بلغ بي القهر والحسرة والغيظ مبلغا، وأنا أطالع مقطعا راج في "الواتس آب" لشابين سعوديين أسيرين عند "داعش" وهما يلطمان بعضهما بعضا، بأمر من السجان السوري –من لهجته التي كان يتحدث بها- طالبهما أن يرددا: "جبهة النصرة مرتدون.. جبهة النصرة مرتدون".
قبل أسابيع، وفي الصالة الدولية في جدة، انفلت شاب إليّ وأنا منهمك في الكتابة منتظرا رحلتي، وبادرني بأنه أحد المعجبين والمتابعين لبرنامجي، وأنه سعيد برؤيتي، ودعوته إلى الجلوس مرحبا، وسألته عن وجهته فأجابني بأنه متجه إلى تركيا. ورغم كل مظهره، من حلق اللحية التي واضح أنها لم تحلق أبدا من بياض البشرة الذي تبدى مكانها في وجهه، أو "بكت الدخان" الذي وضعه - ميزت من نفوره وقرفه وهو يحركه بغشامة أنه لم يدخن في حياته- ورغم كل محاولاته أن يظهر بمظهر الشاب الطائش، إلا أن خبرة ربع قرن مع أسنانه، جعلتني أوجه له نصيحة أبوية شفيقة مباشرة، وقلت له: "لا أعرفك، ولكني سأسدي إليك النصح أيها الابن طالما أتيتني محباً، اعدل عن وجهتك، واتصل بوالدتك، وعد إلى جامعتك، وتميز هناك، واخدم الإسلام الذي أنت ذاهب الآن لخدمته عبر تفوقك، فالزمن هو زمن العلم، والراية في سورية والعراق هناك غير واضحة، لا تفجع والديك ووطنك بهذا الذهاب إلى أرض الفتنة".
لم أنتظر أبدا أن تؤثر كلماتي عليه، وهو المنكر للذهاب هناك إلا للسياحة، وتغلغلت إلى داخل نفسه المتوترة، وقد تيقنت بأن الفكرة استولت على الشاب، فلا مجال للعقل أو النقاش معه أبدا، قام وعانقني وقبل أن يذهب، أعدت عليه: "عدني أيها الابن أن تفكر في الطائرة بما قلته لك، وعند أية حادثة تؤكد صحة ما قلته لك، لا تتردد في الرجوع، وترك ما أنت عازم عليه". رمقني بكل الامتنان والحب لما شعر به من أبوّتي وحدبي، ولمعت عيناه ومضى يصطف في طابور بوابة الحافلة التي تقله للطائرة.
مئات بل آلاف من الشباب السعودي يحمل ذات الفكر، وكل واحد منهم لديه أسبابه النفسية أو المالية أو العائلية، فيدفعه التدين أو الإحباط إلى الذهاب هناك، ليس هناك حل واحد ناجع يمكن به القضاء على فكر التطرف، ولكن بيدنا تحجيم هذا الفكر، والتقليل من خطورته ومساحته، وهؤلاء المتطرفون والخوارج عرفوا كيف يغازلون التدين الموجود في أنفس الشباب السعودي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيؤثرون عليهم عبرها وقد تفننوا في استخدامها، واستطاعوا - بمهارة إعلامية- العزف على أوتار العاطفة المتأججة في تلك الأعمار، مع بعض فتاوى علماء وطلبة العلم تقول بعينية الذهاب والنفرة لأرض الشام، فيذهب هؤلاء الشباب بكل تدينهم الفطري -مثل هذا الشاب الآنف أو ذينك الشابين في المقطع- فيتلقاهم أصحاب الفكر التفكيري، وما هي إلا بضعة أشهر حتى بات وطنه بل وأخوه ووالداه من زمرة الكفرة المرتدين.
أتمنى استثمار الدعاة الذين لهم جماهيرية كبيرة ووسائل إقناع في الحرب على فكر التطرف، والتوسع في استخدام الإعلام كنوع من الرد الوقائي المحتم، والمسألة باتت اليوم لا تتعلق بالشباب الذين تلوثوا بفكر "داعش"، فمن المهم الاستمرار في صياغة وابتكار أساليب جديدة في فن الوقاية الفكرية المسبقة.
العائلة والوالدان هم خط الدفاع الأول لحماية الأبناء من فكر التطرف.. دعوهم يشاهدوا تلك المقاطع.
عبدالعزيز قاسم 2014-12-29 2:49 AM
كنت أقول – وأنا أب لشابين في مثل عمرهما- ليت شعري كيف هي مشاعر والدتيهما الآن وهما تريان ابنيهما في تلك الحالة من الهوان والذل والقهر، ليت شعري كيف هي حالتاهما وهما اللتان انتظرتا ابنيهما أن يكونا طبيبين أو مهندسين في أرفع الجامعات، وانتهى بهما الحال إلى وضع بائس يلطمان بعضهما، وبقية رفقتهما مطأطؤو الرؤوس وبأعين منكسرة ينتظرون أدوارهم، فيما السجان الكريه بكل العجرفة يقف بينهما آمرا ناهيا بكل وقاحة.
إن كنت أنا البعيد عنهما تمزق قلبي غيظا وألما، فكيف بوالديهما المفجوعين اللذين سيدخلان أتون مرحلة بحث شاقة، يبذلان وجهيهما للقريب والبعيد ليخلصا ولديهما من تلك الحالة الأليمة التي انتهيا إليها.
أتمنى أن يشاهد ذلك المقطع كل أب وأم كي يستوعبا خطورة ترك ابنهما لمواطن الفتنة تلك في أرض الشام، حيث لا راية حقيقية يطمئن المسلم لها لأداء فريضة الجهاد، بما يقول به كثير من علمائنا الأجلاء. وأعرف أن ذلك المقطع جزء يسير مما هو أسوأ بكثير جدا، على أيدي غلاة لا يتقون الله في مسلمين - يشهدون الشهادة ويقومون بأركان الإسلام- ويعاملونهم ككفار مرتدين.
أتمنى أن يستحضر كل أب وأم أن ابنهما الوسيم الذي بذلا له الغالي والنفيس، سينتهي في أسوأ حالة يمكن أن يتصورها الإنسان لشباب سعوديين، كانوا في أنعم وأهنأ عيش آمن كريم، وإذا بهم ينتهون إلى أقبية قذرة وثياب رثة وحال تؤلم قلوب حتى الذين لا يدينون بالإسلام.
لا تزال ترنّ في أذني ولن أنساه مدى حياتي؛ ما قاله أحد أبنائنا المعتقلين في سجون العراق، وهو يبكي – أبكاني وضيفي في الاستديو- من أن الصفويين العراقيين قاموا بتعذيبهم بكل ما يخطر على بال إنسان وما لا يخطر، حتى إن بعض زملائهم من قسوة التعذيب التي ذاقوها استفتوهم بجواز قتل أنفسهم من هول ما يمارس عليهم، وقد أهرقت كرامتهم البشرية عبر مواسير وفوهات رشاشات جلاوزة السجن، دعكم من الكهرباء التي ينفضونهم بها ويتطايرون من صعقها ويغمى عليهم، وصب الماء البارد في ليالي الشتاء القاسية البرودة إلى درجة فقدان الأطراف، وجملة من أساليب التعذيب العنيفة، كلها بدافع طائفي بغيض إن من الصفويين الكريهين، أو من "داعش" التي تعتبر –من حماقتها والعشا السياسي الذي عليها- أن كل التنظيمات الأخرى سواها كافرة ومرتدة، وأن قتالهم أولى من قتال الطاغية بشار أو حزب "الشيطان".
نقدت سابقا وزارة الداخلية على تحفظها من نشر ما تقوم به من خطوات، وعدم
التعاطي الإعلامي لما تقدمه من وقاية وحماية للأبناء، والحمد لله خلال
السنتين الأخيرتين رأينا انفتاحا إعلاميا جيدا منها، وكمية معلومات اطلع
عليها المجتمع، قطعت على أولئك الشانئين الذين كانوا يتاجرون بقضايا كانت
حقائقها ومعلوماتها تغيب عنا، وظهر للمجتمع والعالم من هم أولئك الذين
يريدون زعزعة الوطن، وكيف هو الفكر الذي عليه أولئك الشباب الموقوفون، لذلك
ومن هذا الباب أدعو الأستاذ عبدالرحمن الهزاع رئيس هيئة الإذاعة
والتلفزيون أن يقوم بعرض أمثال تلك المقاطع ومناقشتها عبر خبراء ومربين
وآباء، ليعي المواطن ماذا ينتظر أبناءه هناك، فيقوم بدوره في حمايتهم
وتحصينهم، ومن خبرتي أجزم لكم بأن على الوالدين المسؤولية الأكبر في
الوقاية الفكرية.قبل أسابيع، وفي الصالة الدولية في جدة، انفلت شاب إليّ وأنا منهمك في الكتابة منتظرا رحلتي، وبادرني بأنه أحد المعجبين والمتابعين لبرنامجي، وأنه سعيد برؤيتي، ودعوته إلى الجلوس مرحبا، وسألته عن وجهته فأجابني بأنه متجه إلى تركيا. ورغم كل مظهره، من حلق اللحية التي واضح أنها لم تحلق أبدا من بياض البشرة الذي تبدى مكانها في وجهه، أو "بكت الدخان" الذي وضعه - ميزت من نفوره وقرفه وهو يحركه بغشامة أنه لم يدخن في حياته- ورغم كل محاولاته أن يظهر بمظهر الشاب الطائش، إلا أن خبرة ربع قرن مع أسنانه، جعلتني أوجه له نصيحة أبوية شفيقة مباشرة، وقلت له: "لا أعرفك، ولكني سأسدي إليك النصح أيها الابن طالما أتيتني محباً، اعدل عن وجهتك، واتصل بوالدتك، وعد إلى جامعتك، وتميز هناك، واخدم الإسلام الذي أنت ذاهب الآن لخدمته عبر تفوقك، فالزمن هو زمن العلم، والراية في سورية والعراق هناك غير واضحة، لا تفجع والديك ووطنك بهذا الذهاب إلى أرض الفتنة".
لم أنتظر أبدا أن تؤثر كلماتي عليه، وهو المنكر للذهاب هناك إلا للسياحة، وتغلغلت إلى داخل نفسه المتوترة، وقد تيقنت بأن الفكرة استولت على الشاب، فلا مجال للعقل أو النقاش معه أبدا، قام وعانقني وقبل أن يذهب، أعدت عليه: "عدني أيها الابن أن تفكر في الطائرة بما قلته لك، وعند أية حادثة تؤكد صحة ما قلته لك، لا تتردد في الرجوع، وترك ما أنت عازم عليه". رمقني بكل الامتنان والحب لما شعر به من أبوّتي وحدبي، ولمعت عيناه ومضى يصطف في طابور بوابة الحافلة التي تقله للطائرة.
مئات بل آلاف من الشباب السعودي يحمل ذات الفكر، وكل واحد منهم لديه أسبابه النفسية أو المالية أو العائلية، فيدفعه التدين أو الإحباط إلى الذهاب هناك، ليس هناك حل واحد ناجع يمكن به القضاء على فكر التطرف، ولكن بيدنا تحجيم هذا الفكر، والتقليل من خطورته ومساحته، وهؤلاء المتطرفون والخوارج عرفوا كيف يغازلون التدين الموجود في أنفس الشباب السعودي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيؤثرون عليهم عبرها وقد تفننوا في استخدامها، واستطاعوا - بمهارة إعلامية- العزف على أوتار العاطفة المتأججة في تلك الأعمار، مع بعض فتاوى علماء وطلبة العلم تقول بعينية الذهاب والنفرة لأرض الشام، فيذهب هؤلاء الشباب بكل تدينهم الفطري -مثل هذا الشاب الآنف أو ذينك الشابين في المقطع- فيتلقاهم أصحاب الفكر التفكيري، وما هي إلا بضعة أشهر حتى بات وطنه بل وأخوه ووالداه من زمرة الكفرة المرتدين.
أتمنى استثمار الدعاة الذين لهم جماهيرية كبيرة ووسائل إقناع في الحرب على فكر التطرف، والتوسع في استخدام الإعلام كنوع من الرد الوقائي المحتم، والمسألة باتت اليوم لا تتعلق بالشباب الذين تلوثوا بفكر "داعش"، فمن المهم الاستمرار في صياغة وابتكار أساليب جديدة في فن الوقاية الفكرية المسبقة.
العائلة والوالدان هم خط الدفاع الأول لحماية الأبناء من فكر التطرف.. دعوهم يشاهدوا تلك المقاطع.
عبدالعزيز قاسم 2014-12-29 2:49 AM
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..