الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014

السعودية وأمريكا: "حرب طاقة" لتغيير خريطة العالم؟

صورة غير مؤرخة لمصفاة بترول تقع على الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية قرب مدينة الظهران. (Keystone)للمهتمين:  تحليل سياسي واقتصادي من موقع سويسري محايد

لم يعد ثمة شك لدى كثيرين في أن المملكة السعودية قررت استخدام "سلاح الآخرة" الإقتصادي (أسعار الطاقة) ضد عدوِّها القريب في المنطقة إيران، وضد خصمها البعيد روسيا، لتحقيق أهداف سياسية.

لكن، وعلى رغم أن هذه الأهداف كبيرة، إلا أنها ليست كل شيء، ففي جُعبة الهجوم السعودي أغراض استراتيجية أخرى لا تقل أهمية، سنُوردها بعد قليل. لكن قبل ذلك، وقفة أمام معطييْن مثيرين إثنين:

المعطى الأول:

في 3 أبريل 2014، أيّ قبل أكثر من سبعة أشهر كاملة من انهيار أسعار النفط، نشرت صحيفة "برافدا" الروسية افتتاحية توّجتها بعنوان خطير: "أوباما يطلب من السعودية تدمير الإقتصاد الروسي". أما المحاور الرئيسة في الإفتتاحية فكانت كالآتي:
-  الرئيس الأمريكي أوباما حاول (خلال زيارته للسعودية مطلع 2014) إقناع الملك عبد الله بتنسيق الخطوات في الأسواق العالمية لخفض سِعر النفط، الذي يُعتبر المصدر الرئيسي لصادرات روسيا (70 في المائة): الهدف؟ مُعاقبة موسكو على تحدّيها للسياسات الأمريكية في أوروبا (أوكرانيا) والشرق الأوسط وآسيا.
-  يقدِّر الخبراء أن الإتحاد الروسي سيخسر 40 مليار دولار، إذا ما هبط سِعر البترول 12 دولاراً (تراجع الآن سعر النفط الذي كان قبل 7 أشهر 115 دولاراً بأكثر من 50 دولاراً).
-  علاوة على ذلك، نفّذت الحكومة الأمريكية توصية رجل المال البارز جورج سوروس، وأمرت ببيع 5 ملايين برميل يومياً من احتياطيها الإستراتيجي البالغ 700 مليون برميل، بهدف ضرب الأسعار وإفلاس روسيا، كما فعلت قبل ذلك، حين استخدمت أسعار النفط لدفع الإتحاد السوفييتي إلى الانهيار.
هكذا تحدّثت برافدا. والمفارقة هنا أنها استندت آنذاك إلى عدد من كبار خبراء الطاقة والإقتصاد الروس، لتأكيد الفرضية بأن السعودية "لن تسير في ركاب خطّة إدارة أوباما هذه، لأن الملك عبد الله لا يثق بأوباما، ولأنه إذا ما هبط سِعر النفط إلى 85 دولاراً للبرميل، فسيضرب العجز الميزانية السعودية" في لحظة إقليمية خطِرة بالنسبة إليها.

المعطى الثاني:

في 9 ديسمبر 2014، كتبت صحيفة "فايننشال تايمز" اللندنية واسعة الاطِّلاع: "يبدو واضحاً الآن أن السعوديِّين وحلفاءهم الغربيين يستخدمون سِعر النفط كسلاح سياسي، ويستهدفون أساساً إيران. إن الرياض تقبع على احتياطي من العملات الصعبة يُقَّدر بنحو 750 مليار دولار، وبالتالي، تستطيع تحمُّل انخفاض الأسعار إلى فترة غيْر قصيرة. لكن هذا على عكس إيران، التي تحتاج إلى ضعف السِّعر الراهن للوفاء باحتياجاتها الإقتصادية، الأمر الذي يجعلها تنزف بحدّة هذه الأيام".

محصّلات كارثية

روسيا، كما هو واضح من افتتاحية البرافدا، أُخذت على حين غرّة بالتدهْور السريع في أسعار النفط، وأضاعت أشهراً ثمينة عدّة وهي تراهن على أن السعودية الحانقة من سياسات أوباما إزاء سوريا وإيران، لن تُقدم على شنّ حرب الأسعار.
والحصيلة كانت كارثية: فقد هبط احتياطي العملات الأجنبية من نحو 600 مليار دولار إلى 400 مليار خلال ثلاثة أشهر (والعدّ مستمر). هذا في حين كان الروبل يفقد موقعه بسُرعة في أسواق العملة ويخسِر نحو 35 في المائة من قيمته. وهذا ما دفع الرئيس بوتين إلى الإعلان صراحة بأن بلاده "تستعدّ إلى كارثة".
يبدو واضحاً الآن أن السعوديِّين وحلفاءهم الغربيين يستخدمون سِعر النفط كسلاح سياسي، ويستهدفون أساساً إيران
"فايننشال تايمز"، 9 ديسمبر 2014
بيد أن الطامة الكبرى من حرب الأسعار ستكون في إيران. فهذه الدولة كانت تنزِف بحدّة بالفعل حتى قبل هبوط الأسعار بفعل جُملة عوامل متشابكة، أهمّها: امتصاص الحرب في سوريا لأكثر من 18 مليار دولار سنوياً من الأموال الإيرانية، تضاف إليها الآن الأكلاف الجديدة للحرب في العراق، والتي انغمست فيها إيران على نطاق واسع، وكذلك الحرب في اليمن، علاوة على أكلاف سباق التسلح والنفوذ الذي تخوضه طهران على نحو غير متكافئ مع قدراتها الإقتصادية مع الغرب في الشرق الأوسط وإفريقيا.
أبرز دليل على تراقص الإقتصاد الإيراني على شفا الإنهيار، كان الإنفجار المفاجئ لتبادُل الاتهامات مؤخّراً بين الرئيس الإصلاحي حسن روحاني وبين المحافظين حول المسؤولية عن تراجع الأداء الإقتصادي. فقد حذّر روحاني من أن الفساد المستشري بات يهدّد بقاء الجمهورية الإسلامية، ملمِّحاً ضمناً إلى أن سببه الرئيسي هو المصالح المالية المتجذِّرة للحرس الثوري، خاصة في مجالات التجارة والبناء.
وفي حين كانت وكالة الشفافية الدولية تضع إيران في المرتبة 136 (من أصل 175 بلداً) في مؤشر تفاقم الفساد، كانت حكومة روحاني تكشف النقاب عن حالة فساد في النظام المصرفي، بلغت قيمتها وحدها 4،4 مليارات دولار تتورّط فيها مؤسسات عدّة مرتبطة بالحرس الثوري.
التضخّم في إيران ناهز 19 في المائة (وفق الإحصاءات الرسمية)، والبطالة بين الشباب بلغت أكثر من 23 في المائة. والآن، ومع تدهْور أسعار النفط على نحو مريع قد ينزل قريباً إلى أقل من 60 دولاراً للبرميل ومع ميزانية متقشِّفة أُعلنت أخيرا (ربما على أساس 70 دولاراً للبرميل)، فإن السفينة الإيرانية مرشّحة للمرور في مضائق خطرة للغاية تعجّ بالصخور الناتئة والأمواج العاتية.

استهداف "الصخريين"

نعود الآن إلى ما أشرنا إليه في البداية حول أهداف أخرى لحرب الأسعار السعودية المُحتملة.
في مجال الطاقة والإقتصاد، لعلّ أهم الأهداف السعودية الآن هو مجابهة ما تعتبره تهديد النفط الصخري الأمريكي لكل من هيمنتها على الطاقة العالمية وعلى علاقاتها الخاصة مع الولايات المتحدة.
فالمملكة تتّهم رجال النفط الأمريكيين في شمال داكوتا وتكساس بتعريض نفوذ أوبك إلى الخطر، بعد أن بدأوا باستخراج النفط بشكل كثيف من الصخور عبْر تقنية الماء والرّمال والكيماويات، وبعد أن نجحوا في حفر 20 ألف بئر منذ عام 2010، وهذا لم يؤدِّ إلى تغيير لوحة الطاقة في العالم وحسب، بل أسفر أيضاً عن قُرب "استقلال" الولايات المتحدة في مجال الطاقة، وقد يحولها إلى مصدّر لها في عام 2020، ما قد يُضعف نسبياً اهتمامها بأمن الخليج.
السعودية اختارت الوقت المناسِب تماماً لمواجهة تحدّي النفطيين الصخريين. فالعديد من هؤلاء غارق حالياً في الديون حتى قبل تدهور أسعار النفط، لأنهم يستثمرون كل عائداتهم في حفر آبار جديدة، وهم مضطرون إلى ذلك لأن مردود كل بئر صخري ينخفض ما بين 60 إلى 70 في المائة بعد نهاية العام الأول من الإنتاج. والآن، ومع سقوط الأسعار، سيفلس العديد منهم وستكون شركات النفط العملاقة المتحالفة مع السعودية، أكثر من سعيدة للإستيلاء على عملياتهم.
بيْد أن هذا "النّصر" السعودي على الصخريين سيكون مؤقتا، إذ على المدييْن، المتوسط والطويل، كما تعتقد الإيكونوميست، يبدو مستقبل صناعة النفط والغاز الصخريين مضمونا. فهذه التكنولوجيا لا تزال فتية وفي بداياتها الأولى، وعلى رغم ذلك، تحقق مكاسب كبرى في مجال الفعالية. فهي نجحت في خفض تكلفة البرميل من 70 دولاراً إلى 57 دولاراً خلال العام الماضي، بعد أن تعلّم الصخريون كيف يحفرون الآبار بشكل أسرع وبالتالي، كيف يستخرجون نفطاً أكبر منها.
هذا علاوة على أن النفط الصخري يتوافر في مناطق شاسِعة من العالم، تمتد من الصين إلى بولندا وجمهورية التشيك، وهذا بالتحديد ما سيجعل مستقبل هذه الصناعة مضمونا (إذا ما حذفنا منه المخاطر البيئية) على رغم المكاسب الآنية التي قد تحققها السعودية من خفض أسعار النفط.

إحياء التحالف؟

هذا على صعيد الطاقة، أما على الصعيد الجيو - إستراتيجي، فأول ما يخطر على البال في هذا الصدد، هو الجُهد السعودي الواضح لإعادة احتلال الموقع الإستراتيجي المرموق الذي احتلته المملكة على خريطة السياسة العالمية الأمريكية طيلة 70 عاماً، منذ أن التقى الملك عبد العزيز، مؤسس الدولة السعودية الحديثة، مع الرئيس الأمريكي روزفلت في 14 فبراير 1945 في البحيرات المُرّة في مصر على متن البارجة الأمريكية كوينسي.
هذا التحالف المديد، الذي نجحت خلاله الرياض وواشنطن في زعزعة الإتحاد السوفييتي ثم إسقاطه عبر حربي أفغانستان وأسعار النفط في ثمانينيات القرن العشرين، اهتزّ بقوة بفعل أحداث 11 سبتمبر 2001، إذ منذ ذلك الحين، شعرت الولايات المتحدة بأن الطبعة الإسلامية من الوهابية السعودية، والتي كانت ناجحة في مقاومة الشيوعية، تعتبر أيضاً تهديداً للأمن القومي الأمريكي نفسه، كما دلّت على ذلك بوضوح هجمات 11 سبتمبر (17 سعودياً من أصل 19 مهاجم).
ومنذ ذلك الحين، بدأت الولايات المتحدة بالبحث عن طبعة أخرى من الإسلام لا تشكل تهديداً لمصالحها وأمنها، ووجدتها منذ عام 2005 في حركة الإخوان المسلمين التي بدت واعدة في تحقيق المصالحة بين الإسلام والديمقراطية، وبين الإسلام والعولمة.
هذا البديل الإسلامي تراجَع مع سقوط (أو إسقاط) تجربة الإخوان في مصر وتراجعها في تونس ومحاصرتها خليجياً في بقية الدول العربية. فهل يعني ذلك أن الولايات المتحدة ستكون مستعدة لإعادة ترميم تحالفها التاريخي مع الإسلام في طبعته الوهابية، بعد أن وافقت السعودية على طلبها الخاص بشنّ حرب الأسعار الكبرى في الطاقة على الصعيدين، الدولي والإقليمي؟
هذا بالطبع ما تأمله المملكة، خاصة بعد سيطرة الجمهوريين على مجلسي الكونغرس، وبعد أن التقت مصالحها مجدّداً مع إدارة أوباما الديمقراطية في إطار "حرب عالمية" قد تغيّر فعلاً وجه العلاقات الدولية والإقليمية، على المدييْن المتوسط وحتى القريب.
لكن، وعلى الرغم أن هذا الرِّهان في محله، إلا أن تجربة 11 سبتمبر ستبقى ماثلة في أذهان المخطّطين الأمريكيين، وقد تعود إلى الواجهة رغم كل شيء، إذا ما تمدد الإرهاب الأصولي الرّاهن مجدداً (كما هو متوقّع بالفعل) إلى الأرض الأمريكية، وهذا يعني أنه سيكون على النخبة الحاكمة السعودية الإدراك بأن السياسة الخارجية (الهجومية حالياً) وحدها، لن تكون كافية لمنع رياح التغيير والإصلاح من لفح وجه المملكة. فالخيار منذ 11 سبتمبر، ولا يزال حتى الآن، ليس بين الإصلاح والثورة، بل بين الإصلاح وتفكك الكيان نفسه، بفعل قوى داخلية وخارجية في آن.
لكن حتى الآن، ليس ثمّة شكّ كما أسلفنا، بأننا دخلنا بالفعل في حمأة حرب أسعار عالمية، لن تعود بعدها روسيا وإيران والمنطقة والعديد من الدول الأخرى إلى ما كانت عليه قبل نشوب هذه الحرب. ففي البدء كانت الطاقة في صلب كل حروب القرون الحديثة. وهذا البدء سيبقى بدءاً إلى أجل غير مسمّى!
بقلم سعد محيو - بيروت,
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..