لا يمكن أن يتدخل حزب العدالة والتنمية في ما يأكله الناس من حلال أو حرام، ولا سبيل لأن يفرض إقامة الحدود أو يأمر بتنفيذ الرؤية الحرفية لأحكام الشريعة كما يريد تطبيقها أهل الإسلام السياسي.
العرب
تتباهى جماعات الإخوان في الوطن العربي بالنموذج التركي، باعتباره يمثل تجربة ناجحة لما يمكن أن يحققه حكم إخواني لبلد إسلامي، وينسون أن تركيا بلد علماني بحكم الدستور والواقع، منذ أن وضعه الزعيم مصطفى كمال أتاتورك (1881- 1938) على طريق الحداثة، معلنا القطيعة مع دولة الخلافة العثمانية، مؤسسا لمجتمع العلم والعقل والدولة المدنية، مع وجود المؤسسة العسكرية، حارسا ورقيبا وضامنا لوجود الدولة العلمانية واستمرارها، ومهما كان نوع الحاكم وعقيدته، فهناك قضبان، مثل قضبان القطار، تضبط حركته، وتحدد المحطات التي ينطلق منها ويمر بها ويصل إليها، وأي خروج على هذه القضبان معناه الهلاك لهذا الحاكم.
بدعوة كريمة من رابطة الكتاب السوريين، المناوئة للنظام الأسدي، سافرت إلى تركيا، وإلى مدينة انطاكيا لحضور احتفالية أدبية للرابطة، وتبدو أنطاكيا مدينة تتوفر فيها عناصر ومؤهلات المدينة التركية الحديثة، مأهولة بالنازحين السوريين، ويتكلم أهلها العربية مع التركية، باعتبار جذور التاريخية، وتنعكس على المدينة مظاهر النهضة الاقتصادية والرواج السياحي والتمازج الجميل العظيم بين الأصالة والمعاصرة، والتقليد والتجديد، والتاريخ العريق الذي يتجاور ويتحاور ويتمازج مع روح العصر ويستوعب الحضارة الغربية الحديثة.
لم يكن ممكنا أن أذهب إلى تركيا دون زيارة إلى العاصمة التاريخية والتجارية والسياحية، إسطنبول لأجدها تزدهي بحلل التقدم التي ترفل فيها، ولأجد في هذه الزيارة كما في الزيارات سابقة، أن هناك شيئا جديدا يضيف جمالا إلى جمالها، وملمحا نهضويا من معالم نهضتها وتقدمها، وهو ما لاحظته على مدى خمسين عاما من الزيارات المتكررة لها، فقد كانت أولى زياراتي لهذه المدينة في أبريل عام 1964، التي سجلت توثيقا لها عبر تحقيقات صحفية نشرتها في صحيفة الميدان الليبية، وأعود هذه المرة لأمنح لنفسي عناصر البهاء والمتعة والراحة التي تحفل بها هذه المدينة، وعبق التاريخ الذي يضوع من جنباتها، وملامح الحضارة المعاصرة التي تتمثل في صروح حديثة مثل المركز التجاري المسمى جواهر مول، والذي يضاهي أكبر وأجمل المراكز التجارية في حواضر الغرب، من إنشاء وابتكار صديق عزيز عرفته منذ أربعين عاما أثناء عمله في ليبيا، المعماري الشهير إبراهيم جواهر، وهو صديق لرئيس الوزراء التركي، ويتحدث عنه بإكبار قائلا إنه كان داعما لمشاريعه العمرانية في اسطنبول منذ أن كان عمدة لها.
ورغم أنني لم أكن اشغل نفسي بالجوانب السياسية، لأن أمامي أيام إجازة قليلة، أردت أن أقضيها في استرخاء واستمتاع بالأجواء السياحية الجمالية لمدينة وقعت في غرامها منذ أيام الصبا، إلا أن هناك واقعا لابد أن يفرض نفسه على الزائر إلى تركيا، ويقتحم عليه حياته، ويقول له بلغة الإعلام ولغة الشارع التركي إنه هنا.
وقبل أن أدخل في الحديث عما رأيته من انقسام واضح في الشارع السياسي، وشرح لما يبدو واضحا كمثل نهر له ضفتان، سأخصص أسطرا قليلة لتبيان حقيقة أنه لا وجود مطلقا لمظاهر الحكم الإسلامي في تركيا، فهي بلد سياحي تضاعف فيه عدد السياح أكثر من مرة تحت حكم أردوغان وحزب العدالة والتنمية الذي يقوده، وهي سياحة تقوم ليس على الآثار والتاريخ العريق فقط، وإنما تقوم في جانبها الأكبر على عوامل ومؤهلات الاستقطاب السياحي الأخرى، وأهمها صناعة الترفيه وهي صناعة مزدهرة ينخرط فيها ملايين البشر، وأقصد بذلك وجود عشرات ألاف الحانات والملاهي ودكاكين التدليك التي هي غطاء لدكاكين الدعارة، بل هناك مدينة مثل أنطاليا تشتهر بشواطئ العري ويقصدها عشرات الملايين من السواح لهذا الغرض، ولا يمكن أن يتدخل حزب العدالة والتنمية في ما يأكله الناس من حلال أو حرام أو في ما يشربونه من كحول أو غير كحول، ولا سبيل لأن يفرض إقامة الحدود أو يأمر بتنفيذ الرؤية الحرفية لأحكام الشريعة كما يريد تطبيقها أهل الإسلام السياسي في بلادنا العربية.
الخلاف الموجود على السطح يلمسه كل من يزور البلاد، يبدو واضحا جليا، بل يصل إلى درجة كبيرة من الحدة والتناقض، حول سياسات الحزب الحاكم وشخصية أردوغان نفسه، فهناك طبعا المدافعون عنه حتى وإن لم يكونوا من أتباع حزبه، ويرون أن البلاد حققت نهوضا وازدهارا على يديه بشكل غير مسبوق في تاريخ تركيا الحديث، كما عرفت عدالة اجتماعية تمثلت في مشاريع إسكانية عملاقة شملت كل أرجاء تركيا، ونجحت في توفير السكن للمعوزين والفقراء، كما نجحت سياسة الحزب في تقديم فرص العمل للعاطلين، وأعطت هدفا لحياة ملايين الشباب الذين كان يأكلهم الضياع.
أما بالنسبة إلى المناوئين له وبعضهم من أهل الهوية الإسلامية أتباع صديقه القديم وخصمه الحالي فتح الله كولن، فإن أردوغان حاكم تسلطي عدواني حاقد انتقامي، ويشيرون إلى الفساد الذي ظهر في صفوف عصابة الحكم التي يقودها كما يقولون، وقد استقال بعضهم ممن وجدوا في حالة تلبس، ويتحدثون عن تسجيلات له شخصيا، نقلتها مواقع التواصل الاجتماعي بالصوت والصورة وهو يتحدث لابنه بلال، ويأمره بإخفاء مئات الملايين من الدولارات، وهو ما دفع أردوغان إلى محاولة غلق هذه المواقع مثل فيسبوك وتويتر، لأنها تواصل الكشف عن فضائحه، في حركة تسلطية انتقامية ولم ينجح في ذلك لأن القضاء تصدى له.
أما الانقسام الأكبر في الرأي العام التركي، فهو حول موقف حزب أردوغان من الحرب السورية وبالذات من سياسة دعمه للإسلاميين، إلا أن الحيرة قائمة حول مدى تورطه في دعم الإسلاميين المتشددين، لأن الأوراق اختلطت وتشابكت إلى حد صار من الصعب التفريق بين من هو معتدل، ومن هو متطرف في جماعة الإسلام السياسي، وهو ما يراه بعض المراقبين يمثل قنبلة موقوتة يمكن أن تتفجر داخل الحزب نفسه.
د. أحمد إبراهيم الفقيه
كاتب ليبي
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
العرب
تتباهى جماعات الإخوان في الوطن العربي بالنموذج التركي، باعتباره يمثل تجربة ناجحة لما يمكن أن يحققه حكم إخواني لبلد إسلامي، وينسون أن تركيا بلد علماني بحكم الدستور والواقع، منذ أن وضعه الزعيم مصطفى كمال أتاتورك (1881- 1938) على طريق الحداثة، معلنا القطيعة مع دولة الخلافة العثمانية، مؤسسا لمجتمع العلم والعقل والدولة المدنية، مع وجود المؤسسة العسكرية، حارسا ورقيبا وضامنا لوجود الدولة العلمانية واستمرارها، ومهما كان نوع الحاكم وعقيدته، فهناك قضبان، مثل قضبان القطار، تضبط حركته، وتحدد المحطات التي ينطلق منها ويمر بها ويصل إليها، وأي خروج على هذه القضبان معناه الهلاك لهذا الحاكم.
بدعوة كريمة من رابطة الكتاب السوريين، المناوئة للنظام الأسدي، سافرت إلى تركيا، وإلى مدينة انطاكيا لحضور احتفالية أدبية للرابطة، وتبدو أنطاكيا مدينة تتوفر فيها عناصر ومؤهلات المدينة التركية الحديثة، مأهولة بالنازحين السوريين، ويتكلم أهلها العربية مع التركية، باعتبار جذور التاريخية، وتنعكس على المدينة مظاهر النهضة الاقتصادية والرواج السياحي والتمازج الجميل العظيم بين الأصالة والمعاصرة، والتقليد والتجديد، والتاريخ العريق الذي يتجاور ويتحاور ويتمازج مع روح العصر ويستوعب الحضارة الغربية الحديثة.
لم يكن ممكنا أن أذهب إلى تركيا دون زيارة إلى العاصمة التاريخية والتجارية والسياحية، إسطنبول لأجدها تزدهي بحلل التقدم التي ترفل فيها، ولأجد في هذه الزيارة كما في الزيارات سابقة، أن هناك شيئا جديدا يضيف جمالا إلى جمالها، وملمحا نهضويا من معالم نهضتها وتقدمها، وهو ما لاحظته على مدى خمسين عاما من الزيارات المتكررة لها، فقد كانت أولى زياراتي لهذه المدينة في أبريل عام 1964، التي سجلت توثيقا لها عبر تحقيقات صحفية نشرتها في صحيفة الميدان الليبية، وأعود هذه المرة لأمنح لنفسي عناصر البهاء والمتعة والراحة التي تحفل بها هذه المدينة، وعبق التاريخ الذي يضوع من جنباتها، وملامح الحضارة المعاصرة التي تتمثل في صروح حديثة مثل المركز التجاري المسمى جواهر مول، والذي يضاهي أكبر وأجمل المراكز التجارية في حواضر الغرب، من إنشاء وابتكار صديق عزيز عرفته منذ أربعين عاما أثناء عمله في ليبيا، المعماري الشهير إبراهيم جواهر، وهو صديق لرئيس الوزراء التركي، ويتحدث عنه بإكبار قائلا إنه كان داعما لمشاريعه العمرانية في اسطنبول منذ أن كان عمدة لها.
ورغم أنني لم أكن اشغل نفسي بالجوانب السياسية، لأن أمامي أيام إجازة قليلة، أردت أن أقضيها في استرخاء واستمتاع بالأجواء السياحية الجمالية لمدينة وقعت في غرامها منذ أيام الصبا، إلا أن هناك واقعا لابد أن يفرض نفسه على الزائر إلى تركيا، ويقتحم عليه حياته، ويقول له بلغة الإعلام ولغة الشارع التركي إنه هنا.
وقبل أن أدخل في الحديث عما رأيته من انقسام واضح في الشارع السياسي، وشرح لما يبدو واضحا كمثل نهر له ضفتان، سأخصص أسطرا قليلة لتبيان حقيقة أنه لا وجود مطلقا لمظاهر الحكم الإسلامي في تركيا، فهي بلد سياحي تضاعف فيه عدد السياح أكثر من مرة تحت حكم أردوغان وحزب العدالة والتنمية الذي يقوده، وهي سياحة تقوم ليس على الآثار والتاريخ العريق فقط، وإنما تقوم في جانبها الأكبر على عوامل ومؤهلات الاستقطاب السياحي الأخرى، وأهمها صناعة الترفيه وهي صناعة مزدهرة ينخرط فيها ملايين البشر، وأقصد بذلك وجود عشرات ألاف الحانات والملاهي ودكاكين التدليك التي هي غطاء لدكاكين الدعارة، بل هناك مدينة مثل أنطاليا تشتهر بشواطئ العري ويقصدها عشرات الملايين من السواح لهذا الغرض، ولا يمكن أن يتدخل حزب العدالة والتنمية في ما يأكله الناس من حلال أو حرام أو في ما يشربونه من كحول أو غير كحول، ولا سبيل لأن يفرض إقامة الحدود أو يأمر بتنفيذ الرؤية الحرفية لأحكام الشريعة كما يريد تطبيقها أهل الإسلام السياسي في بلادنا العربية.
الخلاف الموجود على السطح يلمسه كل من يزور البلاد، يبدو واضحا جليا، بل يصل إلى درجة كبيرة من الحدة والتناقض، حول سياسات الحزب الحاكم وشخصية أردوغان نفسه، فهناك طبعا المدافعون عنه حتى وإن لم يكونوا من أتباع حزبه، ويرون أن البلاد حققت نهوضا وازدهارا على يديه بشكل غير مسبوق في تاريخ تركيا الحديث، كما عرفت عدالة اجتماعية تمثلت في مشاريع إسكانية عملاقة شملت كل أرجاء تركيا، ونجحت في توفير السكن للمعوزين والفقراء، كما نجحت سياسة الحزب في تقديم فرص العمل للعاطلين، وأعطت هدفا لحياة ملايين الشباب الذين كان يأكلهم الضياع.
أما بالنسبة إلى المناوئين له وبعضهم من أهل الهوية الإسلامية أتباع صديقه القديم وخصمه الحالي فتح الله كولن، فإن أردوغان حاكم تسلطي عدواني حاقد انتقامي، ويشيرون إلى الفساد الذي ظهر في صفوف عصابة الحكم التي يقودها كما يقولون، وقد استقال بعضهم ممن وجدوا في حالة تلبس، ويتحدثون عن تسجيلات له شخصيا، نقلتها مواقع التواصل الاجتماعي بالصوت والصورة وهو يتحدث لابنه بلال، ويأمره بإخفاء مئات الملايين من الدولارات، وهو ما دفع أردوغان إلى محاولة غلق هذه المواقع مثل فيسبوك وتويتر، لأنها تواصل الكشف عن فضائحه، في حركة تسلطية انتقامية ولم ينجح في ذلك لأن القضاء تصدى له.
أما الانقسام الأكبر في الرأي العام التركي، فهو حول موقف حزب أردوغان من الحرب السورية وبالذات من سياسة دعمه للإسلاميين، إلا أن الحيرة قائمة حول مدى تورطه في دعم الإسلاميين المتشددين، لأن الأوراق اختلطت وتشابكت إلى حد صار من الصعب التفريق بين من هو معتدل، ومن هو متطرف في جماعة الإسلام السياسي، وهو ما يراه بعض المراقبين يمثل قنبلة موقوتة يمكن أن تتفجر داخل الحزب نفسه.
د. أحمد إبراهيم الفقيه
كاتب ليبي
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..