الاثنين، 3 مارس 2014

الطب مهنة إنسانية ... ألا زال كذلك؟!!!

 هذه مطولة - جدا - اقتبستها من جراب الحاوي أو كراس ( حتى لا يذيب الصمت ألسنتنا) ..

الطب من أبرز المجالات التي تظهر تحول الرأس مالية إلى وحش يلتهم كل شيء في طريقه، فالطب الذي
كان يمثل راس الهرم في المهن المحترمة، والذي يوصف دائما بأنه ( مهنة الإنسانية)، والحديث الدائم عن قسم أبوقراط .. الخ كل ذلك بدأ يتبخر، بفضل الوحش الرأس مالي!! فقد مر بنا في التجربة، الغانية، تلك المرأة المحتجزة في المستشفى حتى تسدد الرسوم، هذا هو الواقع الذي يتضخم يوما بعد آخر، فالمستشفيات تتحول إلى مكان لتقديم سلعة ( الشفاء) أو ( إجراء العمليات)، فقط لمن يملك ثمن تلك السلعة!!
نشرت ( لوموند ديبلوماتيك)، النسخة العربية، مقالة كتبها ( أندريه غريمالدي) و ( جوزي تيمست)، تحت عنوان :

( " إصلاح مضاد "باسم العدالة بين المواطنين :
المستشفى الشركة ضد المستشفى العمومي )
(( أضرب الأطباء الأجانب الذين يعملون في المستشفيات الفرنسية مرتين خلال هذا الصيف، فهم يقومون بنفس العناية التي يقوم بها نظراؤهم الفرنسيون ولكن مع مداخيل أقل بكثير، هذه أحد مظاهر تدهور المستشفيات العمومية. فمثلا لقد أصبح أكثر جدوى أن تبتر أعضاء مريض بدل العناية به تفاديا لعملية جراحية ... كيف نخرج من هذا الانحراف الذي يعارض أخلاقيات الأطباء والخطير بالنسبة للمرضى؟
إن أزمة الاستفتاء التي طالما تحتل العناوين الأولى في الأحداث هي قبل كل شيء أزمة مالية، علما أن فرنسا تخصص 10 في المئة من مجمل ناتجها المحلي للصحة (..) لكن هذا النظام يشهد من الأساس تناقضا بنيويا بين التمويل الحكومي وتقاسم جزء من الخدمات الطبية مع القطاع الخص، أي الطب اللبرالي، وقد انفجر هذا التناقض بفعل تأثير مزدوج من النقص في إيراد الضمان الاجتماعي، وتزايد النفقات بسبب معدل الأعمار(..) والمحاولة الأخيرة الرسمية لمراقبة التقديمات الطبية اللبرالية تعود إلى مشروع ( جوييه) في العام 1995، وقد انتهت بقطيعة بين حزب الغالبية الرئيسي وبين الأطباء، وقد توصلت حكومات اليمين إلى خلاصة بسيطة وحاسمة :
( لن نعود إلى هذا أبدا). والمستغرب أن قسما من اليسار قد أخذ العبرة ذاتها.
وهكذا شهدنا تغيرا في الموقف لدى المدير السابق للضمان الاجتماعي، (..)، ومدير المستشفى السابق (..) وهما يساريان كانا من قبل مقتنعين بأن الصحة ليست سلعة ولا يمكن أن تخضع لقوانين السوق، فالأول وبعد أن أصبح مديرا طبيا في شركة " التأمينات العامة في فرنسا" قد اقترح (..) خطة تأمين صحي خاص بامتياز مقابل 12000 يورو سنويا. (..) أما الثاني فقد التزم فضائل الأعمال الطبية الخاصة حتى داخل المستشفيات الرسمية لدرجة أنه كتب : (( إن وضع استراتيجية لمستشفى رسمي يشبه بالضبط استراتيجيات سائر الشركات (..) ما يفرض تحليل حركة العمل والزبائن (..) حتى وإن كانت كلمة التسويق ما تزال من المحرمات بسبب دلالتها الفجة، فما يتم السعي إليه هو التسويق. ) ومنطق الخصخصة هذا الذي يلقى إجماعا من اليمين واليسار ( اللبراليين) يقود من جهة إلى رفض زيادة موارد الضمان الاجتماعي، ومن جهة أخرى إلى الحد من المدفوعات (..) في الطب اللبرالي (..) بات لكل عمل رمز مناسب ومبلغ مناسب من المال ترتبط به موارد المستشفيات العمومية. إذا هناك مرضى مريحون ( مثلا من يحتاج إلى عملية جراحية تستدعي دخول المستشفى لفترة قصيرة) ومرضى غير مريحين ( مثلا المريض المصاب بمرض مزمن لا يحتاج إلى عناية بواسطة التكنولوجيا الرفيعة أو الذي لا يستطيع العودة سريعا إلى منزله) وفي مجال مرض السكري يعني هذا أن المريض الذي يخضع لغسل الكلى أو الذي قطع أحد أعضائه يكون مريحا أكثر من المريض الذي يدخل المستشفى لتدارك البتر والغسيل. (..) وهكذا سيعمد الأطباء الإداريين؟ إلى اختيار المريحين على حساب الآخرين لقد باتوا مدفوعين إلى اختيار الرمز "الأقصى" ما يعني " تضخيم" درجة خطورة حالة المريض وذلك لزيادة قيمة الفاتورة على الضمان الاجتماعي، والحصول كذلك على زيادة في الفواتير بدون خدمات إضافية تقدم إلى المريض، وهذا ما يفضي في النهاية إلى إفراغ صناديق الضمان الاجتماعي من أجل ملئ صناديق المستشفيات.
أضف أن هذا النظام الجديد الفعال كما يتم زعمه لا يسمح بمعرفة ما إذا كانت الأعمال الطبية مبررة أم لا. بل إنه يزيد خطر التشجيع على الإكثار من الوصفات التي لا حاجة لها، لكن المريحة. أخيرا هو لا يأخذ بعين الاعتبار نوعية العلاجات. فإدخال المريض تكرارا إلى المستشفى لكن لفترة قصيرة من أجل معالجة مرض لم يلق العناية الصحيحة هو أكثر ربحا من دخول واحد لفترة أطول مع عناية ذات نوعية جيدة. وليس في هذا شيء من الكاريكاتيور.
ولسوف يجد أطباء المستشفيات أنفسهم وسط صراع أخلاقي بين العناية الصحيحة، وهو واجبهم المهني، وبين المردودية المالية التي أصبحت مهمتهم. وللأسف أن هذه العملية الإصلاحية قد أجريت بالتعاون الوثيق مع بعضهم وبانصياع أكبر عدد منهم. (..) وفي الحقيقة ينوي المروجون لهذا الإصلاح المضاد الانتقال إلى مرحلة أخرى مع فرض تعهد على كل مستشفى(..) بالحفاظ على التوازن المالي بين المدخول والإنفاق، وإذا ما احتاج الأمر إلى وضع "مشاريع اجتماعية" ( أي طرد موظفين بالتعبير الفرنسي) وفي الواقع إن كتلة الأجور تشكل 70 في المئة من موازنة المستشفيات، فيجب أن تصبح العنصر " المتغير في الإصلاح" وهكذا سوف يضطر القطب أو المستشفى إلى وقف بعض الأعمال وخفض عدد الموظفين وحتى إلى إعلان إفلاسه (!) فهل أن هذه السياسة لا تتعارض مع وضع المستشفى العام؟ هذا لا يهم طالما أنه بالإمكان تعديله عبر تحويله إلى مؤسسة( تعمل كشركة خاصة) ذات مهمات خدمة عامة. والفرق الجوهري يكمن عندها في وضع الأجراء الذين سيصبح القسم الأكبر منهم متعاقدا بدل أن يوظفوا بشكل دائم.
والمحطة الأخيرة في عملية الإصلاح، إذا ما أخذنا بقول بعض مؤيديها، سوف تقوم على السماح للمستشفيات بالــ(دخول إلى البورصة) لكي تتمكن بفضل أموال المساهمين من ( الترسمل مجددا للاستثمار). وقد فهمت هذا الأمر تماما محترفات العيادة الخاصة، وعلى الأخص " الشركات العامة للصحة" التي تملك 150 عيادة في فرنسا وإيطاليا، فأعلنت عن " زيادة مداخيلها بنسبة 14.8 في المئة للعام 2005 مع نسبة نمو نظامية بلغت 9.2 في المئة. (..) وقد قام مدير مؤسسة " أنتوني" الخاصة ( مقاطعة السين العليا ) الذي ينتمي إلى المؤسسة العامة للصحة بمراسلة 1000 طبيب لكي يشرح لهم أن من مصلحة الضمان الاجتماعي أن يُدخلوا المرضى ليس إلى المستشفيات العامة، بل إلى العيادات الخاصة. (..) وكذلك فإنه تحت شعار سلامة المنتفعين، قد تم إغلاق عدد من دور التوليد أو مستشفيات الجوار، وكذلك جاء تقرير السيد(..) ليقترح إقفال 112 قسم جراحي وليس في هذا المنطق الإجرائي الصرف أي تقييم للنوعية الفعلية لرعاية الطبية المتحققة في كل هذه المراكز المعنية، ولا هو يأخذ بعين الاعتبار لا النوعية، ولا التكاليف ولا حتى وجود أشكال معالجة بديلة، وهكذا فإن السلطة الحكومية قد تنساق إلى إغلاق مركز عمليات ينجز ما يقارب 2000 عملية سنويا بنوعية جيدة، وذلك لصالح العيادات الجراحية المنافسة التي تعتمد تعرفة تجاوز كلفة الأتعاب المحددة ..
وقمة السخرية أنه باسم المساواة بين المواطنين إزاء كلفة الطبابة تنوي السلطات الصحية العليا إعادة النظر في تحمل 100 في المئة من تكلفة مرضى السكري، وهؤلاء لا يطرحون أي تعقيدات طبية. الحداثة والسلامة والمساواة والنوعية، كلها ذرائع صالحة لإنجاز عملية الهدم. ){ النسخة العربية من ( لوموند ديلوماتيك)، العدد الصادر يوم الجمعة 15 / 8 / 1427هـ = 8 / 9 / 2006م.}.
هكذا يتحول الطب من مهنة إنسانية، إلى المتاجرة بالإنسان ( المريض)، بصفته مجرد (زبون)، يقف أمام متجر يطلب الحصول على سلعة ( الدواء)، ومن لا يملك ( الثمن) فهو ليس في حاجة إلى تلك ( السلعة)!!!
هذا ( التسليع) لمهنة الطب – مع أسباب أخرى- ربما يدفع الناس إلى التداوي بالأعشاب، أو ما يسمى ( الطب البديل)، وربما عادوا إلى العلاج بالسحر،أو بهذه الرقيا- غير الشرعية- التي كان يعالج بها الزكام في الأزمنة الغابرة :
( فقد كان الزكام مثلا يعالج بمثل هذه العبارات السحرية : ( أخرج أيها البرد يا ابن البرد، يا من تهشم العظم، وتتلف الجمجمة، وتمرض مخارج الرأس السبعة. أخرج على الأرض . دفر. دفر. دفر ){ - ص 123 ( قصة الحضارة)/ ول ديورانت/ جـ2 مجلد 1 .}. طبعا القضية هنا ليست قضية ( البرد بن البرد)، ولكن القضية الأساس، هي دفع الناس للحصول على المال، بأي وسيلة كانت، من أجل الحصول على الدواء وغيره، من الضروريات، أو حتى الكماليات، وفي واقعنا المعاصر، قصص كثيرة،تم تحويل بعضها لأعمال سينمائية، تحكي تلك القصص، تجارب أناس، اضطروا إلى غض النظر عن أخطاء كبيرة، اطلعوا عليها في مجال أعمالهم، وسبب التغاضي، هو الخوف من أن يجدوا أنفسهم في الشارع، عاجزين عن دفع أقساط التأمين الصحي، أو عجزهم عن دفع أقساط التعليم لأبنائهم، إلى غير ذلك من القيود التي أصبحت تحيط بالإنسان الحديث، من أقساط المنزل الذي يأويه، وأسرته، إلى أقساط السيارة التي يتنقل بها ..الخ.
والبركة في البنوك،أحد مخالب الرأس مالية الشرسة،والتي تقوم بتكبيل الناس،بالديون،وفوائدها،لكي ليصبحوا (رقيقا)،يعمل من أجل تسديد ديونه عليه يحصل على (العتق) ..والذي لن يحصل(عبيد قادس،المحدثون) على ذلك أبدا!!
حتى لو وصل الإنسان إلى القمر فسوف يظل ساعيا إلى طلب الاستشفاء،وقد نقل صاحب ( قصة الحضارة)، عن الدكتور أولفر هولمز، بعد حياة طويلة قضاها في مهنة الطب :
( لن يتردد الناس في أداء شيء ، بل ليس هناك شيء لم يؤدوه فعلا، في سبيل استعادة العافية وإنقاذ الحياة، فقد رضوا أن يُغْرقوا في الماء نصف إغراق، ويخنقوا بالغاز نصف إخناق،ورضوا أن يدفنوا في الأرض إلى أذقانهم، وأن يوصموا بالحديد المحمى مثل عبيد قادس،ورضوا أن يُقَصّبوا بالمدى كأنهم سمك القُدّ، وأن تثقب لحومهم بالإبر، وأن تشعل المشاعل على جلودهم، ورضوا أن يجرعوا كل صنوف المقززات وأن يدفعوا لذلك كله أجرا كأنما سَلْقُ الجسم وإحراقه ميزة ثمينة ){ ص 139 ( قصة الحضارة) جــ1 مجلد 1.} .
إذا لم تكن ثمة فائدة،فعلى الأقل احصلوا على (طرفة) فنورد لكم هذه النصيحة من رسالة ( أرخماثيوس) تصف حال الطبيب وهو واقف بجوار سرير المريض :
( يجب أن يتحلى الطبيب وهو ينظر إلى حال المريض بالرزانة، حتى لا تقلل من مكانته خاتمة المريض السيئة، وحتى يضيف شفاؤه عجيبة أخرى إلى ما اشتهر به من العجائب، و عليه ألا يغازل زوجة المريض أو ابنته أو خادمته، وحتى إذا لم تكن ثمة ضرورة لدواء ما وجب عليه أن يصف له مركبا عديم الضرر، حتى لا يظن المريض أن العلاج لا يساوي أجر الطبيب، وحتى لا يظن أن الطبيعة هي التي شفت المريض دون معونة الطبيب){ ص 189 ( قصة الحضارة) جــ6 مجلد 4.}.
أعتقد أن توحش الرأس مالية،إذا وصل إلى الطب، فذلك مؤشر يحمل في طيه، الكثير من الخطورة. فالإنسان في واقعنا المعاصر تحول إلى مجرد مستهلك، يدور في حلقة لا نهاية لها، فهو ليس أكثر من ترس يدور، أو يدير مكائن المصانع، ومن هنا غاب التجويد، لأنه ينافي التدوير اللامتناهي للمصانع. ونحن في واقعنا نشاهد الفرق بين الصناعة القديمة، المتينة، والصناعة الجديدة، قليلة الجودة، التي تصنع دون تجويد لكي لا تغلق المصانع أبوابها!!!!!
ولو كنت ( مستثمرا)، لافتتحت مجمعا تجاريا، أسميه ( المنشار)، يكون القسم الأسفل منه، لبيع المأكولات السريعة، وفي الدور العلوي، صالة للتخسيس، على أن يقدم محل المأكولات، كوبونات مخفضة، لمن يذهب إلى الصالة العليا، وتقدم صالة التخسيس، لمن تمكن من تخفيض وزنه، كوبونات تتيح له الحصول على الشطائر اللذيذة، بسعر مخفض ... وهكذا!!!!
صحة الإنسان في ظل الوحش الرأس مالي

باتت صحة الإنسان، والتي يتشدق الغرب بحقوقه، لا تعني الكثير في ميزان الهوس بالمادة، وتحت سيطرة الشركات الكبيرة، والتي تعد الحاكم الحقيقي للعالم، باتت صحة الإنسان لا تعني الشيء الكثير، ولا أدل على ذلك من التعامل القانوني مع الأطعمة المعدلة وراثيا( جينيا). بين يدي مقال عنوانه :
( في ظل اهتمام الشركات المتعددة الجنسية : التعمية في تقويم الأجسام المطورة جينيا)، والمقال بقلم : أوريليان بيرنييه، ومما جاء فيه :
( الأجسام المطورة جينيا تدخل عالم التغذية، سواء رسميا بفضل تراخيص تمنح تحت ضغط اللوبيّات الداعمة للشركات المتعددة الجنسية، أو سرا من خلال عدوى شبكات الأغذية. وفي أساس بداية انتشار هذه"الاجسام" غياب آلية مستقلة لتقويم نتائج المزروعات المطورة جينيا على الصحة العامة والبيئة.
يمكن لرواد الإنترنت الذين يدخلون على الموقع الوزاري المشترك الخاص بالحكومة الفرنسية والمخصص للأجسام المطورة جينيا أن يكتشفوا، في زاوية تحت عنوان " في تقييم الجسم المطور جينيا قبل إنزاله إلى الأسواق " الفقرة التالية : " إن تحليل المخاطر المحتملة على الصحة والبيئة هو العنصر الجوهري والمسيّق – هكذا – لأي ترخيص إنزال جسم مطور جينيا إلى الأسواق. وهو قائم على عناصر علمية ثابتة ومتعددة الاختصاصات، وموكلة إلى لجان من الخبراء المستقلين" وإذا ما أخضعت هذه الصفحة لاختبار كشف الكذب فإن الكمبيوترات الموصولة ستصدر تكرارا الإشارات الصوتية الفاضحة، ففي الحقيقة يصطدم هذا الكلام بالواقع القائم في تقييم الأجسام المطورة جينيا، هذا التقويم الذي برهن تاريخه أنه في أفضل الأحوال ليس سوى نوعا من التعمية.
ففي الولايات المتحدة البلد الرائد في مجال هذه المعالجات الجينية، ظهرت مشاريع القوانين الهادفة إلى الرقابة السياسية على تطور التقنيات البيولوجية في أواخر سبعينات القرن الماضي. واقترح بعض هذه المشاريع تشكيل لجان ضبط مناسبة. غير أن الكونغرس سارع إلى اتخاذ القرار الأول المزعج بدلالاته، إذ اعتبر أن الوكالات الاتحادية القائمة، في إطار التنظيمات المرعية الإجراء، كافية لتنظيم عملية الضبط هذه. وفي 26 حزيران / يونيو عام 1986، وقع الرئيس رونالد ريغان مجموعة من القوانين التي عرفت تحت اسم " إطار التنسيق لتنظيم السياسة الخاصة بالتقنيات البيولوجية، التي فتحت الطريق أمام انتشار الأجسام المطورة جينيا مكرسّة مبدأ " التكافؤ وحسب". وعليه فإن المنتجات الترانسجينية، ومقارنة بالمنتجات غير الترانسجينية المعادلة لها، فقط على أساس مكوناتها ( الغذاء المتوفر فيها أو المواد السامة أو المسببة للحساسية )، لن تخضع لأي تنظيم قانوني خاص، إذن قررت السلطات الأميركية أن تتجاهل الطرائق المعتمدة في إنتاج الأجسام المطورة جينيا و تأثيراتها المحتملة على البيئة والتغذية.
وتشكل هذه الخطوة نوعا من التضليل العلمي،(تضليل وعلمي؟!! - محمود) فعندما تقتصر الدراسة على التغييرات المدرجة في الخطة وحسب، يصبح من المستحيل مثلا تحديد التفاعل المحتمل بين البروتين الذي تفرزه الجينة الجديدة وسائر بروتينات الجسم الطبيعي. والحال أن آلية من هذا النوع كانت وراء مرض التهاب الدماغ الإسفنجي البقري ( ESB)، والمعروف أكثر تحت اسم " مرض جنون البقر" ووراء مرض " كرويتزفيلد – جاكوب" (..) فإنتاج هذه الخلية لغاية علاجية، انطلاقا من بكتيريا مطورة جينيا مرخصة من " وكالة أمن الغذاء والدواء" ( FDA ) على أساس "التكافؤ وحسب " قد تسبب في عام 1989 بظهور وباء تسبب بوفاة 37 شخصا وشلل 1500 شخص لمدى الحياة. وهذا ما لم يمنع استمرار هذه الطريقة في التصرف حتى اليوم في أميركا الشمالية.
وبعد هذا التقدم الأول الكبير في مجال التنظيم القانوني لصالح الشركات المتعددة الجنسية في مجال التقنيات البيولوجية كان على " منظمة التنسيق والتنمية الاقتصادية ( OCDE )، وباقتراح من الولايات المتحدة أن تواصل العمل استباقا للتوسع العالمي في تطوير الأجسام المطورة جينيا. فتحت رعايتها وضعت مجموعة من "الخبراء "، " كتابا أزرق" نشر في العام 1983، تحت عنوان " تأملات في الأمن الخاص بــ " دي . إن.أ AND " المعادة التركيب" ويمكن تلخيص مضمونه بجملة واحدة واردة في خلاصته : " ما من مبرر علمي لاعتماد تشريع يستهدف على الأخص أجسام الــ " دي . إن.أ " المعادة التركيب" وهكذا يتقدم استبعاد مخاطر التفاوت في القدرة على المنافسة ومعوقات انتقال البضائع على أي اعتبار آخر.
وفي عام 1986، استلهمت فرنسا هذا التقرير لدى تشكيلها " لجنة الهندسة البيوخلوية ( CGB ) " التي كلفت تقييم نتائج انتشار الأجسام المطورة جينيا، التي بدأت تلوح مظاهرها في الأفق. وعلى الأرجح أن الإتحاد الأوربي كان سيسير في الركب، لو لم تطرأ بعض الأحداث المربكة مغيرة المعطيات، ومنها دخول نواب حزب الخضر البرلمان الأوربي، وأزمة" جنون البقر " إنما أيضا تدمير أولى الجزيئات الترانسجينية في أوربا. ثم أليس أن القرارات التوجيهية 219 / 90 و 220 / 90 ثم القرار الذي حل مكانه 18 / 2001، قد أخذوا بعيدا "التكافؤ وحسب" وقرروا " " التقييم حالة بحالة" ثم أن ضغط الرأي العام قد أدى في العام 2003 إلى اعتماد قرار يفرض الإشارة على بطاقة التعريف عن كل منتج يحتوي على ما يزيد عن 9. 0 في المئة من الأجسام المطورة جينيا.
إلا أن النظام الأوربي إذا ما جرى التعمق فيه هو ذو مصداقية مشكوك فيها( يا لطيف!!! - محمود) ... فبالطبع أن " السلطة الأوربية للأمن الغذائي ( EFSA )، وفي فرنسا" لجنة الهندسة البيوخلوية" و " الوكالة الفرنسية لأمن الأغذية الصحي ( AFSSA )، هي المكلفة بالنظر في ملفات الترخيص. لكن كل العناصر التي تعتمد عليها تقدم إليها من رافعي الطلب، أي من الشركات المتعددة الجنسية التي تريد المتاجرة ببضائعها! ولم يتم أبدا فرض أي كشف مضاد مستقل. وعندما يطلب المزيد من المعلومات الضرورية يتم التوجه إلى شركات " مونسانتو" و " بايونير" (..) ففي مقابلة (..) كشف المدير السابق للــ " وكالة الفرنسية لأمن الأغذية الصحي" أن المستدعين يقدمون ملفات غير وافية عمدا، على أمل إحباط الأجهزة المكلفة إبداء الرأي،وإضعاف عملية " التقييم " أكثر فأكثر.
وكانت قمة التجرؤ أنه عندما تمت مقاضاة الإتحاد الأوربي في العام 2003 من جانب الولايات المتحدة وكندا والأرجنتين أمام جهاز تسوية الخلافات في منظمة التجارة العالمية في موضوع القانون الخاص بالأجسام المطورة جينيا الذي اعتبره المدّعون ملزما جدا، حمّل الإتحاد في مذكرة الدفاع، المسؤولية للثغرات المهمة الموجودة في نظام تقيمه الخاص والخلل في عمل " السلطة الأوربية للأمن الغذائي" . وفي 29 أيلول / سبتمبر الماضي، أصدرت منظمة التجارة العالمية قرارها في هذا النزاع، لقد عطل الإتحاد الأوربي قوانين التجارة العالمية، الوحيدة التي تعترف بها المنظمة، وذلك عندما فرض تأجيلا علنيا على اعتماد الأجسام المطورة جينيا ما بين العامين 1999 و 2003. لكن لم تتم إدانته بالفعل لأنه كان في هذه الأثناء قد ألغى هذا التأجيل ... لكن وفي مؤازرة مسار النقد الذاتي هذا، وفي سرية مطلقة بطبيعة الحال جرى الترخيص لتشكيلات ترانسجينية عديدة وما يزال ذلك يتم باستمرار، وأحيانا في ظروف مقلقة جدا. وهكذا استفاد منتوج الذرة من نوع (MONB63، من شركة " مونسانتو" المتعددة الجنسية من تواطؤ الوكالة الفرنسية لأمن الأغذية الصحي ثم من موافقة اللجنة الأوربية بالرغم من نتائج الفحوص على السموم المريبة. (..) ومن جهة أخرى فإنه من الوقاحة إطلاق صفة " المستقلين " على " الخبراء " الشهيرين الذين يؤلفونها إذ يبدو مفضوحا التواطؤ المريب بين العديد منهم ومصانع البيوتقنيات، وهذا على الأرجح ليس بعيدا عن التساهل الذي يسود عند النظر في الملفات.
وهنا خلاصة تفرض ذاتها، فالنباتات الترانسجينية أو الأغذية الناتجة عنها لم تخضع لأي تقييم جدي، لا على الصعيد الصحي ولا على الصعيد البيئي، وتتويجا لكل هذا يسمح البنك الولي (يعني مخلب الرأس مالية هذا لا ينجو منه شيء؟!!! - محمود) لنفسه حاليا أن يمتدح في تقرير له صدر مؤخرا، المنافع الاقتصادية التي سيؤمنها القطن الترانسجيني للمزارعين مستقيا معلوماته ممن يسوقها، أي من " مونسانتو" شركة تصنيع البذرات!){ النسخة العربية من ( لوموند ديبلوماتيك ) العدد الصادر يوم الجمعة 19 / 10 / 1427هـ = 10 / 11 / 2006م}.
هل من فاعل خير،يطمئننا،عن وجود (منتوج الذرة من نوع (MONB63، من شركة " مونسانتو")؟!!! إذا كان هذا حالهم،هناك؟!! فكيف حال "فتى الفتيان في حلب"؟!!!!!!! أو المواطن المسكين في العالم الثالث!!
ليس من العجيب أن نجد اليسار يبدأ بالعودة في الكثير من دول أمريكا الشمالية، وذلك على عربة الخوف من التوحش الرأس مالي، الذي يدوس في طريقه الإنسان، دون رحمة. و من العجيب أنه حين تطل الاشتراكية، برأسها، نجد غيابا تاما لمنح الإسلام فرصة تقديم وجهة نظره، المفعمة بالإنسانية، والرحمة بالإنسان، بل وبالحيوان أيضا!!!
نشرت جريدة ( لوموند دبلوماتيك) مقالة، بقلم هرناندو كالفو أوسبينا، وهي بعنوان : ( " أطباء حفاة " جدد :
نحو إنشاء تكتل أممي ... للصحة)
( بعد وقت قصير من انتخابه رئيسا على فينزويلا عام 1998، وقع السيد هوغو شافيز مع الحكومة الكوبية اتفاقية ينبثق عنها برنامج مكثف للصحة العامة، سمي (( برنامج باريو أدانتريو)).
وأصبح هنالك في فينزويلا 14000 طبيب كوبي يعالجون مجانا سكان الأحياء والمناطق الأكثر فقرا. إلا أن هذه العملية التي نادرا ما يتم تداولها في وسائل الإعلام، ليست سوى الجزء الظاهر للتعاون الصحي مع هافانا لمساعدة الشعوب البائسة في دول الجنوب الفقيرة.
نحن في نهاية آب/ أغسطس 2005 بعد الدمار الذي ألحقه إعصار(( كاترينا)) بجنوب الولايات المتحدة، وعدم تمكن السلطات من استيعاب سعة الكارثة، وحيث أطلقت حاكمة لوزيانا، (..) نداء للمجتمع الدولي لطلب مساعدة طبية طارئة. وعلى الفور تجاوبت معها الحكومة الكوبية في هافانا فاقترحت إرسال مساعدة إنسانية خلال 48 ساعة كحد أقصى، تتمثل بمجموعة من 1600 طبيب مهيئين للتدخل في هذا النوع من الكوارث، إلى نيوأورلينز، لكن أيضا إلى ولايتي ميسيسبي وألاباما اللتين طالهما أيضا الإعصار .
وهم كانوا سيجلبون معهم كل التجهيزات اللازمة، بالإضافة إلى 36 طنا من الأدوية.
لكنه لم يتم الرد على هذا الاقتراح و لا على ذلك الذي تم توجيهه مباشرة إلى الرئيس بوش في حين أن أكثر من 1800 شخص – خصوصا من الفقراء – لقوا حتفهم بسبب غياب المساعدة والعناية الطبية.
لم يكن قد مر وقت طويل على هذه المأساة عندما شهدت باكستان في 8 تشرين الأول / أكتوبر 2005 في منطقة كشمير، أحد أسوء الزلازل الأرضية في تاريخها. وكانت النتائج الإنسانية والصحية مأساوية، خصوصا في المناطق الأكثر حرمانا وانعزالا في شمال البلاد، وفي 15 تشرين الأول / أكتوبر وصلت مجموعة تضم 200 طبيب طوارئ كوبي مع أطنان من التجهيزات.
ثم بعد بضعت أيام، أرسلت هافانا التجهيزات اللازمة لإقامة ثلاثين مستشفا ريفيا للمناطق الجبلية التي لم تستقبل في غالبيتها زيارة أي طبيب. هكذا اكتشف العديد من السكان وجود بلد يدعى كوبا.
وكي لا يتعارضن مع تقاليد في هذا البلد المسلم، أخفت الكوبيات شعورهن بمناديل، وهن كن 44 % من حوالي الثلاثمائة طبيب الذين أتوا إلى باكستان حتى أيار /مايو 2006. (..) وقبل وقت قصير من الرحيل كان الفريق الطبي قد عالج مليون مريض، غالبيتهم من النساء، وأجرى حوالي 13000 عملية جراحية. ونقل فقط بعض المرضى الذين تعرضوا لجروح معقدة جدا إلى هافانا. وهكذا شكر الرئيس بيرفيز مشرف، حليف الولايات المتحدة الكبير وصديق السيد بوش، سلطات هافانا رسميا واعترف بأن مساعدة هذا البلد الصغير، التابع لجزر الأنتيل، كانت الأهم من بين كافة المساعدات التي تلقتها بلاده على إثر وقوع الكارثة.){ النسخة العربية من ( لوموند دبلوماتيك ) العدد الصادر يوم الجمعة 17 / 7/ 1427هـ = 11 / 8 / 2006م.}.
لن نبخص حق المعونات التي قدمت إلى إخواننا في باكستان، من بقية دول العالم، ولكننا نأسى أن تكون أكبر المعونات مقدمة من قبل تلك الدولة البعيدة ... كوبا.
حين نعود إلى واقعنا الذين نعيشه، أو يعيشنا، بشكل مباشر، فقد بدت ملامح تغول الرأس مالية تطل علينا بشكل متنامي، ويوما بعد يوم تغرز أظافرها في جيوبنا، أو في دمائنا، وكل يوم تتعالى الأصوات التي تطالب برفع يد الدولة عن مختلف المرافق، وتلك دعوة مبطنة لأن يخلى بين الوحش الرأس مالي، وبين دماء الناس يلغ فيها!!!
المشكلة الكبرى أن نظامنا الرأس مالي، لا يملك الآليات المنضبطة المتوفرة في الغرب الذي استوردنا منه نظمه، دون ضوابطها.
ولعل المشكلة الكبرى،أننا لا نأخذ الأمور بتوسط،إما تهميش كامل للقطاع الخاص،وإما أن نخلي بينه وبين البشر ليفترسهم.
كلما تذكرت،أو قرأت عما قامت به المرأة الحديدية، مارغريت تاتشر،من (خصخصة)،في بريطانيا،وتحديها للمظاهرات ..الخ ذلك المنجز،الذي يهدف إلى تسليم القطاع العام إلى القطاع الخاص،من أجل إنتاج أفضل.
كلما قرأت عن ذلك الأمر،يدور في ذهني سؤال صغير : هل سر في الإنتاج يكمن في كلمة (الخصخصة)،أم في القوانين،التي تضبط عملية الإنتاج،أم في الحوافز،أم من القوانين التي تجعل الموظف/العامل،يخشى على وظيفته،إن قصر،ويأمل في الحوافز إن أنتج؟!!! ذا كان السر،في كلمة (خصخصة)،فلنعلقها على كل القطاعات الخاصة بالدولة!! وإذا كان الأمر يتعلق بالأنظمة،فما الذي يمنع من تطبيق تلك الأنظمة،الصارمة، على القطاع الخاص؟!!
هل نقل الأنظمة أسهل أم بيع القطاع الخاص؟!!
أم أن خلف الأكمة ما خلفها؟!!
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني


_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..