شرارة الحرب العالمية الأولى اندلعت بسبب اغتيال الأرشيدوق النمساوي وهو ما أرادته الجهة الخارجية التي تقف وراء حادثة الأحساء. .
كنت على قمة تلة ساحرة، تشرف على وسط مدينة "سراييفو" في العام 1421هـ، برفقة بعض الزملاء
الإعلاميين لحضور افتتاح جامع ومعهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد يرحمه الله، الذي افتتحه الأمير سلمان وقتذاك. أشار مرشدنا السوداني بسبابته إلى منطقة في "سراييفو" القديمة قائلا: "من هنا بدأت الحرب العالمية الأولى".كنت على قمة تلة ساحرة، تشرف على وسط مدينة "سراييفو" في العام 1421هـ، برفقة بعض الزملاء
تملكتني الدهشة وقتها، واستفسرت من ذاك المرشد المثقف، الذي بادرني بالإجابة: "هنا اغتيل الأرشيدوق فرانز فرديناند وزوجته من قبل طالب صربي". عدت مباشرة لأقرأ بشكل أوسع عن تلك الحرب التي أبادت حوالي تسعة ملايين نفس تقريبا، وخلفت ملايين من المصابين وأصحاب العاهات، فوجدت أن التوسع الاستعماري هو السبب الكامن وراء هذه الحرب إلا أن السبب المباشر كان على إثر أزمة دبلوماسية نشبت حينما أعلنت الإمبراطورية النمساوية المجرية الحرب على مملكة صربيا بسبب اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرديناند مع زوجته أثناء زيارتهما لسراييفو في 28 يونيو 1914.
التأريخ ينبئنا بأن حروبا كبرى امتدت سنوات طويلة، قامت بسبب اغتيالات لأفراد أو جماعات، ولدينا في تاريخنا العربي القديم، حرب "البسوس" الشهيرة التي استمرت أربعين عاما، بين قبيلة تغلب بن وائل وأحلافها ضد بني شيبان وأحلافها من قبيلة بكر بن وائل، بعد قتل الجساس بن مرة الشيباني البكري لكليب بن ربيعة التغلبي ثأرا لخالته البسوس بنت منقذ. أربعون عاما قضتها تلكم القبائل في حرب أكلت عليهم الأخضر واليابس بسبب قتل رجل واحد.
بالطبع، لا ننسى افتراق أمتنا الإسلامية، منذ اغتيال الطغمة الفاجرة لسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، والذي على إثره انقسمت الأمة الاسلامية إلى فرق وطوائف، سجل فيها تأريخنا الاسلامي مآس وحروب دامية، ولا زلنا نعيش ويلات تلك الفتنة الممتدة من ذلك الزمن.
الذي جعلني أسرد تلك الوقائع الآنفة بين يدي حديثي اليوم، هي تلك العملية الجبانة التي قامت بها فئة متطرفة، ضد مواطنين آمنين في قرية "الدالوة" بالأحساء الحبيبة.
هؤلاء أرادوا من خلال عمليتهم الإرهابية أن يثور أبناء الطائفة الشيعية، ويردوا بالمثل، وتقع الفتنة الطائفية العمياء التي إن اشتعلت – خصوصا في هذا الظرف الزماني العصيب - لا يعلم إلا الله متى ستخمد، ولكن اللوحة الوطنية الرائعة التي رسمها علماء الطائفتين ونخبهما، أفشلت تلك المحاولة اللئيمة.
الذين وقفوا خلف هذه العملية التي أتتنا من الخارج، بحسب التقارير التي قالت بها وزارة الداخلية؛ هم ليسوا أبدا بالسذج والأغبياء. الذين دبروا هذه المكيدة قرأوا التأريخ، وعرفوا أن مثل هذه العملية إن تصدى لها المتعصبة والعامة؛ ستؤدي لفتنة طائفية عاصفة، وسيدخل الوطن في أتون حرب لا تبقي ولا تذر، ويخسر الجميع فيها. برأيي أن أمثال هاته الحوادث ستتكرر، إن في طائفة السنة أو الشيعة، فثمة دول وأحزاب من الجهة الأخرى، تحلم باليوم الذي تقع فيه الفتنة في بلادنا، وأن تتحول بلادنا لعراق أو سورية جديدة، ردّ الله كيدهم عنا، وأخزاهم في نواياهم وما يضمرون، ووفق عقلاء الوطن ورجال أمننا البواسل في حفظ الأمن في بلاد التوحيد والحرمين.
انتقدت كثيرا هنا قلة من علماء ونخب إخوتنا في الوطن بضفتنا الشرقية، لعدم شعورنا بمواقفهم الحازمة والقوية، والتصدي لدعاة التطرف في طائفتهم، وتفكيك خطاب أمثال نمر النمر وهو يدعو للعصيان والتمرد، بيد أنني اليوم أشيد بكل الفرح بموقفهم الأخير، الذي أرجو من الله أن يمتد ليتوسع، ويتجذر بشكل أعمق، وأن تتكرر هذه المواقف الشجاعة والبيانات الصريحة ضد أي فئة أو شريحة تحاول شق الوحدة الوطنية، أو تدعو للانفصال أو تعلن الولاء لغير قيادتنا السياسية، وتكرس في مناخاتهم ومحاضنهم التربوية مسلمة واضحة بأن وحدة الوطن وأمنه خطان أحمران، لا يجوز لأي كائن من كان، ومن أي طائفة أو تيار أن يمسهما.
موقف مفتي المملكة وهيئة كبار العلماء، الذين سارعوا لإصدار بيان يدينون فيه هذه العملية الإجرامية؛ كان له صداه الطيب لدى علماء الشيعة، الذين وفقوا في بيانهم الصريح والحكيم، وأشادوا بموقف هيئة كبار العلماء، قائلين: "كما نقف مثمنين ومؤيدين المواقف الشرعية والوطنية المسؤولة الصادرة عن هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية وعلى رأسهم سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ الذي نثمن مواقفه الحكيمة والمسؤولة عالياً ومن كافة الأجهزة الأمنية التي بادرت بمحاصرة الجناة وتعقبهم؛ حرصاً على إطفاء شرارة الفتنة والعبث بأمن واستقرار الوطن والمواطنين".
كم أتمنى ونحن نعيش هذا التلاحم الذي تبدى كالذهب الإبريز، وجعلنا نزهو ونفخر بهذه الروح الوطنية السائدة؛ أن يبادر العلماء اليوم من الطائفتين كلتيهما بوضع أسس عامة للتعايش، وإصدار قوانين تجرّم التعدي على الثوابت، وأعرف تماما أن الشيطان يكمن في التفاصيل، ولكن الحوار بشفافية مطلقة، والإرادة السياسية سيجعلاننا نصل لخطوط عامة مشتركة، تجعل التعايش أكثر وضوحا، عبر ميثاق وطني يعطي الأطراف جميعها حقوقها.
بعض الملمين بدقائق القضية المعقدة هذه بين: السنة، والشيعة، يرون مثل هذا الموضوع نوعا من اليوتوبيا الحالمة، وإن كانت ستتحقق، فعن طريق إيران بصفتها حاملة المذهب الشيعي ومرجعيته، لا عن طريق شيعة القطيف، غير أن إيران اليوم لا يوثق بها ولا بنواياها، خصوصا تجاهنا في السعودية، إلا أنني مصرّ بإمكانية ذلك؛ إن استشعر الجميع خطر ما سيأتي، وما يهدد وحدتنا وتماسك نسيجنا الداخلي.
بالتأكيد ستكون الأجواء في بداياتها مشحونة، والنوايا المستريبة تسود، ولكن مع جلسات المصارحة والحوار الشفيف لا الربت على الأكتاف، والشعور بأننا في سفينة واحدة لا في جزر منعزلة، وأننا سنغرق جميعنا إن حدث أي مكروه لا سمح الله؛ سيصل عقلاء الطائفتين إلى صيغة تعايش مثلى، تكون أنموذجا يحتذى في بقية دول العالم الإسلامي.
لنهتبل هذه الفرصة السانحة، ونخطو خطوة شجاعة نحو ميثاق شرف وطني بين الطوائف والتيارات.
المصدر
------------------------------------------
------------------------------------------
بقلم: عبدالعزيز قاسم
صحيفة الوطن
صحيفة الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..