المذاهب الأربعة وغيرهم إلى أن حكم المدة التي تُقصر فيها الصلاة في كل مذهب لا يجري في حال الحرب أو في داره ؛ فيجوز الترخص وإن جاوزت نية المكث خمسة عشر يوماً ([84]) .
وقد قرر ابن نجيم أن حكم الترخص يشمل حرب الكفار والبغاة في دار الإسلام أو دار الحرب ، وعلَّل ذلك بأن حال المقاتلين يخالف عزيمتهم ([85]) .
وقال الشرنبلالي : ( ولا تصح نية الإقامة ببلدتين لم يعين المبيت
بإحداهما ، ولا في مفازة لغير أهل الأخبية ، ولا لعسكرنا بدار الحرب ،
ولا بدارنا في محاصرة أهل البغي ) ([86]) .
وقال ابن مفلح : ( إن إقامة الجيش للغزو لا يمنع الترخص ، وإن طال ؛ لفعله ) ([87]).
نزول المسافر لحاجة ينتظر نجاحها :
ومن أحوال عدم الاستقرار حالُ من نزل لحاجة ؛ كإدارة تجارة عاجلة أو شراء حوائج ، أو منتظراً رفقة ، وهو لا ينوي الإقامة ، بل متى انقضت حاجته عاد إلى بلده فهو مسافر ، ولو اجتمع لـه بعد ذلك مدة طويلة .
وذلك لأن الإقامة مبناها على الاستقرار والطمأنينة ، ومَنْ هذه حاله ففيه انزعاج المسافرين ؛ فلم تتحقق لـه الإقامة مع بقاء هذه الحال ؛ فهو إذاً باقٍ على سفره ، أو في حكم ذلك السفر .
ولكن إذا كانت هذه الحاجة لا تُقضي عادة إلا في وقت طويل كسنة مثلاً ، وقد قام بأعمال الإقامة ؛ كسكن المثل واتخاذ المتاع فهو مقيم .
وعلى هذا مذهب أبـي حنفية وأحمد في قوله الآخر ، وهو أن من أقام لحاجة ينتظر نجاحها بلا نية إقامة فهو مسافر ، ولو نوى أكثر من مدة الإقامة في المذهبين ، ما دام يحتمل قضاء حاجته قبل المدة ([88]) .
وهو مذهبُ الشافعي رحمه الله في المحارب في أحد أقواله ، وحكاه بعض أصحابه في غير المحارب ؛ كالتاجر والمتفقه ، وغلَّطهم آخرون ([89]) .
وإذا كان سبب الترخص بعد الأربعة ـــ حالَ القتال ـــ هو اضطراب النية فإن طرد هذا السبب يقتضي أن مَنْ وُجدت فيه تلك الحال يُعتبر مسافراً وإن لم يكن في قتال ؛ فإنه لا فرق بين المقاتل وغيره في حكم القياس ([90]) .
وقد جاء عن مورق أنه سأل ابن عمر فقال : إنـي تاجر أتنقل في قرى الأهواز ؛ فأقيم في القرية الشهر وأكثر ، قال : تنوي الإقامة ؟ قلت : لا ! قال : لا أراك إلا مسافراً ، صل صلاة مسافر! ([91])
من نزل مضطراً لعائق لا يدري متى يزول ؟ :
وذلك كمن حبسه مرض ، أو حصره عدو ، أو منعته ريح ، أو عاقه ثلج أو واد يسيل ، وكمن سُجن وهو لا يدري متى يُخلى سبيله .
فقد ذهب كثير من الفقهاء الذين يحددون الإقامة بمدة معينة إلى أن حكم المدة لا يجري في أمثال هؤلاء ؛ فيعتبرونـهم في حكم السفر ([92]) ؛ وذلك لتخلف نية الإقامة .
وهو كذلك عند الناس ؛ وذلك لأن أكثر أصحاب هذه الأحوال
لا ينوون الإقامة فضلاً عن إرادة مدة طويلة ، وغالب حالـهم أنـهم ينتظرون زوال العائق في مدة يسيرة ؛ لذلك فهم باقون على حكم السفر السابق ، بسبب عدم النية أو اضطرابـها .
النية المستقرة إذا كانت مدتـها قليلة :
وإذا نزل المسافر بلداً في مدة قليلة لا يقوم بـها وصف الإقامة عرفاً ؛ كخمسة عشر يوماً أو عشرين ، ونحو ذلك ، ولا أهل لـه فيها ؛ فهو باق على حكم سفره ، ولو كان جازماً بمكثها ؛ لأن الناس لا يعتبرون النازل في مثل هذه المدد مقيماً ، ولا يعتبرون مكان نزوله هذا من دور إقامته .
سبيل العلم بالمدة :
وضابط ذلك هو غلبة الظن أو القطع في نية مقدار الإقامة ؛ فمتى غلب على ظن النازل أنه يريد مدة طويلة صار مقيماً مع تحقق الأسباب الأخرى ، ومتى ظن قِصَر المدة ؛ فهو مسافر أو في حكمه ، ومن شك في ذلك فهو باقٍ على حكم حاله السابقة وهي السفر .
ومن المعلوم أن الشريعة تبني كثيراً من أحكامها على غلبة الظن .
مدة الإقامة ليست حداً مشتركاً لجميع الأحوال :
ليس لمدة الإقامة حداً معيناً مشتركاً لضبط جميع الأحوال ، بل يختلف تأثير المدة باختلاف هذه الأحوال ، وليست المدة أيضاً وصفاً يستقل بثبوت وصف الإقامة ولا نفيه ؛ فهي لا تؤثر إلا بمشاركة غيرها من الأسباب .
فمن نزل مكاناً غير صالح لإقامة مثله ؛ كنـزول الحضري في صحراء من الأرض ، أو نزول جميع الناس في حال من الاضطراب أو الخوف فهم مسافرون ، مهما اجتمعت لهم مدة كثيرة في نزولهم هذا .
وفي المقابل قد تقل المدة ومع ذلك يظل وصف الإقامة عند الناس ثابتاً ؛ كمن نزل مكان المثل وسكنه وله فيه زوجة مقيمة ؛ فلا تأثير للمدة في هذه الحال ، حيث يُعتبر مقيماً مهما قلَّ وقت نزوله .
وبـهذا يُعلم أن اعتبار المدة سبباً من أسباب الإقامة العرفية لا يُعارض اعتبار أقوال من حدها بأيام بـها أقوالاً مرجوحة .
ووجه ذلك أن المدة عند القائلين بالحدود الزمنية تُعتبر حداً مشتركاً ثابتاً لا يختلف باختلاف الأحوال ، مصدره دلالة الشريعة ؛ كمدة المسح على الخفين وعِدَدِ النساء ، بيد أنـها هنا ليست حداً مشتركاً ، بل تختلف باختلاف الأحوال ، ومصدرها هو العرف .
إيراد وجوابه :
قد يقال : لا فرق بين مدد الإقامة في الشريعة ؛ فلماذا يُفَرَّقُ بينها ؟
فالجواب هو أنه قد ترجح في هذا البحث أن سبيل ضبط هذه المسألة هو العرف ؛ فيكون التفريق بين أحوال الإقامة راجع إلى أهله ؛ فلم يُنسب هذا التفريق إلى الشريعة ، ونظائر اعتبار المدد والمسافات في فقهها كثير :
ففي المدد : طول الفصل بين أعضاء الوضوء ، وطول الفصل بين الصلاة وما نُسي منها ، ومقدار خطبة الجمعة ، وعدد مرات تعريف اللقطة في الحول ، وقدر ما بين المرة والتي تليها ، وكذلك التراخي في الجمع بين الصلاتين ، والتراخي في الشفعة عند من يقول بشرطية الفور فيهما .
وفي المسافات : مسافة السفر ، وما يُعتبر به الصف متصلاً بالآخَر ، وما يُعتبر به المرء مصلياً إلى القبر ، وقدر ما بين المصلي وسترته ، وما يُعتبر به تفرق البيِّعين مسقطاً لخيار المجلس في الصحاري .
وقد تقدمت هذه الأمثلة العرفية وغيرها في صحيفة (25) .
ويقال لمن يعتبر العرف في ثبوت السفر : إن كل إيراد على الإقامة العرفية لإبطال تأثيرها في حكم الرخصة وارد على السفر العرفي ولا فرق :
فالاعتراض على سببـي المكان والمسكن في الإقامة يُعترض بمثله على اشتراط البروز ومفارقة العمران في السفر .
والاعتراض على المدة في الإقامة يُعترض بمثله على المسافة في السفر .
وتأمل هذا في شخصين كل منهما قد برز عن بنيان بلده وفارق ما يُنسب إليه ثم رجعا إليه من نـهارهما بلا تزود ، وقد سارا على طريق واحدة ووسيلتي نقل متماثلتين ، ولكن أحدهما قطع ألف كيل والآخر عشرين كيلاً ؛ فالأول ـــ عند الناس ـــ مسافر ، والثاني عندهم مقيم ؛ فلا فرق بين حاليهما إلا المسافة .
والمدة في الإقامة لا تَخْرُجُ عن هذا المسرب ؛ فإذا نزل اثنان سكنَ مثليهما ، وأراد أحدهما النـزول خمسة عشر يوماً بنية مستقرة لم يكن عند الناس مقيماً بمجرد نزوله هذه المدة ، بل يعتبرونه مسافراً ، ولو أراد الآخر سنـتين مثلاً بنية مستقرة اعتبروه مقيماً .
ولو قالوا بأن السفر العرفي هو مجموع أسباب لا تُجعل فيها المسافة حداً مشتركاً لجميع الأحوال ! يقال : والإقامة العرفية هي أيضاً مجموع أسباب
لا تُجعل فيها المدة حداً مشتركاً لجميع الأحوال .
إيراد آخر وجوابه :
لو قيل : لا نجد فرقاً بين من نزل بلداً لعلاج أو زيارة أو سؤال أو تجارة في مدة يسيرة ـــ ممن اُعتبر هنا مسافراً ـــ وبين من نزل البلد للدراسة ، إذْ كلٌ من الفريقين ينتظر انتهاء مهمته ، ولو حصل لكل منهما الرجوع إلى بلده فوراً لفعل ؛ فيكون حكم الحالين واحداً ، وهو مشروعية الترخص .
فالجواب أن يقال : لو كان تعليق السفر بتنجيز الحاجة هو علة الرخصة لاعتُبر هؤلاء المغتربون من المسافرين بلا ريب ، بيد أن هذا الوصف ـــ كما تقدم ـــ لا يصلح أن يكون سبباً للرخصة ، وإنما سببها الصحيح هو وجود السفر العرفي ، أو ما يُلحق به من أحوال الاضطراب وسبب العزيمة هو وجود الإقامة العرفية بحدودها المعلومة عند الناس .
فمن أقام في مدة قليلة ـــ أو في مدة كثيرة ولكنه يتوقع قضاء حاجته كل وقت في مدة قليلة ـــ فليس مقيماً عند الناس ؛ لاضطراب حاله ؛ فهو باق على حكم سفره ، بخلاف من غلب على ظنه طول المكث في مكان المثل وسكنه بنية مستقرة ؛ فهو عندهم مقيم .
فسبب التفريق بين الحالين ـــ إذاً ـــ هو رأي الناس العرفـي فقط .
السبب الثاني : صلاحية المكان للإقامة .
فالإقامة لا تكون إلا في مكانـها المعتبر المعتاد ، وإلا فالنازل مضطرب منـزعج ؛ فالمكان المعتاد للحضر ـــ مثلاً ـــ هو القرى والمدن ، ومتى ما تحول هذا الحضري عن عادته في مكان الإقامة لم يره الناس مقيماً .
وإذا كنا لا نتصور ابتداء السفر إلا في المكان المعتبر وهو الصحاري والفضاء فإن الإقامة لا تُتصور أيضاً إلا في مكانـها المعتاد ، وهو المدن والقرى لأهلها .
فمن نزل مكاناً غير صالح للإقامة عادةً فهو مسافر مهما طال مكثه ؛ وذلك لأن المدة ليست معيار الإقامة الوحيد .
والذي يعوِّل على المدة في إثبات الإقامة دون اعتبارات أخرى هو كالذي يعول على غرس الفسائل في إثبات الإحياء العرفـي دون أن يشترط صلاحية الأرض أو مناسبة الهواء لغرس مثل هذا الشجر ؛ فإن الناس لا يَعتبرون مثل هذا محيياً ؛ لأن هذه الفسائل لا تثمر في الحالين .
والإقامة بمعناها العرفي لا تخرج عن هذه الحدود والاعتبارات .
وعلى اشتراط صلاحية المكان لصحة الإقامة قولُ كثير من أهل العلم :
فقد ذكر الكاساني شروط الإقامة المعتبرة عند أبي حنيفة وعدَّ منها المكان الصالح للإقامة ، ثم قال : ( فهو موضع اللبث والقرار في العادة نحو الأمصار والقرى ، وأما المفازة والجزيرة والسفينة فليست موضع الإقامة ، حتى لو نوى الإقامة في هذه المواضع خـمسة عشر يوماً لا يصير مقيماً..) ([93]).
وقال ابن الهمام : ( .. أما من ليس من أهل البادية ـــ بل هو مسافر ـــ فلا يصير مقيماً بنـية الإقامة في مرعى أو جزيرة ) ([94]).
وهذا هو أحد قولي الشافعي ، واختاره الغزالي ؛ فقد عدَّ من شروط جريان حكم المدة عند الشافعية المكانَ الذي تُتصور فيه الإقامة ، ثم قال :
( .. فإن كان لا يُتصور فالأصح أنه يترخص ؛ لأن العزم فاسد ) ([95]) .
وكذلك الأمر في مذهب أحمد ؛ فقد قال في "المبدع" : ( .. إذا نوى الإقامة بموضع يتعذر فيه الإقامة كالبرية لا يقصر ؛ لأنـه نوى الإقامة ، والمذهب : بلى ؛ لأنه لا يمكنه الوفاء بـهذه النية فلغت .. ) ([96]) .
وقال : ( يشترط في الإقامة التي تقطع السفر ـــ إذا نواها ـــ الإمكان ، بأن يكون موضع لبث وقرار في العادة ) ([97]) .
بل جاء في الرواية الثانية عن أحـمد أنه لا يلزم المرء ترك الرخصة إلا في بلد تُقام فيه الجمعة ([98]) .
وهو قول مالك في دار الحرب للعسكر ؛ فلا يجري فيها عنده حكم المدة ([99]).
والمكان وإن كان وطَناً فلا تأثير لـه عند بعض أهل العلم إذا مرَّ به صاحبه عابراً ؛ كما جاء ذلك في الرواية الثانية عن أحمد ([100]).
السبب الثالث : المسكن .
فالمسكن سبب من أسباب التعلق بمكان النـزول ، سواء كان ذلك بشرائه أو استئجاره ، بيد أنه لا يستقل بإثبات الإقامة .
والناس يختلفون في المسكن بداوةً وتحضراً وغنىً وفقراً ؛ فالبدوي يسكن عادةً خيامَ الشعر ، في بطون الأودية ومنابت الكلأ ويحتمل شعث ذلك وجَهْده ؛ فهي مكان وسكن مثله ، ولغيره قد تُعتبر مكان وسكن مسافر .
وقد ذكر الكاسانـي أن بعض العلماء يقول في الأعراب الذين يسكنون بيوت الشعر بأنـهم لا يكونون مقيمين أبداً ؛ لأنـهم في مفازة ، وهي ليست موضع الإقامة عادة ، هكذا حكاه عنهم ، ثم عَقَّبَ على ذلك بقوله : ( والأصح أنـهم مقيمون ؛ لأن عادتـهم الإقامة في المفاوز دون الأمصار والقرى ) ([101]) اهـ .
ووجود الدور والعقارات مملوكة أو مستأجرة في بلد ليست دليل الإقامة مطلقاً ، بل لا بد من أوصاف وأحوال أخرى ؛ كالمدة ، أو إقامة زوجة
فيها ؛ فبعض الأثرياء يوجد لـه في كل حاضرة أو مدينة كبيرة بيت أو قصر ؛ فلا يُعتبر عند الناس مقيماً إذا نزلها في إجازة أو نحوها مدةً يسيرة .
قال الإمام الشافعي : ( قد قصر أصحاب النبي معه عام الفتح وفي حجة أبـي بكر ولعدد منـهم بمكة دار أو أكثر وقرابات ) ([102]) اهـ .
وفي انقطاع السفر بوجود الدور قولان في مذهب أبي حنـيفة ([103]).
ووجود الدار قد يكون هو المؤثر في ثبوت وصف الإقامة إذا لم يكن لـه مأوى سواه ، وإن كان لا ينـزله إلا أياماً معدودة في السنة ؛ كربابنة السفن وسائقي الشاحنات وأمثالهم ؛ وذلك لأن هذه هي دور إقامتهم ([104]) .
السبب الرابع : التأهل .
والإتمام بالتأهل هو قول الجمهور ([105]) . وله عند أهل العرف أحوال :
فإذا وُجِدَ مكان المثل وسكنه ولـه فيه زوجة مقيمة فلا اعتبار للمدة مطلقاً ؛ فمهما نزل هذا البلد فهو مقيم ، وإن كان نزوله ساعات .
فقد ظهر هنا أثر التأهل ، وهو إلغاء تأثير المدة .
ويسقط عند أهل العرف تأثير التأهل إذا كانت الزوجة تقيم وتظعن مع زوجها ؛ وذلك لأنه يتبعها في حكم الإقامة إذا كانت مقيمة ؛ فإذا كانت هي مسافرةً انقطع تأثيرها في حال زوجها .
قال ابن القيم : ( .. والمسافر إذا تزوج في طريقه لم يثبت لـه حكم الإقامة بمجرد التزوج ، ما لم يزمع الإقامة وقطع السفر ) ([106]).
كما أن التأهل لا يُعتبر مؤثراً إذا كان لا يأوي إلى بيت الزوجية المعتاد ؛ كأن يكون نزوله عند والدها مدة يسيرة ، وله مكان إقامة آخر .
وقد سأل ابنُ القاسم مالكاً رحمه الله عن : ( .. الرجل المسافر يمر بقرية من قراه في سفر ، وهو لا يريد أن يقيم بقريته تلك إلا يومه وليلته ، وفيها عبيده وبقره وجواريه ، وليس له بـها أهل ولا ولد ؟ قال : يقصر الصلاة ، إلا أن يكون .. فيها أهله وولده ؛ فإن كان فيها أهله وولده أتم الصلاة . قلت : أرأيت إن كانت هذه القرية التي فيها أهله وولده مر بـها في سفره ، وقد هلك أهله وبقي فيها ولده أيتم الصلاة أم يقصر ؟ قال : يقصر ) ([107]) .
ومَنْ كان عزباً لا زوجة لـه ، ولم ينو القرار في مكان فدار إقامته هي مكان إقامة والديه ([108]) ؛ كما هي عادة أكثر العُزَّاب .
وإذا نزل المسافر في دار أبيه أو ابنه فلا يُعتبر مقيماً بمجرد ذلك ([109]) .
السبب الخامس : المتاع والأثاث .
بنقله أو شرائه من مكان نزوله ، وهذا وصف مساعدٌ مؤكدٌ ، لا يستقل وجودُه بوجود الإقامة ، ولا انتفاؤه بنفيها . ابن الهمام (5/106) مهم
وقد قرر أحمد بأن الملاّح الذي معه أهله وتنوره لا يقصر ([110]).
السبب السادس : الارتباط بمصالح البلد الذي نزله .
وهي في الوقت الحاضر علامة من علامات الإقامة والطمأنـينة ؛ كفتح العمل التجاري ، وتسجيل الأولاد في المدارس أو توظيفهم ، ونحو ذلك .
فالناس إذا سُئِلوا عن شخص هل هو مقيم أو لا ؟ كانت إجابتهم بذكر هذه الارتباطات أو بعضها .
وهذا عند أهل العرف وصف مساعد فقط .
دقائق أولي النهى (3/469) ( و ) إن حلف ( لا يسكن الدار ) أو البلد ( فدخلها أو كان فيها غير ساكن ) كالزائر ( فدام جلوسه لم يحنث ) قال الشيخ تقي الدين : الزيارة ليست بسكنى اتفاقا ولو طالت مدتها
كشاف القناع (6/267) أن الانتقال لا يكون إلا بالأهل والمال ) ولهذا يقال : فلان ساكن في البلد الفلاني وهو غائب عنه
ولو خرج ثم عاد إليها لنحو عيادة أو زيارة لم يحنث ما دام يطلق عليه زائر أو عائد عرفا وإلا حنث
رد المحتار (3/752)قال في الخلاصة وفي الأصل لو دخل عليه زائرا أو ضيفا فأقام فيه يوما أو يومين لا يحنث والمساكنة بالاستقرار والدوام وذلك بأهله ومتاعه
حكم الحلف على سكنى البيت : 16 - لو حلف لا يسكن بيتا , ولا نية له , فسكن بيتا من شعر أو فسطاطا أو خيمة , لم يحنث إن كان من أهل الأمصار , وحنث إن كان من أهل البادية ; لأن البيت اسم لموضع يبات فيه , واليمين تتقيد بما عرف من مقصود الحالف , وأهل البادية يسكنون البيوت المتخذة من الشعر , فإذا كان الحالف بدويا يحنث , بخلاف ما إذا كان من أهل الأمصار .
تطبيقات عرفية في الإقامة والسفر
أمثلة على الإقامة أو بقاء حكمها :
1. من ملك أو استأجر بيت المثل ، ونوى النـزول مدة طويلة عرفاً بنية مستقرة ؛ كسنة مثلاً ، ويقوى وصف إقامته إذا كان متأهلاً .
2. الطالب المغترب داخل البلاد أو خارجها الذي يقصد الإقامة مدة طويلة في سكن الجامعة ، أو سكن خاص .
3. إذا كان الطالب المغترب قبل اغترابه يسكن عند والده ـــ كالعزب ومن يسكن مع والده متأهلاً ، وكان لـه فـي بيت والده ما يؤويه عادة ـــ فيُعتبر نزوله عند والده فترة الإجازة الصيفية من الإقامة ، بل قد يُعتبر مستوطناً ؛ لأنه بسكناه مكان دراسته لم يرفض سكنى وطنه الأول .
4. من نزل بيت المثل وله فيه زوجة مقيمة فهو فيه مقيم ، وإن كان نزوله أياماً معدودات ، وإذا تخلف وصف التأهل لم يُعتبر مقيماً بمجرد النـزول فلا بد من نية مدة الإقامة .
5. الحجاج المكيون في المشاعر يُعتبرون في حكم الإقامة ؛ لكون المشاعر قد صارت جزءاً من مكة ، أو من توابعها ؛ فإن الأحياء التي امتدت شرقاً بمحاذاة المشاعر قد قاربت عرفة ؛ فالأقرب عدم ترخصهم ؛ فشأنـهم في ذلك هو شأن المزارعين الذين يخرجون إلى مزارعهم في ضواحي
البلد ، ويحتاجون مع ذلك إلى مبيت وتزود ، ولكن هؤلاء المزارعين
لا يُعتبرون مسافرين عرفاً لكون مزارعهم من توابع البلد ، وأن ما يقطعونه من المسافة لا يُعتبر أدنـى مسافة السفر العرفية ([111]) ، وكذلك الحال في المكيين من الحجاج عند خروجهم إلى عرفة .
وغاية الأمر أن يكون الحكم العرفي مشكوكاً فيه عند الحجاج المكيين ؛ فعليهم استصحاب حكم الإقامة ؛ فلا رخصة لهم .
وقد يُعتبر حجاج الطائف وجدة مثلاً من المسافرين ؛ لأن المشاعر ليست مما يتبع بلدانـهم ؛ كما أنـهم يقطعون مسافة غير قصيرة ، ويبيتون ، وقد يتزودون ؛ فالأظهر في حال أولئك أنـهم مسافرون .
6. النـزهة في المواضع القريبة من بلد الإقامة ـــ كعشرين كيلاً أو ثلاثين ،
ونحو ذلك ـــ تُعتبر من أحوال الإقامة ، لاسيما إذا لم يكن مبيت وتزود .
7. هل يُعتبر النازلون في المصايف أو في أريافهم سنوياً بصورة منتظمة
أو غالبة مدة طويلة متصلة ؛ كالنـزول وقت الإجازات شهرين
أو ثلاثة في بيوت مؤثثة مملوكة أو مستأجرة بعقود طويلة ، حتى صار الناس يعرفون البلد والمنـزل ، هل هم مقيمون ؟ الأظهر عرفاً أنـهم كذلك ، بل إنـهم أقرب إلى الاستيطان ؛ فهم كالرعاة والبدو الذين ينتجعون الكلأ ويتتبعون المراعي ([112]) .
وذلك بخلاف من لـه فيها عادة سنوية ولكن مدتـها قليلة ؛ كخمسة عشر يوماً أو عشرين ، أو في منـزل غير ثابت .
أمثلة على السفر أو بقاء حكمه :
1. من قصد مسافة مائة كيل في غير بنيان فهو مسافر وإن رجع من يومه ، دون مبيت وتزود .
2. أن حجاج الآفاق ممن تلبسوا بوصف السفر ، ونزلوا لغرض الحج يُعتبرون في المشاعر من المسافرين ؛ وذلك من أجل قِصَر المدة .
3. من كانت وظيفته أو دراسته في بلد ولم يتخذ فيها أهلاً ، ولا سكناً ، ويتردد يومياً على محل إقامته ؛ فهو في مكان دراسته أو عمله مسافر .
4. من نزل قرب الحرم المكي أو المدني مثلاً ، أياماً معدودة من السنة هي أيام المواسم ؛ كخمسة عشر يوماً أو عشرين ؛ فالناس لا يسمونه
مقيماً ، حتى وإن كان معه أهله في حَلِّه وتَرحاله .
وأما إذا كان يملك المنـزل مؤثثاً ويطيل فيه المكث فهو كصاحب المصيف .
5. من نزل بلداً لزيارة أو لإدارة تجارة مؤقتة ، أو مقاولة ، أو مرافعة
أو علاج ، ونحو ذلك ، ولم يتخذ سكن المثل في مدته ؛ كالحال التي تعرف عن المقيم عادة ، وإنما نزل الفنادق أو غيرها من الدور بعقد يومي أو أسبوعي أو شهري ، وهو يقول : أخرج في عشرين يوماً أو نحوها ؛ كلما انقضت هذه المدة نظر إلى مثلها ؛ فهذا عند الناس مسافر وإن
بقي على حاله سنين ؛ وذلك بسبب اضطراب نيته ، وقِصَرِ المدة التي قصدها للإقامة .
أما إن كان فراغ هذه الحاجة لا يكون في غالب الظن إلا بعد مدة
طويلة ؛ كستة أشهر أو سنة ، ثم هو لا يحتمل نجاحها في مدة قليلة كشهر مثلاً ؛ كالمغتربين من الطلبة والموظفين ؛ فهؤلاء في حكم المقيمين عرفاً ؛ وذلك بسبب النية المستقرة للمكث مدة طويلة .
6. إذا سافر الحضري ، ثم نزل خيمة في صحراء من الأرض لأي غرض فإنه يُعتبر من المسافرين مهما طال مكثه ، إذا لم يؤبد إقامته ؛ وذلك لعدم تحقق مكان السكن ونوعه المعروفين لإقامة مثله ، وهذا السبب العرفي هو مذهب أبي حنفية والشافعي في قوله الآخر ورجحه الغزالي ، وهو مذهب أحمد في الرواية الثانية ورجحها بعض أصحابه ؛ كما تقدم ذلك في مبحث "صلاحية المكان للإقامة" في صحيفة (48) .
7. نزول الجنود والموظفين غير متأهلين في نقاط التفتيش ومنافذ الحدود على الطرق البرية ، في صحراء من الأرض ، أو في جزائر البحر ، أو في عرضه ، أو على شواطئه ، أو في مراكز التدريب الصحراوية ؛ بعيداً عن المدن والقرى ، وفي نوبات في السنة تصل إلى شهرين أو ثلاثة ،
وفي مساكن متنقلة مؤقتة ، لا يُعتبر هذا النـزول عند أهل العرف
من الإقامة ؛ فمن سافر ثم نزل على هذه الصفة فهو مسافر مهما طال مكثه ؛ وذلك لعدم صلاحية المكان .
وعن أحمد أنه لا يلزمه ترك الرخصة إلا في بلد تُقام فيه الجمعة .
تنبيهات مهمة حول هذه الأسباب والفروع :
1. أن الوقائع العرفية متجددة :
إن بعض هذه الأسباب والتطبيقات عرضة لتغير الأعراف ، وما ذُكر من ذلك فهو رأي كاتبه ، ومن سألهم من الناس ، ولم أوردها إلا للتقريب
فقط ؛ فقد يَرِدُ التمثيل بعددٍ أو حالٍ من أحوال السفر والإقامة ، ولا يعني ذلك أن ما هو أقل أو أكثر منها بقليل أنه لا يُعتبر كذلك ، وإنما اُختير المثال لوضوحه ، أو لأن أكثر أهل العرف يقولون به .
وإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي للناظر أن ينشغل بـهذه الأمثلة كثيراً ما دام مسلماً بسلطان العرف هنا .
وإذا عرضت له مسألة فله الاجتهاد ، أو يتحرى العرف عند أهله بنفسه .
2. أن الإقامة والسفر معنيان :
إن الإقامة والسفر إنما هما معنيان لا يُحَدَّان بما تُحدُّ به الأجسام ؛ كالذرع أو الوزن أو الكيل ؛ فلا يمكن فيهما وضع حد واحد أو اثنين ينتظم جميع الأحوال والأزمنة والأمكنة لا يختلف باختلاف شيء من ذلك ؛ فكما أن السفر هو مجموع أعمال وأحوال يصير بـها المرء مسافراً فإن الإقامة أيضاً مجموع أعمال وأحوال يصير بـها المرء مقيماً .
فإذا اجتمعت أسباب وشروط الإقامة فقد تحقق في النازل أعلى درجات الإقامة والطمأنينة ، وإذا اجتمع لـه جميع أسباب السفر المذكورة ـــ ولم يقع لـه أي سبب من أسباب الإقامة ـــ فقد اجتمع لـه أعلى درجات وصف السفر ، وبين هاتين الحالين مراتب عديدة .
فالعزوبة مثلاً لا تأثير لها عند أهل العرف إذا كان المسافر قد نزل في سكن المثل ومكانه ومدته ؛ كحال العمال المغتربين الذي لم يتأهلوا ، حيث يعتبرهم الناسُ مقيمين .
والمدة ـــ أيضاً ـــ لا تأثير لها إذا كان للنازل زوجة مقيمة في سكن المثل في بلد النـزول فيُعتبر مقيماً ، ولو كان نزوله يوماً واحداً .
فلعلك لحظت من مثالي التأهل والمدة أنه لا يُشترط من أجل قيام وصف الإقامة اجتماع هذه الأسباب والشروط كلها ؛ كما أن كل وصف
لا يستقل بإثبات الإقامة أو السفر وحده دون سبب آخر .
3. أن الإقامة من الألفاظ التي يختلف معناها عند الجمع والتفريق :
قد يقول قائل : لا تمكن معرفة العرف في الإقامة ؛ فنحن نصف النازل ساعة من نـهار بأنه قد أقام في بلد كذا ؛ كما أننا نسمي المستوطن
مقيماً ؛ فلا يمكن أن نضبط هذه المسألة !؟
فالجواب : أنه ينبغي في ذلك مراعاة معنى لفظ الإقامة عند إفراده
أو ذكره مع غيره ؛ وذلك لأن اصطلاحات الاستيطان والإقامة والنـزول من الألفاظ التي قد تختلف معانيها عند الجمع والتفريق ؛ فقد يُعَبَّر ببعضها عن الآخر عند إفراد كل لفظ ، ولكن عند جمعها يصبح لكل واحد منها حده الخاص به ، والفرق بينها يظهر عند مقارنة لفظ النـزول بلفظ الإقامة في شيء من الأمثلة ؛ فإذا كان سؤالك لأهل العرف عن حال معينة بقولك : هل هو مقيم أو نازل وجدت جواباً لسؤالك ، ورأيتهم ـــ حينئذ ـــ يفرقون بين الحالين ، ولكنك حين تسأل عن كل واحد من اللفظين منفرداً فقد يُعَبَّر بأحدهما عن الآخر ، وتأمل هذا فيما يقوله أهل العرف عن ثلاثة أشخاص :
الأول : متأهل في بيت مستأجر يزمع البقاء سنتين من أجل عمله أو دراسته مثلاً بنية مستقرة وحال مطمئنة . والثاني : متأهل في بيت مستأجر أو مملوك لا يرغب ترك بلده إلا بإكراه ونحوه . والثالث : من نزل مدينة للإشراف على تجاراته مدة شهر مثلاً دون تأهل أو سكن معلوم .
فهم يسمون الأول مقيماً والثاني مستوطناً والثالث نازلاً ، ولا يقبلون عند جمع هذه المصطلحات أن يُـبدل شيء منها بالآخر .
4. أن أكثر المسائل العرفية في السفر والإقامة ظاهرة جلية :
إن أغلب أحوال الناس في الإقامة واضحة بينة بالنظر الظاهر عند أهل العرف لا تحتاج إلى حفظ مثل هذه الأسباب ؛ وذلك كحال المستوطنين في بلدانـهم ، وحال المغتربين مدة طويلة من الموظفين والمدرسين والطلبة ؛ فبمجرد نظرة عجلى لهؤلاء يعطيهم الناظر حكم الإقامة دون تردد ، ودون تكلف التعرف على أسباب الإقامة المذكورة هنا .
ومثل أحوال الإقامة في الوضوح أكثر أحوال السفر ، حيث إن حال الشخوص أثناء الطريق ظاهرة بينة ؛ كما أن أحوال النـزول التابعة للسفر واضحة كذلك .
ولكن يبقى بين الحالين مسائل قليلة مشكلة نسبة إلى سائر أحوال الناس وأوقاتـهم ؛ فكانت هذه الأسباب المذكورة في هذا البحث محاولة لضبط هذا القليل المشكل فقط .
وقد جعلت هذا تنبيهاً حتى لا يقول قائل : إن عامة الناس لا يستطيعون تطبيق بعض هذه الأسباب ؛ فكيف يُناط بـها تكليف ؟
فيقال لـه : إن هذا غير صحيح ؛ لأن غالب هذه المسائل واقع تحت مدارك الناس وقدرتـهم .
5. العمل عند المسائل العرفية المشكلة :
لا تخلو الإقامة العرفية من أحوال ثلاث :
الأولى : حال عليا في ثبوت وصف الإقامة ، يتفق أهل العرف أو أكثرهم على وجود هذا الوصف ؛ كحال المستوطنين ، والمقيمين من أجل وظائفهم أو دراستهم في مكان المثل وسكنه ومدته الطويلة بنية مستقرة .
والثانية : حال عليا في انتفائه ، يتفق أهل العرف أو أكثرهم على نفي وصف الإقامة ؛ كنـزول المسافر يومين أو ثلاثة لعلاجٍ أو إنجازِ معاملة .
والثالثة : حال مشكلة بسبب تجاذب وصفي السفر والإقامة ؛ كذهاب المرء منتدباً فترة شهرين مثلاً ، وقد سكن شقة مفروشة بعقد شهري
أو بمدة مكثه المذكورة ، دون تأهل ؛ فهذه تتنازعها الحالان ، وقد تثير عند الناس حيرة وتردداً .
فهذه أحوال ثلاث لا رابع لها ؛ فيقال عنها : إن ما حكم أهل العرف بإثباته أو نفيه أخذنا فيها بحكمهم نفياً أو إثباتاً ، وبنينا عليه حكم الرخصة
أو العزيمة ؛ فهذا حكم الحالين الأُوْلَيَيْن .
وأما الحال الثالثة ، وهي المشكلة فلها مخرجان فقهيان :
المخرج الأول : استصحاب الأصل الأول ، وهو انشغال ذمة العبد بالصلاة تامة ووجوب الصوم في نـهار رمضان ؛ فمادام شاكاً فعليه إبراء ذمته من ذلك ؛ فيُمنع من الترخص في حال وجود الشك .
المخرج الثاني : أن يستصحب الحال الأخيرة من سفر أو إقامة ؛ فإن كان مقيماً وحصل التردد في وصف السفر بنى على أصل الإقامة . وذلك كمن كان في دار إقامته وخرج على سيارة لزيارة قريب لـه فـي قرية مجاورة تبعد أربعين كِيلاً في طريق معبد دون حمل زاد أو مزاد ، وكون ذهابه ورجوعه فـي يوم واحد ؛ فتردد هل يُعتبر مسافراً أو لا ؟
فهذا وإن كان شاخصاً مفارقاً لبلده فيما لا يشبه هيئة المقيمين إلا أن
قِصَرَ المسافة وقلة الوقت منعت قيام وصف السفر ؛ فلذلك يَعتبرُ نفسه مقيماً استصحاباً لحكم الحال السابقة ؛ فهذا مقيم حكماً ([113]).
وأما استصحاب أصل السفر فكمن سافر مسافة تزيد على ألف كيل من الدمام إلى مكة مثلاً ؛ فهذا مسافر قطعاً ، ولكن أشكل عليه نزوله في مكة مدة شهر في فندق هل يُعتبر إقامة أو لا ؟ ومثل ذلك حضري نزل ثلاثة أشهر في صحراء من الأرض ، أو في مدينة ، ولكن في غير سكن معلوم .
فهذا وأمثاله وإن كانت حاله لا تشابه هيئة المسافرين بتركه النقلة ـــ التي هي أبرز أوصاف السفر ـــ إلا أن الناس لا يسمونه مقيماً أيضاً ؛ وذلك لعدم اكتمال الأسباب التي يقوم بـها وصف الإقامة ؛ فهو إذاً مستصحبٌ لحكم حاله السابقة وهي السفر ؛ فهذا مسافر حكماً .
قال الحموي الحنفي : ( .. مقتضى قولهم الأصل بقاء ما كان على ما كان .. أن يستمر حكم السفر مع الشك في الوصول إلى بلده .. ) ([114]) .
وهذا المخرج ـــ وهو استصحاب حال السفر وأحكامه عند الشك في حصول الإقامة ـــ هو أرجح القولين ، وهو وجه عند الشافعية ، ذكر ذلك النووي ، وعلَّل هذا الوجه بقوله : ( .. لأنه شاك في زوال سبب الرخصة ، والأصل عدمه ) اهـ ([115]) .
و يدل على صحة قاعدته قوله فيما جاء فـي الصحيحين لمن شك في الحدث : "لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً" . فلم يجعل الشك مؤثراً في حكم الطهارة السابقة . وهذا الحديث هو أصل قاعدة اطراح الشك العارض ، واستصحاب حكم الحال السابقة .
لذلك لم يأمر الله عز وجل بإتمام الصلاة إلا بعد حصول الإقامة ؛ فقال جل شأنه : "وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوْا مِنَ الصَّلاةِ " ثم قال : "فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيْمُواْ الصَّلاةَ " الآية .
فإذا نزل المسافرُ في غير مكان المثل ، أو دون سكن ، أو في مدة قصيرة ، أو طويلة بلا نية مستقرة فلا يُعدُّ مقيماً ؛ فهو إذاً باق على حكم سفره .
والاحتياط في مسائل الشك هو من تمام الديانة ؛ فإذا تردد المرء هل يُعتبر مقيماً أو مسافراً ؟ فالأحوط لـه هو عدم الترخص بقصر ولا فطر . هذا الاحتياط إنما هو في مسائل الشك التي يتساوى فيه حالا السفر والإقامة ، أما الشك اليسير المعارض ليقين أو غلبة ظن فلا تعويل عليه ([116]) .
فقه ما جاء في بعض الأخبار من الترخص مدداً طويلة
تقدم في عرض الأقوال ذكر بعض الأخبار التي ترخص فيها النبي والصحابة برخص السفر مدداً طويلة ، وقد كانت من أقوى أسباب خلاف العلماء في هذه المسألة ، وبمعرفة فقهها لن يبقى فيها إشكال إن شاء الله .
فعند تأمل هذه الأخبار تجد أنـها لا تخرج عن أحوال خمس كلها تُعتبر من السفر أو ملحقة به حكماً ؛ لعدم تحقق الإقامة بوصفها العرفـي :
الحال الأولى : عـدم صلاحية المكان للإقامة عادةً ، والإقامة عند أهل العرف ـــ مهما كانت مدتـها ـــ لا تصح إلا في مكانـها المعتبر ، وعلى هذا الحكم العرفي قولُ أبي حنيفة والقول الآخر لكل من الشافعي وأحمد .
والحال الثانية : عدم وجود نية الإقامة المستقرة التي لا اضطراب فيها ولا تردد . ونية الإقامة المستقرة شرط معتبر عند العلماء لحصول الإقامة ؛ لذلك حكم الحنفية والحنابلة في الرواية الثانية عن أحمد بعدم تأثير إرادة مدة الإقامة في المذهبين ولو نوى إقامتها ؛ وذلك إذا نزل المسافر لحاجة ، وكان يحتمل قضاء حاجته قبل المدة ؛ فاعتبروه في حكم السفر ؛ كما تقدم بيانه .
وهذا الاضطراب يكثر جداً في أحوال نزول المسافرين قديـماً وحديثاً ، ومَنْ هذه حاله فهو مسافر ، أو هو مستصحب لحكم السفر .
ومن أمثلة الاضطراب هذه حالُ الجهاد ، حيث لا توجد نية مستقرة عند المجاهدين للإقامة ، سواء كان ذلك في الطريق أو في مكان المعركة ؛ فلا يُعتبر النازل في هذه الحال مقيماً عند الناس ، مهما طال مكثه ، وعلى ذلك مذاهبُ كثير من أهل العلم ؛ كما تقدم بيانه .
ومن أهمل هذه الحال الثانية أشكلت عليه تلك الأخبار ؛ لظنه أن الصحابة الذين جاء عنهم الترخص قد نووا هذه المدد الطويلة عند نزولهم ، وأنـهم في حال من الطمأنينة والاستقرار ؛ فبنى على هذا الظن أنـهم مستقرون كاستقرار المقيمين ؛ فرأى أنـها تصلح دليلاً لقول من اعتبر الاستيطان حداً ، أو لقول من جعل الحد إرادة الوقت أو إنجاز الغرض .
بيد أن النازلين في هذه الأخبار كانوا في اضطراب وتردد وانزعاج ؛ فلم تحصل لهم الإقامة في أبرز سماتـها عند أهل العلم ، وكذلك عند الناس .
والحال الثالثة : قِصَر مدة النـزول في بعض هذه الأخبار ؛ كأربعة أيام وتسعة عشر ، مما لا يُعتبر معها النازل مقيماً عرفاً ، ولو بنية مستقرة .
والحال الرابعة : عدم وجود مسكن المثل والإقامة لا تُتَصور إلا به ؛ فمن نزل بلداً ولم يتخذ مسكنه المعتبر عادة فإن الناس لا يسمونه مقيماً .
والحال الخامسة : أخبار لم يوجد فيها ما يُثْبِتُ وصف الإقامة العرفي ، ولا ما ينفيه ، والأصل في هذه الحال هو بقاء السفر أو بقاءُ حكمِه حتى تَثْـبُتَ الإقامة بأسبابـها العُرفية ، وهذه قاعدة مهمة لفهم مثل هذا النوع من الأخبار .
وهذا عرض للأخبار التي وقع فيها الترخص :
فمن ذلك : نزول النبي في تبوك عشرين يوماً ، وفي مكة عام الفتح تسعة عشر يوماً ؛ فقد كان نزوله في مدة يسيرة بلا نية مستقرة ؛ كما أنه كان في حال حرب ، ولم يوجد في هذه الحال مسكن المثل .
قال الإمام ابن تيمية : ( .. وقد أقام المهاجرون مع النبي عام الفتح قريباً من عشرين يوماً بمكة ، ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بـها عن السفر ) ([117]) .
وقال ابن القيم عن إقامة النبي في تبوك : ( .. وهذه الإقامة في حال السفر لا تَخْرُجُ عن حكم السفر ، سواء طالت أو قصرت ، إذا كان غير مستوطن ، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع ) ([118]) .
* * * * *
ومن هذه الأخبار المشكلة ترخص بعض الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم في حال الحرب ؛ كأثر أنس في ترخصه في نيسابور ،
وفي رامَهُرْمُز ، وابن عمر في أذربيجان ، وعبدالرحمن بن سمرة في كابل ، وسعد بن مالك في عمَّان ، وأبي جمرة في خراسان .
فهذه غزوات الصحابة ، وتلك مواطئ أقدامهم مجاهدين فاتحين .
فأحوال الحرب هذه ليست ظرفاً للإقامة المعتبرة عرفاً ، والمجاهدون فيها بين خوفٍ ، أو حصارٍ عسكري ، أو فتحٍ للبلدان ، أو تجهيزٍ للجيوش ، أو انتظارٍ للسرايا ، أو نـزولٍ في مـدن الثغور لترقُبِ مددٍ أو إذنٍ بقتال .
وهذه الأحوال لا يُحْضِرُ المجاهدون معهم فيها أهلاً ولا مالاً ، ولا يتخذون منـزلاً ولا مستقراً ؛ فمن ذا يقول : إن حقيقة شرعيةً أو لغوية أو عرفية تقضي أن مثل هذه الحال إقامة ؟
وقد يُخَرَّج ترخصهم في تلك الأحوال على القاعدة التي ذكرها الحنفية والمالكية ، وهي أن النـزول في دار الحرب للعسكر لا يُعتبر إقامة ، وإن جاوزت المدة المعتبرة في المذهبين ، وهذه الغزوات لم تكن إلا في دار حرب .
ثم إن النـزول في أكثر هذه الأحوال لا يتوجه إلى مدد طويلة غالباً ؛ فالمجاهدون وإن كانوا عادة ينتظرون المدد أو الإذن بالقتال أو ذوبان الثلج أو فك الحصار ، ونحو ذلك من أحوال الجهاد إلا أن هذه الأحوال لا تخلو من ترقب لزوالها في وقت يسير عرفاً ؛ كعشرين يوماً أو ثلاثين أو أربعين ؛ كما أن المجاهد لا يخلو أيضاً من تلمس أنواع الحيل والمخارج من مثل هذه الأحوال ، وطلب هذه المخارج لا يجعل قصده للمدة عند النـزول يتوجه إلى وقت طويل ، ولكن قد لا تفلح حيلته فيسعى لأخرى ، وهكذا حتى يتمادى به الأمر إلى مثل هذه المدة الطويلة ؛ كما أن كل فرد من المجاهدين في حال تأهب أن يُرْسَل في سرية استطلاع أو مدد أو حراسة أو بريد ؛ فليست هذه حال المقيم المطمئن ، بل هي حال المسافر المضطرب .
فمادام أن هذه هي أحوال الجهاد فلم يتحقق قصد هذه المدد الطويلة ، وغاية ما في الأمر أن الصحابة أخبروا ـــ بعد قفولهم ـــ أنـهم مكثوها ؛ فلا تعتبر هذه الأخبارُ معارضةً للتعليل بالوصف العرفـي .
وحتى لو أثبت مثبتٌ في بعض الأخبار أنـهم قصدوا المدة الطويلة عرفاً فلا بد من تحقق بقية أوصاف الإقامة ؛ كصلاحية المكان والمسكن عادة .
* * * * *
ومن هذه الأخبار نزوله في حجة الوداع ؛ فقد دلت الأحوال أن إقامته ليست إقامة عرفية ؛ فلم يكن لـه بيتٌ يعرفه الناس ؛ كالذي يُعرف
عن المقيم ، ولو سألت الناس : هل هو مقيم بمكة ؟ أو أنـها صارت دار إقامة لـه ؟ لكان الجواب بالنفي .
وحين سأله أسامة بن زيد قائلا : أتنـزل في دارك بمكة ؟ قال : "وهل ترك عقيل من رباع أو دور" ؟ ([119]) .
قال ابن تيمية : ( وأما في حجة الوداع ؛ فقد كان النبي آمناً ، لكنه لم يكن نازلاً بمكة ، وإنما كان نازلاً بالأبطح خارج مكة هو وأصحابـه ؛ فلم يكونوا نازلين بدار إقامة ، ولا بمكان فيه الزاد والمزاد ..) ([120]) اهـ .
فقد كان نزول النبي ملحقاً بالسفر ؛ وذلك لقِصَر المدة ، ولعدم السكن المعتاد لمثله ، وكون المكان ليس مكان إقامة معتبر ؛ فمَنْ كانت هذه حاله لا يُسمى مقيماً ؛ فالنازل فيها باقٍ على حكم سفره السابق .
* * * * *
وثمة أخبارٌ دلت القرائن على عدم تحقق الإقامة بمعناها عند أهل العرف :
فمن ذلك إقامة مسروق بن الأجدع رحمه الله بالسلسلة سنتين يقصر الصلاة ؛ فليس فيها ما يدل على أنـه اجتمع لمسروق ما يُسمى عند أهل العرف إقامة .
بل ظهرت قرائن تدل على عدم توفر أسباب الإقامة العرفية ؛ فلم تثبت صلاحية المكان ، ولا إرادة المدة الطويلة ، ولم يكن في نزوله هذا متأهلاً :
فأما المكان : فقد بحثت عن هذه البقعة التي نُصب فيها مسروقُ والياً والمسماة "السلسلة" في مظانـها في مشهور كتب معاجم البلدان والتاريخ واللغة فلم أجد لها ذكراً .
ثم وجدت في "المُغْرِب" ما يدل على أنـها ليست مدينة أو قرية ، حيث قال عنها المصنف بعد ذكر ولاية مسروق عليها : ( هي التي تُمد على نـهر أو على طريق يُحبس بـها السفن أو السابلة ؛ ليؤخذ منهم العشور ، وتسمى المأصر..) ([121]).
وقال الجصاص في "المأصر" : ( إنه حبل يُمد على طريق أو نـهر تحبس به المارة ، ويعطفون به عن النفوذ ؛ ليؤخذ منهم العشور والمكس ) ([122]) اهـ .
وما جاء في تعريف صاحب "المغرب" بقوله : ( هي التي تُمد ) يدل على أن السلسة ليست مدينة أو قرية ، وإنما هي حاجز يمنع المسافرين من العبور إلا بعد أداء الحقوق ، حيث كانت تؤخذ العشور من النصارى والزكوات من المسلمين ، وقد جُعلت ولاية هذا العمل لمسروق .
فإذا كانت في صحراءَ أو شاطئٍ بعيد عن البنيان ؛ كما هو الظاهر
ـــ حيث لا تُنصب مثل هذه السلاسل والحواجز في المدن ـــ فلا يُعتبر النازل فيها أنه في دار إقامة ؛ فقد تخلف هنا شرط صلاحية المكان للإقامة عرفاً وعادة ؛ فلا يُعتبر مقيماً وإن طال مكثه ؛ كما هو مذهب الحنفية والشافعية في القول الآخر والحنابلة في الرواية الثانية .
وأما المدة الطويلة : فلم يظهر هنا من حاله أنه نواها عند النـزول ، وغاية ما هنالك أنه مَكَثَ هذه المدة يترخص دون دلالة على قصدها عند قدومه ؛ فلعله ترخص لكونه يترقب رجوعه إلى أهله في مدة قصيرة عرفاً .
ومما يؤكد احتمال اضطراب حاله أن عمله هذا لم يكن باختياره ، حيث أكرهه عليه واليه زياد ([123]) ؛ فلعله كان ينتظر أمر إعفائه من عمله مع كل مسافر أو بريد ؛ فلم يتخذ لأجل ذلك أسباب الإقامة المعتادة ؛ فتكون نيته في المكث مضطربة مترددة ، حتى اجتمعت لـه هذه المدة ؛ فإذا كانت هذه حاله في الاضطراب فإن الناس لا يعتبرونه مقيماً .
وأما التأهل : فإن الذهبي ذكر ما يدل على عدم تأهله فقد أسند إلى أبي الضحى قال : غاب مسروقُ عاملاً على السلسلة سنتين ، ثم قدم فنظر أهلُه في خرجه فأصابوا فأسا ؛ فقالوا : غبت ثم جئتنا بفأس بلا عود ! قال : إنا لله ! استعرناها نسينا نردها ([124]) . وهذا يدل على عدم تأهله هناك .
وفي هذا الخبر أيضاً ما يدل على زهده وتخففه وتعففه في ولايته رحمه الله تعالى رحمة واسعة .
وأما المسكن : فالغالب في حال من نزل مكاناً غير صالح للإقامة أنه لا يتخذ سكن المثل ؛ كبيوت الحجر والمدر ، وإنما يسكن القباب أو الخيام .
فمَنْ لم يُردِ الإقامة مدة طويلة بنية مستقرة ولم يتخذ مكان المثل ولا سكنه متأهلاً فلا يُعتبر عند الناس مقيماً ، ولا عند كثير من أهل العلم .
* * * * *
ومِنْ هذه الأخبار ما لم يتحقق فيها وجود وصف الإقامة ، والأصول تقضي في هذه الحال ببقاء وصف السفر ، حتى يُثْبِتَ المخالف وجود أسباب الإقامة المعلومة عند الناس .
ومِنْ أمثلة هذه الحال ما جاء عن أبـي المنهال الذي قال لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما : إنـي أقيم بالمدينة حولاً لا أشد على سير ؟ فقال : صل ركعتين !
فليس فيه ما يدل على حال أبي المنهال ، وهل هو متلبس بوصف الإقامة العرفـي أو لا ؟ فقد يكون من التجار الذين ينـزلون البلد لبيع بضاعتهم ، وشراء بضاعة المدينة لنقلها إلى بلده ؛ كحال كثير من التجار في القديـم والحديث ، حيث إن بعضهم يقصد بلداً بعيداً للتجارة ؛ فينـزله لبيع بضاعته أو انتظار بضاعة قادمة ، وهو يتوقع الخروج كل عشرة أيام أو عشرين أو ثلاثين ، ولكن قد لا يحصل لـه مقصوده في مثل هذا الوقت القريب ؛ فيتمادى به الأمر إلى مدة مثلها حتى تجتمع لـه مدة كثيرة ، دون أن يتأهل أو يتخذ سكن المثل ومتاعه ؛ لأنه يرجو الخروج كل حين في حال من الاضطراب ؛ فمن كانت هذه حاله لا يعتبره الناس مقيماً .
وتأمل هذا في عبارته في سؤاله : (لا أشد على سير ) ؛ فمَنْ يقول هذا لا يُتصور مِن حاله أنه مقيم في بيت مملوك أو مستأجر في بعض أحياء المدينة ينوي المكث فيه سنين ؛ فلو كان على هذه الحال المطمئنة لم يحتج أن يقول هذه العبارة ، وإنما حاله حالُ مضطرب متردد ؛ فربما كان لا يأوي إلى سكن معتاد ؛ فرخص لـه ابن عباس رضي الله عنهما ؛ لأنه رآه غير مقيم .
ولعل حال أبي المنهال هذه كحال مورِّق حين سأل ابن عمر فقال : إني تاجر أتنقل في قرى الأهواز ؛ فأقيم في القرية الشهر وأكثر ، قال : تنوي الإقامة ؟ قلت : لا ، قال : لا أراك إلا مسافراً ، صل صلاة مسافر! ([125]) .
وليس لأحد أن يقول : ما الدليل على وجود هذا التردد والاضطراب في مثل هذه الأحوال ، ليس لـه ذلك لأن الدليل إنما يُطلب ممن يدعي وجود الطمأنينة المعتادة ؛ وذلك لأن الأصل هو بقاء السفر ، بل إن الظاهر من أحوال المجاهدين وأصحاب الأعمال الطارئة هو عدم وجود أسباب الاستقرار والطمأنينة التي يصير بـها المسافر مقيماً .
وإذا نظرت في أحوال المغتربين من الطلبة والموظفين لم ترَ أنـهم قد تلبسوا بشيء من أسباب بقاء السفر المذكورة في هذه الأخبار .
تحرير كلام بعض أهل العلم في هذه المسألة
اُشتُهِر عند بعض طلبة العلم أن قول ابن تيمية وابن القيم وغيرهما في هذه المسألة هو أن علة الترخص هي إرادة النازل وقتاً محدداً أو إنجاز غرضٍ
معين ؛ كالقول الخامس ، وفي هذا المبحث أذكر ما وقفت عليه من أقوالهم :
كلام ابن تيمية([126]) :
لم يظهر أن شيخ الإسلام ابن تيمية ـــ فيما وقفت عليه من كلامه ـــ قد قال بـهذا القول ، حيث لم يقرر ذلك في تخريج المناط ولا في تحقيقه :
ففي الاستنباط وتخريج المناط : لم يقل : إن علة الترخص هي كون إقامة النبي مقيدة بعمل ينتهي أو زمن ينتهي ، بل كان مدار كلامه على تحقق مطلق الوصف سفراً أو إقامة ؛ كما سيأتـي ذلك قريباً .
وفي تحقيق المناط : فإنه لم يقل أيضاً بالنص أو المعنى : إن المغترب وأمثاله لهم الترخص برخص السفر ، وإن نزل أحدهم في دار غربته إقامة عرفية ، ولم أَرَ بعد طول بحث وسؤالٍ لأهل العلم أنـه أفتى بذلك أو مثَّل له .
بل ظهر في فتاواه أنه لا يرى الترخص لمن يقيد إقامته بنهاية وقت أو غرض ، حيث أفتى أهل البادية ؛ كأعراب العرب والأكراد والترك وغيرهم الذين يُشتُّون في مكان ويُصيِّفون في مكان أنـهم لا يترخصون في مشتاهم
ومصيفهم ، وإنما لهم أن يترخصوا في حال السفر بينهما فقط ([127]) .
فهؤلاء ينـزلون المكان بنية مغادرته بعد مدة معلومة هي ستة أشهر تقريباً ، ولم ير أن لهم الترخص .
كما أفتى ملاح السفينة بعدم الترخص إذا كان معه امرأته وجميع مصالحه ([128]) ، رغم أنه يضرب البحر بنية العودة إلى وطنه بعد فصل أو فصلين أو سنة أو أكثر من ذلك بقليل أو كثير .
ومن المعلوم أن الملاحين والرعاة أحوج إلى الرخصة من الطلبة المغتربين وأمثالهم من العمال والموظفين ؛ وذلك لكثرة تنقلهم واضطراب حالهم .
تحرير قول ابن تيمية في المسألة :
وقد ظهر من كلام الإمام ابن تيمية الله أنه يرى أن تحقق الوصف العرفي للإقامة قاطع للسفر ورخصه ؛ وذلك من وجوه :
الوجه الأول : اعتباره للاسم المطلق للإقامة :
فقد ساق اسم الإقامة في كلامه عن قاعدة الأسماء المطلقة التي سبيلها العرف عنده ؛ كالخفاف التي يُمسح عليها وحقيقة الماء الذي يُرفع به
الحدث ، ثم قال : (.. ومن ذلك أنـه علَّق الحكم بمسمى الإقامة ؛ كما علقه بمسمى السفر ، ولم يُفَرِّقْ بين مقيم ومقيم ..) ([129]).
وقال في موضع آخر بعد تقريره أن الإقامة لا تُحد بأربعة أيام قال بعد ذلك مباشرة : (.. ما أطلقه الشارع يُعمل بمطلق مسماه ووجوده ، ولم يجز تقديره وتحديده بمدة ..) ([130]) .
الوجه الثاني : كلامه في السفر .
لا يستقيم فهمُ كلام الإمام ابن تيمية في الإقامة إلا بالنظر في كلامه في السفر ؛ فالسفر والإقامة عنده نقيضان لا يجتمعان معاً ولا يرتفعان معاً ؛ كما يقول الأصوليون .
فوجود الإقامة بمعناها العرفي نفي للسفر بمعناه العرفي ؛ كما هو ظاهر ؛ فمن كان مقيماً عرفاً فليس بمسافر في عرف الناس أيضاً ؛ فلا رخصة له .
وتأمل هذا في كلامه :
يقول رحمه الله : ( وأما الإقامة فهي خلاف السفر ؛ فالناس رجلان مقيم ومسافر ، ولهذا كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحـد هذين الحكمين إما حكمُ مقيمٍ ، وإما حكم مسافر ) ([131]) .
ويقول : ( .. والقصر معلق بالسفر وجوداً وعدماً ؛ فلا يصلي ركعتين إلا مسافر ، وكل مسافر يصلي ركعتين .. ) ([132]) اهـ .
ويقول رحمه الله : ( .. وهذا مما يعرفه الناس بعاداتـهم ، ليس لـه حد في الشرع ولا اللغة ، بل ما سموه سفراً ؛ فهو سفر ) اهـ ([133]) .
وقال عن حد الإقامة : ( .. وإذا كان التحديد لا أصل لـه فمادام المسافر مسافراً فإنه يقصر الصلاة ، ولو أقام في مكان شهوراً ) ([134]) .
يقال هنا : والناس لا يسمون المقيم إقامة عرفية مسافراً لا حقيقة ولا حكماً ؛ فهو عند ابن تيمية غير مسافر ؛ فلا رخصة لـه .
فهذا الوجه لازم لكل من قال بأن تحديد السفر راجع إلى العرف ثم اعتبر للإقامة حدوداً أخرى لم يأت بـها نص ، ولم يدل عليها عرف ؛ وذلك لأن المسافر ـــ عند الناس ـــ يخرج من سفره بإقامة عرفية ، وكذلك المقيم عرفاً يخرج من إقامته بسفر عرفي .
الوجه الثالث : أن كلام العلماء عند الإطلاق يُحمل على العرف .
رأيتَ في كلام الإمام ابن تيمية أنه يعتبر لانقطاع الرخصة زوال وصف السفر ، وأن الرسول وأصحابه كانوا يترخصون لأنـهم لم يقيموا إقامة خرجوا بـها عن السفر .
فمتى يزول السفر عند ابن تيمية ، وما هي الإقامة التي يعتبرها مخرجة للمسافر عن سفره ؟
إن أقرب ما يُحمل عليه كلام العلماء عند الإطلاق هو إرادة الوضع العرفي ؛ لأنه الأقرب إلى مراد المتكلم ، والمتبادر إلى فهم السامع ؛ فالنتيجة هنا أن من أقام إقامة عرفية فقد انقطع سفره ؛ وبذلك ينتهي ترخُصُه .
وهذا هو منهج ابن تيمية نفسه ؛ فقد حَمَلَ كلام العلماء عند الإطلاق على المعنى العرفي ؛ فقال عن سب الرسول : ( فما كان فـي العرف سباً للنبي فهو الذي يجب أن يُنـزَّل عليه كلام الصحابة والعلماء ) ([135]) اهـ .
قال ذلك دون أن يذكر تصريحاً من الصحابة والعلماء باعتبار العرف في ضبط شتم الرسول ، وقد اعتبر في ذلك إطلاق اللفظ .
ومن قال : إن مراد ابن تيمية هنا هو شيء غير الأوضاع المشتركة
ـــــ كتأثير إرادة الوقت أو العمل ـــــ فهذا هو الذي يحتاج إلى تصريح وبيان .
الوجه الرابع : أنه اعتبر في فتاواه أموراً عرفية .
فقد اعتبر رحمه الله أموراً عرفية في ثبوت أحكام الإقامة ، حين قرر أنه ليس للملاح أن يترخص مادام في رفقته امرأته ، وجميع مصالحه ؛ كما تقدم
قريباً ؛ فقد رتب آثار الإقامة على الملاح رغم أنـه على ظهر سير ؛ وذلك بسبب أمرين عرفيين ، هما التأهل ، ووجود المصالح .
ومما يدل على أن مراده هو الوضع العرفي لا سواه أن أدلته وأمثلته في السفر والإقامة كانت موافقة للمعنى العرفي ، وما بقي منها فلا يعارضه لعدم التصريح بوجود أسباب الإقامة :
فمن أدلته : أحوال نزول النبي في مكة عامي الفتح وحجة الوداع ، وكذلك في تبوك ، ومنها أحوال نزول الصحابة في الجهاد .
ومن أمثلته رحمه الله على عدم تحقق الإقامة التاجر الذي يقدم ليبيع بضاعة ([136]) .
وكل هذه ملحقة بالسفر عرفاً وعادة .
ولم أرَ لـه دليلاً واحداً أو مثالاً واحداً تضمن شيء منها إقامة النازل في مكان المثل وسكنه متأهلاً في مدة طويلة ونية مستقرة .
فأدلته وأمثلته هي أولى ما يُفسر بـها كلامُه .
فيكون الظاهر من كلامه أن الذي يستحق الرخصة هو من سافر ثم
نزل مكاناً لم ينو فيه المقامَ ولا قطعَ السفر ؛ فبقي مضطرباً غير مستقر
ينظر إلى مواصلة سيره ، أو الرجوع إلى بلده في وقت يسير عادة ، أو في وقت كثير لم تُوجد فيه بقية أسباب الإقامة الأخرى كالمكان والمسكن ؛ كحال من نزل بلداً لتجارة أو مرافعة أو ملازمة غريم أو سؤال لأهل العلم أو تحصيل دين أو زيارة أو نزهة ، ومثل ذلك في الوقت الحاضر مراجعةُ المؤسسات الحكومية والأهلية ، مما لا يُعتبر المسافر معها مقيماً قاطعاً لسفره ، ولو سئل الناس عنه لقالوا بأنه غير مقيم ؛ فهو باق على حكم سفره .
وقد أكد رحمه الله هذا المعنى بقوله : ( وقد أقام المهاجرون مع النبي عام الفتح قريباً من عشرين يوماً بمكة ، ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بـها عن السفر) ([137]) .
وتراه يقول : ( .. لأن الفطر مشروع للمسافر في الإقامات التي تتخلل السفر ؛ كالقصر ) ([138]) .
فاتضح أن مراده بالإقامة التي تتبع السفر إنما هي إقامة تتخلله ، ويراها الناس جزءاً من ذلك السفر ، وليست إقامة ينقطع بـها هذا السفر .
كلام ابن القيم :
أما الإمام ابن القيم فقد قال في فوائد غزوة تبوك : ( ..ومنـها أنـه أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة ، ولم يقل للأمة : لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك ، ولكن اتفقت إقامته هذه المدة ، وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر ، سواء طالت أو قصرت ، إذا كان غير مستوطن ، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع ) ([139]) .
فيُلحظ في كلامه ما يلي :
1. أنه رحمه الله لم يجعل الوقت والعمل حداً بين مقيم ومسافر ، وإنما أناط الحكم بوجود السفر دون أن يظهر في كلامه قيد آخر على مطلق الوصف .
2. أن في كلام ابن القيم ما يدل على منع ترخص أمثال هؤلاء المغتربين ؛ وذلك لأن انقطاع الرخصة عنده يكون بواحد من أمرين : الأول : الاستيطان . والثاني : العزم على الإقامة .
وهؤلاء المغتربون من الطلبة والعمال والموظفين خارج أوطانـهم وإن لم يكونوا مستوطنين إلا أنـهم قد عزموا على الإقامة وقطع السفر .
3. أن قولـه هنا : ( .. وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر .. ) يدل على أن مراده هو أحوال النـزول التي تتخلل السفر ؛ كمن نزل مكاناً فبقي يترقب مواصلة سفره ، أو عودته فـي وقت قريب ، ولم يتخذ من أسباب الإقامة ما يُعتبر به قاطعاً لسفره ، طالت مدة نزوله تلك أو قصرت ؛ فهذه هي ( الإقامة في حال السفر ) ، لا إقامة المغتربين ونحوهم .
4. أن الظاهر من مراده بقطع السفر ، والعزم على الإقامة هو العرف حملاً لكلام العلماء عليه عند الإطلاق ؛ كما تقدم في كلام ابن تيمية رحمه الله ، وإذا نظرت في موضع استدلاله وهو نزول النبي في غزوة تبوك وجدت أن الرسول وأصحابه لم يتخذوا من أسباب الإقامة ما يُعتبرون به قاطعين لسفرهم ، حيث لا مكان معتبر ، ولا نية مستقرة لإقامة مدة طويلة .
فما ذكره من الدليل هو أقرب ما يُفسر به كلامه .
كلام عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب :
ولم أَرَ في كلامه أنه ذكر هذا الضابط ، بل ظهر منه ما يلي :
1. أنه ذكر أن المعتبر في ثبوت وصف الإقامة هو العُرف ([140]).
2. أنه جعل نـهاية الرخصة واحداً من أمرين ؛ فقرر : ( .. أن المسافر يجوز لـه القصر والفطر ، ما لم يجمع على إقامة أو يستوطن ؛ فحينئذ يزول عنه حكم السفر .. ) ([141]) ، ويقال في كلامه هذا ما قيل عن كلام ابن تيمية وابن القيم في المقصود من الإجماع على الإقامة .
3. أنه يرى أن من قصد مدة وغرضاً فهو مقيم ؛ فلم يَعتبرْ قيدي الوقت والعمل ([142]).
كلام ابن سعدي :
قال العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله : ( والصحيح أيضاً أن المسافر إذا أقام بموضع ، لا ينوي فيه قطع السفر ؛ فإنـه مسافر ، وعلى سفر ، وإن كان ينوي إقامة أكثر من أربعة أيام ؛ لكونـه داخلاً في عموم المسافرين ، ولأن إقامة أربعة أيام أو أقل أو أكثر حكمها واحد ؛ فلم يرد المنع من الترخص في شيء منـها ) ([143]) .
ويقال هنا أيضاً : إن المغتربين قد قطعوا سفرهم ، وأن كلام العلماء وغيرهم يُحمل عند الإطلاق على المعنى العرفي .
كلام رشيد رضا :
قال الأستاذ العلامة رشيد رضا في فتواه : ( .. المسافر الذي يمكث في بلد أربعة أيام ، أو أكثر ـــ وهو ينوي أن يسافر بعد ذلك منها ـــ لا يُعتبر مقيماً منتفياً عنه وصف السفر لا لغة ولا عرفاً ، وإنما يُعدُّ مقيماً من نوى قطع السفر واتخاذ سكن لـه في ذلك البلد ، وإن لم يتم له فيه إلا يوم أو بعض يوم . إننا نرى المسافر يخرج من بلده وقد قدَّر لسفره تقديراً منه أن يقيم في بلد كذا ثلاثة أيام ، وفي بلد كذا عشرة أيام ، وفي بلد كذا عشرين يوماً ..الخ ، وهو إذا سئل في أي بلد ، أو سئل عنه : هل هو من المسافرين السائحين ؟ أم من المقيمين الوطنيين أو المستوطنين ؟ لم يكن الجواب إلا أنه من المسافرين السائحين ؛ فالمكث المؤقت لا يسمى إقامة إلا بقيد التوقيت ، بحيث لو سئل هل أنت مقيم في هذا البلد ؟
يقول : لا ، وإنما أنا مسافر بعد كذا يوماً ) ([144]).
فقد ظهر من كلام الأستاذ الشيخ رشيد رضا ما يلي :
1. أنه لم يصرح بقيدي الوقت والعمل ؛ فلا تصح نسبة هذا القول إليه .
2. أن المدد التي ذكرها ـــ وهي ثلاثة أيام وعشرة وعشرين ـــ هي من الأحوال التابعة للسفر ، ولا تعتبر عرفاً من الإقامة .
3. أن الشيخ رضا ذكر أن السفر ينقطع باتخاذ المنـزل ، وهذه مسألة عرفية ، بل إنه صرح أن العرف لـه أثر في بقاء وصف السفر ؛ كما هو ظاهرٌ من كلامه ، واعتباره لنظرة الناس إليه .
فقد ظهر أن قصد الشيخ محمد رشيد رضا هو حالات النـزول أثناء السفر في مدد يسيرة ، ودون اتخاذ أسباب الإقامة من سكن ونحوه .
خاتمة بأهم نتائج البحث
1. لم يظهر ـــ من خلال استقراء الإمام ابن تيمية وغيره ـــ أن الشريعة دلت على اعتبار المدد التي ذكرها بعض الفقهاء ـــ كالأربعة أيام أو الخمسة عشر يوماً أو العشرين ـــ حداً فاصلاً بين السفر والإقامة .
2. لم يظهر من هدي النبي والصحابة تصحيح قول من قال بأن من قيَّد نزوله بوقت
أو عمل فهو مسافر ؛ فتَثْـبُتُ الرخصة ـــ على هذا القول ـــ للطلبة والموظفين والعمال الذين وجدت فيهم هذه الصفة ؛ كما لم تظهر صحة قول من حدها بالاستيطان .
3. ظهر أن الراجح في ضبط الإقامة هو العرف ؛ فمن وصفه الناس بأنه مسافر أو مقيم فهو كذلك تُبنى على حاله العرفية جميع أحكام السفر أو الإقامة .
4. أن حقيقة الإقامة في العرف هي : وجود أسباب التعلق بمكان النـزول ؛ فمتى اكتملت هذه الأسباب أو كثرت أو قويت عُدَّ النازل من المقيمين ، ومتى عُدمت هذه الأسباب كلها أو قلَّت أو ضعفت فصاحبها مسافرٌ ، أو في حكم المسافرين .
فمن هذه الأسباب نية الإقامة المستقرة ومدتـها : فالطمأنينة لا تتحقق أصلا إلا بقصد المدة الطويلة بنية مستقرة لا تردد فيها ، وحدها هو العرف . ومنها المكان : فالإقامة لا تكون إلا في مكانـها المعتاد . ومنها المسكن : فمن نزل بلداً ولم يتخذ فيه سكن مثله لم يره الناس مقيماً . ومنها التأهل : وله أحوال فُصِّلت في هذا البحث .
5. أن الوصفين الرئيسين للسفر هما مجاوزة بنيان البلد وقطع المسافة الطويلة ، وكلاهما أمر عرفي ؛ فما دام الشاخص على هذه الحال سائراً متنقلاً فهو في أعلى أحوال السفر .
6. أن من أحوال النـزول التابعة للسفر هي حال من نزل مكاناً لم ينو فيه المقامَ ولا قطعَ السفر ؛ فبقي مضطرباً غير مستقر ينظر إلى مواصلة سيره ، أو الرجوع إلى بلده في وقت يسير عادة ؛ كعشرين يوماً أو ثلاثين ونحو ذلك ، أو في وقت كثير لم تُوجد فيه بقية أسباب الإقامة الأخرى ؛ كالمكان والمسكن ، أو وُجد مكان المثل وسكنه في هذه المدة الطويلة ، ولكنه يتوقع خروجه كل حين في مثل ذلك الوقت القليل ، وأمثلة هذه الأحوال في أسفار الناس كثيرة ؛ فمنها : حال من نزل بلداً لجهاد أو إدارة تجارة عاجلة أو لأجل علاج أو مرافعة أو سؤال لأهل العلم أو زيارة أو نزهة ، أو مراجعةٍ لدائرة ، في مدة قصيرة لا يُعتبر معها المسافر مقيماً قاطعاً لسفره ؛ كما لا يُعـدُّ بلد نزوله هذا من دور إقامته ، ولو سُئل الناس عنه لقالوا بأنه غير مقيم فهو مسافر حقيقة ، أو هو باقٍ على حكم سفره ؛ لعدم تحقق الإقامة بحدودها المعلومة عند الناس ؛ إذْ أن حكم السفر العرفي لا ينتهي إلا بإقامة عرفية .
7. أن ما سوى هذه الأحوال هي أحوال إقامة لا سفر ؛ كحال المستوطنين في بلدانـهم والمغتربين من الموظفين و الطلبة والعمال وأصحاب الدورات المطولة ، ونحوهم ، حيث ينـزلون مكاناً صالحاً للإقامة ، في سكن المثل ، مع نية مستقرة للمكث مدة طويلة .
8. أن أكثر أحوال الناس العرفية في السفر والإقامة واضحة بينة ، وما قد يُشكل من المدد والمسافات أو غيرها من الأسباب فهو قليل ، ومع قِلته فإنه لا يُبنى على التحديد الدقيق وإنما يُبنى على التقدير التقريبي ، ونظير ذلك مما تُعتبر فيه المدد والمسافات كثير .
9. إذا أشكل على العبد شيء من المسائل العرفية هل يُعتبر بـها النازل مقيماً أو مسافراً استصحب في ذلك الحال السابقة للوصف الطارئ ؛ فإن كان مقيماً وشك في قيام وصف السفر فهو مقيم ، وإن كان مسافراً وشك في قيام وصف الإقامة فهو مسافر .
10.عند تأمل أحاديث النبي وآثار بعض الصحابة والتابعين المذكورة فـي هذا البحث وما جاء فيها من الترخص المدد الطويلة لا تجدها معارضة لاعتبار العرف في ضبط الإقامة ؛ فليس فيها حال واحدة ثبتت فيها الإقامة بمعناها المعروف عند الناس ، ولم تكن أحوالهم إلا كأحوال النـزول المذكورة قريباً في الفقرة السادسة .
11.لم يظهر أن ابن تيمية وابن القيم وعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب وابن سعدي ورشيد رضا قد قالوا بتأثير تقييد النـزول بوقت أو عمل في ثبوت الرخصة .
12.ظهر من خلال هذا البحث أن ابن تيمية وعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ورشيد رضا يعتبرون العرف في تحديد الإقامة .
13. ظهر من كلامَي ابن القيم وابن سعدي ما يدل على عدم مشروعية ترخص المغتربين وأمثالهم ممن عزموا على الإقامة مدة طويلة بنية مستقرة .
قائمة المراجع
ط الطبعة ت الطبع دار النشر المحقــق شهــرة المؤلف اسم المرجــع
ـ ـ عالم الكتب ـ ابن مفلح 1. الآداب الشرعية
1 1418 رمادي وابن حزم بكري وعاروري ابن القيم 2. أحكام أهل الذمة
ـ ـ الفكر ـ الجصاص 3. أحكام القرآن
ـ ـ الكتاب الإسلامي ـ السيوطي 4. أسنى المطالب
1 1413 الكتب العلمية ـ السيوطي 5. الأشباه والنظائر
1 1411 الكتب العلمية عبد الموجود و عوض التاج السبكي 6. الأشباه والنظائر
1 413هـ الرشد العنقري والشويخ ابن الوكيل 7. الأشباه والنظائر
1 1399 المكتب الإسلامي ـ الألباني 8. إرواء الغليل
ـ ـ إدارة القرآن ـ التهانوي 9. إعلاء السنن
ـ ـ الكتب العلمية ـ ابن القيم 10. إعلام الموقعين
ـ ـ إحياء التراث محمد الفقي المرداوي 11. الإنصاف
ـ ـ ـ ـ الزريراني 12. إيضاح الدلائل
ـ ـ المعرفة ـ ابن نجيم 13. البحر الرائق
ـ ـ الكتاب العربي ـ الكاساني 14. بدائع الصنائع
4 1418 الوفاء عبدالعظيم الديب أبو المعالي الجويني 15. البرهان
2 1398 الفكر ـ العبدري 16. التاج والإكليل
1 1406 عالم الكتب كركيس عواد أسلم بن سهل الواسطي 17. تاريخ واسط
1 1403 الفكر محمد هيتو الشيرازي 18. التبصرة
ـ ـ المكتبة الإسلامية ـ البجيرمي 19. تحفة الحبيب
ـ ـ إحياء التراث ـ الهيتمي 20. تحفة المحتاج
1 1417 الرشد عبدالعزيز الخليفة أحمد ابن تيمية 21. تفسير آيات أشكلت
1 1417 الباز ـ ابن حجر العسقلاني 22. التلخيص الحبير
ـ 1387 أوقاف المغرب العلوي والبكري ابن عبد البر 23. التمهيد
2 1386 الحلبي ـ ابن عابدين 24. حاشية ابن عابدين
ـ ـ إحياء التراث ـ العجيلي 25. حاشية الجمل
ـ ـ الفكر محمد عليش الدسوقي 26. حاشية الدسوقي
ـ ـ إحياء الكتب ـ قليوبي وعميرة 27. حاشيتا قليوبي وعميرة
ـ ـ العربية ـ عبد الرحمن القاسم 28. الدرر السنية
ـ ـ الكتاب متن أسنى المطالب أبو يحيى الأنصاري 29. روض الطالب
ـ ـ الباز عبدالموجود ومعوض النووي 30. روضة الطالبين
15 1410 مؤسسة الرسالة الأرناؤوط ابن القيم 31. زاد المعاد
1 1418 ابن الجوزي صبحي حلاق الصنعاني 32. سبل السلام
ـ ـ الفكر ـ البيهقي 33. السنن الكبرى
ـ 1413 مؤسسة الرسالة أرناؤوط وعرقسوسي الذهبي 34. سير أعلام النبلاء
ـ ـ الفكر ـ الخرشي 35. شرح مختصر خليل
1 1390 المكتب الإسلامي الشاويش والأرنؤوط البغوي 36. شرح السنة
2 1397 الفكر ـ ابن الهمام 37. شرح فتح القدير
1 1417 ابن حزم الحلواني وشودري أحمد ابن تيمية 38. الصارم المسلول
2 1398 الفكر فؤاد عبد الباقي الإمام مسلم 39. صحيح مسلم
3 1418 العاصمة الدخيل الله ابن القيم 40. الصواعق المرسلة
ـ ـ الكتب العلمية ـ الحموي 41. غمز عيون البصائر
1 1407 مكتبة العلوم موفق عبد القادر ابن الصلاح 42. فتاوى ابن الصلاح
ـ ـ الباز ـ ابن حجر الهيتمي 43. الفتاوى الفقهية
1 390هـ الكتاب العربي جمع صلاح المنجد محمد رشيد رضا 44. فتاوى رشيد رضا
ـ ـ المعرفة ابن باز ابن حجر العسقلاني 45. فتح الباري
1 1418 الكتب حازم القاضي ابن مفلح 46. الفروع
ـ ـ الجيل ـ الفيروز أبادي 47. القاموس المحيط
1 1418 الرشد عبدالرحمن الشعلان تقي الدين الحصني 48. القواعد
1 1398 الرياض محمد الموريتاني ابن عبد البر 49. الكافي
ـ 1402 الفكر هلال البهوتي 50. كشاف القناع
ـ ـ صادر ـ ابن منظور 51. لسان العرب
ـ 1394 المكتب الإسلامي ـ ابن مفلح 52. المبدع
ـ ـ الفكر ـ النووي 53. المجموع
ـ ـ ـ جمع محمد القاسم أحمد ابن تيمية 54. مجموع الفتاوى
1 1420 الثريا للنشر جمع فهد السليمان محمد ابن عثيمين 55. مجموع الفتاوى
ـ ـ الجيل أحمد محمد شاكر ابن حزم 56. المحلى بالآثار
ـ ـ السعدية ـ ابن سعدي 57. المختارات الجلية
ـ ـ السعادة ـ مالك بن أنس 58. المدونة
ـ ـ المعرفة رشيد رضا أبو داود 59. مسائل الإمام أحمد
1 1417 مؤسسة الرسالة محمد الأشقر الغزالي 60. المستصفى
2 1398 الفكر ـ أحمد بن حنبل 61. المسند
1 1400 السلفية مختار الندوي ابن أبي شيبة 62. المصنف
2 1403 المكتب الإسلامي حبيب الأعظمي عبد الرزاق الصنعاني 63. المصنف
ـ ـ الكناب العربي ـ المطرزي 64. المغرب
1 408هـ هجر التركي و الحلو الموفق ابن قدامة 65. المغني
ـ 415هـ الفكر ـ الخطيب الشربيني 66. مغني المحتاج
ـ ـ وزارة الأوقاف تيسير فائق أحمد الزركشي 67. المنثور
ـ ـ المعرفة ـ النووي 68. منهاج الطالبن
1 1417 ابن عفان مشهور سلمان الشاطبي 69. الموافقات
ـ ـ الفكر ـ الحطاب 70. مواهب الجليل
2 1393 المجلس العلمي ـ الزيلعي 71. نصب الراية
ـ ـ الكتاب العربي ـ ابن مفلح 72. النكت
1 1383 إحياء التراث ـ ابن الأثير 73. النهاية
ـ 1985 الحكمة ـ الشرنبلالي 74. نور الإيضاح
1 1417 السلام ابراهيم وتامر الغزالي 75. الوسيط
فهرس المحتويات
مقدمة.................................... 50
أشهر أقوال العلماء في هذه المسألة وما يرد عليها .......... 70
القول الأول : أن هذا الحد هو نية المكث أربعة أيام.............. 70
الثانـي : أن هذا الحد هو خمسة عشر يوماً.................. 11
الثالث : أن حد ذلك في قصر الصلاة هو مكث النازل عشرين يوماً....... 12
الرابع : أن المعتبر في تحديد الإقامة هنا هو العرف............... 12
الخامس : أن من قيد إقامته بعمل أو زمن فهو مسافر.............. 13
السادس : أن للمرء الترخص برخص السفر حتى يرجع إلى وطنه........ 21
سبب الخلاف وآثاره والترجيح....................... 22
الراجح هو اعتبار العرف لأوجه هي :................... 24
الوجه الأول : أن هذا هو مقتضى قاعدة الأسماء المطلقة في الشريعة..... 24
كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف......... 24
قرر بعض العلماء أنه لا حد في الشريعة للإقامة ................ 24
لا يمكن أن يكون للإقامة حد لغوي دون أن يُنقل فلم يبق ما يُعتبر إلا العرف..... 24
كثير من الفقهاء يعتبرون العرف في أكثر أسباب الإقامة............. 26
بعض الفقهاء يرى أن التحديد بمدة إنما هو احتياط............... 27
الوجه الثاني : أن ظاهر هدي النبي يدل على ذلك.......... 27
لِمَ كان تركُ النبيِ بيانَ حد الإقامة دليلاً على اعتبار العرف في ضبطها ؟..... 28
الوجه الثالث : أن تعليل العزيمة بالإقامة العرفية مطرد منعكس....... 29
لَمْ يتمَ النبيُ صلاته إلا في إقامة عرفية ولم يقصر إلا في سفر عرفي ....... 29
وجود زوجات النبي معه في منازله لا ينتقض به اعتبار العرف ...... 29
الأسباب العرفية للسفر .......................... 31
الأول : البروز من دار الإقامة ومفارقة عمرانـها.............. 31
ضابط المفارقة............................. 31
تجاوز المزارع وحكم مزارع أهل الأرياف.................. 31
الثاني : الطريق وطبيعة المركب...................... 32
بين الطرق السهلية والجبلية........................ 32
اختلاف المراكب............................ 32
الثالث : مسافة الطريق ونية قطعها..................... 33
قطع المسافة أبرز أوصاف السفر...................... 33
تأثير المسافة في ثبوت وصف السفر العرفي ضروري لا مدفع له .......... 33
كان كثير من السلف يَعتبرون طول المسافة مطلقاً دون اعتبار حد مشترك...... 33
أدنى مسافة السفر عرفاً قد لا يقوم بـها وصفه ................ 34
ترخص من لا نية له أو كانت نيته مترددة................... 34
ترخص الهائم ونحوه ........................... 34
من علق سفره بلحاق القافلة وإلا أقام .................... 34
نظيره الحجز المؤكد والانتظار لمن يعلق إقامته أو سفره بـهما........... 35
الترخص في المطارات ومحطات القطار.................... 35
نية التابع مع المتبوع كالزوجة مع زوجها والجندي مع قائده........... 35
إذا طالت المسافة فصاحبها مسافر ولو عاد من يومه دون مبيت .......... 35
تَرَخَّصَ عليٌ وقد رجع من يومه..................... 35
توجيه كلام ابن تيمية في أن من يرجع من يومه فليس بمسافر........... 36
تنبيه حول كلام لابن تيمية في المسافة ..................... 37
الرابع : حمل الزاد والمزاد.......................... 38
الخامس : الانقطاع والغيبة......................... 38
لم قصر أهل مكة مع النبي في المشاعر ؟.................. 39
هل التوديع والاستقبال وصفان لازمان للسفر ؟................ 39
الأسباب العرفية للإقامة......................... 40
الأول : نية الإقامة المستقرة ومدتـها.................... 40
إرادة المدة أول أسباب الإقامة........................ 41
أثر المدة في وصف الإقامة العرفي عند الهيتمي.................. 41
لا إقامة مع نية مضطربة........................... 42
حال الحرب أعظم أحوال الاضطراب..................... 42
أكثر العلماء على مشروعية الترخص حال الحرب دون تحديد مدة......... 42
نزول المسافر لحاجة ينتظر نجاحها....................... 43
كثير من الفقهاء يرونه مسافراً ولو نوى أكثر من مدة الرخصة عندهم بشرط..... 43
صاحب هذه الحال كالمحارب إذْ لا فرق بينهما في حكم القياس ......... 43
من نزل مضطراً لعائق لا يدري متى يزول ................... 44
النية المستقرة إذا كانت مدتـها قليلة..................... 44
سبيل العلم بالمدة............................. 45
مدة الإقامة ليست حداً مشتركاً لجميع الأحوال................. 45
الفرق بين اعتبار المدة عند القائلين بالتحديد واعتبارها في العرف .......... 45
إيراد : لا دليل على التفريق بين المدد في الشريعة ! وجوابـه............ 46
نظائر اعتبار المدد والمسافات في كلام الفقهاء ................. 46
كل إيراد على الإقامة العرفية لإبطالها وارد على السفر العرفي ولا فرق........ 46
إيراد آخر : لا فرق بين ترخص المغتربين ومن ينتظر نجاح حاجته ! وجوابـه...... 47
الثاني : صلاحية المكان للإقامة....................... 48
المدة ليست معيار الإقامة الوحيد فلا يكون النازل مقيماً إلا في مكان مثله...... 48
بين الإحياء العرفي والإقامة العرفية ..................... 48
على اشتراط صلاحية المكان قول كثير من أهل العلم.............. 48
كثير من الفقهاء لا يرى جريان حكم المدة في مكان غير صالح للإقامة ....... 48
دار الحرب عند الإمام مالك........................ 49
ترخص المسافر عند عبور وطنه....................... 49
الثالث : المسكن.............................. 50
اختلاف المساكن باختلاف عادات الأمم................... 50
وجود المسكن ليس دليل الإقامة مطلقاً.................... 50
مساكن ربابنة السفن وسائقي السيارات................... 51
الرابع : التأهل............................... 51
التأهل يلغي تأثير المدة.......................... 51
متى يكون التأهل إقامة ؟......................... 51
إقامة العزب .............................. 52
النـزول في داري الأب والابن لا يُعتبر إقامة مطلقاً............... 52
الخامس : المتاع والأثاث.......................... 52
الارتباط بـها وصف مساعد فقط..................... 52
السادس : الارتباط بمصالح البلد الذي نزله................. 52
تطبيقات عرفية في السفر والإقامة................... 53
أمثلة على الإقامة أو بقاء حكمها...................... 53
الطالب المغترب في دار غربته وعند أهله في إجازته................. 53
الحجاج المكيون في المشاعر هل يترخصون ؟................... 53
حجاج الطائف وجدة ونحوهما........................ 54
النـزهة في المواضع القريبة من البلد...................... 54
النازلون في المصايف وفي أريافهم وقت الإجازة .................. 54
أمثلة على السفر أو بقاء حكمه ...................... 55
حجاج الآفاق في المشاعر........................... 55
الموظف في غير بلده دون سكن........................ 55
النازل للعمرة............................... 55
أصحاب الحاجات العاجلة.......................... 55
نزول الحضري في الصحراء.......................... 56
نزول الجنود وأمثالهم في نقاط التفتيش ومراكز الحدود والتدريب في الصحاري...... 56
تنبيهات مهمة حول هذه الأسباب والفروع :............. 56
1. أن الوقائع العرفية متجددة...................... 56
2. أن الإقامة والسفر معنيان....................... 57
3. أن الإقامة من الألفاظ التي يختلف معناها عند الجمع والتفريق..... 57
4. أن أكثر المسائل العرفية في السفر والإقامة ظاهرة جلية........ 58
5. العمل عند المسائل العرفية المشكلة.................. 59
المسافر لا يخرج من حكم سفره إلا بإقامة عرفية............... 59
فقه ما جاء في بعض الأخبار من الترخص مدداً طويلة........... 62
هذه الأخبار لا تخرج عن أحوال خمس كلها من السفر أو حكمه........... 62
فمن هذه الأحوال : عدم صلاحية المكان للإقامة عادة............... 62
ومنها : عدم وجود النية المستقرة للمكث مما لا يُعتبر معه النازل مقيماً......... 62
إهمال هذه الحال سبب للاضطراب في فهم تلك الأخبار............. 63
ومن هذه الأحوال : قصر المدة مما لا يُعتبر معه النازل مقيماً ولو بنية مستقرة ...... 63
ومنها : عدم وجود بيت المثل ولا يصير المسافر مقيماً إلا به............. 63
ومنها : ما لم يثبت فيها وصف إقامة ولا سفر ، والعمل مع هذه الحال........ 63
عرض للأخبار التي وقع فيها الترخص وسبب بقاء السفر في كل خبر...... 63
سبب بقاء السفر في نزول الرسول في مكة عام الفتح وتبوك........... 63
سبب بقائه في نزول الصحابة للجهاد في نيسابور ورامهرمز وأذربيجان وغيرها...... 64
قصد المدة الطويلة لم يثبت عند نزول الصحابة وإنما أخبروا بذلك بعد قفولهم ...... 65
سبب بقاء السفر في نزول النبي في مكة عام حجة الوداع........... 65
سبب بقائه في نزول مسروق والياً على السلسلة سنتين............... 66
سبب بقائه في فتوى ابن عباس لأبي المنهال.................. 68
بين ترخص الصحابة وترخص المغتربين ..................... 69
تحرير كلام بعض أهل العلم في هذه المسألة............... 70
ابن تيمية.................................. 70
لم يذكر رحمه الله قيدي الوقت والعمل لا بالنص ولا بالمعنى ............. 70
أفتى الرعاة والملاحين أن لا يترخصوا رغم أنـهم يزمعون العودة بعد وقت أو عمل.... 70
الرعاة والملاحون أحوج إلى الرخصة من الطلبة والموظفين والعمال ........... 71
ابن تيمية يعتبر مطلق السفر للرخصة ومطلق الإقامة للعزيمة.............. 71
لا يستقيم فهم كلامه في الإقامة إلا بالنظر في كلامه السفر.............. 72
المسافر عرفاً لا يخرج من سفره إلا بإقامة عرفية................... 73
كلام العلماء عند الإطلاق يُحمل على العرف ومنهج ابن تيمية نفسه في ذلك...... 73
ابن تيمية يقرر أن الرخصة مشروعة للمسافر في الإقامات التي تتخلل السفر ........................................................................................... 74
ابن القيم.................................. 75
عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب...................... 77
ابن سعدي................................. 77
رشيد رضا................................. 78
خاتمة بأهم نتائج البحث.......................... 79
قائمة المراجع................................ 81
فهرس المحتويات............................. 85
* * *
________________________________________
([1]) الاستيطان هو نية الإقامة على التأبيد ، انظر "حاشية الشرح الكبير" للدسوقي (1/373) .
([2]) انظر "المغني" لابن قدامة (3/153) .
([3]) انظر "الكافي" لابن عبد البر (1/245) .
([4]) انظر "المجموع" للنووي (4/364) .
([5]) انظر "المغني" لابن قدامة (3/ 147، 148) ، و"الإنصاف"للمرداوي (2/329) .
([6]) رواه مسلم في "صحيحه" (2/985) .
([7]) انظر "روض الطالب" لأبي يحيى الأنصاري (1/236 متن "أسنى المطالب" للسيوطي) .
([8]) لحديث ابن عباس في "صحيح البخاري" (3/422 فتح) ، وحديث أنس فيه أيضا (3/507) .
([9]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/138) .
([10]) انظر "زاد المعاد" لابن القيم (3/564) .
([11]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/138) .
([12]) المرجع السابق (24/136، 137) .
([13]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/140) .
([14]) انظر "بدائع الصنائع" للكاساني (1/97) .
([15]) و بمثله عن ابن عمر ، انظر "نصب الراية" للزيلعي (2/183) ، وقال : أخرجه الطحاوي عنهما .
([16]) انظر "تبيين الحقائق" للزيلعي (1/212) و"بدائع الصنائع" للكاساني (1/97) .
([17]) فقد صح عن ابن عباس أنه حددها بتسعة عشر يوماً كما رواه البخاري في "صحيحه"(2/561) ، وصح عن ابن عمر أنه حددها باثني عشر يوماً ، رواه مالك في "الموطأ "(312) بسند صحيح .
([18]) انظر "المحلى" لابن حزم (3/216) .
([19]) رواه أحمد في "المسند" (3/295) وأبو داود في "السنن" (1235) ، وهو صحيح .
([20]) انظر "المحلى" (3/220) .
([21]) انظر "الدرر السنية" (3/209) .
([22]) وانظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/ 18 ، 36 ، 40 ، 135 ، 136 ، 137) .
([23]) انظر "مجموع فتاوى فضيلة الشيخ ابن عثيمين"(15/288) جمع الشيخ فهد السليمان . وقد لقي قول شيخنا العلامة محمد ابن عثيمين أثابه الله هذا انتشاراً كبيراً ، على قدر ما لـه من قبول عظيم عند الناس ، ولم يُعز هذا القبول إلا إلى تجرد الشيخ للحق ، وتعظيم النصوص ، ومنهجه المتميز في تحري الدليل ونبذ التقليد المذموم ، فلم يكن عنده للمذهب أو الأستاذ أو المكان أو ما جرت به العادة مخالفاً للدليل تأثير في اختياراته ، بارك الله في عمله ونفعنا بعلومه وجزاه عن الأمة خير الجزاء .
([24]) انظر المرجع السابق (15/300 ، 301 ، 302) .
([25]) انظر المرجع السابق (15/294) .
([26]) لحديث ابن عباس في "صحيح البخاري" (3/422 فتح) ، وحديث أنس فيه أيضا (3/507) .
([27]) "مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ ابن عثيمين" (15/296) .
([28]) المرجع السابق (15/306 ، 307) ، وانظر (15/335) من المرجع نفسه .
([29]) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (3/152) من قول أنس ، وصححه النووي كما في "نصب الراية" (2/186) ، وضعفه الألباني في "إرواء الغليل" (3/27) .
([30]) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (4339) ، وصححه ابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/554) .
([31]) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/453) ، وصححه التهانوي في"إعلاء السنن" (7/282) .
([32]) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (4352) ، و أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف" (2/454) .
([33]) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/207) .
([34]) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/443و454) بنحوه .
([35]) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/453) .
([36]) انظر "مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ ابن عثيمين"(15/304 ، 305) .
([37]) انظر المرجع السابق (15/305 ، 309) .
([38]) أخرجه مسلم في "صحيحه" (224) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
([39]) وانظر كلام الإمام الشاطبي في كتابه "الموافقات" (4/18 فما بعدها إلى 27) من أن جريان العموم إنما يكون بحسب مقصد الشارع في حقيقة اللفظ من شرعية أو لغوية أو استعمالية .
([40]) انظر "مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ ابن عثيمين" (15/316) .
([41]) وهو قول جمهور الفقهاء ، وانظر "البرهان"لأبي المعالي الجويني (2/518) و"التبصرة"للشيرازي
(1/460) و"المستصفى" للغزالي (1/315) .
([42]) "تفسير آيات أشكلت" لابن تيمية (2/647) .
([43]) "المستصفى" للغزالي (2/315) .
([44]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (25/244) ، ولعل صحة ما بين المعقوفين : (يُعلَّق الحكم ..الخ) .
([45]) المرجع السابق (25/245 ، 246) .
([46]) انظر "التمهيد" (11/183) .
([47]) انظر "لسان العرب" (13/451) ، و"المغرب" (2/361) .
([48]) انظر "حاشية الدسوقي" (1/373) و"كشاف القناع" (2/27) و"مغني المحتاج" (1/282) .
([49]) انظر "الموافقات" للشاطبي (4/24) ، و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (7/9 و24/40)، و"الفروق" للقرافي (3/283) ، و"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2/365) ، و"الأشباه والنظائر" لجلال الدين السيوطي (98) .
([50]) وهي مبثوثة في أبواب الفقه :
فمنها : الموالاة في الوضوء ، انظر "المغني" لابن قدامة (1/192) .
ومنها : الخفاف ما يعتبر منها خفاً وما لايعتبر ، انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (19/242) .
ومنها : اتصال الصفوف في الصلاة ، انظر "حاشية الجمل" للعجيلي (1/508) و"المبدع" (2/89) .
ومنها : مسافة السترة من المصلي ، وما يُعد بـها مستتراً ، انظر "الإنصاف" للمرداوي (1/495) .
ومنها : النهي عن الصلاة إلى القبور ، ومتى يعد مصلياً إليها ، انظر "سبل السلام" للصنعاني (2/122) .
ومنها : العمل في الصلاة فيما يُعتبر مخرجاً عن سمتها ، انظر "القواعد" للحصني الشافعي (1/360) .
ومنها : خطبة الجمعة وضابط القدر الواجب منها ، انظر "بدائع الصنائع" للكاساني (1/262) .
ومنها : الاستطاعة في الحج ، انظر "الغرر البهية" لزكريا الأنصاري (2/265) .
ومنها : التشبه بين الرجل والمرأة ، انظر "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/536) .
ومنها : الفقر الذي يترتب عليه استحقاق الزكاة وغيره ، انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (19/243) .
ومنها : مقدار إطعام المسكين في الكفارات وغيرها ، انظر المرجع السابق (19/252) .
ومنها : المرض المؤثر في صحة الهبة وغيرها ، انظر "إعلام الموقعين" لابن القيم (1/203) .
ومنها : التفرق بعد البيع انظر "الأشباه والنظائر" للسبكي (1/52) و"الإنصاف" للمرداوي (4/368) .
ومنها : قبض المعقود عليه المؤثر في الضمان وغيره ، انظر "الأشباه والنظائر" لابن الوكيل (1/141) .
ومنها : الغبن الذي يثبت به الخيار في المعاوضات ، انظر "المغني" لابن قدامة (3/894) .
ومنها : اختلاف الأصناف الذي يمنع جريان ربا الفضل ، انظر "مواهب الجليل" للحطاب (4/348) .
ومنها : الإعسار المانع من حبس صاحبه ، انظر "حاشيتي قليوبي وعميرة" (4/71) .
ومنها : العشرة بين الزوجين من النفقة والجماع والواجبات المنـزلية ، انظر "الإنصاف" (8/354) .
ومنها : الرضعات المُحرِّمات ، والمعتبر في قدرها وصفتها ، انظر "مغني المحتاج" (3/417) .
ومنها : السفه الموجب أو المبيح للحجر ، انظر "إعلام الموقعين" لابن القيم (1/203) .
ومنها : التعدي والتفريط المؤثران في ضمان المتلفات ، انظر "كشاف القناع" للبهوتي (4/170) .
ومنها : الحرز في السرقة ، انظر "البيان" لابن رشد (16/216) و"المغني" لابن قدامة (8/177) .
ومنها : الإكراه المؤثر في أهلية التصرف ، انظر "نـهاية المحتاج"للرملي (6/477) .
ومنها : ما يُعرف به السكران ، ويستحل به الظهر ، انظر "مغني المحتاج" (3/279) .
ومنها : سب الرسول ما يُعتبر سباً وما لا يُعتبر ، انظر "الصارم المسلول" لابن تيمية (3/992) .
([51]) انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/140 ، 141) ، وفيها أنه سئل أحمد عن سبب قوله بالإتمام فيما زاد عن الأربعة فقال : لأنـهم اختلفوا فيأخذ بالأحوط فيتم ، فعلق على ذلك ابن تيمية
بقوله : (.. فأحمد لم يذكر دليلاً على وجوب الإتمام ، إنما أخذ بالاحتياط ..) .
([52]) انظر "المستصفى" للغزالي (2/381) .
([53]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/139) .
([54]) "زاد المعاد" لابن القيم (3/561) .
([55]) انظر "المبسوط" (2/106) ، و"الإنصاف" (2/316) .
([56]) السفر يرجع تحديده إلى العرف أيضاً في قول جمع من المحققين من علماء المذاهب الأربعة وغيرهم ، وأدلة ذلك ومرجحاته هي أدلة ومرجحات اعتبار العرف في الإقامة نفسها .
([57]) انظر "تحفة الحبيب " للبجيرمي (2/172) ، و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/135) .
([58]) انظر "المغني" لابن قدامة (3/113) و"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (1/360) .
([59]) انظر "المجموع شرح المهذب" (4/226) ، و"حاشية رد المحتار" لابن عابدين (2/121) .
([60]) وانظر "الوسيط" للغزالي (2/244) .
([61]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/40) .
([62]) المرجع السابق (19/244) .
([63]) المرجع السابق (24/13) .
([64]) المرجع السابق (24/42) .
([65]) انظر "القاموس المحيط" (2/51) .
([66]) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/336) .
([67]) المرجع السابق (2/232) .
([68]) انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (19/243) ، وعلى ذلك يُحمل ما صح في بعض الآثار من الترخص في ثمانية عشر ميلاً وثلاثة فراسخ وثلاثة أميال . انظر "المصنف" لابن أبي شيبة (2/332) .
([69]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/135) .
([70]) المرجع السابق (24/123 ، 135) .
([71]) وانظر "المجموع" للنووي (3/221 - 218) ، و"الانصاف" للمرداوي (2/320) .
([72]) انظر "تحفة الحبيب " للبجيرمي (1/355) .
([73]) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/231) .
([74]) انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (19/244) و (24/ 38 ، 42 ، 48 ، 119 ، 135) .
([75]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/134 ، 135) .
([76]) المرجع السابق (24/135) .
([77]) المرجع السابق (24/ 123) ، وانظر منه (24/119) و (19/243) .
([78]) رواه أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف" (2/446) ، و"ابن حزم في "المحلى" (5/3) .
([79]) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/333) ، وقال في "النهاية" (4/291) عن معنى متاح : (.. أي يوم يمتد سيره من أول النهار إلى آخره ، ومتح النهار : إذا طال وامتد) .
([80]) رواه عبدالرزاق في "المصنف" (2/528) ، وابن حزم في "المحلى" (5/6) .
([81]) رواه عبدالرزاق في "المصنف" (2/525) ، وبين "ريم" والمدينة ثلاثون ميلاً فقط ، ذكره عبدالرزاق رحمه الله ، فتكون المسافة خمسين كِيلا تقريباً .
([82]) انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (17/480) و (19/244) و (26/170) .
([83]) "الفتاوى الفقهية الكبرى" (3/290) ، ونحو هذا في "فتاوى ابن الصلاح" (1/382) .
([84]) انظر "المدونة" للإمام مالك (1/209) ، و"المجموع شرح المهذب" للنووي (4/362) ، و"البحر الرائق" لابن نجيم (2/144) ، و"المبدع " لابن مفلح (2/114) .
([85]) انظر "البحر الرائق" لابن نجيم (2/144) .
([86]) "نور الإيضاح" للشرنبلالي (70) .
([87]) "المبدع" لابن مفلح (2/114) .
([88]) انظر "المغني" لابن قدامة (2/67 ط إحياء التراث) ، و"الإنصاف" للمرداوي (2/330) ، و"البحر الرائق" لابن نجيم (2/144) ، و"حاشية رد المحتار" لابن عابدين (2/126) .
([89]) انظر "روضة الطالبين" للنووي (1/487 ، 488) ، و"المجموع" له (4/241 ، 242 المنيرية) ، وقد ذكر ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج" (2/378) في المقصود بالمتفقه هنا أنه من يأتي بقصد السؤال عن حكم في مسألة أو مسائل معينة .
([90]) وانظر "الوسيط" للغزالي (2/249) ، فقد مال إلى عدم التفريق بين المقاتل وغيره .
([91]) ذكره ابن مفلح في "الفروع" (2/56) ، وقال : رواه الأثرم ، وانظر "المغني" (2/68) .
([92]) انظر "البحر الرائق" لابن نجيم (2/150) ، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/513) .
([93]) "بدائع الصنائع" للكاساني (1/97) .
([94]) "شرح فتح القدير" لابن الهمام (2/38) .
([95]) "الوسيط" للغزالي (2/246) ، وانظر "المجموع شرح المهذب" للنووي (4/361) .
([96]) "المبدع في شرح المقنع" لابن مفلح (2/114) .
([97]) "النكت على المحرر" لابن مفلح (1/132) .
([98]) انظر "الإنصاف" (2/330) .
([99]) انظر "المدونة" (1/209) .
([100]) انظر "الإنصاف" (2/331) .
([101]) "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 97 ، 99) .
([102]) "السنن الكبرى" للبيهقي (3/153) .
([103]) انظر "حاشية رد المحتار" لابن عابدين (2/131) .
([104]) وانظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (25/213) .
([105]) انظر "المدونة" (1/120) ، و"المبدع" (2/115) ، و"حاشية رد المحتار" (2/132) .
([106]) "الصواعق المرسلة" لابن القيم (1/187) .
([107]) "المدونة" (1/207 ، 208) .
([108]) انظر "حاشية رد المحتار" لابن عابدين (2/ 131) .
([109]) انظر "السنن الكبرى" للبيهقي (3/153) و"إيضاح الدلائل في الفرق بين المسائل" للزريراني الحنبلي
(1/192 ، 193) ، و"حاشية رد المحتار" لابن عابدين (2/ 131، 132) .
([110]) انظر "مسائل الإمام أحمد" لأبي داود (74) .
([111]) قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (19/244 ، 245) : (. . وما زال الناس يخرجون من مساكنهم إلى البساتين التي حول مدينتهم . . ولا يُسَمَّوْنَ مسافرين ، ولو أقام أحدهم طول النهار ، ولو بات في بستانه وأقام فيه أياماً ، ولو كان البستان أبعد من بريد ، فإن البستان من توابع البلد عندهم ، والخروج إليه كالخروج إلى بعض نواحي البلد) .
([112]) وانظر المرجع السابق (25/213) ، و"الدرر السنية" (3/209) .
([113]) وانظر "المغني" لابن قدامة (3/110) .
([114]) "غمز عيون البصائر" للحموي (1/238) .
([115]) "المجموع شرح المهذب" للنووي (1/212) .
([116]) وانظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (23/7 ـــ 16) .
([117]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/139) .
([118]) "زاد المعاد" لابن القيم (3/561) .
([119]) رواه البخاري في "صحيحة" (3/450 فتح) .
([120]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/95) .
([121]) "المغرب" لناصر المطرزي (مادة "سلل") ، ومادة سلسلة في غير هذا المعجم هي : "سلسل" .
([122]) "أحكام القرآن" (1/736) .
([123]) انظر "تاريخ واسط" لأسلم بن سهل (1/37) ، و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية" (24/18) ، و"أحكام أهل الذمة" لابن القيم (1/336) .
([124]) انظر "سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/66) .
([125]) ذكره ابن مفلح في "الفروع" (2/56) ، وقال : رواه الأثرم ، وانظر "المغني" (2/68) .
([126]) انظر "مجموع الفتاوى" (19/243) و (24/8) فما بعدها إلى صحيفة (162) و (25/ 209).
([127]) انظر المرجع السابق (25/213) .
([128]) انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (25/213) .
([129]) المرجع السابق (24/36) ، وانظر منه (19/235) .
([130]) "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (4/434) .
([131]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/136) .
([132]) المرجع السابق (24/12) .
([133]) المرجع السابق (24/135) ، وانظر (21/356) من المرجع نفسه .
([134]) المرجع السابق (24/18) .
([135]) "الصارم المسلول" لابن تيمية (3/1009) ، وانظر "حاشيتي قليوبي وعميرة" (4/71) في اعتبار المعنى العرفي في الإعسار عند إطلاق العالم للفظه .
([136]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/140) .
([137]) المرجع السابق (24/139) .
([138]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/185) .
([139]) "زاد المعاد" لابن القيم (3/561) ، و"الصواعق المرسلة" له (1/187) .
([140]) انظر "الدرر السنية" (3/209) .
([141]) المرجع السابق " (3/372) .
([142]) انظر المرجع السابق (3/209) .
([143]) "المختارات الجلية" (47– 48) .
([144]) "فتاوى السيد رشيد رضا" (3/1180) .
28/12/1429 - الشيخ سليمان الماجد
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..