الجمعة، 6 ديسمبر 2013

خطيئة الغذامي من يكفّر عنها؟ أو المسافة البعيدة بين "تشريحية" الغذامي و"تفكيكية" ديريدا

تحية احترام وتقدير إلى الدكتور معن الطائي الذي قرأت مقالته "من يخشى
عبد الله الغذامي ؟"
* بعد أن أكملت كتابة هذا المقال.
توطئة :
لن نتناول في هذه المقالة المناخ المعرفي ولا السجال الفكري الذي أدى الى ظهور "التفكيكية"، ولن نثير مشكلة المصطلحات التي جاءت بها التفكيكية والغموض الذي يحيط بها، واستعصائها على الترجمة الى اللغة العربية وغيرها من اللغات، وكذا حيرة النقاد العرب في إيجاد مقابلات مناسبة لها من حيث المبنى أو من حيث المعنى، وعجزهم في الأخير عن الرسو على مصطلحات عربية مشتركة تلقى الإجماع والاتفاق لدى النقاد والدارسين. سوف نركّز فقط في هذه المقالة على "فلسفة التفكيكية" و"روح التفكيكية" التي ترسم لها منطلقاتها وأهدافها وممارساتها، ومن أجل ذلك سوف نعود من حين الى آخر الى المفاهيم الأساسية التي تحدد "هوية" التفكيكية كاتجاه وكنظرية. إنه إجراء منهجي لا بد منه، لأننا لا نستطيع أن نعرف مدى قرب أو بعد "تشريحية" الغذامي من روح التفكيكية وفلسفتها دون أن نعرف هذه الأخيرة أولا. فما هي التفكيكية ؟ وهل هي فلسفة أم منهج نقدي ؟ وما الذي تبتغيه من النص الأدبي ؟ وما الذي ستضيفه للنقد الأدبي ؟
I – التفكيكية la deconstruction” :
الخلاصة أن التفكيكية في روحها وفلسفتها جاءت لزعزعة وخلخلة المفاهيم التي تمكّنت من الثقافة الغربية وأصبحت في حكم المسلّمات، بهدف بيان زيفها وتقويضها في النهاية، كما فعلت مع "مفهوم الحضور" و"المراكز المبجّلة" و"مركزية العقل" و"مركزية اللغة"، وحلت الرباط الوثيق المقدس والساذج في الوقت نفسه بين "الدال" و"المدلول"، وفي ما يتعلق بالنصوص حاولت التفكيكية أن تخلخلها بالكشف عن التماسك الزائف الذي تحاول أن تظهر به، وعن وهم استقرار المعنى الذي تحاول أن توحي به. وقد أثبت التفكيكيون وعلى رأسهم بارث هذه المرة أن النص "يحقق حدا غير قابل للتحجيم من الدلالات الكلية، ولذا فهو غير قابل للانغلاق أو التمركز".[1] أما زعزعتها للممارسة التأويلية وللنقد فقد تجلت في توضيحها - على حد تعبير كريس بلديك C. Baldick - أن معاني النص بوسعها أن تقاوم الاستيعاب النهائي الذي يحاول التأويل ممارسته، وتحذيرها بذلك من طموح النقد الى مراقبة النصوص، ومن اعتقاد النقد المغرور بقوته عموما.[2] لقد كشفت التفكيكية أن كل تأويل وكل قراءة وكل معنى هو "ترتيب مؤقت"، و"نجاح مؤقت في إيقاف تدفق المعاني اللامنتهي الذي يولّده النص". و"بينما يكون المعنى الخالص والمستقر، في نظر البنيويين، كامنا ينتظر أن يُكتشف إما في - أو خلف، أو تحت - البنيات التي يدرسونها، يرى التفكيكيون أن النص والقارئ يتفاعلان لإنتاج لحظات من المعنى، تكون دائما مختلفة وعابرة.
- التفكيكية باعتبارها تقويضًا :
يرفض الكثير من النقاد – وخصوصا العرب منهم – فكرة التقويض والهدم في التوجّه التفكيكي، وكأنهم رأوا في ذلك منقصة أرادوا تنزيه التفكيكية عنها، فزادوا الى التفكيكية ما ليس منها وهو إعادة البناء بعد التقويض أو الهدم، في حين أن روح التفكيكية يتمثل بالضبط في قوة النقض والهدم والتقويض التي تتميّز بها كما رأينا أعلاه.
وبهذا المعنى شرح جيرار جنجومبر القراءة التفكيكية فقال إنها تستهدف تفجير النص انطلاقا من مبدأ اللاتماسك non cohérence، وجعله يلعب ضد ذاته، ويقول أيضا بأن ديريدا قد اقترح "قراءة النص بما هو انتاج لمعانٍ غير قابلة للتجميع non totalisable، ووفقا لهذا التصور تصبح العلامة اللغوية موضع تشويشconfusion  بين المعنى المرجعي والمعنى المجازي، فيصبح القارئ عاجزا عن السيطرة على النص لأن النص لا يسمح له بذلك".[3]
أما جوزيت راي دوبوف فتورد في قاموسها السيميائي فعل التفكيك déconstruire عند ديريدا بمعنى "فك أو تقويض défaire بناء إيديولوجي موروث".[4]
ويذكر جاك ديريدا في أحد حواراته أنه حين وضع مصطلح Déconstruction كان يفكّر في استخدام هيدغر لكلمة "التدمير" أو "الهدم" destruction، وفي استخدام فرويد لكلمة "الفك" أو "الحل" dissociation،[5] مثلما فكّر في كلمة abbau الألمانية أي démontage الفرنسية.[6]
ويظهر اهتمام الناقدين ميجان الرويلي وسعد البازعي بفهم روح التفكيكية وفلسفتها، في تحرّيهما عند وضع المقابل العربي للمصطلح الأجنبي، حيث أرادا له أن يحتفظ بهذه الروح، فدافعا عن مصطلح "التقويض" و"التقويضية" كبديل عن "التفكيكية" "لأن "التقويض" أقرب من "التفكيك" الى مفهوم ديريدا. فالتقويض على نقصه لا يلتبس بمفهوم رينيه ديكارت وميكانيكية تفكيكه للمفاهيم. إضافة الى ذلك، فالتقويض لا يقبل - مثلما يذهب إليه أهل التفكيك - مقولة "البناء بعد التفكيك". كما أن مفهوم التقويض يتناسب مع الاستعارة التي يستخدمها ديريدا في وصفه للفكر الماورائي الغربي، إذ يصفه باستمرار بأنه "صرح" أو معمار يجب تقويضه. ولئن انطوى مفهوم التقويض على انهيار البناء، فإن إعادة البناء تتنافى مع مفهوم ديريدا للتقويض، إذ يرى في محاولة إعادة البناء فكرا غائيا لا يختلف عن الفكر الذي يسعى ديريدا الى تقويضه".[7]
ويؤكّد الناقدان أن مصطلح "التفكيك على شيوعه لا يفسّر التوجه نحو خلخلة البنى الميتافيزقية والإيديولوجية في الفكر والنقد المعاصر".[8]
ولكننا نعتقد من جهتنا أن مصطلح "التفكيك" رغم نعومته مقارنة بمصطلح "التقويض"، إلا أنه يؤدي المعنى الذي قصد إليه ديريدا. فمن دلالات التفكيك التعطيل والتوقيف عن الاشتغال، والإبطال والحل. فتفكيكنا للسلاح يعطله عن العمل، وتفكيكنا لقنبلة يمنعها من الانفجار، وهكذا فتفكيكنا لفكر معين يعطله ويبطله تماما كما نقول فك السحر أي حلّه، وبالكيفية نفسها يكون ديريدا قد فكك الفكر الغربي، ليس لكي يعيد بناءه كما يعتقد الكثير، ولكن لكي يبيّن زيفه ويبطل اشتغاله لا أكثر ولا أقل.
وإن كان يوسف وغليسي يخالفنا الرأي، فيرى أن الفك والتفكيك "لا يتجاوز دلالات الفتح والعتق والاطلاق وفصل الأشياء وتخليص بعضها من بعض، وهي – على العموم – دلالات ليس ذات شأن كبير مقابل ما يعنيه المصطلح الغربي في مفهومه "الديريدي"، بخلاف "التقويض" الذي يقترب منه أكثر. [...] وربما كان "النقض" أقرب معنى الى جوهر المفهوم الغربي، لا سيما ما تعلق منه بالمناقضة القولية : "النقض : اسم البناء المنقوض إذا هُدم... والمناقضة في القول أن يتكلّم بما يتناقض معناه".[9]
ويتفق معه في الرأي أيضا محمود الربيعي فيقول : "ليست كلمة "تفكيكية" – كما يتضح من معناها عن ديريدا – أنسب كلمة يترجم بها مصطلح Déconstruction. ولكن نظرا لتوالي استخدام الكلمة في النقد العربي أحافظ هنا على استخدامها وذلك حتى لا أضيف مزيدا من البلبلة".[10]
وما يهمنا هنا هو الاتفاق الحاصل على أن أقرب مفهوم للمصطلح الديريدي هو القائم على الهدم والنقض والتقويض والخلخلة... الخ.
وفي هذا المعنى أيضا تفهم نبيلة إبراهيم مفهوم التفكيكية، حيث ترده الى أصوله "الثورية" التي تنظر الى الثقافة الغربية باعتبارها نصا كاملا قد أصبح في حاجة الى قراءة جديدة "نتجاوز فيها المقولات المألوفة الى ما هو أعمق بهدف الكشف عما قد يبدو متناقضا وغير مؤتلف في جسم الثقافة الأوروبية، وبهذا يكشف القارئ حقائق أخرى مغايرة لتلك الحقائق الراسخة دهورا".[11]
ويذهب وغليسي الى أن جل الكتابات تجمع على أن القراءة التفكيكية "تثبت معنى للنص ثم تنقضه لتقيم آخر على أنقاضه [...] إنها تسعى الى إثبات أن ما هو هامشي قد يصير مركزيا إذا نظرنا إليه من زاوية مغايرة، ومنه يصح قول عبد السلام بنعبد العالي أن القارئ التفكيكي [...] يحاول الكشف عن اليمين في كل نص يساري".[12]
إذن أصبح جليا الآن أن التفكيكية تحاول أن تكشف عن تناقضات النص وشروخه، ووهم الاستقرار الذي يحاول أن يوحي به، وكل ذلك من أجل زعزعة وخلخلة وهم المعنى المنسجم أيضا الذي يخلص إليه الناقد أو المؤوّل على حساب فائض المعنى الذي يتدفق من النص. وعلى حد تعبير باربرا جونسون فإن تفكيك النص يقوم على تأليب قوى الدلالة المتناحرة داخل النص على بعضها البعض، فيضرب بذلك الاستقرار القلق الذي يدّعيه أي معنى.
وفي المعنى نفسه يؤكد عبد العزيز حمودة أن التفكيكية تبحث "عن اللبنة القلقة غير المستقرة، وتحركها حتى ينهار البنيان من أساسه"، وفي هذه العملية "يتغير مركز النص وتكتسب العناصر المقهورة أهمية جديدة [...] وهكذا يصبح ما هو هامشي مركزيا، وما هو غير جوهري جوهريا".[13]
وإن كان عبد العزيز حمودة هو الآخر من القائلين بإعادة البناء بعد الهدم،[14] كما ذهب الى ذلك نقاد عرب كثيرون منهم الغذامي وعبد الملك مرتاض الذي ينتصر لمصطلح "التقويض" على حساب مصطلح "التفكيكية" لأن التفكيك على حد قوله "لا يعمد الى تدمير الشيء المفكّك، ولكنه يجزئه فقط، في انتظار إعادته الى ما كان عليه كتفكيك قطع محرك من المحركات لفحص دواليبها الفاعلة فيه ومراقبتها قبل إعادة تركيبه كما كان"،[15] ولكنه في تناوله لمصطلح "التقويض" يتخذ الموقف نفسه فيربطه بإعادة البناء والتركيب أيضا : يقوم التحليل "التقويضي" "على تقويض لغة النص [...] لتبين مركزي النص والاهتداء الى سر اللعبة فيه، ثم يعاد تطنيبه، أو تركيب لغته على ضوء نتائج التقويض".[16]
وكما أشرنا إليه أعلاه فإن التفكيك (وليس التقويض وحده) يقوم على فك القطع ليس لإعادة تركيبها، وإنما لتعطيلها، أو لتبيان الزيف والوهم في تركيبها الأول. وضربنا أمثلة حية لذلك : كمثال القنبلة لما نفكّكها : فنحن نعطلها. وأكيد أننا لا نعيد تركيبها، وكذلك السحر : فلما يحل أو يفك يبطل مفعوله، ولن نكون في حاجة الى تركيبه من جديد ولو في صورة مغايرة، وكذلك السلاح : فلما نفككه نعطله عن الاشتغال، وهذا هو المقصود بالتفكيك أو التقويض، لا فرق بينهما في رأينا. وعلى كل حال فإن القول بإعادة البناء بعد التفكيك أو التقويض قناعة مناهضة للأصول التفكيكية الديريدية كما رأينا.
والخلاصة أن جهود التفكيكيين وعلى رأسهم جاك ديريدا كانت ترمي الى "تأسيس فلسفة نقدية تفكيكية ثائرة على القراءة الأحادية المركزية، ومضطلعة بإبراز تصدعات المقروء وتشققاته [...] بما يفضي الى انتفاء المعنى الثابت المتماسك للنص المقروء".[17]
ويمكننا أن نستشهد أيضا بمقولة لهوتوا Hottois يعرّف فيها التفكيكية بأنها "مجموعة من التقنيات والاستراتيجيات التي استخدمها ديريدا لزعزعة استقرار النصوص التي تنحو صراحة أو ضمنا الى المثالية، وإظهار شروخها وتناقضاتها".[18]
ويبدو أن سمة الخلخلة والزعزعة والهدم والتقويض والفك والتفكيك كما شرحنا أعلاه، التي تميّز التفكيكية قد أصبحت واضحة وجلية ومفهومة الآن، وأنها تشكل روح وفلسفة هذا الاتجاه الذي يشكل كما قلنا مشهدا من مشاهد حركة ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية. وهذا الذي يؤكده عبد الوهاب المسيري الذي يربط بين ما بعد الحداثة والتفكيك بعلاقة ترادف وتلازم، "ففكر ما بعد الحداثة فكر تقويضي معاد للعقلانية وللكليات، سواء كانت دينية أم مادية، والقسمة بينهما هي كالقسمة بين النظرية والتطبيق عنده، الرؤية الفلسفية هي "ما بعد الحداثة"، أما "التفكيكية" فهي منهجها في تفكيك النصوص وإظهار التناقض الأساسي الكامن فيها".[19]
II – تشريحية الغذامي :
بعد أن تعرفنا الى روح وفلسفة التفكيكية الحقة كما مارسها ديريدا وأتباعه من التفكيكيين، يمكننا الآن أن ننظر في تشريحية الغذامي ومدى وفائها وإخلاصها لهاته الروح أو مدى بعدها عنها وتشويهها لها.
وقبل الخوض في الموضوع فضّلنا الاستشهاد والاستئناس بقول لأحمد مطلوب يقول فيه : "يشيع في الدراسات النقدية والأدبية المعاصرة كثير من المصطلحات مثل : الأسلوبية والشعرية والحداثة وما بعد الحداثة والبنيوية وما بعد البنيوية والتفسيرية والتفكيكية والتنامي والظاهراتية والسردية ونحو ذلك من المصطلحات التي استعمل معظمها في غير ما أراده أصحابها الأجانب إما لقصور في الفهم أو لسوء في التجربة، فضلاً عن الاجتهادات المتناقضة والآراء المناهضة التي حفلت بها الكتب التي صدرت في العقود الثلاثة الأخيرة في القرن العشرين".[20]
وقد تناول علي جواد الطاهر أيضا فكرة المصطلحات التي استعمل معظمها في غير ما أراده أصحابها الأجانب، فقال : "وأكثر ما نعبث بالمصطلحات الغربية نتلقفها ركضا ونستعملها تنطعا ونحشرها جهلاً... حتى لا يعود القارئ - طالب الحقيقة - يتبين طريقه".[21]
إن فهم المصطلح مسألة في غاية الأهمية، خاصة للباحث لأنه يحدد قصده أو قصد المتحدث. وكان السلف الصالح يعنون به كثيراً. وقد قال التهانوي في مشكلة اشتباه الاصطلاح "إن لكل علم اصطلاحاً به إذا لم يُعلم بذلك لا يتيسر للشارع فيه الى الاهتداء سبيلاً ولا الى فهمه دليلاً".[22]
1 – التسمية والمصطلح :
لقد تردد الغذامي كثيرا، وهو يواجه مصطلح التفكيكية الأجنبي la Déconstruction، قبل أن يستقر على مصطلح "التشريحية" كمقابل عربي له، وفي هذا الصدد يقول : "احترت في تعريب هذا المصطلح ولم أر أحدا من العرب تعرض له من قبل (على حد اطلاعي) وفكرت له بكلمات مثل (النقض/ والفك) ولكن وجدتهما يحملان دلالات سلبية تسيء الى الفكرة. ثم فكرت باستخدام كلمة (التحليلية) من مصدر (حلّ) أي نقض ولكنني خشيت أن تلتبس مع (حلل) أي درس بتفصيل. واستقر رأيي أخيرا على كلمة (التشريحية أو تشريح النص). والمقصود بهذا الاتجاه هو تفكيك النص من أجل إعادة بنائه وهذه وسيلة تفتح المجال للإبداع القرائي كي يتفاعل مع النص".[23]
ومرة أخرى يسميه عبد الله الغذامي "علم النقد التشريحي" Deconstructive Criticism.[24]
ونلاحظ هنا - كما قلنا سابقا – أن الغذامي شأنه شأن الكثير من النقاد العرب يشعرون وكأن التقويض والهدم في التفكيكية سمة سلبية لا يمكن أن تتسم بها، ومن ثم وجب تخليصها منها على الأقل من أجل توصيل صورة نقية عن التفكيك للقارئ العربي، ولذلك نجده منذ البداية يجعل غاية التفكيكية هي إعادة البناء، فيضيف إليها ما ليس منها أصلا.
وبالإضافة الى ذلك يدحض وغليسي قول الغذامي بأن لا أحد من العرب عرض لهذا المصطلح قبله، ويؤكد أن سامي محمد قد وضع مصطلح "التفكيكية" مقابلا للمصطلح الأجنبي، في ترجمته لمقالة عنوانها : "نقد بعض ملامح المنهج البنيوي في النقد الأدبي" لصاحبها "ليوتيل أيبل" نشرها في مجلة "الأقلام" العراقية عدد 11 سنة 1980. ولعله يكون بذلك أول من وضع المصطلح العربي الذي استعمل بعد ذلك بكثافة تداولية كبيرة لدى الكثير من الباحثين.[25]
2 – تفكيكية أم تشريحية غذامية ؟
لقد كان الغذامي يسعى الى تطبيق النهج التشريحي على أدب حمزة شحاتة، فوصف مقاربته التشريحية بهذه الكلمات : "وما دام النص جسدا، فلا بد أن يكون القلم مبضعا يلج الى هذا الجسد لتشريحه من أجل سبر كوامنه وكشف ألغازه في سبيل تأسيس الحقيقة الأدبية لهذا البناء، أي أن ذلك تفكيك ونقض من أجل البناء وليس لذات الهدم. وهي عملية مزدوجة الحركة حيث نبدأ من الكل داخلين الى جزئياته لتفكيكها واحدة واحدة، لنعيد تركيبها مرة أخرى كي نصل الى كلٍّ عضوي حي لها، ولكنه يختلف عن "الكل" الأولي من حيث إن للأخير فعالية نتجت عن القراءة الابتكارية للنص المشرّح، بينما الكل الأولي كان حتمية إنشائية مفروضة".[26]
ولأن الغذامي يدرك أن تشريحيته هذه تختلف عن "التفكيكية" التي أسس لها ديريدا فإنه يوضح موقفه قائلا : "وهذه تشريحية تختلف عن تشريحية ديريدا، تلك التي تقوم على محاولة نقض منطق العمل المدروس من خلال نصوصه، وأنا لم أعمد إليها هنا لأنها لا تنفعني في هذه الدراسة. ولقد استخدمها ديريدا لأنه كان يهدف إلى نقض فكر الفلاسفة من قبله".[27]
لقد أصبح انحراف الغذامي واضحًا هنا باعترافه شخصيًا، فبينما تسعى التفكيكية الى نقض العمل المدروس وهدمه من خلال الكشف عن تناقضاته، تسعى تشريحية الغذامي الى "التحليل" بدل التفكيك، والى إعادة البناء وليس الى التقويض. وهذا ما يجعلها أبعد عن تفكيكية ديريدا وأقرب الى "تشريحية" عبد الملك مرتاض التي كان يريد بها "القراءة المجهرية" microlecture للنص من أجل تسليط الضوء عليه من كل زواياه الممكنة، وليس التشريحية بمفهوم التفكيك أو التقويض.[28]
وفي تحليله التشريحي لأدب حمزة شحاتة يعتمد الغذامي نموذجين اثنين، الأول هو نموذج الجمل الشاعرية، والثاني هو نموذج الخطيئة والتكفير.
يقوم النموذج الأول على مقولة تداخل النصوص، ومعنى هذا أن كل كلمة أو جملة في النص "تستطيع أن تتوجه الى نص أو نصوص أخرى غير ما قد تتوجه إليه زميلاتها في نفس النص، وذلك حسب قدرة كل واحدة منهن على الحركة".[29]  "ولذا فإن التحليل التشريحي للنص، من أجل أن يعقد العلاقة بين النصوص المفترض تداخلها، لا بد أن يكسر النص الى وحدات ويميزها ليقيم الصلة بينها وبين مداخلاتها. وهذه العملية لا بد أن تتضمن التمييز بين وحدة وأخرى من حيث قدرة الوحدة على الحركة. وبكل تأكيد فإن الوحدات لا تتماثل من حيث هذه القدرة. لأن هذه صفة إبداعية راقية جدا قلما تتيسر للمبدع إلا في حالات محددة، بينما تتقاصر هذه الصفة في مواطن كثيرة في نفس النص. ولذا فإننا نجد وحدة حرة وبجانبها وحدات مقيدة، مما يجبرنا على تمييزها عن بعض لأن التداخل يختلف تبعا لهذا التمايز".[30]
"ولذلك فإنني سعيت الى تفكيك النصوص الى وحدات، وسأسمي الوحدة "جملة" [...] [وهذه الجملة] تمثّل "صوتيم" النص بحيث لا يمكن كسرها الى ما هو أصغر منها. [...] ولذا فإن الجملة قد تطول وقد تقصر، وبترها يفسدها. وهي تختلف كل الاختلاف عن الجملة النحوية، لأن جملتنا هنا هي جملة قول أدبي تام لا تحده حدود النحو".[31]
ويضرب لنا مثلا بخمسة أبيات لدريد بن الصمة يجعلها "جملة أدبية" واحدة.
ثم يكمل الغذامي شرح نموذجه القائم على الجملة الشاعرية كما أشرنا إليه أعلاه : تبدأ القراءة التشريحية إذن "من النص لتفكّكه الى "جمل"، ويتم تمييز هذه الجمل وتصنيفها حسب مستواها الفني، ثم نقوم بإدراج كل مجموعة مع مماثلاتها في النصوص الأخرى لنفس الكاتب (بغض النظر عن التمييزيات العرفية بين ما هو شعر وما هو نثر – فليس لدينا هنا شعر أو نثر وإنما الذي لدينا هو : النص الشاعري). ومن هذا التمييز والدمج للجمل نستخرج من الأعمال الكاملة نصوصا جديدة قمنا نحن بترتيبها. وبهذا فإننا قد نخرج مقاطع من قصائد ونضعها في أماكن أخرى، وربما وجدنا بيتا من الشعر جاء على أنه شعر ولكننا لا نلمس فيه "شعرية" فنحن عندئذ نبعده وننفيه الى مكانه اللائق به، وفي المقابل قد نجد جملة جاءت وسط مقال نثري، ولكننا نلمس فيها قوة شعرية مشعة تثب بها من فوق النص لتكسر حواجز النصوص محاولة الفرار الى عالمها الشعري. [...] وهذه هي الجملة الشاعرية (أي الشعرية بحق) التي تأبى إلا الانطلاق كإشارة حرة وتتيح لنا أن نؤسس منها ومن مماثلاتها نصا جديدا مفتوحا على كل النصوص الممكنة له. وهذا صنيع لا يمكننا فعله إلا بتشريح النص وتفكيكه الى جمل. ومن هنا نستطيع كتابة "النص الشحاتي الشامل" الذي من خلاله نفسّر ونفهم فهما واعيا حركة الكاتب مع العالم، وصلته به قبولا أو رفضا. [...] كما يمكننا من تنقية الشعر مما هو ليس بشعر ومن ترقية القول الفني الى رتبته اللائقة به".[32]
إذن هذه هي التفكيكية كما يريدها الغذامي، لا تبحث في شروخ النص وتناقضاته، ولا تريد إبطال تمركزه المنطقي، أو محاولة انغلاقه على معنى مستقر، وإنما تفككه الى "جمل" تنتقي منها ما هو شاعري فقط وتهمل الباقي، ثم تجمعها مع الجمل الشاعرية التي وجدتها في نصوص أخرى لنفس الكاتب حتى ولو كانت مقالة أو نثرا، لتبني نصا كليا جديدا هو "العمل الكامل" "الذي هو مجموع ما كتبه حمزة شحاتة من شعر أو نثر أو مقالة أو أي مقولة أدبية شحاتية". "وبالتالي بناء "الشحاتية" التي هي النص المطلق لما خطه قلم حمزة شحاتة".[33] وكأني بالجمل أصبحت أقرب الى جمل أخرى في نصوص أخرى منها الى الجمل التي تجاورها في النص نفسه. خرجنا من النص الى مقولة جديدة لسنا نعرف كيف نسميها، مجموعة من المقاطع مركبة الى بعضها البعض أو أعيد بناؤها على أساس واحد هو "الشاعرية". الجامع الوحيد الذي يجمعها هو "الانتماء" الى مؤلف واحد، في حين أن "موت المؤلف" كان أهم مظهر من مظاهر التفكيكية والمشهد ما بعد الحداثي وما بعد البنيوي. ثم لقد أصبح موضوع التشريحية أيضا تنقية الشعر مما ليس منه. ولم يعد النص يهدف الى معنى وإنما الى إحداث "الأثر" الجمالي طبعا،[34] وهذا ربما ما يجعل - إعادة البناء كما يفهمها الغذامي – ممكنة.
ثم يؤكّد الغذامي أن هذه هي مهمة الناقد، فلئن كان من غير الممكن أن يتخلص المبدع من الجمل غير الشعرية في شعره ونثره وكتاباته، فعلى الناقد أن يميّز هذا النوع من الأدب حتى لا يختلط بالرائع منه. وهذا بالضبط ما فعله هو مع أدب حمزة شحاتة : "ولقد عمدت حينئذ الى عزل ما هو "شعري" وضممته الى "الجمل الإشارية الحرة" بينما أغفلت الباقي".[35]
إن الغذامي هنا يبني نموذجه على أرضية هشة جدا، وشديدة الانزلاق، لأنه في سبيل هذا النموذج – كما يقول صراحة - أسقط الحدود بين ما هو شعر وما هو نثر،[36] فلم يعد هناك فاصل يفصل بينهما، وبذلك يكون قد حل بحركة سحرية بسيطة من يده أعوص مشكلة في الأدب، وهي ما الذي يميّز الشعر ويجعل منه شعرًا. وبالحركة السحرية نفسها نسف مقولة "النص"، فلم يعد النص يشكّل وحدة عضوية كما كان في السابق، ولم تعد مهمة النقد أن يفسّر ويفهم العلاقات الكلية التي تربط جزئيات النص الواحد، وإنما أصبحت مهمته أن يكشف عن "علاقات كلية تربط جزئيات معينة من عمل معيّن مع جزئيات أخر في نصوص أخرى لنفس المبدع. وهي جميعها نتاجٌ موحد الهوية، لأنها تولدت داخل رحم واحد، وتحمل في طياتها خصائص متماثلة، لأنها صهرت جميعها داخل نفس البوتقة. وهي ربما تماثلت وتطابقت – وإن تباعدت مواطنها – حتى لتتماثل جمل من نصوص متفرقة تماثلا يوحد فيما بينها، ويؤسس فيها علاقاتها، أكثر من تماثلها مع جمل تجاورها في نفس النص، لكنها تختلف عنها في قيمتها الفنية. وهذا ما جعلنا نفكك النصوص إلى جمل، فنأخذ ما كان منها شاعريا ونضمه الى مثيلاته في النصوص الأخرى، ونبعد منها ما هو غير شاعري ونغفله من دراستنا، ولا نجعل وروده في نفس النص سببا لاعتباره، وذلك عندما لا تبلغ الجملة مستوى الأداء الشاعري، ومجاورتها لجملة شاعرية لا يشفع لها لدى القارئ، ولا يستلزم منا أن نقيم لها دورا في قراءتنا. وليس التجاور هنا إلا مجرد تزامل وقتي يحدث من تداخل التصارعات وقت الإنشاء، وهذا يوجد مجاورة لغوية وينتج عنه البناء الخاص لذلك النص المعين، ولكنه بناء قاصر ومحدود ومغلق. بينما "التماثل" يتحرك بطاقة فنية تؤسس علاقة دائمة يحدث عنها ما يمكن تسميته بالبنية الكلية لعمل الأديب ككل أي النموذج القرائي الشامل. وبذلك نفرّق بين "التجاور" بين الجمل مما هو نتاج المصادفة الإنشائية، وبين "التماثل" فيما بينها مما هو نتيجة للتفاعل الحضاري والنفسي للكاتب في معاناته للصياغة الإبداعية : الإنشاء اللغوي".[37]
إذن تحِّل مَحل مقولة "النص" مقولة جديدة هي "عمل الأديب ككل" ولكن ليس باعتباره مجموع أعماله كلها، وإنما باعتباره مجموع من شتات مختلف، من أجزاء ومقاطع مقتطعة ومجزوءة من نصوص كثيرة نجمعها ونولِّف بينها – لا نعرف كيف - في "نص واحد جديد". ولم نعد نفهم كيف تكون علاقة التجاور بين الجمل داخل النص الواحد مجرد "تزامل وقتي"، وينجم عنه بناء نصي "قاصر ومحدود ومغلق"، في حين أن "التجاور" و"التعالق" الحق يكون بين الأجزاء المجزوءة والمقاطع المقتطعة من نصوص مختلفة ومتفرقة بين الشعر والنثر والمقالة !!
وهذا أمر طبيعي جدًا (؟؟!!) كما يقول الغذامي، "ومثله كذلك لو أخذنا ثمار هذه الشجرة ولتكن برتقالا، فجمعناها مع ثمار برتقالة أخرى، لكان هذا أمرا طبيعيا جدا، وهذا ما سنفعله حينما نقوم بجمع وحدات الجمل الشاعرية من قصائد ونصوص متفرقة ثم نقوم بجمعها مع بعضها البعض، وكأنها ثمار لأشجار تجانست، مما يجعل الجمل كليات عضوية تميزها الشاعرية وتوجهها نحو بناء النموذج".[38]
يؤسس الغذامي لنموذجه الأول الذي يبدو أنه شعري خالص، ليفاجئنا بنموذج ثانٍ يقوم على "الدلالة" التي أقصاها قبل حين فقط.
نموذج الخطيئة والتكفير :
يقول الغذامي منتقلا من الجانب الشعري الى الجانب الدلالي : "ومن خلال هذه الوظيفة الفنية للجملة يصبح العمل الأدبي بمجمله إشارات دلالية الى النموذج الأعلى لذلك العمل الذي هو جماع إنتاج الأديب المعين. ودلالات العمل هذه هي دلالات ضمنية غالبا ما تكون مبهمة".[39]
وهنا حق لنا أن نتساءل بكل براءة، هل تتم عملية إعادة البناء على أساس "الشاعرية" أم على أساس "نموذج دلالي" ؟ ببساطة لأن النموذجين متناقضان تماما.
ومن خلال قراءته لأدب حمزة شحاتة (شعرا ونثرا وحكمة ورسائل) برزت له المرأة بكل معانيها وصورها ووجوهها المتناقضة، وكذا صورة الرجل يقف في مواجهتها في امتحان صعب جدا. ثم يربط هذه العلاقة (الرجل/ المرأة) بالخطيئة القديمة، بتاريخ البشر الأزلي وقصته الأولى، وهي قصة من الثنائيات الكثيرة المتعارضة المتناقضة. ويدعم الغذامي الرواية المسيحية فيجعل المرأة هي سبب الخطيئة، فيجعلها في المركز ويضيف إليها عناصر جديدة : التفاحة والمنفى (الأرض)، والهبوط أو الطرد والنفي والشعور بالندم والإثم، والوعد بالفردوس إن هو عمل بشروط العودة، "وهكذا يدخل آدم ومن بعده "بنوه" في صراع دائم بين قطبين أزليين هما الخطيئة والتكفير".[40]
ومن هنا تصبح علاقة شحاتة مع المرأة تمثلا أدبيا لقصة البشر من خلال أبيهم. فتحكمه في علاقته بالمرأة كل الثنائيات السابقة أعلاه : الحب والخوف. "وكل نصوص شحاتة ترسم هذه العلاقة".[41]
إن العلاقة بين شحاتة والمرأة قائمة على الخوف والإغراء، فتكون صورة التفاحة مركزية، إنها محرمة لكنه يقع في فخ الإغراء فيتناولها ويأثم "وهكذا كان شحاتة فهو يحذّر نفسه بادئ ذي بدء من الارتباط بالمرأة [...] ولكنه يقع في حبائلها أخيرا ويرتبط بالمرأة ثلاث مرات متوالية".[42]
ويبدو أن النص الآن لم يعد مرتبطا باللغة ومفتوحا عليها، ولم يبق ثمة أية دعامة ترفد الحس التفكيكي أو حتى البنيوي لدى الغذامي، ولم يعد النص وثيق الصلة بمؤلفه فقط، بل أصبح صورة عن معاناته وعقده النفسية، وبكل بساطة فقد وصلنا الى المخرج الذي لم نفكّر فيه إطلاقا : التحليل النفسي للأدب : "وبذلك يرتكب الإثم ويقترف الخطيئة، مكررا بذلك صنيع أبيه آدم من قبل، والآثم لا بد له من عقاب ولهذا فإن شحاتة يكتب على نفسه العقاب فيسجنها في شقة معزولة في القاهرة، ويحرّم عليها كل متع الحياة، فلا وظيفة ولا زواج، ويمنع عن نفسه حتى الاختلاط بالبشر، ويحرّم عليها الشهرة، فيأخذ بحرق أدبه ولا يسمح لأحد بأن ينشر له شيئا من شعره، وينفي عن نفسه صفة الأديب ويغضب على من وصفه بهذه الصفة. ويكتب على نفسه "الشقاء" لأنها أثمت بارتكابها للخطيئة كما أثم آدم عليه السلام فأخطأ، وكان جزاؤه الهبوط من الأرض مبعدا عن الفردوس. وكذلك شحاتة يطرد نفسه من الفردوس وينفيها الى الأرض".[43]
وهكذا تكتمل حلقات النموذج الست : آدم وحواء والفردوس والأرض والتفاحة وإبليس.[44]
"وهو نموذج سداسي تتحرك نحوه نصوص أدب شحاتة لتشكل به نموذجها الأعلى وهو "النص الشحاتي التام". ولقد نبع هذا النموذج من قلب النصوص الشحاتية".[45]
ثم فرضًا لو سلّمنا بمعقولية النموذج الدلالي، أليس مركزية الدلالة وحدوية الدلالة هي ما تريد التفكيكية تقويضه ؟ هل يمكن اختزال أدب حمزة شحاتة كله في هذا النموذج ؟ ألم يقل الغذامي مع رولان بارث والتفكيكيين أن النص يتحدى كل حواجز العقلانية والقرائية وقواعدهما وبذلك فهو يتجاوز كل التصنيفات والطبقيات التقليدية، وأنه غير قابل للانغلاق أو التمركز لأنه يتميز بالتحول اللامحدود للمدلولات ؟[46] إن رائحة "التمركز" هنا عند الغذامي تزكم الأنوف في حين أن التفكيكية تقوم في روحها على نقد المركز ونفيه.
ورغم هذا كله، ورغم البعد الفرويدي في تحليل الغذامي حيث يؤكد أن النموذج الدلالي الذي يقترحه علينا يجعلنا "نستطيع أن نفهم أدب شحاتة، وأهم من ذلك نستطيع أن نفهم نفسية حمزة شحاتة"،[47] إلا أنه يصر على أن ما يفعله من صميم المنهج التشريحي : "وقراءتنا لهذا النموذج الشامل كانت تستلزم منّا نهجًا "تشريحيا" يقوم على تفكيك العمل من أجل إعادة تركيبه. ولقد أمدتنا المدرسة التشريحية في النقد بوسائل هذا النهج، وكان خيط المرأة هو المفتاح الذي ما إن استللناه حتى تلاحقت في إثره كافة العناصر. وهذا النهج كان يستدعي منا أن نضم ما يبدو ظاهريا على أنه شتات متفرق – نضمه ليصبح عملا واحدا منتظما. وهذا جعلنا نأخذ بالجمل الشاعرية فنفتح لها طريقا للتداخل فيما بينها ونرفع عنها قيود حدود النص. وبذلك تتحرك الجملة الشاعرية الواحدة من داخل أحد النصوص النثرية لتتعانق مع مثيلتها في نص يعد فنيا على أنه شعر. وهذا يكسر مفهوم عزلة القصيدة أو ما يسمى وهمًا بوحدتها".[48]
وعند هذه النقطة لا يخرج الغذامي عن روح التفكيكية فقط بل ويتعدى عليها تعديا سافرا صارخا من حيث يشعر أو ربما من حيث لا يشعر.
إن هدف الغذامي الأخير من دراسته "التشريحية" لأدب شحاتة كما حدده بنفسه : هو أن يجمع ثمارا يانعة مختلفة يقطفها من أشجار شحاتة الأدبية المختلفة أيضا ويشكل منها مائدة تتفتح لها نفس كل عاشق للأدب والجمال.[49] وهذا كفيل بأن يبيّن لنا موقع تشريحية الغذامي من التفكيكية.
ويعترف الغذامي أن تشريحيته تقوم على مبدأ توفيقي يقوم على الاستثمار في جملة من المقولات النقدية التي تتنوع كثيرًا وتجمع في الأخير بين اتجاهات مختلفة بل ومتضاربة في بعض الأحيان، فهو يتناول مبادئ "الشاعرية" و"البنيوية" و"السيميولوجيا" و"التشريحية" التي تنطلق وتتأسس كلها في نظره من مبادئ "الألسنية" "ليأخذ منها منهجه في النقد".[50] ولهذا فإنه من الطبيعي أن تختلط تشريحيته و"تتلوث" و"تتشوه" بمفاهيم المناهج الأخرى التي يبدو أن الغذامي يستثمر فيها كلها كما ذكرنا أعلاه. مفاهيم "السياق" و"الشفرة" و"الشاعرية" و"الأثر" الذي يمارسه النص و"تفسير النصوص" (نظرية القراءة والتأويل)، و"تداخل النصوص" أو "التناص الداخلي" بما هو تقاطع للنص مع نصوص أخرى للكاتب نفسه، و"التناص" بمفهوم جيرار جينات بما هو "جامع النص" حيث تدرج القصيدة ضمن جنسها الأدبي الذي تنتمي إليه... الخ (انظر: الغذامي، الفصل الأول)، وكل هاته المفاهيم لا تمت بصلة الى الممارسة التفكيكية.
وحتى عندما يستخدم الغذامي المصطلحات والمفاهيم التفكيكية فغالبا ما يستعملها "بدلالات إجرائية خاصة تفرغها من محتواها الاصطلاحي، ومن ذلك استعماله لمفهوم "الأثر" الذي [هو] أدنى الى مفهوم effet de sens لدى غيوم منه الى مفهوم trace عند ديريدا".[51] ويظهر ذلك جليا في تأكيده أن "النص لا يكتب إلا من أجل الأثر، إذ لا أحد يكتب شعرا لينقل إلينا أقوال الصحف، وإنما يكتب الشعر طلبا لإحداث "الأثر".[52] ثم يجعل هدف التشريحية هو البحث عن هذا الأثر وتصيده واستخراجه من جوف النص كما يقول،[53] وهي غاية بعيدة جدا عن اهتمامات التفكيكية الحقة.
ولكن محمد أحمد البنكي يعتبر كتاب الغذامي وكذلك الأصداء القوية التي أثارها "علامة ملحوظة في التدليل على تزايد الاهتمام العربي بقراءة ديريدا ومحاولات توظيف استراتيجيات التفكيك"،[54] في حين يُكسب فاضل ثامر كتاب الغذامي الريادة العربية في مجاله، ويرى أنه أول دراسة نقدية عربية تعلن انتماءها لمنهج القراءة التفكيكية.[55] أما معجب الزهراني فيرى بأنه "أول وأهم محاولة جادة لطرح القضايا الجمالية المتعلقة بالنص الأدبي إنجازا وتلقيا ومن منظور حديث وجديد تماما على الخطاب النقدي التقليدي السائد في هذه المنطقة الى وقت قريب".[56] ويؤكد أيضا بأن هذا الكتاب "هو أول إنجاز نقدي في الجزيرة العربية يسعى الى التعريف بالاتجاهات النقدية الألسنية الحديثة ويعمل على استثمارها نظريا ومنهجيا".[57] وهي المشايعة والمبايعة نفسها التي نجدها عند محمد جمال باروت، حيث يؤكد "الدور التأسيسي الذي لعبه "الخطيئة والتكفير" في إنتاج "أول وأهم" محاولة لتأسيس النظرية واستثمارها نظريا وتطبيقيا في المتن النقدي السعودي خصوصا وفي منطقة الخليج العربي عموما، وفي المتن النقدي العربي الحديث كذلك".[58]
ومن جهة أخرى نجد محمد أحمد البنكي يلفت الانتباه الى سمة طاغية في "تشريحية" الغذامي، فهو يرى أن نقل المفاهيم والأفكار والنظريات الى لغة أخرى أو حقل معرفي آخر نشاط تحويلي بالضرورة، ويعتبر كتاب "الخطيئة والتكفير" – وهو ينقل أفكار دريدا - "نموذجا لما يصاحب هذا النشاط التحويلي من تحوير وتطوير وتغيير وتكييف".[59] 
ويذهب البنكي الى أن الغذامي يعرض المفاهيم والمتصورات بلغة شاعرية أو مجازية وهو نمط خاص من أنماط الأداء الفلسفي، ذلك أن اللغات الشارحة مهما حاولت الموضوعية والحياد والنقل المباشر والدقيق إلا أنها لا محالة ستقع في التصوير والتشبيه والتقريب، فيتشابك الاصطلاحي بالمنزاح عن المعيار والتقعيدي بالتخييلي. ومن هنا يقع في الزلل كل متتبع لما يعرضه الغذامي حول التفكيك، إذَا هو لم يأخذ هذه المسألة بعين الاعتبار.[60] فالغذامي – في نظر البنكي دوما – مثل رولان بارث، تتحرك تصوراته ومفاهيمه في دينامية جمالية متحررة من قيود الإشارة، "إنه يقدم نص متعة فيما هو يصوغ خطابا معرفيا يميل الى التماسك. ونصه لذلك نص متوتر دائما، من حيث هو يريد الإفادة وزيادة، ويروم الأداء والتحسين الذي يغلف ذلك الأداء".[61]
وإذا أضفنا الى ذلك انزلاقية وزئبقية المفاهيم المفتاحية في التفكيك في لغة ديريدا وبول دي مان وغيرهما من التفكيكيين، "فإن التلابسات والتداخلات التي تعرض في قراءة الغذامي لاستراتيجيات التفكيك [تصبح] طبيعية، وواردة، ومتوقعة".[62] 
ولكننا نعتقد أن "تشريحية" الغذامي لم تكن شاعرية الى الدرجة التي أشار إليها البنكي، بل بالعكس تماما، فالغذامي في الكثير من المناسبات يشرح تفكيكيته الخاصة أو ما يفهمه هو من التفكيكية كنظرية وما يريده منها كممارسة، فنجده يتحدث – بوضوح كبير، وبلغة واضحة – عن مقولات لا تمت الى التفكيك بشيء.
بل ويتحوّل الأمر عنده الى الجمع بين مناهج مختلفة متناقضة في روحها وتوجهاتها وممارساتها، كالنصانية، والبنيوية، والسيميولوجيا، والتفكيك الذي يسميه هو التشريح، وحتى المنهج النفساني (انظر: الغذامي، الفصل الثاني)، فيتحوّل المنهج عنده الى تلفيق – وليس توفيقا – بين هذه المناهج المختلفة التي لا تقبل الاندماج والذوبان في بوتقة واحدة، بل ويتحوّل الأمر عنده الى نوع من التناقض والخلط والفوضى المنهجية، ولكن البنكي يطرح المسألة من زاوية أخرى، فهو ينظر الى مقترحات الغذامي وأطروحاته على أنها "تتوفر على دينامية متحولة وموّارة، تأخذ وتدع، وتغيّر وتبدّل، وتبقي وتذر متعاملة مع المفهوم بروح قلقة وشكّاكة ومستعدة لإعادة النظر. هكذا تطفو مفاهيم وتعود وتنزلق لتطفو من جديد أو تغور في القيعان السحيقة مخلفة مناخا متسامحا متخففا من ربقة الحدود المغلقة والانضباطات المحسومة المريحة المستريحة".[63] ولكن يبدو لنا أن الراحة المريحة المستريحة وجدها الغذامي – على العكس مما يذهب إليه البنكي – في هذا التملص بالضبط من التقيد بروح المفاهيم ودلالاتها الأصلية وحدودها.
إن محمد أحمد البنكي يضع الغذامي تحت مظلة واحدة مع نيتشه وهيدغر وفلاسفة الاختلاف من بعده، لأنه يشترك معهم في "التجاسر على سلطة المفهوم ومناوشة الذهنية التي تميل الى إغلاق المصطلح وتحديد الأفكار الثاوية خلفه".[64] ومن هذا المنطلق – يقول  البنكي – "ربما غدت أغلب المحاولات التي حاولت أن ترى في عبد الله الغذامي نسخة عربية من دريدا بعد دوّي "الخطيئة والتكفير" مجانبة للصواب".[65]
ولكن إذا كان من الواضح أن البون شاسع بين الغذامي وديريدا، فإن السؤال الذي يبقى ملحاحا هو علاقة التشريحية الغذامية بالتفكيك ككل في روحه وتوجهه وأدواته ومفاهيمه. فهل تشريحية الغذامي وجه من أوجه التفكيك أو تيار من تياراته، أم على العكس من ذلك كما كان يقول البنكي أعلاه هي تجاسر على التفكيكية ومراجعة لها ؟ نعتقد أن تشريحية الغذامي تضيع هنا بالضبط عند مفترق الطرق.
ويخلص وغليسي الى الخلاصة التي لطالما انتظرنا الوقوع عليها : "كل هذا الكلام التفكيكي (التقويضي) العربي النظري، الذي يسعى الى محاكاة المفهوم الغربي، من الصعب الوقوع عليه مترجما في شكل ممارسات نقدية تطبيقية، وجل ما وقعنا عليه إنما كان يفعل تطبيقيا نقيض ما يقوله نظريا، وكان يحلل ويشرح ويفكك ثم يبني في إطار هو أدنى الى التصور البنيوي منه الى التقويض (التدميري !)". ويشير الى الغذامي باعتباره نموذجا حيا لتأكيد الانحراف الإجرائي عن الأصول المنهجية الغربية.[66]
أما "التشريحية" فهي "التفكيكية الغذامية"، إنها ليس ما تريده التفكيكية من النص، ولكنها ما يريد الغذامي من التفكيكية، فكثيرا ما يغيّب الغذامي الدلالة الاصطلاحية الغربية للتفكيكية، ليعوّضها – كما رأينا أعلاه – بدلالة إجرائية تعكس استعماله الخاص لها.[67]
وباختصار شديد فإن تشريحية الغذامي وتفكيكية ديريدا بينهما برزخ، لا تبغيان.[68]
                
* - صحيفة المثقف، العدد 1406، الاثنين 17/05/2010 (على شبكة الانترنت)
[1] - عبد الله محمد الغذامي، الخطيئة والتكفير، من البنيوية الى التشريحية، دراسة نقدية لنموذج معاصر، ط4، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص 64
[2] - انظر : يوسف وغليسي، إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد، ط1، الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2008، ص 340
[3] - المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[4] - المرجع نفسه، ص 344
[5] -qu’est-ce que la deconstruction ? Jacques Derrida, Le Monde, mardi 12 October 2004. Propos recueillis par R.-P. D. (article sur Internet).
[6] - انظر : يوسف وغليسي، مرجع سابق، ص 344
[7] - ميجان الرويلي، سعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، ط2، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2000، ص 53-54
[8] - المرجع نفسه، ص 13-14
[9] - انظر : يوسف وغليسي، مرجع سابق، ص 351
[10] - المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[11] - المرجع نفسه، ص 352
[12] - المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[13] - عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة، من البنيوية الى التفكيك، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عدد 232، 1998، ص 388
[14] - المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[15] - عبد الملك مرتاض، نظرية القراءة، تأسيس للنظرية العامة للقراءة الأدبية، دار الغرب، وهران، 2003، 280
[16] - انظر : يوسف وغليسي، مرجع سابق، ص 353
[17] - المرجع نفسه، ص 343
[18] - deconstruction et différance, Par Lucie Guillemette et Josiane Cossette, Université du Québec à Trois-Rivières (article sur Internet).
[19] - محمد أحمد البنكي، دريدا عربيا، قراءة التفكيك في الفكر النقدي العربي، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، دار الفارس للنشر والتوزيع، عمّان، 2005، ص 286-287
[20] -  طالب مهدي الخفاجي : مشكلة المصطلح النقدي (مقال من الأنترنت).
[21] - المرجع نفسه.
[22] - المرجع نفسه.
[23] - انظر : عبد الله محمد الغذامي، مرجع سابق، هامش ص 52
[24] - انظر : المرجع نفسه، ص 54
[25] - انظر :  يوسف وغليسي، مرجع سابق، ص 345
[26] - عبد الله محمد الغذامي، ص 88
[27] - عبد الله الغذامي، ص 88-89
[28] - عبد الملك مرتاض، مرجع سابق، ص 61
[29] - عبد الله محمد الغذامي، ص 92
[30] - المرجع نفسه، ص 93
[31] - المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[32] - المرجع نفسه، ص 95
[33] - المرجع نفسه، ص 91
[34] - المرجع نفسه، ص 97
[35] - المرجع نفسه، ص 106
[36] - المرجع نفسه، ص 116
[37] - المرجع نفسه، ص 117
[38] - المرجع نفسه، ص 118
[39] - المرجع نفسه، ص 112
[40] - المرجع نفسه، ص 114
[41] - المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[42] - المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[43] - المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[44] - المرجع نفسه، ص 115
[45] - المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[46] -  المرجع نفسه، ص 64
[47] - المرجع نفسه، ص 115
[48] - المرجع نفسه، ص 116، إبراز الخط من لدنّا.
[49] - المرجع نفسه، ص 119
[50] - المرجع نفسه، ص 31
[51] - يوسف وغليسي، مرجع سابق، 356
[52] - عبد الله محمد الغذامي، مرجع سابق، ص 56
[53] - انظر : المرجع نفسه، صفحات 56، 58-59
[54] - محمد أحمد البنكي، مرجع سابق، ص 119
[55] - المرجع نفسه، ص 120
[56] - المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[57] - المرجع نفسه، ص 121
[58] - المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[59] - المرجع نفسه، ص 123
[60] - المرجع نفسه، ص 124
[61] - المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[62] - المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[63] - المرجع نفسه، ص 125
[64] - المرجع نفسه، ص 126
[65] - المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[66] - يوسف وغليسي، مرجع سابق، ص 353
[67] - المرجع نفسه، ص 356
[68] - المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

 
 

"ما ينشر يعبر عن رأي صاحبه"
عبد الكريم شرفي
جامعة المدية

_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..