الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

تيسير أصول الفقه للمبتدئين - أقسام العام وتخصيص العام

 من المسائل التي يتكلم عنها الأصوليون ضمن مبحث العام: أقسام العام، إلى أربعة أقسام:
العام الباقي على عمومه،
والعام الوارد على سبب خاص،
والعام المخصوص،
والعام المراد به الخصوص.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فما زلنا مع أبواب الأصول، ونحن على موعد مع الكلام على العام وأقسام العام وتخصيص العام. وسبق أن بينا أن العام في اللغة: ضد الخاص، وهو الشامل. واصطلاحاً: اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له، بحسب وضع واحد دفعة من غير حصر. وقلنا: إن الحكم العام يجب العمل به قبل البحث عن المخصص.
وذكرنا أن من صيغ العموم: اسم الجنس المعرف بالألف واللام، والجمع المعرف بالألف واللام، والمفرد المعرف بالإضافة، وكذلك الجمع واسم الجنس، مثل: (الماء طهور لا ينجسه شيء)، ومثل: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]. وقلنا: إن هناك ألفاظاً هي نص قاطع في العموم، مثل: (كل) و(جميع)، كقوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر:30] فهذه دلالة على العموم؛ لأن كل الملائكة سجدوا ثم أكد بـ(( أَجْمَعُونَ )).
وأيضاً: كلمة (قاطبة) و(عامة) تدل على النص القاطع في العموم، وكذلك كلمة (كافة) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28].
وكذلك مما هو نص في العموم: النكرة في سياق النفي، مثل: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ [ص:65]. أو النكرة في سياق النهي مثل: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُراً [الإنسان:24].
Real Palyer الاستماع بواسطة
ينقسم العام إلى أربعة أقسام:
 العام الباقي على عمومه
القسم الأول: العام الباقي على عمومه، أي: لم يدخله التخصيص. مثال ذلك: قول الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ [النساء:23]. قوله: (أمهاتكم) جمع معرف بالإضافة، كذلك يعطف عليه: (بناتكم) (أخواتكم)، فهذا جمع معرف بالإضافة فيفيد العموم، وهذا العموم لم يخصص، فلم يقل -مثلاً-: إن الجدة الثالثة لا تحرم على الرجل أن ينكحها. أيضاً قول الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6]. فـ(دابة) نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، يعني: أي دابة تدب على الأرض فإن الله يرزقها، فهذا عام باق على عمومه، فهل يقال: النمل ليس على الله رزقه وهذا تخصيص؟ لا، فهذا خطأ (ما من دابة) يعني: أي نملة أو دودة أو كائن في البحر أو في السماء رزقها على الله جل وعلا، فهذا عام لم يدخله الخصوص. أيضاً: قول الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت:46]، فـ(من) اسم موصول للعاقل، يعني: أن أي أحد يعمل عملاً صالحاً فإن ذلك يكون لنفسه وثوابه له، فهل دخله تخصيص؟ لا، بل هو عام باق على عمومه لم يخصص.
 العام المخصوص
القسم الثاني: عام دخله التخصيص، أي: عام جاء فيه التخصيص. فمثلاً: قول الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، فـ(الناس) معرف بالألف واللام وهما للاستغراق، أي: أن كل الناس عليهم حج، لكنه في السياق نفسه خصص فقال: مَنِ اسْتَطَاعَ [آل عمران:97]، يعني: ليس كل الناس عليهم الحج، وإنما يكون الحج على المستطيع.
وأيضاً: يمكن التخصص بالحالة، وذلك كما جاء في قصة الرجل الذي صام في غزوة الفتح فمر عليه النبي وقد ظلل عليه فقال: (ليس من البر الصيام في السفر)، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك على حالة هذا الرجل، فنقول: هذا تخصيص بحالته، يعني: كل رجل لا يستطيع الصوم في السفر أو سيهلك إذا صام في السفر فلا يجب عليه، بل ليس من البر أن يصوم، ولا يجوز له أن يصوم بل يأثم إن صام، وقد وقع الخلاف الفقهي بين الناس في كون صيامه مقبولاً أو أن عليه القضاء. ومن العام المخصص قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68] فالعموم هنا: أن كل من يقتل ويزني ويدعو مع الله غيره، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه، ثم خصص بقوله: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ [مريم:60]. إذاً: فليس كل عاص أو كل مشرك سيضاعف له العذاب؛ لأن من تاب تاب الله عليه.
وهنا السؤال: ما الفائدة من قولنا: إن هناك عاماً باقياً على عمومه، وعاماً مخصصاً؟ أقول: هذا التفصيل يهم أهل الفقه، إذ أن العام الذي يبقى على عمومه أقوى في الدلالة من العام الذي قد خصص، فإذا تعارضا في الظاهر -إذ لا تعارض بين الأدلة فكلها من مشكاة واحدة، لكن قد يظهر للمجتهد التعارض بين العام الذي بقي على عمومه وبين العام الذي خصص -فإن العام الذي بقي على عمومه يتقدم على العام الذي خصص ودخله التخصيص؛ لأنه أقوى في الدلالة. مثال ذلك: جاء في الصحيحين عن ابن عباس :أنه قال (شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر بن الخطاب، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ونهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، فهذا عام في كل الدخول. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن حديث : (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين)، عام لم يدخله تخصيص، أما حديث ابن عباس : (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر) فهذا عموم، أي: في كل صلاة، لكن خصص بقضاء الفائتة من السنن الرواتب، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضي سنة الظهر بعد العصر، وأيضاً في الحديث الصحيح -رغم أن بعض العلماء ضعفه-: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل يصلي بعدما صلى الفجر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آلفجر مرتين؟ فلما بين له الرجل أن هذه هي سنة الفجر أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكر عليه).
فهذا فيه دلالة على أن النهي عن الصلاة بعد الفجر مخصوص وليس عاماً، فإذا دخل الخصوص على العام أضعف دلالته، أما العام الباقي على عمومه فنقدمه لقوة دلالته، كحديث: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين)، وصيغة العموم فيه: (أحدكم) فهو نكرة في سياق الشرط، فـ(إذا) شرطية، و(حتى يصلي) غائية، والغاية تبين الخصوص (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي) فإذا قلت: (يجلس) من الجلوس فيمكن أن يكون مصدراً، فنقول: نكرة، كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فقوله: (أن يشرك به) مصدر مؤول من الإشراك، والإشراك نكرة. قوله: (أحدكم) مفرد مضاف فيعم كل داخل، وأيضاً: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ما نقول: نكرة في سياق الشرط، ولكن نقول: الشرط يفيد العموم، فنقول مثلاً: أعط زيداً إذا جاءك درهماً، فهذه جملة شرطية، يعني: كلما جاءك زيد فأعطه الدرهم، ونفس الأمر في قوله: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فهذا العموم لم يدخل عليه ما يخصصه فيبقى على عمومه. أما العموم الثاني في قوله: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ونهى عن صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس)، هنا: (صلاة) نكرة في سياق النهي فتفيد العموم، لكن هذا العموم قد دخله التخصيص، وهو الحديث الذي سبق ذكره: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر سنة الظهر التي شغله عنها تفريق المال، وأيضاً حديث الصحابي الذي صلى بعد الفجر. فهذا العام الذي دخله المخصص أضعف دلالته، وأما الآخر فهو باق على عمومه لم تضعف دلالته فيقدم عليه. إذاً نقول: العام الذي دخله التخصيص وهو النهي عن الصلاة بعد العصر بعد الفجر ويقدم عليه العام في دخول المسجد وهو الذي لم يدخله التخصيص. ونقول هنا: لكن إذا دخل المسجد بعد العصر فهنا يتعارض العام الأول مع العام الثاني، العموم الأول: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر، والعموم الثاني: أنه إذا دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي.
فيعمل بالعموم الثاني؛ لأنه لم يدخله التخصيص فيضعف دلالته، لكن الأول لما دخله التخصيص أضعف دلالته، وبعض العلماء مثل له بمثال آخر وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب) (صلاة) نكرة في سياق النفي فتفيد العموم. وهنا مسألة تتعلق بقراءة الفاتحة للمأموم، فالذين يقولون بأن المأموم لا يقرأ الفاتحة في الصلاة الجهرية قالوا: قراءة الفاتحة عامة دخلها الخصوص، وهو أن المأموم إذا أدرك الإمام راكعاً يركع وتحسب له ركعة، واستدلوا بحديث مختلف في صحته، حيث ضعفه البخاري وغيره، ولكن صححه كثير من أهل العلم قال: (من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة). ويحتجون أيضاً بحديث أبي بكرة -وهو صحيح- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (زادك الله حرصاً ولا تعد) فقالوا: باتفاق الفقهاء (من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة)، وهذا مخصص لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن). وقوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204] عموم ليس له مخصص، فالآية تقدم على الحديث الأولى، لأنها عامة لم يدخلها التخصيص، وهذا قوي جداً من وجهة النظر، لكن عند التأمل نقول: هذه الآية دخلها التخصيص وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر، فقام رجل فقرأ مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من ينازعنيها؟ من يخالجنيها؟ -يعني: من يقرأ وأنا أقرأ- فقال رجل: أنا يا رسول الله! قرأت بسبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تفعل إلا بأم الكتاب). إذاً هذه الآية دخلها التخصيص يبقى عموم هنا، ويبقى لنا أن ننظر أيهما أقوى، فيفصل في النزاع أنه قال: (إلا بأم الكتاب) فلابد وجوباً أن تقرأ الفاتحة حتى ولو كان الإمام يقرأ الفاتحة.
وهذا أيضاً من باب أنه إذا تعارض العام مع العام ننظر أيهما دخله التخصيص فتضعف دلالته، وأيهما لم يدخله التخصيص فلم تضعف دلالته.
 العام المراد به الخصوص
القسم الثالث: العام المراد به الخصوص.
أي: ذكره الله بلفظ العموم، لكنه ما أريد به العموم وإنما أريد به الخصوص. مثال ذلك: قول الله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]. الناس الأولى لفظ عام، وأريد به معين وهو نعيم بن مسعود والثانية أريد به أبو سفيان. فالكلام جاء بلفظ العموم بينما يراد به الخصوص.
مثال آخر: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران:39].
(الملائكة) لفظ عام يشمل جميع الملائكة، لكن يراد به الخصوص وهو جبريل عليه السلام، والإجماع يدل عليه. مثال آخر أيضاً: قول الله تعالى عن النار: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] قوله: (الناس) لفظ عام يراد به الخصوص، فليس كل الناس وقوداً للنار؛ لأن هناك من الناس من يدخل الجنة بغير حساب، والدليل قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء:101].
 العام الوارد على سبب خاص
القسم الرابع: العام الذي جاء على سبب خاص، أي: أن لفظ العموم كان من أجل سبب خاص، وهذه المسألة مهمة جداً، ولذلك قعد العلماء قاعدة مهمة جداً ألا وهي: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. مثال ذلك: حديث أبي هريرة : (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء، فإذا توضئنا عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فهذا التعميم ليس للرجل وحده. مثال آخر: رجل جاء إلى النبي فقال: (يا رسول الله! قبلت امرأة لا تحل لي -أو قال: فعلت معها ما يفعل الزوج مع زوجه إلا أني لم أجامع- فالنبي صلى الله عليه وسلم سكت، فلما قضى الصلاة قال: أين السائل؟ فقال: أنا يا رسول الله! فقال: صليت معنا؟ قال: نعم، قال: اذهب، ثم تلا عليه قول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إلى هذه وحدي يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل لأمتي كلها) فهذا لفظ عام، وفيه إجابة على سؤال الرجل بأن كل الحسنات تذهب السيئات، وهذا ليس خاصاً بهذا الرجل، بل هو على العموم كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا إذا جاء العام لسبب يكون العبرة فيه بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالحجة بعموم اللفظ؛ لأن الله جل وعلا لما شرع الشرائع ما شرعها على الأشخاص وإنما التشريع ينزل عاماً، ولذلك قلنا: أي خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فهو لأمته، وإن كان الخطاب للأئمة فالنبي صلى الله عليه وسلم يدخل أيضاً في خطاب الأمة. يقول الله جل وعلا : يا أيها النَّبِيُّ [الطلاق:1] ثم جمع فقال: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، فالأصل أن الخطاب ينزل للعموم؛ لأن الأحكام لا ترد على الأشخاص بحال من الأحوال. مثال آخر أيضاً: أن هلال بن أمية جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يتهم زوجته بالفاحشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الرجل صادق، ولما صدق الله صدقه وجعل له مخرجاً، والمخرج هو: آية اللعان: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ [النور:6] فالنبي صلى الله عليه وسلم أتى به وبزوجته وقال: تقسم بالله أنها فعلت الفاحشة أربع مرات، فأقسم أربع مرات، وفي الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وأتى بها ثم بين لها غلظ اليمين، وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فأقسمت القسم الخامس، وهي كاذبة، لكن المقصود أن هذا اللعان جاء بسبب هلال بن أمية ، فهنا العبرة بعموم السبب، وليس خاصاً بـهلال بن أمية ، فأي رجل علم من امرأته أنها تفعل الفاحشة فله أن يلاعن ويقسم بالله أربع مرات، ينفي الولد الذي في بطنها. مثال آخر: قصة أوس بن الصامت مع زوجته خولة بنت ثعلة عندما جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تسأله عن الظهار، فقالت: يا رسول الله! إن زوجي قد ظاهر مني وقال لي: أنت علي كظهر أمي، فأنزل الله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1] ثم قال: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا [المجادلة:3] إلى قوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المجادلة:3] فهل هي خاصة بـأوس بن الصامت زوج خولة ؟ لا، بل هي عامة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. مثال آخر: حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن بئر بضاعة يلقى فيها النتن والحيض وغير ذلك أنتوضأ منها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الماء طهور لا ينجسه شيء).
فقوله: (الماء طهور لا ينجسه شيء) عام جاء لسبب معين، فهل نقول: إن الماء طهور لا ينجسه شيء ببئر بضاعة فقط؛ لأن السؤال كان عن بئر بضاعة؟ لا، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وهنا مسألة مهمة جداً وهي: أن قولنا: جاء لسبب معين، إما أن يقصد به شخص أو بوصف، فما كان بسبب بسبب شخص فالشريعة لا تتعلق بأشخاص، فيكون دائماً العبرة بعموم اللفظ، أما إن كان اللفظ العام هذا جاء بسبب حالة أو بسبب وصف معين فإنها لا تعمم، بل تبقى على هذه الحالة فقط، ويقاس عليها مثلها. مثال ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل يظلل عليه فقال: ما له؟ قالوا: صائم -فهنا الحالة: الصيام في السفر وهم يظللون عليه لما حصل له من مشقة شديدة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس من البر الصيام في السفر) فالعموم هنا: أن أي صيام في السفر ليس من البر، سواء كان نفلاً أو فرضاً، وسواء كان مستطيعاً أو غير مستطيع. فنحن هنا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا اللفظ العام بسبب وصف حالة، ولا نقول: العبرة بعموم اللفظ، وذلك لوجود قرائن تثبت أنه مخصص بهذه الحالة، يعني: كأن التقدير: ليس من البر أن يصوم الرجل الذي يشق عليه الصيام في السفر. فإن قيل: ما الدليل الذي جعلنا نقدر مع أن الأصل عدم التقدير؟ فنقول: القرائن كثيرة: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر كما في حديث أبي موسى وغيره، وذلك في وقت اشتداد الحر، فقال: (وما منا صائم إلا رسول الله و عبد الله بن رواحة)، فهذه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر. كذلك: الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بأن له القدرة على الصيام وهو يسافر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت فصم وإن شئت ففطر)، فقوله: (إن شئت فصم) دلالة على أنه من البر أن يصوم.
وعليه فيكون الصيام في السفر ليس من البر عندما يشق على الرجل أو يكاد يموت من هذا الصيام.
مثال آخر أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الرضاعة من المجاعة).
وقال: (لا رضاع إلا في الحولين) أي: في السنتين، بمعنى: أن الرضاع المحرِّم هو ما يكون عند الصغر فقط. وكان سالماً مولى أبي حذيفة كبيراً في السن، فجاءت زوجة أبي حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله في شأنه، فقال: (أرضعيه تحرمي عليه). فنحن نقول كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن هذه واقعة حال فلا تعمم، وليس كل كبير يأتي فترضعه المرأة فتحرم عليه، لكن يقاس عليها إذا وجد يتيم قارب أو ناهز الاحتلام ولم يكن له مأوى إلا هذا البيت، ويريد صاحب البيت كفالته حتى يبلغ سن الرشد، فله أن يجعل امرأته تعصر له اللبن في زجاجة -مثلاً- فيرضع خمس رضعات حتى تحرم عليه.
Real Palyer الاستماع بواسطة
معناه: إخراج جزء من الحكم يخالف حكم الكل. مثلاً: أكرم الطلبة إلا زيداً.
فقولنا: (أكرم الطلبة) عام، وقولنا: (إلا زيداً)، نكون قد خصصنا زيداً بعدم الإكرام، فهنا (زيد) جزء يخرج بحكم مخالف لحكم الكل، فحكم الكل (الإكرام)، و(زيد) لا يكرم، فأخرجناه من الإكرام. والمخصص نوعان: إما متصل، وإما منفصل. فأما المخصص المتصل فهو: ما يرتبط بنفس الجملة، ولا يفصله عن سياق العبارة شيء، وهو أنواع:
 التخصيص بالاستثناء
الأول: التخصيص بالاستثناء، وذلك كما قلنا: أكرم الطلبة إلا زيداً. وأدوات الاستثناء هي: إلا، وسوى، وغير، وعدا، وما عدا، وخلا، وما خلا. فلو قلنا مثلاً: خذ عشرة إلا ثلاثة.
فالثلاثة هنا مخصوصة من العشرة بعدم الأخذ، وكما لو قلت: معي عشرة جنيهات خذ عشرة إلا ثلاثة، يعني: خذ السبعة الجنيهات واترك ثلاثة جنيهات.
إذاً: الثلاثة خالفت الحكم، وهذا مثال على التخصيص بمتصل. كذلك قول الله تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]. فهذا مثال أيضاً للاستثناء المتصل، فكل جنس الإنسان في خسر إلا من آمن منهم. أيضاً: قول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92] فالمستثنى منه: (قتل المؤمن)، والمستثنى (خطأ) كما نقول: خذ عشرة إلا ثلاثة.
المستثنى منه: (عشرة)، والمستثنى: (ثلاثة). والاستثناء المنقطع أيضاً يكون فيه تخصيص، قال الله تعالى: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ [البقرة:34] فإبليس ليس من جنس الملائكة، و(إلا) هنا معناها (لكن)، أي: فسجدوا لكن إبليس لم يسجد، فإبليس اشترك مع الملائكة في كونه مأموراً مكلفاً بالسجود لآدم. كذلك: قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ [النساء:29] هذا أيضاً من التخصيص، فكل أموال الناس لا يجوز لك أن تأكلها إلا في حالة واحدة، وهي التجارة عن تراض وطيب نفس، (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) وطيب النفس يكون بالبيوع. ومن أمثلته أيضاً: قول الله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا [الواقعة:25-26].
 الأحكام المتعلقة بالمستثنى
وهناك أحكام تتعلق بالتخصيص بالاستثناء، ومنها: أنه إذا جاءت عدة جمل متعاطفة على بعض، ثم جاء في آخر هذه الجمل المتعاطفة استثناء، فهل يرجع الاستثناء على كل الجمل المتعاطفة أم هو على آخر جملة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: قول الجمهور وهو: إنه يرجع إلى كل الجمل المتعاطفة. القول الثاني: قول الأحناف وهو: أنه لا يرجع إلا على الجملة الأخيرة. مثال ذلك: قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4] ثم قال: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4] ثم: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]. فهنا ثلاثة أحكام: الأول: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]. وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4]. الثالث: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]. إذاً اتهامهم بالفسق معطوف على عدم قبول الشهادة، معطوف على الجلد ثمانين جلدة. ثم بعد هذه الأحكام قال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:5] فهل هذا يرجع على الثلاثة؟ على قول الجمهور: يرجع على الثلاثة، لكن هناك قرينة جاءت تبين أن التوبة لا تسقط الحد، وهي: أن الغامدية جاءت تائبة ومع ذلك أقام عليها النبي صلى الله عليه وسلم الحد، وكذلك قال لـهلال بن أمية : (البينة أو حد في ظهرك)، فلو كانت التوبة تنفعه وتزيل عنه الحد لقال له: البينة أو توبة أو حد في ظهرك، وبهذا نكون قد أخرجنا سقوط الحد من الاستثناء الذي قال به الجمهور، وهو أنه يرجع على الكل، فيسقط الحد ويقبل الشهادة ولا يكون فاسقاً، فأخرجنا سقوط الحد بهذه الأدلة الكثيرة، فيبقى لنا: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:5] أي: ستقبل شهاداتهم ولن يكونوا فاسقين. لكن الأحناف قالوا: لا تقبل شهادتهم، وإنما يرفع عنهم الفسق فقط؛ لأن الاستثناء يرجع على آخر جملة.
ونحن نقول: إن قول الجمهور هو الراجح، ودليل ذلك: أن أبا بكرة بعدما قذف المغيرة جلده عمر ، والجلد يسقط الحد، فقال له عمر بن الخطاب : تب فأقبل شهادتك، وهل هناك أحد رمى أبا بكرة بالفسق؟ حاشا لله، فهو صحابي كريم، لكن قال له عمر : تب أقبل شهادتك، وهذه دلالة على أنه لو تاب يرجع الاستثناء إلى قبول الشهادة، وأيضاً إلى عدم اتهامه بالفسق.
  للشيخ : ( محمد حسن عبد الغفار )
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..