حين كان الذي لا مفر منه، ولا سبيل لخلاص ذاتي مما أدخلتني ابنتي
فيه ...! نأت عني نفسي على قسوة تنزلت علي ممن لا أستطيع أن أتوقف عن حبها
.. وشعوري بالحياء الشديد في آن ..! ليس من اليسير أن يجتمع في قلب شيخ
كبير الوجع والشعور بالمهانة والحب في آن ..! ليس من اليسير أن يجد المرء
نفسه أمام ذنب كأنه لا توبة له، هي والله الحيرة الغالبة على الحس،
الغالبة على الإدراك، هي الحيرة التي لا نملك أمامها إلا العجز التام
الكامل غير المنقوص.
حين سرت مكبلا بالقيود والأصفاد ... كانت يداي مربوطتين بسلسلة من
الحديد، مسحوبتين خلف ظهري تماما! من السجن الكبير في مونتريال إلى قاعة
المحكمة، كانت يداي اللتان طالما حملتاها حنانا وولها ونشوة للروح، هما
يداي اللتان أفاضتا بما وهبتا، وأغدقتا بما سقتا .. عذوبة وريا .. بلا حد
بلا عدد.
هي الستون من عمري ذاتها التي وهبتها لها، هي الستون ذاتها التي نثرتها على أصابع أيامها بغزارة الوجود كله .. حبا وحسا وعاطفة هي ابنتي التي كانت تستوعبني شعورا، وتستوعبني قلبا، وتستوعب كل شيء في نفسي البعيدة أنا ابن الستين الذي أعرف ملامح صوتها إن اختلج حزنه، وإن باح سروره. هي التي كانت تبلغ بي عند سرورها مفارقة كل شيء من دنياي العاجزة.
يا ابنتي! التي ليس بوسعي بعد كل الذي جرى، وكل الذي كان من شتاتي، وضعفي، وعجزي، وما ليس بوسعي الآن أن أنشره، وما أنا عاجز كل العجز عن كشف مكنونه، وبيان معناه، إن بعض الحزن أجل من أن يُسمى، وإن بعض الهوان أقسى من أن يوصف .. حسبك يا صغيرتي .. أن تعلمي أن أباك سار في المحكمة، بشعور المغلوب الذي لا ناصر معه إلا ربه في باطنه يناجيه، بضراعة مريم ابنة عمران "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا". أغفري لي ربما ما زلت قصية وبعيدة عن إدراك وحشة اللحظة، ورهبتها، وقسوتها، وغربتها على جاهي العزيز بين الناس ..!
ذهبت كل الصور مذعورة أمام عيني، أنت التي على ضفاف حلم وهبك لي ربي ..! وعند غفوة حلمي بنجاحك الكبير المرتقب .. كان منك ما لا أحتمله .. ما أنا عاجز عن تصديقه .. ما غاب عني بكل حس ضعيف عاجز أنا فيه الآن أن أسبر غوره ..! لذا سرت معهم لا أبصر شيئا .. حولي .. ولا أرى من كان معي .. ولا من كان خلفي.. ولا شعرت بوجع عظم كتفي الملتف بسلسلة من حديد خلف ظهري ..! أنا ابن الستين الذي وهبك إياها كاملة حتى لحظة العجز الأخيرة التي كانت تحاصره في كل مكان في كندا .. البلد الذي لم يكن سبب غيرك أنت يبرر وجوده فيه ..!
بكيت ..! لأني ما زلت في غيبوبة ذاتي عن ذاتي، وحيرة نفسي من نفسي، كم مرة هممت بالسؤال فعجزت ..! وكم مرة هممت بالنظر فلم أبصر ..! وكم سعيت أن أحس وأدرك ما حولي فعجزت عن هذا كله...!
كرجل شرقي كبير .. هذا الرجل الذي كنته .. والذي حسبت نفسي أني سأخرج من مونتريال كما دخلتها أول مرة فخورا بك .. تعبرين بمستقبلك فوق هذه السنوات العزيزة المتبقية من عمري ..! إن الآباء يستلبهم حب بناتهم كل يوم أكثر .. فلما تم لقلبي حبك بتمامه كله .. كان منك ما لا أستطيع حمله .. ولا أقدر على الصبر على وجعه .. فكان مني قسوة غيرة المحب المشفق لا أكثر .. دون غائلة ضغينة .. ولا تعمد قسوة ..!
يا أيتها المبتعثات جميعا..! أحيانا الواجب لا نستطيعه .. ولا نقدر عليه .. فحسبكن مما جرى لي، وجرى علي ..! ألا تكن كفرع شجرة الموز تقتل أمها بحبس ماء الحياة عنها إن نمت وكبرت ..
إن الله غمرني بالرحمة .. وأنا معلق بين ظلمة من ظلمني.. وحبي المتواري في أعماق ذاتي له .. فكيف يكره المرء ابنته وهي ذاته، وكيف يحبها وهي ذنبه الصارخ بالفضيحة بين الناس! إنا لله وإنا إليه راجعون ...!
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
هي الستون من عمري ذاتها التي وهبتها لها، هي الستون ذاتها التي نثرتها على أصابع أيامها بغزارة الوجود كله .. حبا وحسا وعاطفة هي ابنتي التي كانت تستوعبني شعورا، وتستوعبني قلبا، وتستوعب كل شيء في نفسي البعيدة أنا ابن الستين الذي أعرف ملامح صوتها إن اختلج حزنه، وإن باح سروره. هي التي كانت تبلغ بي عند سرورها مفارقة كل شيء من دنياي العاجزة.
يا ابنتي! التي ليس بوسعي بعد كل الذي جرى، وكل الذي كان من شتاتي، وضعفي، وعجزي، وما ليس بوسعي الآن أن أنشره، وما أنا عاجز كل العجز عن كشف مكنونه، وبيان معناه، إن بعض الحزن أجل من أن يُسمى، وإن بعض الهوان أقسى من أن يوصف .. حسبك يا صغيرتي .. أن تعلمي أن أباك سار في المحكمة، بشعور المغلوب الذي لا ناصر معه إلا ربه في باطنه يناجيه، بضراعة مريم ابنة عمران "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا". أغفري لي ربما ما زلت قصية وبعيدة عن إدراك وحشة اللحظة، ورهبتها، وقسوتها، وغربتها على جاهي العزيز بين الناس ..!
ذهبت كل الصور مذعورة أمام عيني، أنت التي على ضفاف حلم وهبك لي ربي ..! وعند غفوة حلمي بنجاحك الكبير المرتقب .. كان منك ما لا أحتمله .. ما أنا عاجز عن تصديقه .. ما غاب عني بكل حس ضعيف عاجز أنا فيه الآن أن أسبر غوره ..! لذا سرت معهم لا أبصر شيئا .. حولي .. ولا أرى من كان معي .. ولا من كان خلفي.. ولا شعرت بوجع عظم كتفي الملتف بسلسلة من حديد خلف ظهري ..! أنا ابن الستين الذي وهبك إياها كاملة حتى لحظة العجز الأخيرة التي كانت تحاصره في كل مكان في كندا .. البلد الذي لم يكن سبب غيرك أنت يبرر وجوده فيه ..!
بكيت ..! لأني ما زلت في غيبوبة ذاتي عن ذاتي، وحيرة نفسي من نفسي، كم مرة هممت بالسؤال فعجزت ..! وكم مرة هممت بالنظر فلم أبصر ..! وكم سعيت أن أحس وأدرك ما حولي فعجزت عن هذا كله...!
كرجل شرقي كبير .. هذا الرجل الذي كنته .. والذي حسبت نفسي أني سأخرج من مونتريال كما دخلتها أول مرة فخورا بك .. تعبرين بمستقبلك فوق هذه السنوات العزيزة المتبقية من عمري ..! إن الآباء يستلبهم حب بناتهم كل يوم أكثر .. فلما تم لقلبي حبك بتمامه كله .. كان منك ما لا أستطيع حمله .. ولا أقدر على الصبر على وجعه .. فكان مني قسوة غيرة المحب المشفق لا أكثر .. دون غائلة ضغينة .. ولا تعمد قسوة ..!
يا أيتها المبتعثات جميعا..! أحيانا الواجب لا نستطيعه .. ولا نقدر عليه .. فحسبكن مما جرى لي، وجرى علي ..! ألا تكن كفرع شجرة الموز تقتل أمها بحبس ماء الحياة عنها إن نمت وكبرت ..
إن الله غمرني بالرحمة .. وأنا معلق بين ظلمة من ظلمني.. وحبي المتواري في أعماق ذاتي له .. فكيف يكره المرء ابنته وهي ذاته، وكيف يحبها وهي ذنبه الصارخ بالفضيحة بين الناس! إنا لله وإنا إليه راجعون ...!
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..