بعد حمد الله .. والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله .. أعتذر عن العنوان.
تابعت الجدل الدائر حول الإلحاد في السعودية .. والحلقة التي أعدها الدكتور عبد العزيز قاسم عن الموضوع،ثم مقالته التي كتبها أيضا حول القضية.
أبدي إعجابي بضيف حلقة برنامج"حراك" الباحث الأستاذ عبد الله الشهري،لحرصه على الدقة ومحاولته عدم إعطاء أرقام – للملحدين مثلا – معتمدا على الانطباع،ودون جود إحصائيات .. غير تلك الدراسة المشكوك فيها.
إن أول ما لفت نظري في الأفكار التي طُرحت – عبر البرنامج وعبر مقالة الدكتور عبد العزيز – هو توجيه الاتهام للخطاب الشرعي .. والدعاة .. فالدكتور عبد العزيز كتب يقول :
(حاورت بعض الدعاة المتصدين لهذه الظاهرة التي بدأت تتشكل في أفقنا، وقالوا إن أحد أكبر الأسباب هو عدم إنصات العلماء لهؤلاء الشباب وأسئلتهم القلقة، وعدم تفرغ الدعاة لهم أيضا. بل أحدهم يقول إن معلمة سعودية ملحدة في نهاية العشرينيات من عمرها، عندما حاورت أحد الدعاة، اتهمها بأنها مريضة نفسيا، وعليها معالجة نفسه) { رسائل مجموعة الدكتور عبد العزيز قاسم البريدية الرسالة رقم : 3162}.
كما جاء في الرسالة رقم "3160"من رسائل المجموعة عن الباحث والمهتم بالشؤون الفكرية الأستاذ عبد الله الشهري ما نصه :
(كما اتهم الشهري أسلوب ومضمون الخطاب الشرعي وأنه أحد أسباب الإلحاد والتشكيك حيث لا يوجد فيها تطوير أو مواكبة للعصر, كذلك الضغط الحضاري والثقافي والعلماني الليبرالي والرأسمالي الذي يصل إلى جميع البشر في جميع نواحي المعمورة كلها شكلت مصادر تلقي متعددة في ظل غياب ولي الأمر.)
لاشك أن الأستاذ "الشهري"كان واضحا حين قال بأن الخطاب الشرعي أحد الأسباب المؤدية إلى إلحاد الشباب.
هنا نجد أن البحث الكريم خلط بين صنفين من الدعاة،أو المفتين :
الصنف الأول : يأتيه أحد الشباب فيسأله ..وهو غير "ملحد"ولا "شاك" فيفتيه فتوى شرعية في الحلال والحرام .. فتدفعه تلك الفتوى إلى الإلحاد!! أليس هذا ما يقتضيه حديث الباحث الكريم عن الثابت والمتغير في الشرع؟
الصنف الثاني : يأتيه أحد الشباب - أو الشابات كالمثال الذي ساقه أبو أسامة - فيسأله،حول الشكوك التي تدور في ذهنه .. فيخرج من عنده وقد تحول من "شاك"إلى"ملحد"؟!
ولعل هذه العبارة تذكرنا بكتاب ذلك الألماني : (من أصولي إلى ملحد : قصة انشقاق عبد الله القصيمي : يورغن فازلا).
إذا فنحن أمام نوعين من الخطاب الشرعي .. وضعهما تحت عنوان واحد ( مضمون الخطاب الشرعي) .. لا أره عادلا .. ولا دقيقا.
فهل يلوم الباحث الكريم الذين يفتون في الحرام والحلال .. مستندين على الأدلة الشرعية؟ أم يلوم الذي عجزوا عن استعادة من ألحد ؟
هنا أعود إلى العنوان الذي وضعته على رأس هذه الأسطر .. وقد بنيته على تكرار الأستاذ عبد الله الشهري لتغير الزمن .. وتعقيد الحياة الحديثة .. وأنها أصبحت شديدة التعقيد .. وتحتاج إلى خطاب جديد .. يواكب عصر الانفتاح الثقافي .. إلخ.
وكلامه من حيث المبدأ لا غبار عليه .. ولكن ملاحظتي متعلقة بأن كلامه .. يوحي بأن الإلحاد -والشك - وليد عصرنا الحديث وهذه التقنية التي فتحت أبواب العالم على مصارعها .
من هذا العام 1435للهجرة .. أنتقل بكم إلى أبي العلاء المعري – 363 – 449هـ - وهو يرد على رسالة ابن القارح،وتحديدا ما يخص الزندقة .. والإلحاد .. وبعد أن تحدث المعري عن (أبي نواس) وما يقال عنه .. قال :
(والصحيح أنه كان على مذهب غيره من أهل زمانه،وذلك أن العرب جاءها النبي صلى الله عليه وسلم وهي ترغب إلى القصيد،وتَقْصُر همها على القصيد،فاتبعه منها مُتبعون،والله أعلم بما يوعون. فلما ضرب الإسلام بجرانه،واتسق ملكه على أركانه،ما زج العرب غيرهم من الطوائف وسمعوا كلام الأطباء وأصحاب الهيئة وأهل المنطق،فمالت منهم طائفة كثرة.
ولم يزل الإلحاد في بني"آدم"على ممر الدهور ..){ص 420 ( رسالة الغفران" للمعري : تحقيق : الدكتورة عائشة عبد الرحمن"بنت الشاطئ" / القاهرة : دار المعارف / الطبعة السادسة / 1397هـ = 1977م }.
إنها نفس الفكرة .. أن البسطاء فتحت أمامهم أبواب ثقافات أخر .. معقدة – أهل المنطق .. وعلم الهيئة – فجرفتهم في طريقها!!
هذا قبل أكثر من ألف سنة.
في تلك العصور المبكرة .. نجد نماذج لانتشار (الشك) في الناس .. يقول المعري :
( وذكر صاحب "كتاب الورقة"جماعة من الشعراء في طبقة "أبي نواس"ومن قبله وصفهم بالزندقة. وسرائر الناس مغيبة،وإنما يعلم بها علام الغيوب. وكانت تلك الحالُ تُكتم في ذلك الزمان خوفا من السيف،فلآن ظهر نجيث { في الهامش : النجيث : كأمير السر الخفي} القوم،وانقاضت التريكة عن أخبث رأل. وكان في ذلك العصر رجل له أصدقاء من الشيعة وصديق زنديق،فدعا المتشيعة في بعض الأيام،فجاء الزنديق فقرع حلقة الباب وقال :
أصبحتُ جم بلابل الصدر * منقسم الأشجان والفكر
فقال صاحب المنزل : ويحك مم ذا؟ فتركه الزنديق ومضى،فلقيه صاحب المأدبة فقال له :
يا هذا،أردتَ أن توقعني فيما أكره! - خوفا من أن يظن أصدقاؤه أنه زنديق – فقال : ادعهم ثانية وأعلمني بمكانهم. فلما حصلوا عنده،جاء الزنديق فقال :
أصبحتُ جم بلابل الصدر * منقسم الأشجان والفكر
فقال : ويحك مما ذا. قال :
مما جناه على"أبي حسن" * "عمر"وصاحبه"أبو بكر"
وانصرف.ففرح الشيعة بذلك ولقيه صاحب المنزل فقال :
جزيت عني خيرا،فقد خلصتني من الشبهة){ 432 – 433 ( رسالة الغفران)}.
بل إن أهل ذلك الزمن القديم كانوا أكثر تفلتا .. ففي زمن "المهدي" ظهر (في بلد خلف"بخارى"وراء النهر،رجل قصار أعور،عمل له وجها من ذهب وخوطب برب العزّة،وعمل لهم قمرا فوق جبل ارتفاعه فراسخ،فأنفذ "المهدي"إليه فأحيط به وبقلعته (..) و"الصناديقي" في اليمن كانت جيوشه بـ"المديخرة"وسفهنة"وخوطب برب العزة،وكوتب بها،فكانت له دار إفاضة يجمع إليها نساء البلدة كلها ويدخل عليهن ليلا. (..) وكان يقول : "إذا فعلتم هذا لم يتميز مال من مال ولا ولد من ولد،فتكونوا كنفس واحدة){ ص 32 ( رسالة ابن القارح) – 351 – 421 هـ ضمن (رسالة الغفران)}.
بحر الزندقة لا يكاد العقل يصدقه .. ونختم بالرمز الذي امتلأ به شعر الحداثة ... وكتب عنه صلاح عبد الصبور مسرحيته الشعرية (مأساة الحلاج) .. أعني ( "الحسين بن منصور الحلاج"من"نيسابور"وقيل،من"مرو"يدعي كل علم. وكان متهورا جسورا يرومُ إقلاب الدول ويدعي فيه أصحابه الإلهية،ويقول بالحلول،ويُظهر مذاهب الشيعة للملوك،ومذاهب الصوفية للعامة،وفي تضاعيف ذلك يدعي أن الإلهية قد حلت فيه. وناظره"علي بن عيسى الوزير"فوجده صفرا من العلوم.وقال :"تعلمك لطهورك وفرضك،أجدى عليك من رسائل أنت لا تدري ما تقول فيها،كم تَكتب إلى الناس : تبارك النور الشعشعاني الذي يلمع بعد الشعشعة ! ما أحوجك إلى أدب".){ ص 36 ( رسالة ابن القارح)}.
من المؤكد أن هذه الشعشاعانيات .. تذكر ببعض طلاسم الشعر الحداثي!
على كل حال .. من ألاعيب الحلاج ..( وحرك يوما يده فانتشر على قوم مسك،وحرك مرة أخرى فانتشر دراهم،فقال بعض من حضر ممن يفهم : أرني دراهم غير معروفة،أؤمن بك وخلق معي إن أعطيتني درهما عليه اسمك واسم أبيك. فقال : وكيف هذا وهذا لا يُصنع؟ قال : من أحضر ما ليس بحاضر،صنع ما ليس بمصنوع){ ص 37 ( رسالة ابن القارح)}.
وبعد .. يبدو لي في قضية الإلحاد – في عصرنا – أننا أمام ثلاثة أصناف :
صنف يعاني حرقة الشك .. القلق الوجودي.
وصنف يعاني حرقة الشهوة .. ومشكلته مع هذا الدين .. الذي يحرم الزنا .. والخمور .. إلخ.
وصنف : هم دعاة إلحاد .. سوء بأجر أو (احتسابا!!) .. وقد حاورت بعض هؤلاء .. فلم أجد لديهم حرقة الشك .. بل (أوسام ) جمع (وسم) أو ( هاش تاق) .. يسخر من الدين .. ويصفه بالخرافة العلمية .. ويمجد نظرية "النشوء والتطور"تحت دعوى أنها لا تناقض القرآن الكريم.
ومن هنا فإن دعوة الأستاذ "الشهري"والدكتور"قاسم" .. لتوحيد الجهود في مواجهة الإلحاد مقدرة .. والحاجة إلهيا ماسة .. إلا أنني أرى ألا يكون ذلك عبر(فضائية) .. وإنما عبر وسيلة مستترة .. تجنبا لإشاعة الشبه من ناحية .. وتجنبا للعنت الذي قد يبده من تُقام عليه الحجة – حسب شخصيته – فيعاند كي لا يظهر في صورة المهزوم أو الخاسر.
و النماذج التي سمعنا عن رجوعها إلى الحق كانت كلها – حسب ما يظهر – عبر حوار شخصي مباشر .. ولم يكن الرجوع عبر وسيلة عامة.. ونقشا علني.
ختما .. سبق لي أن كتبت كلمة طويلة تحت عنوان ( حوار هادئ مع الداروينيين) - وهو موجود على الشبكة العنكبوتية – وقلت فيه أنني أرى أن الروايات .. تبث في وعي القارئ ولا وعيه – وهو يتسلى – الشبه الإلحادية ..وسب الدين .. والسخرية منه .. وكأنها تمثل (مزلقانا) نحو الشكوك .. أو تهوين الدين في النفوس ... فلعلي أبسط ذلك في كلمة قامة .. إذا أذن الله.
تلويحة الوداع"1" :
لاحظ الشيخ خضر بن سند على الدكتور عبد العزيز وصفه الأستاذة حصة آل الشيخ بـ(الأخت حصة) .. (الأخت حصة) .. إلخ.
السؤال هل تقبل هي تلك الأخوة .. وهي القائلة عن الحديث الصحيح الذي يقول أن العظام طعام أخواننا من الجن،فتعلق ساخرة :
(والله إن كان الجن إخوانكم الله يهني سعيد بسعيدة)!!
أتراها تقبل أخوتك – أبا أسامة – ولك إخوان من الجن؟!!
تلويحةالوداع "2" :
أقدر تماما غيرة إخواننا في لوم بعض الدعاة،ولكن علينا عدم نسيان أن للعملة وجه آخر .. أو "استراتيجية"أخرى!!
هذا حوار دار بين بعض (الأنثويات)،عبر ندوة : ( محاولة لصياغة نظرية نسوية متقدمة) .. تقول إلهام كلاب :
(( إن نبش الماضي بهذه الصورة الجذرية،يجعلنا نقف وقفة طويلة متأملة مع الدين والأسلوب الذي تعامل به مع المرأة أو وضع المرأة في الأديان السماوية،إن نصف المعتقدات الراسخة في أذهان البشر – في الماضي القريب – والحاضر – وربما المستقبل المنظور – أتت من الديانات السماوية الثلاث،اليهودية والمسيحية والإسلام،وكل تعرض لمسألة المرأة يقود بالضرورة إلى التعرض للدين وهنا الاحتياط والفخ .. فما العمل؟)). فترد عليها ليلى الحر متسائلة :
(( ولماذا نحن مضطرون لربط تحرر المرأة العربية بإعادة النظر في الدين؟ أليس من الحكمة أن نجنّب أنفسنا سوء التفسير والحملة التي قد يشنّها المتعصبون علينا،وهم كثر،ونكتفي من نقد الدين بنقد المتدينين مثلا؟! إننا لا نستطيع بالطبع الخروج على التاريخ – والقفز عن استعمال الديانات القديمة والحديثة لعرقلة نمو وعي المرأة ولا نملك البحث في (تخلف) المرأة وصولا إلى تقدمها،ما لم نبحث في أسباب التخلف،وأولها صورتها الممسوخة والتابعة والثانوية في الأديان ..)) { ص 279 – 280 ( مجلة قضايا عربية / السنة السابعة / العدد الثاني / شباط / فبراير 1980م}.
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني.
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
تابعت الجدل الدائر حول الإلحاد في السعودية .. والحلقة التي أعدها الدكتور عبد العزيز قاسم عن الموضوع،ثم مقالته التي كتبها أيضا حول القضية.
أبدي إعجابي بضيف حلقة برنامج"حراك" الباحث الأستاذ عبد الله الشهري،لحرصه على الدقة ومحاولته عدم إعطاء أرقام – للملحدين مثلا – معتمدا على الانطباع،ودون جود إحصائيات .. غير تلك الدراسة المشكوك فيها.
إن أول ما لفت نظري في الأفكار التي طُرحت – عبر البرنامج وعبر مقالة الدكتور عبد العزيز – هو توجيه الاتهام للخطاب الشرعي .. والدعاة .. فالدكتور عبد العزيز كتب يقول :
(حاورت بعض الدعاة المتصدين لهذه الظاهرة التي بدأت تتشكل في أفقنا، وقالوا إن أحد أكبر الأسباب هو عدم إنصات العلماء لهؤلاء الشباب وأسئلتهم القلقة، وعدم تفرغ الدعاة لهم أيضا. بل أحدهم يقول إن معلمة سعودية ملحدة في نهاية العشرينيات من عمرها، عندما حاورت أحد الدعاة، اتهمها بأنها مريضة نفسيا، وعليها معالجة نفسه) { رسائل مجموعة الدكتور عبد العزيز قاسم البريدية الرسالة رقم : 3162}.
كما جاء في الرسالة رقم "3160"من رسائل المجموعة عن الباحث والمهتم بالشؤون الفكرية الأستاذ عبد الله الشهري ما نصه :
(كما اتهم الشهري أسلوب ومضمون الخطاب الشرعي وأنه أحد أسباب الإلحاد والتشكيك حيث لا يوجد فيها تطوير أو مواكبة للعصر, كذلك الضغط الحضاري والثقافي والعلماني الليبرالي والرأسمالي الذي يصل إلى جميع البشر في جميع نواحي المعمورة كلها شكلت مصادر تلقي متعددة في ظل غياب ولي الأمر.)
لاشك أن الأستاذ "الشهري"كان واضحا حين قال بأن الخطاب الشرعي أحد الأسباب المؤدية إلى إلحاد الشباب.
هنا نجد أن البحث الكريم خلط بين صنفين من الدعاة،أو المفتين :
الصنف الأول : يأتيه أحد الشباب فيسأله ..وهو غير "ملحد"ولا "شاك" فيفتيه فتوى شرعية في الحلال والحرام .. فتدفعه تلك الفتوى إلى الإلحاد!! أليس هذا ما يقتضيه حديث الباحث الكريم عن الثابت والمتغير في الشرع؟
الصنف الثاني : يأتيه أحد الشباب - أو الشابات كالمثال الذي ساقه أبو أسامة - فيسأله،حول الشكوك التي تدور في ذهنه .. فيخرج من عنده وقد تحول من "شاك"إلى"ملحد"؟!
ولعل هذه العبارة تذكرنا بكتاب ذلك الألماني : (من أصولي إلى ملحد : قصة انشقاق عبد الله القصيمي : يورغن فازلا).
إذا فنحن أمام نوعين من الخطاب الشرعي .. وضعهما تحت عنوان واحد ( مضمون الخطاب الشرعي) .. لا أره عادلا .. ولا دقيقا.
فهل يلوم الباحث الكريم الذين يفتون في الحرام والحلال .. مستندين على الأدلة الشرعية؟ أم يلوم الذي عجزوا عن استعادة من ألحد ؟
هنا أعود إلى العنوان الذي وضعته على رأس هذه الأسطر .. وقد بنيته على تكرار الأستاذ عبد الله الشهري لتغير الزمن .. وتعقيد الحياة الحديثة .. وأنها أصبحت شديدة التعقيد .. وتحتاج إلى خطاب جديد .. يواكب عصر الانفتاح الثقافي .. إلخ.
وكلامه من حيث المبدأ لا غبار عليه .. ولكن ملاحظتي متعلقة بأن كلامه .. يوحي بأن الإلحاد -والشك - وليد عصرنا الحديث وهذه التقنية التي فتحت أبواب العالم على مصارعها .
من هذا العام 1435للهجرة .. أنتقل بكم إلى أبي العلاء المعري – 363 – 449هـ - وهو يرد على رسالة ابن القارح،وتحديدا ما يخص الزندقة .. والإلحاد .. وبعد أن تحدث المعري عن (أبي نواس) وما يقال عنه .. قال :
(والصحيح أنه كان على مذهب غيره من أهل زمانه،وذلك أن العرب جاءها النبي صلى الله عليه وسلم وهي ترغب إلى القصيد،وتَقْصُر همها على القصيد،فاتبعه منها مُتبعون،والله أعلم بما يوعون. فلما ضرب الإسلام بجرانه،واتسق ملكه على أركانه،ما زج العرب غيرهم من الطوائف وسمعوا كلام الأطباء وأصحاب الهيئة وأهل المنطق،فمالت منهم طائفة كثرة.
ولم يزل الإلحاد في بني"آدم"على ممر الدهور ..){ص 420 ( رسالة الغفران" للمعري : تحقيق : الدكتورة عائشة عبد الرحمن"بنت الشاطئ" / القاهرة : دار المعارف / الطبعة السادسة / 1397هـ = 1977م }.
إنها نفس الفكرة .. أن البسطاء فتحت أمامهم أبواب ثقافات أخر .. معقدة – أهل المنطق .. وعلم الهيئة – فجرفتهم في طريقها!!
هذا قبل أكثر من ألف سنة.
في تلك العصور المبكرة .. نجد نماذج لانتشار (الشك) في الناس .. يقول المعري :
( وذكر صاحب "كتاب الورقة"جماعة من الشعراء في طبقة "أبي نواس"ومن قبله وصفهم بالزندقة. وسرائر الناس مغيبة،وإنما يعلم بها علام الغيوب. وكانت تلك الحالُ تُكتم في ذلك الزمان خوفا من السيف،فلآن ظهر نجيث { في الهامش : النجيث : كأمير السر الخفي} القوم،وانقاضت التريكة عن أخبث رأل. وكان في ذلك العصر رجل له أصدقاء من الشيعة وصديق زنديق،فدعا المتشيعة في بعض الأيام،فجاء الزنديق فقرع حلقة الباب وقال :
أصبحتُ جم بلابل الصدر * منقسم الأشجان والفكر
فقال صاحب المنزل : ويحك مم ذا؟ فتركه الزنديق ومضى،فلقيه صاحب المأدبة فقال له :
يا هذا،أردتَ أن توقعني فيما أكره! - خوفا من أن يظن أصدقاؤه أنه زنديق – فقال : ادعهم ثانية وأعلمني بمكانهم. فلما حصلوا عنده،جاء الزنديق فقال :
أصبحتُ جم بلابل الصدر * منقسم الأشجان والفكر
فقال : ويحك مما ذا. قال :
مما جناه على"أبي حسن" * "عمر"وصاحبه"أبو بكر"
وانصرف.ففرح الشيعة بذلك ولقيه صاحب المنزل فقال :
جزيت عني خيرا،فقد خلصتني من الشبهة){ 432 – 433 ( رسالة الغفران)}.
بل إن أهل ذلك الزمن القديم كانوا أكثر تفلتا .. ففي زمن "المهدي" ظهر (في بلد خلف"بخارى"وراء النهر،رجل قصار أعور،عمل له وجها من ذهب وخوطب برب العزّة،وعمل لهم قمرا فوق جبل ارتفاعه فراسخ،فأنفذ "المهدي"إليه فأحيط به وبقلعته (..) و"الصناديقي" في اليمن كانت جيوشه بـ"المديخرة"وسفهنة"وخوطب برب العزة،وكوتب بها،فكانت له دار إفاضة يجمع إليها نساء البلدة كلها ويدخل عليهن ليلا. (..) وكان يقول : "إذا فعلتم هذا لم يتميز مال من مال ولا ولد من ولد،فتكونوا كنفس واحدة){ ص 32 ( رسالة ابن القارح) – 351 – 421 هـ ضمن (رسالة الغفران)}.
بحر الزندقة لا يكاد العقل يصدقه .. ونختم بالرمز الذي امتلأ به شعر الحداثة ... وكتب عنه صلاح عبد الصبور مسرحيته الشعرية (مأساة الحلاج) .. أعني ( "الحسين بن منصور الحلاج"من"نيسابور"وقيل،من"مرو"يدعي كل علم. وكان متهورا جسورا يرومُ إقلاب الدول ويدعي فيه أصحابه الإلهية،ويقول بالحلول،ويُظهر مذاهب الشيعة للملوك،ومذاهب الصوفية للعامة،وفي تضاعيف ذلك يدعي أن الإلهية قد حلت فيه. وناظره"علي بن عيسى الوزير"فوجده صفرا من العلوم.وقال :"تعلمك لطهورك وفرضك،أجدى عليك من رسائل أنت لا تدري ما تقول فيها،كم تَكتب إلى الناس : تبارك النور الشعشعاني الذي يلمع بعد الشعشعة ! ما أحوجك إلى أدب".){ ص 36 ( رسالة ابن القارح)}.
من المؤكد أن هذه الشعشاعانيات .. تذكر ببعض طلاسم الشعر الحداثي!
على كل حال .. من ألاعيب الحلاج ..( وحرك يوما يده فانتشر على قوم مسك،وحرك مرة أخرى فانتشر دراهم،فقال بعض من حضر ممن يفهم : أرني دراهم غير معروفة،أؤمن بك وخلق معي إن أعطيتني درهما عليه اسمك واسم أبيك. فقال : وكيف هذا وهذا لا يُصنع؟ قال : من أحضر ما ليس بحاضر،صنع ما ليس بمصنوع){ ص 37 ( رسالة ابن القارح)}.
وبعد .. يبدو لي في قضية الإلحاد – في عصرنا – أننا أمام ثلاثة أصناف :
صنف يعاني حرقة الشك .. القلق الوجودي.
وصنف يعاني حرقة الشهوة .. ومشكلته مع هذا الدين .. الذي يحرم الزنا .. والخمور .. إلخ.
وصنف : هم دعاة إلحاد .. سوء بأجر أو (احتسابا!!) .. وقد حاورت بعض هؤلاء .. فلم أجد لديهم حرقة الشك .. بل (أوسام ) جمع (وسم) أو ( هاش تاق) .. يسخر من الدين .. ويصفه بالخرافة العلمية .. ويمجد نظرية "النشوء والتطور"تحت دعوى أنها لا تناقض القرآن الكريم.
ومن هنا فإن دعوة الأستاذ "الشهري"والدكتور"قاسم" .. لتوحيد الجهود في مواجهة الإلحاد مقدرة .. والحاجة إلهيا ماسة .. إلا أنني أرى ألا يكون ذلك عبر(فضائية) .. وإنما عبر وسيلة مستترة .. تجنبا لإشاعة الشبه من ناحية .. وتجنبا للعنت الذي قد يبده من تُقام عليه الحجة – حسب شخصيته – فيعاند كي لا يظهر في صورة المهزوم أو الخاسر.
و النماذج التي سمعنا عن رجوعها إلى الحق كانت كلها – حسب ما يظهر – عبر حوار شخصي مباشر .. ولم يكن الرجوع عبر وسيلة عامة.. ونقشا علني.
ختما .. سبق لي أن كتبت كلمة طويلة تحت عنوان ( حوار هادئ مع الداروينيين) - وهو موجود على الشبكة العنكبوتية – وقلت فيه أنني أرى أن الروايات .. تبث في وعي القارئ ولا وعيه – وهو يتسلى – الشبه الإلحادية ..وسب الدين .. والسخرية منه .. وكأنها تمثل (مزلقانا) نحو الشكوك .. أو تهوين الدين في النفوس ... فلعلي أبسط ذلك في كلمة قامة .. إذا أذن الله.
تلويحة الوداع"1" :
لاحظ الشيخ خضر بن سند على الدكتور عبد العزيز وصفه الأستاذة حصة آل الشيخ بـ(الأخت حصة) .. (الأخت حصة) .. إلخ.
السؤال هل تقبل هي تلك الأخوة .. وهي القائلة عن الحديث الصحيح الذي يقول أن العظام طعام أخواننا من الجن،فتعلق ساخرة :
(والله إن كان الجن إخوانكم الله يهني سعيد بسعيدة)!!
أتراها تقبل أخوتك – أبا أسامة – ولك إخوان من الجن؟!!
تلويحةالوداع "2" :
أقدر تماما غيرة إخواننا في لوم بعض الدعاة،ولكن علينا عدم نسيان أن للعملة وجه آخر .. أو "استراتيجية"أخرى!!
هذا حوار دار بين بعض (الأنثويات)،عبر ندوة : ( محاولة لصياغة نظرية نسوية متقدمة) .. تقول إلهام كلاب :
(( إن نبش الماضي بهذه الصورة الجذرية،يجعلنا نقف وقفة طويلة متأملة مع الدين والأسلوب الذي تعامل به مع المرأة أو وضع المرأة في الأديان السماوية،إن نصف المعتقدات الراسخة في أذهان البشر – في الماضي القريب – والحاضر – وربما المستقبل المنظور – أتت من الديانات السماوية الثلاث،اليهودية والمسيحية والإسلام،وكل تعرض لمسألة المرأة يقود بالضرورة إلى التعرض للدين وهنا الاحتياط والفخ .. فما العمل؟)). فترد عليها ليلى الحر متسائلة :
(( ولماذا نحن مضطرون لربط تحرر المرأة العربية بإعادة النظر في الدين؟ أليس من الحكمة أن نجنّب أنفسنا سوء التفسير والحملة التي قد يشنّها المتعصبون علينا،وهم كثر،ونكتفي من نقد الدين بنقد المتدينين مثلا؟! إننا لا نستطيع بالطبع الخروج على التاريخ – والقفز عن استعمال الديانات القديمة والحديثة لعرقلة نمو وعي المرأة ولا نملك البحث في (تخلف) المرأة وصولا إلى تقدمها،ما لم نبحث في أسباب التخلف،وأولها صورتها الممسوخة والتابعة والثانوية في الأديان ..)) { ص 279 – 280 ( مجلة قضايا عربية / السنة السابعة / العدد الثاني / شباط / فبراير 1980م}.
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني.
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..