الاثنين، 19 أغسطس 2013

هلموا لجعل النماص باريس

"أبا أسامة، قل لي عن (النماص) قولا، لا أسأل أحدا بعدك عنها، فقد أرسل أحد
الفضلاء صورا لمناظر أشبه ما تكون بـ(سويسرا)، وقال أنها من (النماص)..أكذلك هي النماص التي رأيتها أنت؟".

كانت السطور الآنفة لرسالة (تويترية)، تلقيتها لحظة كتابة هذه المقالة، من أستاذنا الاعلامي الكبير عبدالرحمن الأنصاري، يستفسر مني عن تلك الصور التي ظنّ أنها من (سويسرا)، وحرت بمَ أجيب الأستاذ، والضباب يتسلل عبر نافذة غرفتي بالفندق الذي أقطنه في هذه المدينة السحر، والتي أصرّ أبنائي، وألحوا عليّ بالمجيء إليها للسنة الثانية على التوالي.
زفرت آهة طويلة، أودعتها ذكرياتي عن (باريس الجنوب) وما كتبه القلب عنها بالعام الفارط، ورميت ببصري عبر تلك الكوّة إلى أراض ممتدة أمامي، وقد اخضوضرت، لا بالعشب فقط؛ بل بأرواح أهلها، وطلاقة وجوههم للأضياف، وأقسم أن أحدهم أعاد لي تماما ما نقرأه في كتب التراث العربي، من الفرح الغامر بالضيف، ولكأنك تفضلت عليه وأنعمت، لا العكس، لتتغشاك مشاعر فرح إزاء تهليله وترحيبه بك، وكلمة "ارحبوا" تصك مسمعك، بأهزوجة جنوبية، تحكي قصة الكرم والحب والحفاوة عند هؤلاء القوم.
ورغم سعادتي بتلكم الأجواء الباريسية حقا، إلا أن غصة لمّا تزل تخنقني، وأبنائي يصخبون فرحا حولي، ونحن نتجول في منتزه (ناصر)، و (المطل)، أو بطريقنا للمدينة الساحرة الأخرى (تنومة)، ويتسابقون لالتقاط الصور البديعة التي سيدلّون بها عند أصدقائهم في (جدة)، فخرا وأنسا ولحظات سعادة لا تنسى بالنسبة لهم، وهم يتسربلون الغيم، ويتقافزون من خلال صخور الجبال التي تحكي كبرياء وشموخ هذه المنطقة العزيزة من بلادنا.
سبب الغصّة –أيها السادة- ذلك الاهمال للمدينة، وشبه خلوها من أية لمحة تنمية تشعر سائحا غريبا مثلي بوجودها، فرغم كل مميزاتها التي وهبها الله، والطبيعة البكر التي هي عليها، كأنها خرّيدة حسناء بين مدن الجنوب، لتشعر أن الخدمات بها، متأخرة أكثر من عشرين عاما عن المدن الكبيرة. وكم تحشرجت (اللعنات) -التي أستغفر الله تعالى منها- وأنا أصبها على خدمات الاتصالات هناك، التي فوتت مهام كثيرة عليّ، وأقسم بالله أن (أديس أبابا) التي زرتها قبل أعوام، أفضل منها أو تشابهها.
عندما فاتحت بعض كبار وجهاء (بني شهر) بامتعاضي هذا، هبّوا عليّ هبة رجل واحد، ولكأنني مسست جرحا غائرا لديهم، وهم يقولون: "لكم اشتكى السياح الذين أتوا قبلك من سوء خدمات (الاتصالات) و (الإنترنت) هنا، وبعضهم آل على نفسه عدم المجيء أخرى بعد أن امتعض أبناؤه من هذه الخدمة، وقد غدت حاجة أساسية في حياتهم".
في مجلس كريم آخر دعيت له، وقد غصّ بأبناء المنطقة من الألوية والعمداء المتقاعدين، فضلا عن مشايخ (بني بكر)، استرسل الحديث بينهم عن مدينتهم الأحبّ، وأنا أرخي السمع كأيّ ضيف أتى من خارج المنطقة، عليه الالتزام باللياقة وأدب المجالس، وكان الحديث ساخنا عن (النماص)، والكل مهموم بكيفية الارتقاء بخدماتها. همست لمضيفي العميد عثمان البكري، بأنني سعيد بهذا التفاعل منهم، فالعام الماضي، لمت أهل (النماص) في مجلس الشيخ محمد الصقلّي، وقلت بشعوري كزائر أتى من خارج المنطقة، وزار مناطق عديدة جدا في بلادنا؛ بأن أهالي (النماص) غير آبهين بتطوير مدينتهم، وأنني لم ألمس غيرة ولا تحركا ايجابيا للارتقاء بها، ربما لأن معظمهم يعيش خارجها، ولا يأتيها الا لمما، ولمناسبات اجتماعية محدودة ويغادرها.
ثمة صوت غيور تناهى لمسمعي في المجلس، وهو يتحدث عن دور الأهالي في مطالبة مسؤولي المنطقة، وأنه من الضروري الانخلاع عن السلبية، والقيام بتحرك إيجابي. همست أخرى للعميد عثمان، أسأل عن صاحب هذه المداخلة الرائعة، وقلت بأن صاحبها الذي لا أعرفه أبدا؛ رجل وطني حقيقي، ومحب صادق لمدينته. ابتسم صديقي وقال:"هذا الرجل كان عميدا في القوات البحرية، وكان يسكن في المنطقة الشرقية وغادرها، حبّا في (النماص) التي أتاها برؤية تقول، بأن من واجبه –وأمثاله ممن ينتمون للمدينة- العودة، لإحيائها وتطويرها. الرجل يقوم بخدمات جليلة، ومطالبات لحوحة للمسؤولين في الوزارات الخدمية، من سألت عنه –أبا أسامة- هو العميد عبدالله البكري".
لأهل المنطقة من بني شهر –وقبائل الجنوب عموما- طقوسهم في المجالس، عبر السلام الخاص بالأنوف، والجلوس على الأكل والقيام منه، وخشيت -وأنا الآتي من الحجاز- أن أخدشها، فاستأذنت بالحديث في ذلك المجلس الغاص بشيوخ القبيلة ووجهائها، وقلت لهم: "اليوم عرفت أننا مدينون لكم كمواطنين ووطن يا (بني شهر) في حمايتنا، فكل الذين التقيتهم في فترة إقامتي في مدينتكم هم من سلك العسكرية، والبعض القليل في (التربية والتعليم)"، بالطبع هاذرتهم ابتداء، وقد انفجروا ضحكا واستمزاجا، 
وأردفت قائلا:"ما قاله العميد أبو ماجد، وما يفعله ويقوم به من مطالبات بطريقة مشروعة، هو الطريق الوحيد والأصحّ في هذه الفترة، فوالدنا خادم الحرمين لم يقصّر، وتم توزيع الميزانيات على كل مناطق المملكة، في هذه الطفرة التي تعيشها بلادنا، والحقوق تؤخذ وتنتزع ولا توهب يا أحبة، وعندما يدرك المحافظ أو مدير الاتصالات، أو المواصلات، أو أمين البلدية، بل كل مسؤولي الوزارات بأن وجهاء المنطقة وأبناءها يطالبون بحقهم بالتطوير والتنمية لمدينتهم، فإنهم سيعملون ويتفاعلون رغما عنهم, ودونكم في الدور الايجابي لأهالي (القصيم)، وما قاموا به تجاه منطقتهم، وليست فقط الوزرات الحكومية، بل حتى رجال الأعمال من أبنائها، في مبادرات كانت محل تقدير كل الوطن، ومضرب مثل في التحرك الايجابي للأهالي تجاه منطقتهم".
في مقالتي عن (النماص) بالعام الماضي، وجهت رسالة لسمو أمير منطقة عسير، الأمير الشاب فيصل بن خالد، وقلت بأن الاستثمار في مدن جديدة كـ(النماص) و(تنومة) و(بلسمر)، والتركيز عليها، تخفيفا على (أبها) التي أخذت حقها بالكامل في حقب ماضية؛ سيسجله التاريخ له. و(النماص) وغيرها، تحتاج لبني تحتية كبيرة كي يؤمها السياح، والوقت مناسب جدا، في هذه الطفرة الكبيرة التي نعيشها في وطننا، ولربما أمثال أبنائي سيكونون شهودا محايدين، وهم الذين كانوا في (دبي) قبل أسابيع فقط، وأتوا لـ(النماص) الساحرة، وأغرموا فيها ، حتى أنهم رفضوا جميعا الذهاب لـ(أبها) افتتانا بهذه المدينة، متذرعين أمامي بأن (أبها) مدينة مزدحمة، ولا تشعر بعاطفة أهلها وجمال طبيعتها كما في (النماص).
إننا نحتفظ في ذواكرنا التي لا تخبوا، ما فعله سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز لمدينة (الرياض)، وما فعله سمو الأمير عبدالمجيد يرحمه الله لـ(المدينة المنورة)، بل ما فعله سمو الأمير خالد الفيصل لـ(أبها)، فضلا عن بعض أمراء المدن الذين سجلوا أسماءهم بأحرف من ذهب، ومثلي يتطلع لأن يسجل سمو الأمير فيصل بن خالد بصمة تاريخية، هو  خليقٌ بها، في مناطق جديدة من جنوبنا الغالي، والفرصة ذهبية ومتاحة لنا جميعا في جعل تلك الساحرة (النماص)؛ (باريس الجنوب) بحقّ، وسيكتب التاريخ لسموه ذلك.
ثمة رجال في (النماص) لا بدّ من التعريج عليهم، فكم أكبرت العام الماضي سعادة العميد محمد المقرّ، والذي وهب حياته وكل ماله، ليصنع ما يشبه المعجزة عبر ذلك القصر التاريخي بالمدينة، وفعلا ألححت على زيارته –رغم ضيق الوقت- لأرى ما أنجزه خلال عام واحد، وفعلا أبهرني بهمته وفكره وطموحه، ما يدعوني هنا بتوجيه نداء لسمو الأمير سلطان بن سلمان بزيارة هذا المشروع وتبنّيه، ودعوة أخرى لكل وجهاء منطقة (النماص) بدعم ما يفعله الرجل والمساهمة معه، لأن القصر واجهة حضارية ثقافية يفخر به أي منتم للمدينة، غير ناس دعوة المثقفين لزيارة هذا الصرح الثقافي البديع، الذي قام به فرد واحد بما يشبه المعجزة.
هناك اللواء الخلوق فايز البكري، الذي كرس وقته للمشروعات الخيرية بالمنطقة، والطريف أنني بوغت بهذه الزيارة، والعادة أنني ألبس الزيّ الرياضي أثناء تجوالي، وذهابي لأماكن السياحة، فالزيّ السعودي الرسمي، يعيقك في التحرك بحرية كاملة، وإذا بالصديق عثمان البكري يباغتني لأذهب لوجهاء ومشايخ في قبيلة (بني شهر) بالزي الرياضي، وقد زاحمنا الوقت، وتصوروا الحرج الذي وقعت فيه، أمام هذا النفر الكريم من الوجهاء!! وسرعان ما تبدد، عبر طلاقة الأوجه السمحاء تلك، بل أبعد من ذلك، عبّروا –بصدق- عن شكرهم بأنني اعتبرتهم إخوة وأهل بيت، وأتيتهم بلا تكلف ولا رسمية..هل ألام بعدها في حبّ (النماص) وأهلها؟

أجبت الاعلامي الكبير أستاذنا عبدالرحمن الأنصاري:" تلك الصور التي رأيتها وظننتها بأنها من (سويسرا)، هي بحقّ صور من (باريس الجنوب) مدينة (النماص)، ولن تندم أيها الأستاذ إن زرتها مع أم ياسر وأبنائك، فستلقى جمالا في الطبيعة، وأصالة فطرية عند أهلها، وسيعانقك الغيم، وتلتحف الضباب، وستغسل كل همومك عبر ذلك الهتان الذي يلذعك ببرودة لذيذة، هلّم أستاذنا وأكتب كما الشعر عنها، وانضم لي وسجل اسمك في حبّ هذه المدينة الساحرة.. وحبّ أهلها".



_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

مدينة النماص ( اسطنبول السعودية ) :





----------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..