مقدمة:
حين نتحدث عن واقع التعليم المعاصر، فإننا
سنحتاج إلى الكثير من الوقت، ولذا فإنني سأحاول أن أركز
على المفاصل
الرئيسة للتعليم - من وجهة نظري - وأرجو أن أُوَفَّق في ذلك.
لا شك - أيها الإخوة - أن مؤسسات التعليم هي المدارس،
ولا يمكن بأي حال أن تقوم مدرسة بدون معلم وطالب؛ إذ هما أهم عناصر
العمليَّة التعليميَّة، وعليهما تقوم، وكل ما سواهما في الميدان إنما وجد
لخدمتهما؛ فهما الأصل في العملية التعليمية، وأي محاولة لدراسة مشكلات
التعليم لا تعطي تصوُّرًا واضحًا دون إعطاء المعلم والطالب حقهما من البحث.
فماذا تعني المدرسة للطالب؟ وماذا تعني المدرسة للمعلم؟
لا أشك أن الإجابة على هذا السؤال ستختصر لنا كثيرًا من التفاصيل التي تعرفون الكثير منها.
واقع المدرسة اليوم:
يقول أحد التربويين:
تفشل المدرسة نظرًا لعدم امتلاكها لأساليب تعليميَّة فعالة، فهي تعتمد
أساليب تلقينيَّة أُحادية البُعد، منْزوعة عن سياق الحياة الحقيقي، لا
تخاطب اهتمامات التلاميذ الحقيقية، فيغدو التعليمُ بالنسبة لهم دون مغزى
يُذكَر، وتتحوَّل الحياةُ داخل المدرسة إلى حياةٍ فاترة مصطنعة تستثير
الإحباط والملَل، وهذا مناخ يصعب فيه - إلى حدٍّ كبيرٍ - تحقيق تعليم سداه
الفَهم، ولحمته الاهتمام.
ومن العجيبِ أنَّ كاتب هذا المقال لَمَّا كان مسؤولاً كبيرًا في الوزارة، لَم يَتَمَكَّن مِن حلِّ هذه المعْضلة، ولو بشكلٍ جزئي!
لقد ركزتْ أغلبُ المدارس في معظم الثقافات
- حتى الآن - على تركيبٍ معينٍ من ضربي الذكاء اللغوي والمنطقي، وإذا
كنَّا لا نجادل في أهمية هذا التركيب للتمكُّن مِن أجندة المدرسة، إلا أننا
غالينا في تجاهل ضروب الذكاء الأخرى داخل المدرسة وخارجها، جاعلين بذلك
كثيرًا من التلاميذ الذين يفشلون في إظهار المزيج المناسب يعتقدون أنهم
أغبياء.
ولَم نستفدْ من الطرُق التي يُمكن بواسطتها استثمار ضُرُوب الذكاء المتَعَدِّدة لتوسيع أهداف المدرسة والثقافة عمومًا؛ (انظر: كتاب العقل غير المدرسي).
♦ آلية بقاء الطلاب في صفوف على هيئةٍ معينة؛ لتُلقَى لهم معلومات محددة بصورة معينة، دون عناية بالفروقات فيما بينهم.
♦ يتعلَّم الطالبُ في المدرسة لغةً لا يستخدمها ولا يراها في البيئةِ خارج المدرسة.
♦
لا توجد علاقة للمدرسة بمؤسسات المجتمع الأخرى، ومنها: وسائل الإعلام،
وتفضِّل المدرسةُ - بسبب اللوائح والأنظمة - الانفصالَ عن المجتمع، وعن
مؤسساته، ولهذا أثر على الطلاب، كما لا يخفى ذلك على المتخصِّصين.
♦ النظُم التربويَّة قد تُقَدِّم كلامًا معسُولاً لأهداف؛ (كالفَهم)، أو (المعرفة العميقة)،
وقد ثبت في الواقع أنها تلحق الضرر بعمليَّة السَّعْي لتحقيق هذه الأهداف،
ففي بعض الأحيان تعتبر هذه الأهداف مثاليَّةً أو غير واقعيَّةٍ، إلى درجة
تبعث على اليأس.
♦
يرى البيروقراطيون التربويون أنه ينبغي على المدارس صناعة مواطنين يظهرون
بعض المهارات الأساسية، وفي وسْعهم أن يقوموا بعملٍ أو مهنة ما، لكن الواقع
أن هذا لا يحدث حتى في أفضل الحالات!
♦ إن العالَم الحقيقي يوجد في مكان أو آخر (وسائل الإعلام والسوق).
♦ وكثيرًا ما يوجد مع الأصدقاء والأقران في الشارع وليس المدرسة.
♦ وقد يكون - مع الأسف - في البحث عن الإثارة، وقد يصل إلى تعاطي المخدِّرات، والعُنف والجريمة.
نتائج واقع المدرسة اليوم:
إذا اعتبر أحدُنا المدرسة مُجَرد مكان
تلبَّى فيه معايير مُعينة - الحصول على شهادة مثلاً - فلن يهم المرء ما
الذي سيفعله بعد ذلك بالمهارات والمعرفة التي اكتسبها هناك، بل إنه قد
يتسامَح مع المدرسة التي كان الفهم فيها لا قيمة له، أو حتى ضارًّا.
كما أن ما سيأتي في وصْف واقع الطلاب والمعلمين هو نتيجة لواقع المدرسة، وما يُمكن أن تنتجه.
واقع الطالب اليوم:
كثير من التلاميذ الذين يفشلون في إظهار
المزيج المناسب لما تمليه عليهم المدرسة، يعتقدون أنهم أغبياء، لا يعلم
الطالبُ لماذا يذهب إلى المدرسة كل يوم! إذا كان ما رآه بالأمس هو ما سيراه
اليوم.
مهما كان المعنى الذي حملته المدرسة يومًا ما لمعظم الصغار في مجتمعنا، فإنها لم تعد ذات معنى لكثيرٍ منهم؛ إذ لا يستطيع كثيرٌ من التلاميذ ولا المعلمين والآباء تقديم أسباب مقنعة للالتحاق بالمدرسة.
اللغة
التي يستخدمها الطالبُ في المدرسة تختلف عما يستخدمه في حياته اليوميَّة،
كما أن كثيرًا من المصطلحات والتعاريف التي يدرسها قد لا يحتاجها أصلاً
طوال حياته.
يُجبر الطالبُ - مهما كان سنُّه - على الجلوس على الكرسي لمدة 6 ساعات تقريبًا بشكلٍ يومي، في تهميشٍ شديدٍ لحاجات النمُو؛ (الجسمي - الحركي - الاجتماعي – الانفعالي - العقلي المعرفي)، فيبقى التركيزُ مُستمرًّا على الجانب العقلي المعرفي بشكل قاصر.
فهل من
المعقول أن يبقى الطفلُ - الذي يحتاج إلى حركةٍ مستمرة طوال الأسبوع -
مُعطلاً عن الحركة فيما عدا حصة البدنية، والاصطفاف الصباحي، الذي يُشَكِّل
عبئًا أكثر مما يكون مشوقًا؟!
إذا سُئل الطلاب الذين يذهبون إلى مدرسة تقليدية عما فعلوه في المدرسة ذلك اليوم، فغالبًا ما نسمعهم يجيبون: "لا شيء"!
وإذا كانت هذه الإجابة كردّ فعلٍ سريع،
فإنها تعبِّر عن حقيقةٍ عميقة؛ لأنَّ المدرسة شيءٌ يُفعل للتلاميذ، ولا
يُفعل للمعلِّمين أنفسهم.
نتائج واقع الطالب اليوم:
أكثر الطلاب يتخرَّجون من المدرسة دون
إتقانٍ للمهارات الأساسية حتى يومنا هذا، وهناك مقدارٌ لا يُستهان به من
الحقيقة في القول الشائع بأن المدرسة في أساسها مكانٌ لحجْز التلاميذ أكثر
مِنْ تربيتهم!
واقع المعلم اليوم:
أيها الإخوة، معلِّم اليوم هو نتاج لهذه المدرسة، وقد كان طالبًا فيها، فكثير مما سبق ينطبق عليه.
♦ نتوقَّع منه برامج النظرية البنائية، ونحن ندربه بواسطة السلوكية!
♦
نحن نريد من المعلِّم أن يعتني ويطبق إستراتيجيات حديثةً في التدريس، ونريد
منه أن يعتنيَ بجوانب تنمية التفكير والإبداع، ولكن هل قُمنا بتدريبه على
الطرُق المناسبة والآليات التي تُنير له الطريق؟ أم أن قصارى ما نفعله هو
إصدار نشرة وكتاب ولقاء عام، ثم نعاتبه بعد ذلك على عدم تنْفيذه لتطوير
التعليم؟!
إن مثل هذا يحتاج إلى تأهيل ربما يمتد إلى
سنوات، فإذا كان إعدادُ المعلِّمين في كليات التربية وتهيئتهم لتطبيق
النظرية السلوكية في التعليم استغرق أربع سنوات، مع سهولتها واعتمادها على
أسلوب التلقين والمحاضرة، فكيف نتوقع منه أن يكتسبَ آليات وبرامج النظرية
البنائية ويتبنَّاها خلال أسابيع، أو حتى شهر من التدريب المتقطّع، والذي
نمارسه مع المعلمين بالاعتماد على النظرية السلوكية من خلال المحاضرة
والتلقين؟!
♦ نتوقع منه أن يكون معلمًا فعالاً يُطَوِّر أداءه، ويفعل الأنشطة، ونحن نُقيده بالأنظمة واللوائح، وضعف البند المالي!
♦ نتوقع منه أن يدرب الطلاب على التفكير والابتكار، ثم نحاسبه على إجابات الطلاب المغايرة لما في الكتاب!
♦
الأنظمة والإجراءات يخضع لها كل المعلمين والمديرين، ولهذا يقع المعلمون في
مأزقٍ حين ينصرفون عن تعليم أكثر جدوى، حتى لا يصدموا باللوائح ورؤسائهم،
ولا يبقى إلا جهدٌ قليل من قلةٍ يحرصون على تعليم الطلاب بشكل متميِّز.
نتائج واقع المعلم اليوم:
نتيجة لكل ما سبق، فإنَّ المعلمين سيأخذون
المدرسة بشكلٍ أقل جدّية، كما سنلاحظ الضعف الظاهر في مستوى المعلمين،
كنتيجة طبيعية كنتاج للمدرسة التي تخرجوا منها، ثم عادوا للعمل فيها.
أسباب ضعف المعلِّمين:
♦ ضعف إعداد طلبة الكليات التربويَّة.
♦ عُزُوف الأشخاص المتميزين عن التعليم.
♦ انعدام عناية غالبية المعلمين بالتعلُّم والثقافة، (معلم المدرسة العادي لا يقرأ أكثر من كتاب في العام حسب استفتاء عشوائي قمتُ به).
♦ كثْرة المطالب المُلْقاة على عاتق المعلِّم.
♦ انعدام الحوافز للمعلِّمين المتميِّزين.
♦ عدم وجود شعور بالانتماء للمِهْنة حتى بين المتميزين.
♦ افتقاد الشعور بالأمن الوظيفي.
♦ عدم وجود إجراءات حاسمة مع المُهْملين.
♦ ضغط المعلمين الكسالى على زملائهم المتميزين.
♦ فرض مجموعة من الإجراءات والقواعد التنظيميَّة التي تعيق المعلِّم المتميز، وكثيرًا ما نُمارسها نحن مع المعلمين.
♦ دور وسائل الإعلام السلبي تجاه المعلمين.
أين الإشكال؟
مشكلة
التعليم المعاصر لا يمكن اختصارُها في أسباب محددة بمعزل عن المجتمع والأمة
وتاريخ التعليم في العالم قديمًا وحديثًا، وسأحاول أن أذكرَ بعض الأسباب
التي توصلتُ إليها حتى الآن:
1 - التخلُّف العربي: وإنه لمن العجيب أن العرب الذين وضعوا المنهج التجريبي وقواعد التفكير العلمي تنازلوا عن مكانتهم مبكرًا.
2 - الأنظمة السياسية: التي حولت المدرسة إلى مصنع لنسخ صور مكررة لأسباب مختلفة، من أهمها تخريج عاملين لمؤسساتها.
3 - قيام المدرسة في العصر الحديث على التجارب والنظريَّات الغربيَّة، وخاصة السلوكية التي طورتْ في أمريكا.
4 - غياب التجارب الأصيلة عن الميدان في مجتمعاتنا العربية؛ بسبب عدم وجود دعم مادي، أو مراكز أبحاث.
5 - مَن يملك القرار لا يعلم شيئًا عن الممارسات اليوميَّة في الميدان، ومَن يملك المعرفة بما في الميدان لا يملك القرار.
6 -
طورت الإدارات البيروقراطية للمدارس آلات حماية قوية، غالبًا ما تستبعد أي
ضرب من الإصلاح له معنى، أو تخنقه قبل أن تتاح له الفرصة فيشتد عوده.
7 - نظم الاختبارات تُعد مؤشرات يسهل ترْويضها لتثبت للبيروقراطيين أن التعليم يسير في الطريق الصحيح حسب ما هو مخطط له.
8 - الإحصائيات الموجهة التي تؤكد ما سبق للبيروقراطيين (لتوجيهها حسب الوجهة التي يريدونها).
ما هو الحل؟
لعل بعض المتابعين يتشاءم وهو يرى تجذُّر
المشكلة، وشمولها لجوانب المجتمع المحلي والدولي بشكل عام؛ إذ قد يُفاجأ
البعضُ بأن هذه المشكلات التي نعاني منها في مدارسنا لا تخصنا وحدنا، بل
تشمل معظم العالم، بدءًا بأمريكا التي وضعتْ أنظمة المدرسة الحديثة،
ومرورًا بكثير من المجتمعات الدولية، وحتى المجتمع العربي.
وسنستعرض هنا بعض الحلول المتاحة، والتي تعتمد على إصلاح نظام التعليم بشكلٍ متكامل؛ إذ
إن محاولات الإصلاح الجزئيَّة المعتمدة على التلفيق وترقيع النظام لَم
تُجْدِ شيئًا حتى الآن، وهنالك نداءات عالمية ومحلية بإصلاح أنظمة التعليم،
إذ أصبحتْ ضرورة لا يمكن لأي مسؤولٍ أن يتجاهلَ أبعادها الاجتماعية.
1- إرادة التغيير:
قال ربُّنا - عزَّ وجلَّ -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ﴾ [التوبة: 46]، وقال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن يتحر الخير يعطه، ومَن يَتَوَقَّ الشرّ يُوقَه)).
2 - الخروج من الحلقة المفرغة:
من السهل على الناس أن يُغَيِّروا ما يعملون، على أن يغيروا كيف يعملون، وهذا يعني إعادة صياغة هيكل المدرسة بشكل كامل.
3 - تقنين الأنظمة والإجراءات ووضوحها:
كثير من المشكلات الموجودة في الميدان سببها عدم وجود نظام واضح، فيختلف الحلُّ باختلاف المناصب والأفهام والخبرة بالميدان.
ولا تستغرب وجود تضارب بين إدارة وأخرى حيال مشكلة واحدة، فيضيع الوقت والجهد في فرض الرأي والجدل الذي يعقد المشكلة أكثر مما يحلها.
4 - الحل في الداخل وليس في الخارج:
تتَّجه مؤسساتنا الحكومية لحلِّ مُشكلاتها
بالاستعانة ببيوت الخبرة العالميَّة، وتضع الخطط بناءً على توصياتها، مع
أن تلك البيوت تستهلك كثيرًا من الوقت في مُحاولة إدراك خصائص مُجتمعنا،
ومع ذلك لا تفلح في تصوُّر حاجاتنا، بينما لدينا في الميدان من
المتخَصِّصين والمؤهلين لأداء أفضل، وتكلفة أقل، وزمن أقصر، ورؤية أشمل.
5 - إصلاح وضع المدرسة ووضع خطط قصيرة المدى:
ولا بد عند وضْع هذه الخطط السريعة على
المدى القصير أن تركزَ على الجوانب الرئيسة التي تُمثل أهم العقد لإصلاح
المدرسة، والتي لا بد منها، سواء في الحلِّ السريع أو في الخطط طويلة
الأمد، هي: إعداد المنهج - إعداد المعلم - التقييم - تقديم دعم منَ المجتمع
الحكومي والأهلي للمدرسة.
6 - الشمولية في وضع الخطط طويلة المدى:
وضع خطط طويلة المدى على أن يراعَى فيها جانب الشمولية لجميع عناصر النظام التعليمي، وعدم الاقتصار على محاولات ترميم مؤقَّتة.
انتهى المقصود عرضه في هذه الورقة، وآمل من جميع الإخوة المشاركة بآرائهم للإضافة وإثراء الموضوع، شاكرًا
للجميع حُسن استماعهم ومُداخلاتهم، كما آمل أن يتهيَّأ قريبًا لقاءٌ
لعَرْض دور المُشرِف التربوي في علاج الواقع التربوي حسب المتاح له.
د. خالد بن محمد الشهري
تاريخ الإضافة: 13/4/2010 ميلادي - 29/4/1431 هجري
تاريخ الإضافة: 13/4/2010 ميلادي - 29/4/1431 هجري
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..