الأربعاء، 24 سبتمبر 2014

اللحظات الأخيرة في حياة ملكة العراق عاليه

 تنشر ذاكرة عراقية صفحات من اوراق الراحل الدكتور كمال السامرائي والتي يروي فيها جانباً من التاريخ السياسي والاجتماعي في العراق ..كتب الله عليّ ان أعيش في قصر الزهور ببغداد نحواً من ستة أسابيع أعنى فيها بالملكة عالية زوجة الملك غازي التي كانت يومئذ مصابة بمرض عضال لا يرجى شفاؤها منه، ولم أغادر القصر الا بعدما لفظت أنفاسها الأخيرة وهي مرتمية بإعياء على كتقي الأيسر، وقد سمعت وشاهدت أثناء إقامتي بهذا القصر أموراً كثيرة سجلتها بدقة وأمانة كجزء من تاريخ العراق الحديث في تلك الحقبة.
شكت الملكة عالية من أوجاع في بطنها السفلى فسافرت مع أخيها عبد الإله الى لندن بناء على اقتراح أحد الأطباء الإنكليز العاملين في العراق الدكتور (دكسن فرث) وعادت الى بغداد بعد بضعة أسابيع حين ثبت للأطباء الاختصاصين ان مرضها قد استفحل في جوفهاوأصاب كل عضو فيه واجتاز مرحلة المعالجة الشافية ولم يبق في وسع الطب والأطباء الا استعمال الحقن لتسكين الآلام المبرحة التي يثيرها ذلك المرض الخبيث، فلا دواء ولا وسيلة أخرى في الطب لإيقاف انتشاره وما يفعله من تخريبات مميتة تنتشر في أجهزة الجسم واحداً إثر الآخر.
في قصر الرحاب فوجئت بخبر مرض الملكة عالية ساعة استدعائي رئيس التشريفات الملكية تحسين قدري الى قصر الرحاب وحين صرت في صالة القصر كان قد سبقني اليها الدكتور هاشم الوتري والدكتور هادي الباجه جي وكان معهما الطبيب الإنكليزي دكسن فرث، وعلمت من الطبيب الأخير انه هو والملكة عالية وأخوها عبد الإله، قد وصلوا تواً الى بغداد، وفي تلك اللحظة ونحن نتحدث عن الملكة دخل عبد الإله الصالة وعليه علامات التعب جراء الرحلة الطويلة بطائرة (الفايكاونت) العراقية.
قال يخاطب دكسن فرث: أرجوك أن تشرح للإخوان مشكلة جلالة الملكة وما يجب أن تفعلوه لأجلها إنها تتألم فأعملوا شيئاً بالله عليكم وسأترككم الآن على أن تطلبوني حين تنتهون من التشاور في أمرها واستدار ليخرج من الصالة وما كاد يصل الباب حتى استدار وخاطبنا جميعاً قائلاً: إن الملكة لا تعرف طبيعة مرضها فاحذروا أن يفلت من لسانكم ما يشير الى ذلك ثم خرج من الصالة وما كاد يوصد بابها من ورائه حتى عاد وهو ينادي كلبه الضخم، الذي لم ينته بعد من شم أذيال سراويلنا واحداً بعد واحد وأخرجه عنوة وهو يسحبه من سلسلته وكان يبدو عليه الاضطراب وهو يستنشق بتلاحق دخان سيكارته.
لم تكن صالة قصر الرحاب التي اجتمعنا فيها توحي بأنها غير اعتيادية ولا هي أفضل من صالات البيوت البغدادية الميسورة الحال، فسعتها معتدلة، وأثاثها مألوف وثمة صورة زيتية حسنة الصنع للملك علي (والد عبد الإله) وأخرى لأخيه الملك فيصل الأول، وبينهما صورة لأبيهما الملك حسين وصورة أخرى كبيرة معلقة على جدار جانبي، تمثل عدداً من كلاب (الهاوند) تطارد إبن آوى وهو يعدو مذعوراً أمامها ومن وراء الكلاب جمهرة من الفرسان على ظهور الخيل، وتملأ معظم الجانب الأيسر من الصالة خزانة كبيرة صفت على رفوفها كتب عرفت من بينها الموسوعة البريطانية ذات الغلاف الجلدي الثمين والى جانب الخزانة صندوق خشبي جميل الصنع رفع غطاؤه فبانت في عمقه قناني المشروبات المختلفة.لم يطل النقاش في موضوع الملكة المريضة فعلتها قد شخصت في لندن لذلك أقتصر نقاشنا على ما يجب ان نعمله لراحتها وتخفيف الآلام التي لا تنفك تداهمها بقسوة، كما نسب في هذا الاجتماع ان أكون (أنا) دوماً في قصر الزهور حيث تسكن الملكة المريضة لألبي طلباتها العاجلة.
لم أكن حتى ذلك اليوم قد رأيت الملكة المريضة وكلما عرفته عنها وعن مرضها كان نقلاً إليّ من الدكتور دكسن فرث، وفي اليوم التالي أتصل بي هذا الطبيب وحدد موعداً ليأخذني الى الملكة في قصر الزهور ويقدمني إليها كطبيب خلفاً له بعد ان يغادر الى لندن بعد يومين، كانت الساعة الرابعة بعد الظهر حينما وجدت الدكتور دكسن فرث ينتظرني عند جسر الخر من طرفه الثاني وحين تبعته الى المنعطف الذي يؤدي الى قصر الزهور أوقفني رجل بهيئة فلاح وطلب مني ان اسلك الطريق الأيمن لأصل الى المدخل الخلفي للقصر وهو إجراء حدث بعد عودة الملكة من لندن لإبعاد أصوات السيارات التي تصل الى باب القصر الرئيسي او تغادره عن مخدع الملكة المريضة الذي يقع فوق المدخل الرئيسي لقصر الزهور، وقد ظهر لي القصر وأنا أدرج في هذا الطريق بسقوفه القرميدية الحمراء وسط غابة تشكو الإهمال والعطش وفي طريقي شاهت بستانياً يعتدل واقفاً في مكانه ليرقب سيارتي وأنا أقودها ببطء، كما شاهدت بستانياً آخر قريباً منه ينحني على حزمة من الأغصان الجافة يلمها بيديه ويرصها بركبتيه على الأرض.وحين وصلت الى الباب الخلفي للقصر وهو المدخل الى مطبخه أيضاً ألفيت الدكتور دكسن فرث في انتظاري فلما صرت الى جانبه تقدمي بخطى بطيئة الى داخل القصر لنجتاز صالة صغيرة صفت على جوانب ثلاثة منها أرائك بدا لي قماشها باهتاً او عتيقاً، وفي وسط هذه الصالة طاولة مستديرة عليها وعاء بلوري مليء بزهور طرية، ولما اجتزنا هذه الصالة دخلنا دهليزاً قليل الإضاءة تنفذ الى جانبه الأيسر أبواب ثلاث غير متقاربة ومن جانبه الأيمن باب وسيعة عرفت بعدئذ انها الباب التي تنفتح على قاعة العرش.مقابلة الملكة المريضةلقد بدا لي مشاهدته الى الآن من قصر الزهور كئيباً او مهجوراً، فلم أرى في الصالة التي اجتزناها ولا في الممر من يقودنا الى السلم الذي يوصلنا الى الطابق الثاني من القصر حيث حجرة الملكة المريضة، وبدا لي ان الدكتور دكسن فرث كان يعرف طريقه الى الملكة مثلما كان يعرف الطريق الذي يجب ان يسلكه الى المدخل الخلفي للقصر دون إرشاداً من أحد، فقد تقدمني بثقة الى السلم العريض المرمري المقابل للمدخل الرئيسي للقصر وعلى ناصية السلم العليا صورة الملك فيصل الثاني في صباه والى جانبه الكلب الضخم الذي رأيته قبل يوم في قصر الرحاب، كانت حجرة الملكة عالية على يسار نهاية السلم وكان بابها مغلقاً الا قليلاً ولما نقر الدكتور دكسن فرث على الباب بأصبعه طلعت علينا سيدة ملونة في عقدها الرابع أو الخامس من العمر ووسعت لنا فرجة الباب وهي تقول بلهجة لا تبدو عراقية.. تفضلوا.


كان واضحاً ان الملكة قد أخطرت بحضورنا الى القصر وانها تترقب مثولنا أمامها بين لحظة وأخرى، كانت مستلقية في سريرها حيث ولجنا حجرتها وعلى وجهها ارتياح مصطنع، قلت لها: صباح الخير ستي الملكة.. وشعرت حالاً إني أخطأت في هذه التحية فقد كان الوقت يقرب من المساء، اما الملكة فقد ابتسمت بغير تكلف وقالت لتستر خجلي: لا بأس فكل النهار في نظري صباح، وهنا قال الدكتور دكسن فرث يخاطب الملكة: أنه الدكتور السامرائي يا صاحبة الجلالة، فقالت الملكة: سمعت عنه قبلاً، وأردفت وهي تلتفت نحوي أهلاً دكتور كمال وبسطت يدها اليمنى إليّ فصافحتها بحياء واهتمام وأنا أشعر بارتياح مفاجئ اذ خاطبتني بسمي الأول وتحول دكسن فرث نحو منضدة عند رأس سرير الملكة وصار يمر بأصابعه على عدد من القناني التي صفت عليها ففهمت انه يريد ان يعلمني بصمت ان ما على هذه المنضدة هي الأدوية التي سأحتاج اليها في معالجة الملكة بعد مغادرته العراق، كانت تلك الأدوية أنواعاً من العقاقير المقوية للبدن والمسكنة للآلام وجميعها مألوفة عندي فلم أعلق او استفهم عن أحدها، وانتهت هذه الزيارة القصيرة بعد دقائق وانسحبت من حضرة الملكة وراء دكسن فرث وأنا أقول لنفسي: ان قصر الزهور هو الملكة عالية وكلاهما في دور الاحتضار.وفي مساء اليوم التالي اخبرني دكسن فرث تلفونياً ان ثمة تغييرناً طرا على نهج خدمة الملكة وبموجبه سيبقى هو في بغداد بناءاً على طلب الأمير عبد الإله وسأسكن أنا في قصر الزهور كطبيب ثان الى جانبه لخدمة الملكة وهذا ما حصل فالتزمت مقامي في الطابق الأرضي حيث رتبت لي حجرة مريحة فلا أصعد الى الطابق الأعلى الا إذا طلبت الي ذلك، وعموماً كانت طلبات الملكة مني بسيطة لا تتعدى الاستشارات الطبية العابرة، اما أكثر من ذلك فيضطلع بها دكسن فرث وكنت انسحب من حضرتها حالما أنفذ طلباتها ما لم تطلب مني خلاف ذلك، فاذا سألت (عزة) ان تأتي بكرسي الى جانب سريرها أفهم حين ذاك انها ترغب ان امكث الى جانبها لتتحدث معي، وعزة هذه ليست بنت الملك فيصل الأول بل هي ربيبة أم عبد الإله وهي التي فتحت لنا باب حجرة الملكة حين زرتها مع دكسن فرث أول مرة.
لا أذكر ان الملكة أشارت يوماً الى طبيعة مرضها او استفهمت مني عنه، وفي ظني انها كانت تعرف ذلك فتعبر عن مصيبتها بتكرار الاستغفار من الله والحمد له، كما لا أذكر يوماً خرجت فيه عن شخصيتها المألوفة حتى وهي في أشد نوبات الألم، وكانت المسكنات في أيامها الأخيرة قد فقدت مفعولها فتطلب منا أحياناً ان نتركها وحدها في هذه الحالة وكانت تحصر حديثها حين يكون ألمها طفيفاً في شؤون ابنها الملك فيصل الثاني وفي موضوع الحديقة والاعتناء بتنسيقها والاهتمام باسقائها، قالت لي ذات يوم: سمعت أنك تعنى بجني الورود، كان الكلام يتعبها فتنطق بتقطع فقد تكمل العبارة بحركة من يدها، فسألتني: هل في حديقتك وردة (الأميرة)، فلما أجبتها بالنفي، قالت: ان أصل اسم هذه الوردة الجميلة «أنثينا» وأنا التي أطلقت عليها اسم (الأميرة) لنظارتها وكبريائها وقد أدخلتها الى بغداد وطلبت من أمانة العاصمة ان تعممها بين هواة الورود، واستراحت لحظة ثم قالت: وأنا أيضاً أدخلت وردة (ذي كنك) وسميتها (سلطان الورد).
كانت الملكة تهوى الكلام عن الوردة فتابعت تقول: ان (سلطان الورد) هي الوردة الوحيدة ذات العطر القوي ويزداد أريجها في الظل وفي الليل أيضاً.
كانت الملكة عالية ذات حلاوة في خلقتها وخلقها وفي نطقها وتحدثها باسمة دوماً ولا تنسى قد أن تشكر من يقدم لها خدمة مهما كانت ضئيلة، كما كانت عطوفة على الفقراء وتشرف بنفسها على توزيع طعام العشاء من مطبخ القصر في أيام الجمع، كانت هذه المرأة ملكة نبل لا ملكة حكم.
زيارة للملك عبد الله ذات يوم سألتني الملكة: هل رأيت عمي الملك عبد الله لقد جاء ليراني وهل كنت اعلم انه في بغداد، فأجبتها: كلا يا سيدتي لم أتشرف بمقابلته، فقالت: سأطلب من تحسين قدري أن يرتب لك مقابلة معه، وفي مساء اليوم نفسه أخبرني تحسين قدري ان أكون جاهزاً في اليوم التالي لزيارة الملك عبد الله، ثم أردف في الساعة الرابعة عصراً، وقال أيضاً: ان الملك عبد الله يعرف الدكتور الوتري وسأخبره أن يكون معنا في زيارته، وقبل الساعة الرابعة كنا في دار صغيرة متواضعة ذات حديقة كبيرة مهملة ربما كانت تسمى (قصر الملح) واستقبلنا شاب أنيق في العقد الثالث من عمره وهو يقول: مرحباً إن جلالة الملك في انتظاركم وسأخبره بحضوركم حالاً، كان الملك عبد الله واقفاً وسط غرفة غير كبيرة غلفت بألواح خشب الصاج عدا الموقد الأنيق المحدد بقطع من القاشاني مرصوفة بذوق وموازنة، بسط الملك عبد الله يده نحونا قبل ان يرحب بنا ثم قال: مرحباً بالحكماء يا مرحبا، كرر ترحيبه بنا وهو يقول: تفضلوا..أرجوكم، مشيراً بيديه الى أريكة بجانب كرسي منفرد، ولما انتظرنا جلوسه على ذلك الكرسي قال بتودد: تفضلوا يا أخواني تفضلوا أرجوكم وأثناء جلوسنا رن جرس التليفون الذي كان بمحاذاة كرسي الملك عبد الله فتناوله دون أن يتحرك من مكانه وسمعته يردد بشيء من الهلع: وماذا قال الطبيب؟ لا بأس أبق معها والدكتور هاشم الوتري وكمال السامرائي معي هل تريد الدكتور الوتري؟ طيب.. طيب سلامات، وأعاد سماعة التليفون الى مكانها وألتفت إلينا قائلاً: الملكة أم عبد الإله أغمي عليها.. إرهاق ساعدها الله كنت أتوقع أن يأتي عبد الإله وأنتما معي لكنه أعتذر بسبب هذا الحادث، لابد لي من رأيتها اليوم لأنني سأعود الى عمان صباحاً.ورأينا بعد ما سمعنا ما حدث أن ننهي زيارتنا للملك عبد الله فودعنا الملك واقفاً وهو يقول بتكرار مرحباً يا مرحبا.اجتماع مجلس الوزراء من أجل قارورة ماء كنت في صباح ذلك اليوم أنتظر الدكتور هاشم الوتري والدكتور مهدي فوزي لنضع صيغة التقرير الطبي اليومي عن صحة الملكة ولم يكن أي منهما قد رأى الملكة مدة مرضها ثم نترجمه الى اللغة الإنكليزية ليوقع عليه الدكتور دكسن فرث الى جانب تواقيعنا قبل أن يذاع من الإذاعة أو ينشر في الصحف المحلية في باب (التشريفات الملكية).
وفي ليلة جرنا الكلام عن تاريخ بغداد في العهد العثماني وعن الطب والأطباء في تلك الحقبة وقال نوري السعيد فيما قال: إنه في صغره أصيب في حمى طالت به بضعة أسابيع فاستدعي له الدكتور يانقو ثم الدكتور مظفر بك وهما تركيان وكانا أشهر طبيبين في بغداد، فلما عجزا عن إبرائه من الحمى التجأت أمه الى عجوز في محلة الطوب تستشيرها فنصحتها هذه العجوز بشربة بول أم البنت، وكان نوري السعيد يتكلم بالإنكليزية ليفهمه دكسن، وبينما كان يضحك وهو يسرد حكايته عن البول سأله دكسن متعجباً: وهل شربت ذلك البول يا باشا؟ فأجابه نوري السعيد ضاحكاً: لم أعرف إني شربت بولاً إلا بعد أيام تالية حين اختفت عني الحمى نهائياً، وانقطع عن الضحك فجأةً حين ظهر عند باب الصالة وزير الشؤون الاجتماعية ماجد مصطفى وخلفه مدير الصحة العام الدكتور هادي الباجه جي وهو يتأبط رزمة مغلفة بإتقان، وقبل ان يأخذا مجلسيهما سأل نوري السعيد: ماذا تتأبط يا دكتور هادي، خيراً أم شراً؟ فأجابه الدكتور هادي خيراً إن شاء الله إنها قنينة الماء الذي طلبته الملكة من أحد أديرة باريس، في هذه اللحظة أعتدل نوري السعيد في كرسيه وقال له بتهكم: أنت تريد أن تشفيها بهذا الماء؟ أهذا هو طبك يا هادي، لو تريد أهل بغداد « يدكولي طبل «، أنا « صوفتي حمرة « والملكة كما قرر الأطباء ميئوس من حياتها.وهنا بح صوته وقال بحنق وغضب: سيقول الظلام إن نوري السعيد جاء بسم من باريس وقتل به الملكة مثلما قتل زوجها الملك غازي.طرح نوري السعيد موضوع الماء الذي في القارورة في اجتماع لمجلس الوزراء والحرج في إعطاءه أو عدم إعطاءه للملكة، ثم قال أترك هذا الموضوع لقراركم ولم يطل النقاش حتى تقرر إعطاءه للملكة، حين ذاك أخذ نوري السعيد سدارته وغادر قاعة الاجتماع عن طريق المطبخ وهو يردد (مهزلة... مهزلة).
ولا بد أن أذكر أنني لم أحضر اجتماع الوزراء الذي بحث موضوع الماء الذي وصل من ياريس بل وقفت على أخباره من الدكتور الباجه جي.لا أريد أن يشهد دكسن فرث وفاتي بعد ثلاثة أيام وفي حدود الثامنة صباحاً استدعيت على عجل الى حجرة الملكة وعند بابها رأيت أم عبد الإله مضطربة ووجها شاحب وفتحت لي الوصيفة عزة باب الحجرة وهي تحمل بيمينها المصحف الكريم وبادرتني بهلع: ستي الملكة .. ولم تزد على ذلك، كانت الملكة حين إذ في حالة بين الوعي والإغماء وأشارت إلي بيدها أن أقترب منها وقالت بصوت خافت متقطع: أنهضني، فعاونتني عزة وأسندناها بأيدينا لتنهض على الوسائد في فراشها وشكرتنا بعينيها وتمتمت بالشهادة، ثم سمعتها تقول: لا أريد أن يشهد دكسن فرث وفاتي فأنا مسلمة والله ربي ومحمد نبيي والقرآن كتابي، وفي هذه اللحظة تقيأت وقذفت ما في جوفها على صدرها فأخذت المنشفة التي كانت دوماً موضوعة في متناول يديها ومسحت بها فمها وصدرها ولم تنسى حتى في هذه اللحظة أن تشكرني وهي في حالة شديدة من الإعياء، ثم أسدلت جفنيها برهة وهي تطلب مني أن ترى أمها نفيسة التي كانت عند مدخل الحجرة وربما سمعت بطلب الملكة فدخلت ووقفت الى جانب سريرها فمدت الملكة يدها ببطء وجذبت يد أمها الى فمها وقبلتها وجهاً وقفا وقالت: اغفري لي يا أمي إذا كنت قد غلطت معك يوماً، ولم ترد عليها أمها بل انحنت وقبلتها وانسحبت بعجل وغادرت الحجرة.
وبعد أن التقطت الملكة أنفاسها طلبت مني رؤية أختها عابدية، فدخلت عابدية ووقفت قريبة من مخدع الملكة، فطلبت منها الملكة أن تقترب وقالت تخاطبها: إنكِ يا أختي كثيرة الأفضال عليّ في تربية فيصل وأنا أطلب منكِ أن تبقي أمه بعد وفاتي كما كنتِ أمه دوماً، فسكتت قليلاً وقالت: أريد أن أرى مقبولة، ودخلت مقبولة وقبلت أختها المريضة، وقالت لها: أوصيكِ يا أختي أن تعني بزوجكِ فهو رجل طيب كما أنت طيبة، وأرادت أن تقول شيئاً آخر إلا أن مقبولة انسحبت خرجت متعثرة من الحجرة، بعد ذلك بدت الملكة وكأنها صحت من كابوس ودب فيها قدر من النشاط وطلبت رؤية أخيها عبد الإله فجاءها بعجلة وارتمى على قدميها دون أن ينبس بكلمة فسحبت الملكة رجليها وهي تقول: أستغفر الله ، ورأيت عبد الإله يشير إلي بعينيه أن أخرج من الحجرة أو هكذا خيل لي فنهضت لأخرج إلا أن الملكة أسرعت لتقول: لا أنا أريد أن يبقى دكتور كمال شاهداً على ما أقوله لك أمام الله يا أخي عبد الإله، كان فيصل يتيم الأب وعما قريب سيكون يتيم الأم أيضاً فعدني أن تكون له أباً وأماً لأغفر لك كل ما مضى، وأراد عبد الإله أن يقاطعها إلا أنها ردته بحزم عدني أمام الدكتور فهو شاهدي في دار البقاء عدني يا عبد الإله، وكررت ذلك مرتين فتمتم بالوعد وخرج من الحجرة وهي تشيعه بنظرات باردة ، ثم سمعت الملكة تسأل نفسها قائلة: هل أطلب فيصل لأراه؟ .. لا فقد يكون نائماً وطلبت مني أن أناولها صورته الموضوعة في إطار فضي عند رأس سريرها فقبلتها بحنان وبسطتها على صدرها وأجهشت تبكي بارتياح أعقب ذلك اضطراب في تناسق أنفاسها وهو أول علامات الاحتضار وبعد نصف ساعة لفظت أنفاسها الأخيرة وكان ذلك في الساعة العاشرة والربع من صباح يوم الخميس المصادف 21 كانون الأول سنة 1950، ولما خرجت من حجرة المتوفاة كان يقف قريباً من بابها كل من نوري السعيد وتحسين قدري والشريف حسين وناظر الخزينة الملكية سعيد حقي ولم يكن معهم عبد الإله، وبان لي أنهم أدركوا ما حدث للملكة من قسمات وجهي الحزينة فلقد آلمني أن تموت هذه المرأة بين يدي فلا أستطيع أن أفعل شيئاً.

مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..