كلنا يعيش المراحل الآتية:
وهو صغير
يتمنى الكِبَر، وهو طالب يتمنَّى الانتهاء من الدراسة، وهو عزب يتمنى
الزواج، وهو محتاج
يتمنى الكفاية، وهو فقير يتمنى الغنى، وهو أب لأطفال
صغار يتمنى أن يكبَروا، وهكذا...، وفي كل هذه (التحديات الحياتية) يرى
السعادة ستتحقق بمجرد تحقق أمنيته، وكأن هناك محطة ما مكتوبًا عليها (محطة السعادة)!
فإذا هو عن (السراب باحث)؛ إذ تسلِّمه المحطة لغيرها في خطى متتالية، فما
يكاد يلتقط أنفاسه حتى يلهث، وهو مشغولٌ بمحطات (المستقبل السعيد)، صابٌّ
جام غضبه على (الحاضر التعيس)!
وفي هذه النظرة خطأٌ كبير؛ إذ إن (السعادة) تسكن (مشوار الحياة)، وليست (محطة) يجاهد الجميع للوصول إليها، فلا هو أدركها، ولا هو استمتع باللحظة الحاضرة، وهذا ظلمٌ للنفس؛ إذ الصحيح أن السعادة (مشوار) وليست (محطة)، يشعُر بها الإنسان مع كل نجاح يحققه، ولا يقع فريسة الانشغال بالنجاح القادم، فيحرم نفسه الاستمتاع بما حقق من طموحات.
إذًا ما هو الوقت المناسب للسعادة؟
إنه الآن وليس غدًا!
فكل (تحدٍّ) ترى أنه (عقبة) في طريق السعادة، هو فرصة جيدة لـ: (الإحساس) بسعادة تخطِّيه والتغلب عليه، مهما كان حجم الجهد؛ فالحياة (تحديات)، (وطريق الحياة) مهما كانت عقباته، إلا أن (روح التحدي) و(القدرة على استنهاض الهمة) و(استشعار حكمة الخلق)، وتذكُّر - دائمًا - قول الحق - سبحانه وتعالى -: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]، كل ذلك يضَعُ المرء على (مشوار الحياة بمفهومه الصحيح)، وبتقلباتها، وبالقدرة على تحقيق (الحكمة من الوجود).
في تفسير (الجامع لأحكام القرآن) قال الإمام شمس الدين القرطبي - رحمه الله تعالى -:
"قال علماؤنا: أول ما يكابد (أي الإنسان) قطعَ سُرَّته، ثم إذا قمط قماطًا[1]،
وشدَّ رباطًا، يُكابدُ الضيق والتعب، ثم يكابدُ الارتضاع، ولو فاته لضاع،
ثم يكابد نَبْت أسنانه، وتحرُّك لسانه، ثم يكابد الفِطام، الذي هو أشدُّ
من اللطام، ثم يكابد الختان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلِّم
وصولته، والمؤدِّب وسياسته، والأستاذ وهيبتَه، ثم يكابد شغل التزويج
والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد، والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل
الدور، وبناء القصور، ثم الكِبر والهرَم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب
يكثُر تعدادها، ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد
العين، وغم الدَّين، ووجع السن، وألم الأُذن، ويكابد مِحَنًا في المال
والنفس، مثل الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلا يُقاسي فيه شدة، ولا
يُكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مسألة المَلَك، وضغطة القبر
وظلمته، ثم البعث والعرض على الله، إلى أن يستقرَّ به القرار، إما في
الجنة وإما في النار، قال الله -تعالى-: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ
﴾ [البلد: 4]، فلو كان الأمر إليه لَمَا اختار هذه الشدائد، ودلَّ هذا على
أن له خالقًا دبَّره، وقضى عليه بهذه الأحوال، فليمتثل أمره[2]".
إذًا هي المشقة التي لا تدع غنيًّا ولا فقيرًا، فاستمتع بـ: (طاعة الله)، واستشعر (السعادة)، واعلم أن الراحة كلها في ﴿ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].
وصلِّ اللَّهم وسلِّم على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
[1] أي ما يُشد به الصبيُّ الصغير من الملابس وغيرها وهو في مهده؛ ليستوي جسده، وتعتدلَ أعضاؤه.
[2] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 20/63، ط2، دار الكتب المصرية - القاهرة، 1964م.
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..