الجمعة، 6 سبتمبر 2013

القولبة ! خطبة جمعة بمسجد محمد الفاتح

كيف (تشيطنُ) إنساناً؟
كيف تنقلهُ من دائرة الاحترام والتبجيل والتقدير إلى دائرة الاستهانةِ والتسفيه والتحقير؟
كيف تحوله من رجل يقترن اسمه بطيب الأحدوثة وجميل الثناء، إلى رجل لا يصحبُ ذكرَهُ إلا
الشتمُ والاستهزاء؟
الطريقة بسيطة جدا !
عليك أن تصنع (قالبا) ما .. سواءً كان له أصلٌ حقيقيّ أو كان مفتعلاً بالكلية . ثم تنفخُ فيه حتى يظنّ الناس أنه تحت كل سماءٍ وفوق كل أرض! وحتى يحسب كلُّ أحدٍ أنه أمامه أنى توجّه.
ثم تشرعُ في التخويف والتحذير من خطر هذا القالبِ، وضرره، وسوء أثرِهِ، حتى يظنّ الظانُّ أنه صورةٌ مجسدةٌ للشيطان. وربما كان القالبُ نفسُهُ مما عُلِمَ ابتداءً خطرُهُ وضررُهُ.
ومن المهم وأنت تصنع القالب وتخوّف منه أن تجعل (تعريفه) وتحديده بيدك أنت لا بيد غيرك لكي تكيّفه وتشكّله بالصورة التي تريد! وتدخل فيه من تريد!
كل ذلك .. والشخصُ المستهدفُ المذكورُ بالخير .. بعيدٌ عن الذكر .
ثم ..
وفي لحظةٍ خاطفةٍ .. تُدخل ذلك الشخصَ في القالبِ (المشيطَنِ) الذي استفرغْتَ وُسعك في تفظيعه .. وحينها تنعكسُ كل تلك الظلالِ السلبيةِ على الشخصِ المستهدفِ وتنتقل إليه فجأةً كل أوصافِ السوء تلك.
فإذا هو يلوكُهُ الناس بألسنتهم وقد كانوا من قبلُ يُثنون عليه!
إنّ (نظريّة القالبِ) هذه نظريةٌ إبليسيةٌ قديمة!
فإبليس عليه لعنةُ الله لما زجره الله لعدم سجوده لآدم .. استدعى قالب (الطين) فقال: ( أنا خيرٌ منه ، خلقتني من نارٍ وخلقته من طين ).
وقد كان يظنُّ أن (قالب) الطين خيرٌ من (قالب) النار . فأطّر نفسه في النار وجعل آدم في الطين!
ولذلك قال الطبريّ: "ظن الخبيث أن النار خير من الطين ولم يعلم أن الفضل لمن جعل الله له الفضل" [نقلاً عن تفسير البغويّ].
ومن تأمَّلَ سيرةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تعجّب من كثرةِ (القوالب) التي حاولتْ قريشُ ومن شايعها أن تؤطِّرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيها.
فهناك قالبُ الجنون :
(ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ)
(ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعرٍ مجنون)؟
وهناك قالب السحر :
(نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا)
(وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا)
وهناك قالب الشعر :
(بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ)
وإذا رُحنا نتتبع التاريخ فسنجدُ من أمثلةِ هذه القولبةِ عجباً!
هذا أحمدُ بن نصرٍ الخزاعيُّ الفقيه الإمام المحدِّثُ الزاهدُ، قال عنه ابن كثير في البداية والنهاية: "كان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر". سمع من مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وغيره من الأئمة. ومن تلاميذه يحيى بن معين، وكان يُثني عليه جداً، وأثنى عليه أحمدُ بن حنبل خير الثناء.
هذا هو الرجلُ في حقيقته عالمٌ عاملٌ، إمامٌ مجاهدٌ.
ولما أوغل الواثقُ في ظلمه وفي قهر الناس على بدعةِ خلقِ القرآن جمع هذا الإمام حوله نفراً من الصالحين بايعوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبدأ يُظهرُ القولَ في ردِّ هذه البدعةِ، ويخطئُ الواثق في دعوتِهِ إليها، وانجفل إليه الناسُ فانزعجَ الواثق وجزعَ منه كما انزعج وجزع من أمثاله ممن لم يرضخوا لرغبة السلطان في ترويج البدعة وإكراه الناس عليها.
فنفخَ الواثق حينئذٍ في قالب (الزندقةِ)!
وباتت البلادُ كلها على توجسٍ وخوفٍ من (الزندقة) و(الزنادقة) الذي يُفسدون دين الله ويحرّفونه ويشوهونه!
ولأن الزندقة في حقيقتها لاتخدمُ مذهب الواثق، فقد شرع الواثق يرسمُ معالم هذه الزندقة كما يشتهي .. فمازال حتى بات الناس يتحدثون عن أنّ  إنكار القول بخلق القرآن هو (الزندقة)!
نعم .. هكذا هي القولبة في أبشع صورها.. تقلب الحق باطلاً .. أصبح تنزيه القرآن والقول بأنه غير مخلوق هو (الزندقة) التي تجب محاربتها!
وحين أصبح القالبُ جاهزاً .. والتنفيرُ منه شديداً .. ومعالمُهُ مرسومة بحسب رغبة الواثق .. حينها جاءت الخطوة الأخيرة .. واتُّهم (أحمد بن نصر الخزاعيّ) بالزندقة!
ورغْمَ أنّ أحمد بن نصر رحمه الله كان له رأيٌ في الخروج على الخليفةِ وأُخِذ بذلك وانكشف أمره إلا أن الواثق حرص على الاستمرار في مشروع القولبةِ ليظهر بمظهر الحامي لدين الله لا المحامي عن عرشه هو!
فاعتُقل أحمد بن نصر وجيءَ به بين يدي الخليفة، فطفق يسأله عن القرآن أمخلوق هو أم لا ؟ ويسأله عن رؤية الله يوم القيامة؟ وأحمد بن نصر يقرر مذهب أهل السنة والجماعةِ المخالفِ لما عليه الواثقُ، فحينئذٍ استنطق الواثق علماء السوء من حوله، فقال أحمد بن أبي دؤاد: اسقني دمه يا أمير المؤمنين! وقال عبدالرحمن بن إسحاق القاضي: يا أمير المؤمنين هو حلالُ الدم!
 فأعلن الخليفةُ وقتها زندقة أحمد، وأن قتله واجبٌ، فحمل سيفه الصمصامة وقال: إذا قمت إليه فلا يقومنّ أحد معي، فإني أحتسبُ خطاي! ثم قام إلى الإمام أحمد فضربه ضربة على عاتقه، ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم طعنه في بطنه فخرّ صريعاً رحمه الله! ثم احتَزَّ السيافُ عنقه وعُلق في بغداد وعلى أذنه رقعة مكتوبٌ فيها: "هذا رأس الكافر المشرك الضال أحمد بن نصر الخزاعيّ، ممن قتل على يدي عبدالله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن ونفي التشبيه وعرض عليه التوبة ومكّنه من الرجوع للحق فأبى إلى المعاندة والتصريح، فالحمدلله الذي عجّله إلى ناره، وأليم عقابه بالكفر، فاستحلّ بذلك أميرُ المؤمنين دمه ولعنه!!"
وهكذا تقبل الناسُ مقتل هذا الإمام الجليل المحدث الفذِّ بعد أن قولبتْهُ أجهزةُ الخليفةِ في قالبِ الزنديق الكافرِ المستحقّ للقتل!
وما اكتفت الأجهزةُ بذلك .. بل أمر الواثق بتتبع رؤوس أصحابه، فأخذ منهم نحواً من تسعة وعشرين رجلاً، فأودعوا السجون وسُمُّوا : (الظلمة) – قالبٌ آخر!- ومُنعوا أن يزورهم أحدٌ، وقُيّدوا بالحديد!
ولكنّ الله يحفظُ عباده .. ولا يدعهم أبداً داخل هذا القالبِ .. بل يُجري من الحوادثِ ما تتضحُ به الأمور وتتكشف به الحقائق.
فقد روى الذهبي في سيره أن رأس أحمد بن نصر لما عُلِّقتْ كانت تميل إلى ناحية القبلة! فيميلها الحارس إلى الجهةِ الأخرى فتعود! وذكرت روايات عديدة أنّ الناس سمعوا رأسه وهو يقرأ سورة ياسين!!
ثم جاء المتوكل رحمه الله وكان على مذهب أهل السنة في خلق القرآن، محباً للإمام أحمد .. وفي عهده زالتِ القوالبُ الوهميةُ وعرف الناسُ حقيقة الإمام أحمد بن نصر وهانحن اليوم نذكره فنعرف فضله ونترحّم عليه ونشنّع على من (قولبه) ظلماً وكذباً.
وأكثر من هذا أن الله انتقم له من عدد ممن ظلمه !
فالمفتون الثلاثة الذين أفتوا بقتله: قُتِل أحدهم حرقاً، وقُطِّع الآخر قطعاً على يد فتّاك من بني خزاعةَ، وابتُلي الثالث بشلل تامٍّ سجنه في جلده!
ولله الأمر من قبل ومن بعد!
أيها السادةُ الأحبةُ ...
لقد ذكرتُ كل هذا التأصيل والتأريخ ..
لأننا نعيشُ في هذه المرحلة حالة فظيعة من (القولبة) تُجاه رجالاتِ الصحوة ِودعاتِها.
وأظنّ بعضكم يذكرُ أنه من نحو عشر سنواتٍ تحدث منبركم هذا حديثاً طويلاً عنوانه: أيها الممعنون في نقد الصحوة رويداً.
كان ذلك الحديث نقاشاً هادئاً موضوعياً حول بعض (الاتهامات) الموجهةِ للصحوةِ دعاةً ومدعوين، علماءَ وطلاباً.
اليوم أشعرُ أننا في مرحلة جديدةٍ هي أشدُّ وأصعب من سابقتها .
إنها مرحلةُ (القولبةِ)!
والقالبُ الذي وجد بعض الكتاب والصحفيين ضالتهم فيه اليوم هو قالب (الإخوان)!
ولا تُخطئُ عين متابعٍ لوسائل الإعلام أنَّ هناكَ حالةً متعمدةً من من شيطنة هذا القالب، والإلحاح على تشكيله وفق الملامح والمعالم التي يريدُها من يشكّلُهُ .. ليكون بعد ذلك جاهزاً (لإسقاط) من يريدون فيه !
فجأة ..
وفي ليلة وضحاها ..
بات الإنسان العاديّ يشعرُ وكأن كل شبرٍ من الأرض فيه (إخوانيّ)!
وبات البعضُ يظنّ أن كل من أطلقَ لحية وقصر ثوباً هو إخوانيّ!
بل تجاوز الأمر ذلك كله .. فباتَ كلُّ من يصرِّحُ برفض الظلم أو الاستبداد أو الانقلاب .. بات (إخوانياً) كذلك!
وأنا هنا لستُ معنياً بالحديث عن (الإخوان) أو الدفاع عنهم .. فهم قومٌ لهم تاريخهم وتراثهم الذي ملأ الدنيا .. ويستطيع المنصفُ أن يقرأه ويحكم بنفسه بعيداً عن وسوسات الإعلام، فيعرف خطأهم وصوابهم.
لا يهمني الحكم عليهم إذن .. لكن ما يهمني حقاً ..
هو ما يحاوله بعض منسوبي إعلامنا من استثمار هذا القالب الإخوانيّ في تشويه صورة الدعاةِ الأخيار في بلادنا والتحريضِ عليهم.
ولقد قرأت والله عباراتٍ ومقالاتٍ وتغريداتٍ يقفُ لها شعر الرأس ويقِفُّ لفظاعتها! بل لدناءتها وخستِها!
ما تقولون في كاتبٍ يقول صراحةً: إن على الحكومة أن تدرك أن هؤلاء ليس لهم حل إلا البطش!
وماتقولون في آخر يدعو إلى عمل مجزرةٍ خطابية وعزل كل خطيبٍ لايعجبُهُ ما يقول، بل ويدعو إلى أن تكتب خطبةٌ واحدةٌ يُخطب بها على كل منابر المملكة في وقت واحد!
وماتقولون في ثالث أو ثالثةٍ يدعو أو تدعو لعزل الدعاةِ من وظائفهم وتطهير الجامعات والمساجدِ ووسائل الإعلام منهم؟
وما تقولون في رابع أو رابعةٍ يصرح أو تصرح بأن الدعاةَ هم طابورٌ خامسٌ في هذه البلاد وأن القضاء عليهم مطلبٌ ضروريّ لحفظ أمن البلاد وبقاء تماسكها ووحدتها!!
ولأنهم لايجرؤون على أن يطالبوا بعمل كل هذا ضد الشيوخ والعلماء والدعاة فإنهم ببساطة يستبدلون هذه الألقاب بلقب وحيد هو (الإخوان) بعد أن يعطوا أنفسهم وحدهم الحق في توصيف هذا المصطلح وتفصيل معاييره وخياطة مقاساته!!
ومن ثمّ يصورون حربهم على التوجه الإسلاميّ الدعويّ بأنها حربٌ على الإخوان فقط !!
صدقوني لستُ من المولعين بتصوير كلّ خلافٍ مع تيار ديني بأنه خلافٌ مع الإسلام!
ولستُ من السذاجة والبساطة بحيث أعتبرُ الاعتراض على اجتهادٍ دعويّ هو اعتراضاً على الإسلام!
أو بحيث أعتبر انتقاد داعيةٍ أو خطيب أو حتى عالم فقيه انتقاداً للدين!
ولستُ كذلك مهتماً بتكثير عدد محاربي الإسلام!
لا، والحمدلله.
بل إنَّ لي كلاماً في نقد بعض الممارسات الصحوية ربما كان قاسياً جداً.
لكنّ هناك فرقاً بين ناقدٍ يبتغي تصحيح مسيرة، وناقدٍ ظاهرُ نقده التشفي والرغبة في الهدم وتصفية الحسابات.
إنّ هؤلاء الكتابُ وأضرابهم أمرهم إلى الله .. يعلم سرهم وخفيّاتهم.
وبغضِّ النظرِ عن حقيقة حربهم .. فإنه لايسعُ منصفاً أن ينكر أنهم في حملتهم الأخيرة على الدعاة قد ظلموا وتعدَّوا وبغوا وتكلموا بالكذبِ والباطلِ والسوءِ.
لقد مرتْ حالةٌ شبيهةٌ بهذه منذ عشرات السنين حين أقدم جهيمان ومن معه على تدنيس بيت الله الحرام بإدخال السلاح إليه تحت وهم بيعة المهديّ! عدّتِ الحادثة والحمدلله على خير .. ولكنّ سيلاً من الاتهامات والتشويهات والتحريضات طالت كل من كان ينتسب يومها للتديُّنِ، لم يكن أولئك المحرضون قادرين – وربما لم يريدوا – على التفريق بين الأفكار والتوجهاتِ، ومن لطف الله بالبلادِ والعبادِ أن ذوي القرار كانوا يومها أرشد وأعقل من هؤلاء المحرضين فعادتِ البلادُ للالتئام واجتماع الشملِ ودُحرت الأفكار المتطرفة الشاذة من الطرفين.
اليوم تتكرر الصورة .. وبشكل أبشع .. بسبب إمكانات الإعلام!
وأصبحَ كلُّ (صحويٍّ) تحت طائلة الاتهام بخيانة الوطن!
وأصبح كل متعاطفٍ مع مؤيدي الشرعية في مصر ( مسجلاً خطراً ) في أرشيفاتِ أولئك الكتاب والمغردين!
وأصبح كل من يُبدي وجهة نظرٍ بصدقٍ وحب وإخلاص متطرفاً يكيدُ للوطن!
وبلغتِ القباحةُ ببعضهم أن يبني قصوراً من الوهم حول (مؤامرات) يقوم بها أفرادٌ من هذه البلادِ مع صربيا وإسرائيل وأمريكا لتدمير المملكة والقضاء عليها!!
والعجيبُ حقاً .. أنك حين توازن بين الفريقين تجدُ عجبا!
فتجدُ بعضاً من الفريقِ المتِّهمِ ليس له من حب الوطن إلا التطبيل والكتابة في الصحف! وإعادة الحديث المكرور في المنابر الثقافية! مع جرعاتٍ من الشتمِ للمخالف تزيد أو تنقص!
وتجدُ الفريق المتَّهَم هو الذي يحمل هم العمل، ويغيث الفقراء، ويسد حاجة المحتاجين، ويبني المؤسسات التنموية والخيرية والتعليمية. هو الذي يخالطُ الناس ويصبر على أذاهم ويوجههم ويعلمهم ويربيهم.
هل هذه تبرئةٌ بالجملةِ لما يسمى التيار الصحويّ في بلادنا؟
هل هي ادعاءٌ له بالعصمة من الأخطاء؟
لا والله.
فنحنُ بشرٌ نخطئ ونصيبُ .
ولكننا نعلمُ من أنفسنا ومن عامة إخواننا حبنا لدينا وإسلامنا ووطننا وحرصنا عليه .
وإننا لنتكلم عن خطئنا كما نتكلم عن صوابنا .. وأظن في أرشيف هذا المنبر – كمثال فقط – ما يشهدُ لهذا شهادةً بالغةً.
ولكننا نرفضُ رفضاً تاماً هذه (القولبة) الشيطانية .. التي تريدُ أن تقنع الناس أن هؤلاء الدعاة الذين استمعوا لهم سنين عديدة .. بكوا لبكائهم .. وانتفعوا بتعليمهم .. وتأثروا بهديهم وسمتهم .. تريد أن تقنعهم أن هؤلاء إخوانٌ شياطينُ، أو على الأقل: إخوانُ الشياطين!
إذن !
كيف نقاوم هذه القولبة؟
والحديث هنا لك أنت أيها الإنسان المسلم النقيُّ التقيُّ .
لك أنت يامن توجه هذه الصحفُ والوسائل رسائلها إليك ..
كيف تقاوم هذه القولبة؟
وكيف تهتدي إلى رأي صحيحٍ بإذن الله تُرضي به ربك، وتسلمُ من ظلمِ الآخرين؟
سأشير هنا إلى خمسِ وسائل لمقاومة القولبة:
الوسيلة الأولى: اللجأ إلى الله وسؤاله الهداية، فهو سبحانه الذي يبصِّرُ الإنسان، ويهديه سبيل الرشاد، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم وهو المهديّ المعصوم يُكثر من مثل هذا الدعاء.
سُئلتْ عائشة رضي الله عنها: بم كان يستفتح النبي صلى الله عليه وسلم صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان يقول: «اللهم رب جبرئيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك لتهدي إلى صراط مستقيم).
فهذا دعاءٌ نبويٌّ كلَّ ليلة!
فادعُ أيها العبدُ ربك أن يشرح صدرك، ويهديك، وألا يجعل لتضليل الباطل أثراً على قلبكَ.
والوسيلة الثانية: اسمع منهم ولا تسمع عنهم!
معظمُ هؤلاء الذين يريد الإعلام (قولبتهم) لهم نتاجهم وإصداراتهم المرئية والمسموعة والمكتوبة .. عبروا فيها عن آرائهم وأفكارهم ونظراتهم. بينوا فيها موقفهم من الوطن ومن الناس ومن برامج الإصلاح.
فلماذا تُعرض عن هذا كله وتكتفي في إطلاق الحكم بمقالةِ حاقدٍ شانئ يريد أن يقنعك أنهم يريدون كذا وكذا؟
إن الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).
والنبيّ صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن قريظة نقضوا العهد بعث من الصحابة رضي الله عنه من يأخذ له الخبر اليقين، ويتحقق مما قيل.
وأنا أتعجبُ جداً من رجل ظل يستمعُ إلى فلان من الدعاة عشر سنين أو أكثر فينتفع ويستفيد ويستحسنُ ويُعجب، ثم ينسخُ هذا كله بعدة مقالات ملؤها الشتمُ والتسفيه دون دليل ولا برهان .. فإذا به يغير رأيه ويُسقط ذلك الداعيةَ في قالبٍ شيطانيّ رسمه رجلٌ تكادُ تجزم أنه لم يستمع لعشر معشارِ ما استمعه هذا الرجلُ الطيبُ سنواته العشر!
الوسيلة الثالثة : فِرَّ من التعميم فرارك من الأسد
الصحوة التي تشمل تيّاراً سلفيّاً ، وتيّاراً حركيّا ، وتيّاراً دعويّاً ، وتيّاراً علميّاً .. الخ .. الصحوة التي تأتلفُ من هذا المزيج المتداخلِ كلّها عند هؤلاءِ المقَوْلِبين شيءٌ واحدٌ يحكم لها بحكمٍ واحدٍ ، وترفع ضدّها دعوى واحدةٌ ، وأفرادها في عرف هؤلاء سواسية كأسنان الحمار ! رغم فرق ما بينهم في رؤاهم واجتهاداتهم !!
لافرق عندهم بين من غلا فجفا .. وبين وسطيّ معتدلٍ رزين ..
لا فرق عندهم بين من تحمّس فزل .. وبين عاقلٍ متريّثٍ رصين ..
لافرق عندهم بين من هيّج وأثارَ بلا بيّنة .. وبين من قرر الحقائقَ وإن كانت مرارتُها تحرّك القلوب وتهيج الأشجان ..
كل هؤلاء .. في بوتقة واحدة .. كلهم يستحقّون الحكم بالإعدام !!
هكذا يعممون .. والله يعلمنا :
(( ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى ))
(( كل نفس بما كسبتْ هينة ))
(( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون )) .
إذن !
عندما يظفر كاتبٌ ما بخطأ أو موقفٍ لشخصٍ .. فإنَّ من ضعف الرأي أيها الأخ أن يتمكن من إقناعك بأن هذا الموقف (دليلٌ قاطعٌ) على أنَّ التيار الصحويّ كله يريدُ كذا وكذا أو يهدف إلى كذا وكذا.
الوسيلة الرابعةُ لمقاومة القولبة : انظر إلى الطرفِ المتَّهِمِ أيضاً.
إن من أهم قوانين مقاومة فرض (القولبةِ) على (المقَوْلَبين) أن تنظر إلى هؤلاء (المقَوْلِبين) أنفسهم ! فستجدُ حينها أنهم كالذي يرمي غيره وبيته من زجاج!!
كثيرٌ من هؤلاء الكتاب كان طوال السنين الماضية يطرح طرحاً السنين الماضية كان طرح معظم هؤلاء الكتاب يتصادمُ مع التوجه الرسمي للدولة المبني على الشريعة ممثلة في الكيانات الشرعية الرسمية، وفي النظام الأساسي للحكم والقرارات والتعاميم والمراسيم الملكية.
لقد امتلأت الصحف بدعوات تخالف كل ذلك الكم التشريعي والقانوني للمملكة .
وأكثر من هذا كان عدد من أولئك يحضرون المهرجانات الثقافية هنا وهناك حيثُ يصورون للعالم أن المملكة بلد بدائي منغلق بعيد عن التحديث، وكم شاهدنا من برامج تلفازية يسيءٌ فيها أولئك المقولِبون للمملكة إساءة بالغة ويصفونها بالدولة الرجعية المرتهنة للفقه البدويّ!
كان هؤلاء الكتاب أيضا –ومازالوا- شديدي الحفاوة برموز ثقافية تكفُر بكل ما يميز هذه البلاد من خصوصية دينية وثقافية،روجوا لهم رغم سوء قالتهم في المملكة.
والأخطر من هذا ما تداولته المواقع وبعض الرموز وبل وبعض الوثائق من علاقاتٍ مزعجة لبعضهم بسفارات بعض الدول التي تحرص على تغيير الواقع الاجتماعي في المملكة، وتصرّح بذلك.
ورغم كل هذا لم ير هؤلاء في شيء من تصرفاتهم خيانةً للوطن ولا قفزا على مبادئه وثوابته ولا مشاقّة لولاةِ أمره الذين يؤكدون في كل حين على المرجعية الإسلامية للبلد ورفضهم لتيارات التغريب والمبادئ التي لاتتفق مع الأساس (الديني) الذي قامت عليه هذه البلاد منذ عهد المؤسس!
ولكنّ هؤلاء المقولِبين الذين لم يروا في كل ما سبق خيانةً للوطن ولا عداوة له يرون اليوم في (الدعاة) أعداءً للوطن! لا لشيء إلا لأجل موقفٍ من قضيةٍ واضحةٍ بينة .. موقف لم يتجاوز الدعم اللفظي والتعاطف وقول الحق في بيان الظالم والمظلوم!
 = الخطبة الثانية :
-       الحمدلةُ .
الوسيلة الخامسة لمقاومة القولبة: هي الإنصاف.
الإنصافُ مع الجميع.
مع المقولِب والمقولَب ..
حتى لاتتحول مقاومة القولبةِ إلى قولبةٍ معاكسةٍ، فتقع فيما أردت أن تفرّ منه ! أو تفعل ما حذّرتَ منه.
تأمل توجيهات القرآن:
(وإذا قلتم فاعدلوا)، (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)
بل إن القرآن يأمرنا بالعدل حتى مع المخالف الكافرِ : (لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)، وقد قال ابن جرير : نزلت هذه الآية في اليهود حين ذهب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستعينهم في ديةٍ فهموا بقتله .. الى آخر القصة .
وضرب القرآن لنا مثلاً عملياً : ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً).
وفي القرآن: (لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليه).
وقد رأينا في صنيع الأئمة الإعلام إنصافاً عجيباً حتى مع المخالف المبتدعِ الزائغ عن هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم .
ودونك هذا النصَّ التيميَّ اللطيف : " ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطناً وظاهراً، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون فيه عدوان وظلم يكون به فاسقاً عاصياً، وقد يكون مخطئا متأولاً مغفوراً له خطأه، وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه ولاية من الله بقدر إيمانه وتقواه" [المجموع 3/353 ].
كن منصفاً إذن ..
وتناول ما يُقال – بما فيه كلامي هذا – بعدلٍ وإنصافٍ .
فسيقودك العدل بإذن الله إلى الصواب.
الله إنك نسألك أن تحمي بلدنا هذا من كل سوءٍ ..
وأن تفضح كل من أراد به سوءاً ..
وأن تبقي له وجهه الإسلاميّ .. وتنقيَه من كل ما يغبّر عليه .
خطبة جمعة  د.عادل أحمد باناعمة
30/10/1434



_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..