السبت، 18 يناير 2014

الشاطئ الآخر من مشهد الدستور الجديد

بكل تأكيد هناك رؤيتان للاستفتاء الدستوري الجديد ، من شاطئين متباينين وبينهما مسافة بعيدة ، شاطئ أنصار الفريق عبد الفتاح السيسي ومؤيديه والحالمين بمصر أقوى وأكثر أمنا ورخاء على يديه ،
وشاطئ خصوم الفريق السيسي والذين يرون مستقبل مصر مظلما ودمويا وقمعيا إذا أتى إليه رئيسا للجمهورية ، ولا يمكن فهم ما يجري في مصر والمشهد الحقيقي بكامله وتكامله إلا إذا رأى كل طرف بموضوعية وأمانة المشهد من موقع الطرف المقابل ،

 وإذا كانت هناك لخصوم السيسي ومعارضيه ملاحظاتهم النقدية الحادة على ما حدث في الاستفتاء ، وبعضه صحيح قطعا ، من ضغوط معنوية ومادية للتأثير ، وغياب الحياد الإعلامي الذي وصل لحد التضليل ، والتدخلات الأمنية القمعية ضد أي جهد سياسي معارض للدستور وصل إلى حد اعتقال من يرفع لافتة "لا" وما تردد عن تلاعب في بعض اللجان ، إلا أن للمشهد وصورته جوانب أخرى يتوجب على أنصار الرئيس السابق محمد مرسي ومؤيديه وضعه في الحسبان ، ومراجعة الحسابات ـ في تقديري ـ تصبح ضرورة وفق هذه التقديرات .

 أيا كانت النسبة التي سيخرج بها الدستور الجديد والمفترض أن تعلن غدا ، وأيا كان عدد المشاركين وأيا كان الحديث عن تلاعب ، إلا أن هناك حقيقة لا يمكن إنكارها ، وهي أن ملايين المصريين خرجوا بالفعل لتأييد الدستور الجديد ، وأعتقد أن الخريطة التي تشكلت في انتخابات الرئاسة بين مرسي وشفيق لم تتغير كثيرا ، والملايين الذين منحوا أصواتهم لشفيق في تلك الانتخابات هم الذين صوتوا أيضا للدستور الجديد وتحمسوا له ، أضيف إليهم بعض الساخطين على تجربة الإخوان ومرسي في الحكم والذين ملأهم الخوف من الممارسات الإقصائية المبكرة وما يمكن أن تفضي إليه إذا بقي الإخوان في الحكم طويلا ، بمن فيهم قطاع من السلفيين المؤيدين لحزب النور ،

والحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب أن الإخوان ومرسي أخطأوا خطأ فادحا في أعقاب الانتخابات الرئاسية عندما تجاهلوا دلالات النتائج واستغرقوا في نشوة الفوز وجني الثمرات ، كانت نتائج الانتخابات تعني بوضوح أن نصف مصر ضدك ، ليس لاختلافات سياسية أو اقتصادية ، فأنت أو خصمك لم يختبرا أصلا ، وإنما الانقسام وجودي فلا يقاس على أي بلد ديمقراطي آخر ، هو نصف لا يريدك أنت وجماعتك من حيث المبدأ ، ولا يمكن أن تكون رئيسا لنصف شعب وتنجح ، ولذلك كانت الأولوية القصوى لك كسياسي أن تعمل مبكرا وبأقصى طاقتك لاحتواء هذا النصف أو معظمه أو تخفيف عدائه لك أو أن تبرهن له سريعا أن نظرته لك وموقفه منك ليس صحيحا ،

ولكن مع الأسف كانت الخبرة السياسية لا تسمح بهذا الأفق المفتوح ، بل زادت عليها ـ بالأخطاء ـ انضمام كل شركاء ثورة يناير تقريبا لهذا النصف الخائف حتى جرى ما جرى ، وإذا كان أنصار مرسي يبحثون عن استرداد شرعية الوجود السياسي من جديد ، فإنه لا يمكنهم تجاهل أن أحد أولويات العمل الآن وفي المستقبل القريب هو إعادة تصحيح هذا الخطأ الفادح ، والتخلي عن المكابرة والادعاءات المنافية للواقع .

 المعطى الآخر في مشهد الاستفتاء ، والذي لفت انتباه الجميع ، هو عزوف الشباب عن المشاركة ، ولا يخفي المحتفلون بالنصر وبنجاح الاستفتاء أن كلمة الحسم فيه كانت للنساء وكبار السن ، ومهما حاول البعض التخفيف من هذا المعطى أو التشكيك فيه فإن الصور لا تكذب والحقيقة كضوء الشمس أكبر من أن ينكرها مكابر ، وهذه من أخطر رسائل الاستفتاء إلى أي قيادة جديدة للدولة ، وخاصة إذا جاء الفريق السيسي تحديدا للرئاسة ، الرسالة تقول أن الشباب الذين كانوا وقود الثورة ووهجها وكلمة الفصل فيها ليسوا معك ، وإن لم يكونوا ضدك فهم غير مقتنعين بك أمينا على ثورتهم ، وهذا خطير جدا على أي نظام جديد ، لأنه سيعيش هاجس مواجهة ثورة شعبية مفاجئة بصفة مستمرة بما يدخله في كوابيس القلق والإجراءات القمعية المتوالية وضياع أي فرصة لإنقاذ الوطن أو تحقيق تنمية ،

والمفارقة المحزنة أن نفس الخطأ الذي وقع فيه الإخوان خلال عام من حكمهم ، وقع فيه الفريق السيسي ورجاله خلال السبعة أشهر التي حكموا فيها حتى الآن وبصورة أكثر دموية وعنفا واتساعا في القمع ، كان السيسي في حاجة إلى إقناع النصف الآخر من الوطن واستيعابه وإقناعه أو على الأقل تخفيف شكوكه وهواجسه ، لكنه خسرهم جميعا وعمق خوفهم من نواياه ، كما أضاف إليهم خسارة بعض أهم حلفائه في موجة 30 يونيو وإذا استمرت هذه السياسات فسيخسر المزيد تدريجيا حتى لا يبقى حوله إلا حاضنة فلول نظام مبارك ،

ولذلك أتصور أن هذا البعد سيحدد مسار السياسة الداخلية المصرية في المستقبل القريب ، وظني أن أي حاكم جديد سيعمل على إنجاز حزمة إصلاحات تسترضي أشواق شباب ثورة يناير ، لأن الحكمة الأزلية أن أقصر طريق لمنع وقوع ثورة أن تحقق أهدافها .

المعطى الثالث لمشهد الاستفتاء أن الوثيقة الدستورية التي تم التصديق عليها غالبا وسيعلن عنها دستورا لمصر غدا ، تنهي تماما معظم التحالفات التي جرت بعد 30 يونيو ، لأن هذه الوثيقة ـ رغم أي تحفظات تفصيلية على بعض المواد ـ تبنت روح ثورة يناير وكثيرا من مطالبها ، وهي لا تختلف جذريا عن وثيقة الدستور السابق للجنة الغرياني ، وقد نصت ديباجتها على ذلك بوضوح ، وفلول نظام مبارك بالأساس كانوا ضد هذه الوثيقة الدستورية لأنها تتأسس على ثورة يناير أيضا إلى جانب 30 يونيو ، ولكنهم ركبوا "زفة" الاستفتاء كمشروع استثماري مفترض ، ولكن مضمون هذا الدستور في حقيقته قطع رقاب لهم ، وكانت هوجة شتيمة ثورة يناير وهجائها قد انتشرت مؤخرا على ألسنة الفلول وكتاباتهم الصحفية العلنية وحواراتهم الفضائية ووصل الحال ببعض الوزراء الفلول للتطاول على الثورة بفجور ومعظم العقيدة الأمنية للشرطة حتى الآن تعتبر ثورة يناير مؤامرة ، لو أن أحدهم بعد غد تكلم بأي كلمة سوء عن ثورة يناير أو تشويه لها أو وصمها بالمؤامرة أو غير ذلك فإنه يقدم للمحاكمة مباشرة أو يعزل من وظيفته بتهمة إهانة الدستور والتحريض عليه ، وهي مفارقة ستبرز نتائجها بعد أن تذهب السكرة وتأتي الفكرة .

بنية الدولة المصرية ما زالت على رمال متحركة منذ انتصار ثورة يناير وحتى الآن ، ولا يمكن أن تترسخ أعمدتها ودستورها وقانونها ومؤسساتها إلا إذا تم تدشين مصالحة وطنية جادة وحقيقية تفكك وتصفي ملفات الدم والنار في السنوات الثلاث الماضية ، بكل وقائعها المفجعة ، وتفتح طريقا لشراكة وطنية إيجابية وسلمية لبناء مستقبل يليق ببلدنا .

جمال سلطان
  المصريون

_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..