الثلاثاء، 27 يناير 2015

الرد على سعيد الكملي في تفسير قوله تعالى ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ )

الثلاثاء، 27 يناير، 2015
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد،
فيوجد على (Youtube) مقطع للمدعو سعيد الكملي في تفسير قوله تعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ) – [يوسف 24].
و قد حط على السلف حطا عظيما
و رد أقوالهم في الآية و اتهمهم بقلة الفهم و مخالفة النظم القرآني و سلبِ يوسف عليه السلام من مزاياه و ما خصه الله به و غيرها من الشطحات و تكلف لذلك تكلفا احمر فيه أنفه، و لو سلّم لقول السلف لارتاح و أراح.


قال الله عز و جل ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) – [البقرة 137]



يقول المدعو سعيد الكملي :
" حاصل قول أصحاب هذا المذهب، أن يوسف عليه السلام حصل منه الهم بما لا ينبغي، إلى أن زجره عنه زاجر و صرفه عنه صارف و هو رؤيته البرهان من ربه. و ذكروا روايات كثيرة عن طائفة من علماء السلف. حتى ذكروا أنها استلقت له و أنه حل سراويله و أنه قعد منها مقعد الرجل من أهله ثم رأى البرهان فانصرف عن ذلك. و الآثار في هذا مروية في تفسير الطبري و تفسير ابن أبي حاتم، و هي مذكورة عنه ابن المنذر و عند ابن أبي شيبة و عند عبد الرزاق و عند غيرهم، وهي كثيرة هذا حاصلها لا داعي من ذكرها. لا داعي أن نطيل مجلسنا بذكرها.
و نحن لا نميل إلى هذا الرأي و لا نراه مع إجلالنا من ذهب إليه من أئمة التفسير. و سنذكر سبب اختيارنا هذا ". اهـ


يقر بأنه قول طائفة من علماء السلف ثم يرده لشيء في قلبه. فنعوذ بالله من الضلال بعد العلم.


وكلامه هذا يذكر بما حصل من القرطبي في نفي علو الله. 
 حيث قال في كتابه " الأسنى شرح أسماء الله الحسنى 132 ":
" وأظهر هذه الأقوال وإن كنت لا أقول به ولا أختاره ما تظاهرت عليه الآي والأخبار أن الله سبحانه على عرشه كما أخبر في كتابه ، وعلى لسان نبيه بلا كيف ، بائن من جميع خلقه هذا جملة مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات حسب ما تقدم . " اهـ


و هذا من القبح بمكان.


و ردا على كلامه هذا أقول و بالله أستعين.

تفسير الهم بحل السراويل و أنه جلس منها مجلس الخاتن، صح عن عبد الله  بن عباس رضي الله عنه، و مجاهد و ابن أبي مليكة و سعيد بن جبير و ابن سيرين و الحسن و قتادة و غيرهم. و كان الأولى ذكر أسماء أصحاب هذا القول حتى يعرف الناس من المعنيون.


و سأحصر الكلام في تفسير ابن عباس للآية مع ذكر مقدمة عسى أن ينفع الله بها.

يقول سعيد بن منصور في " التفسير 44 ":
نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ ابْنِ عَوْن، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرين، قَالَ: سَأَلْتُ عَبِيدَةَ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: " عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، والسَّدَاد ، فَقَدْ ذَهَبَ الَّذِينَ كَانُوا يعلمون فِيمَ أُنْزِلَ القُرْآنُ ".


و ابن عباس رضي الله عنه من الذين يعلمون فيم أنزل القرآن:

يقول الطبري في " تفسيره 107 ":
حَدَّثنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْقُ بْن غِنَامٍ، عَنْ عُثْمَان المَكِّي، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: رَأَيْتُ مُجَاهِدًا يَسْأَلُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِ القُرْآنِ، وَمَعَهُ أَلْوَاحُهُ، فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: " اكْتُبْ "، قَالَ: حَتَّى سَأَلَهُ عَنِ التَّفْسِيرِ كُلِّهِ.

و قال " 89 ":
حَدَّثنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن إِدْرِيس، قَالَ: سَمِعْتُ الأَعْمَشَ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: شَهِدْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَوَلِىَ المَوْسِمَ، فَقَرَأَ سُورَةَ النُّورِ عَلَى المِنْبَرِ، وَفَسَّرَهَا، لَوْ سَمِعَتِ الرُّومُ لَأَسْلَمَتْ.



بل ابن عباس من الذين يعلمون تأويل القرآن:

يقول الطبري في " تفسيره 6632 ":
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : أَنَا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ.


و كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يسميه ترجمان القرآن:

يقول الطبري في " تفسيره 104 ":
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بَنْ بَشَّار، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيع، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَان، عَنْ سُلَيْمَان، عَنْ مُسْلِم، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: نِعْمَ تَرْجُمَانُ القُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ.


و هذه تزكية ما يعلم أنها حصلت لأحد غيره. و لا غرابة في ذلك:

فقد خرج البخاري في " صحيحه 3756 " قال: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ.

و الحكمة إصابة الحق.




و بعد هذه التقدمة الموجزة في حق الحبر، أذكر كلام الكملي مع التعليق عليه:


قال في الدقيقة (3:03) :
" و نحن لا نميل إلى هذا الرأي و لا نراه ".

لو سلمنا أنه رأي لابن عباس لكان خيرا لنا من رأيك. فكيف و هو بخلاف ذاك

يقول الطبري في " تفسيره 98 ":
حَدَّثَنِي يَعْقُوب، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّة، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَة: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا بَعْضُكُمْ لَقَالَ فِيهَا، فَأَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا.

و قال أبو عبيد في " فضائل القرآن 690 ":
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بَنْ جَعْفَر، عَنْ شُعْبَة، عَنْ عَمْرُو بَنْ مُرَّة، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِسَعِيد بَنْ جُبَيْر: أَمَا رَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَة (وَالمحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) فَلَمْ يَقُلْ فِيهَا شَيْئًا، فَقَالَ سَعِيد: كَانَ لاَ يَعْلَمُهَا.

و في هذا تبرئة لابن عباس من القول برأيه في تفسير كلام ربه، و على هذا الهدي كان مجاهد و عكرمة و ابن جبير و غيرهم.



قوله في الدقيقة ( 3:38) :
" و هذا الذي صح سنده إلى من ذكر عنه لم يرفع منه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم كثير و لا قليل. فالظاهر - و هو ما رجحه بعض الأئمة من أهل التفسير و هو الشيخ الأمير الشنقيطي رحمة الله عليه - أنه مما تلقي عن الإسرائيليات ". اهـ

و هذه الدعوى الباطلة و هي أشبه ما يكون بالخيال، قالها أيضا من حقق تفسير سعيد بن منصور:
1116 - حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، قَالَ: نا سُفْيَانُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ (1) ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ (2) ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ء فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ء، قَالَ: حَلَّ الهِمْيان (3) وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الخَاتِن (4) ، فَنُودِيَ: أَتَزْنِي يَا ابْنَ يَعْقُوبَ فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الطَّائِرِ ذَهَبَ يَطِيرُ فَسَقَطَ رِيشُهُ؟

قال المحقق: 1116 - سنده صحيح إلى ابن عباس، ولكن قد يكون هذا مما تلقاه عن أهل الكتاب.


و ابن عباس بريء من هذا البهتان. فقد خرج البخاري في " صحيحه 7363 " قال:
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ. وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ وَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. أَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ ".اهـ

و هذا واضح في أن ابن عباس رضي الله عنه كان غنيا عن الأخذ منهم.



يقول ابن تيمية رحمه الله في " بيان تلبيس الجهمية 6/451 " :
" وأيضاً فعلم ذلك لا يؤخذ بالرأي ، وإنما يقال توقيفاً ، ولا يجوز أن يكون مستند ابن عباس أخبار أهل الكتاب ، الذي هو أحد الناهين لنا عن سؤالهم ، ومع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تصديقهم ، أو تكذيبهم .
فعلم أن ابن عباس إنما قاله توقيفاً من النبي صلى الله عليه وسلم
ففي صحيح عن البخاري عن ابن شهاب  عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاللَّهِ تَقْرَءُونَهُ لَمْ يُشَبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ فَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} أَفَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ وَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا { آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا } الْآيَةَ
فمعلوم مع هذا أن ابن عباس لا يكون مستنداً فيما يذكره من صفات الرب أنه يأخذ عن أهل الكتاب ، فلم يبق إلا أن يكون أخذ من الصحابة الذين أخذوا من النبي صلى الله عليه وسلم ".اهـ


و كذلك يقال أن تفسير ابن عباس " للهم " له حكم الرفع.




قوله في الدقيقة (4:07):
" الذي نراه، أن يوسف عليه السلام لم يحصل منه هم لما ينبغي البثة، و إنما الهم حصل منها هي أما هو فلا. و هذا الذي نفهمه من النظم القرآني ". اهـ

أقول و كذلك القول بأن إبليس من الملائكة يخالف النظم القرآني
و القول بأن هاروت و ماروت ملكين يخالف النظم القرآني
و تفسير الظالم لنفسه بالمنافق و أن قوله تعالى (ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) لا يشمله، يخالف النظم القرآني
و تفسير قوله تعالى (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 190) يعني آدم و حواء، وأن الشرك كان في التسمية لا في العبادة، يخالف النظم القرآني


و غيرها من التفاسير كلها مخالفة للنظم القرآني حتى من الله علينا بكم بعد زمن طويل فجئتم بالتفاسير و الأقوال الموافقة للنظم القرآني. فإلى الله المشتكى.


يقول ابن بطة في " الإبانة  717 ":
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بَنْ بَكْر، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بن حَنْبَلٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو المغِيرَة قَالَ حَدَّثَنَا صَفْوَان بَنْ عَمْرُو قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيد بَنْ خمير الرّحْبِي قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ بُسْرٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ: كَيْفَ حَالُنَا مِنْ حَالَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا؟. قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ، لَوْ نُشِرُوا مِنَ القُبُورِ مَا عَرَفُوكُمْ إِلاَّ أَنْ يَجِدُوكُمْ قِيَامًا تُصَلُّونَ ". اهـ



وقال في الدقيقة (4:50):
" (ولقد همت به) وقف. (وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) وقف. ما معنى هذا الكلام، الذي يفك لكم الإشكال هو قول ربنا " لولا ". ما هي لولا؟. يقول الديماني محمد باب : " لولا التي للإبتدى حرفا تفيد لتلو تلوها امتناعا لوجود ". اهـ


يريد بقوله هذا أن الهم ممتنع على يوسف لوجود البرهان.



و أقول للكملي، ابن عباس سيد أهل اللغة فقد كانوا يجلسون عنده يسئلونه

يقول المروزي في " زوائد الزهد 1162 ":
حَدَّثَنَا الهَيْثَمُ بن جَمِيلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الجَبَّارِ بَنْ الوَرْدِ قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاء بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مَجْلِسًا قَطُّ أَكْرَمُ مِنْ مَجْلِسِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَكْثَرَ فِقْهًا، وَلاَ أَعْظَمَ جَفْنة، أَصْحَابُ القُرْآنِ عِنْدَهُ يَسْأَلُونَهُ، وَأَصْحَابُ العَرَبِيَّةِ عِنْدَهُ يَسْأَلُونَهُ، وَأَصْحَابُ الشِّعْرِ عِنْدَهُ يَسْأَلُونَهُ، فَكُلُّهُمْ يَصْدُرُ فِي رَأْيِ وَاسِعٍ ". اهـ


و قال الطبري في " تفسيره " معلقا:
وأما آخرون ممن خالف أقوال السلف وتأوَّلوا القرآن بآرائهم، فإنهم قالوا في ذلك أقوالا مختلفة.
* * *
وقال آخرون منهم: معنى الكلام: ولقد همت به، فتناهى الخبرُ عنها. ثم ابتدئ الخبر عن يوسف، فقيل: "وهم بها يوسف لولا أن رأى برهان ربه". كأنهم وجَّهوا معنى الكلام إلى أنَّ يوسف لم يهمّ بها، وأن الله إنما أخبر أنَّ يوسف لولا رؤيته برهان ربه لهمَّ بها، ولكنه رأى برهان ربه فلم يهمَّ بها، كما قيل: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا) ، [النساء: 83] .

قال أبو جعفر [الطبري]: ويفسد هذين القولين: أن العرب لا تقدم جواب "لولا" قبلها، لا تقول: "لقد قمت لولا زيد"، وهي تريد": لولا زيد لقد قمت"، هذا مع خلافهما جميع أهل العلم بتأويل القرآن، الذين عنهم يؤخذ تأويله ".اهـ



و قال النحاس في " معاني القرآن 3/415 ":
" وقد بينا قول من يرجع إلى قوله من أهل الحديث والروايات وأهل اللغة المحققون على قولهم. قال أبو إسحاق: يبعد أن يقال ضربتك لولا زيد وهممت بك لولا زيد، وإنما الكلام لولا زيد لهممت بك. فلو كان ولقد همت به ولهم بها لولا أن رأى برهان ربه لجاز على بعد، وإنما المعنى لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما هم به " اهـ



و مما يدل على أن الهم وقع قوله تعالى بعدها ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الفَحْشَاء )

فلو كان الله عصمه ابتداء لما حصل له الهم على فعل ما لا ينبغي لو كنتم تعقلون !


يقول ابن أبي حاتم في " تفسيره 11477 ":
حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) قَالَ: مَثُلَ لَهُ يَعْقُوبُ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِهِ، فَخَرَجَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ أَنَامِلِهِ.

و قال " 11484 ":
حَدَّثَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ شَاذَانَ، ثنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْنٍ الْخُرَاسَانِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ قَالَ: مَثُلَ لَهُ يَعْقُوبُ عَاضًّا عَلَى أُصْبُعَيْهِ يَقُولُ: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، اسْمُكَ فِي الأَنْبِيَاءِ، وَتَعْمَلُ عَمَلَ السُّفَهَاءِ.

و قال "11483 ":
حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، ثنا صَفْوَانُ، ثنا الْوَلِيدُ، ثنا خُلَيْدٌ وَسَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَثُلَ لَهُ يَعْقُوبُ عَاضًّا عَلَى أُصْبُعَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: أَيَا يُوسُف أَتتهم بِعَمَلِ السُّفَهَاءِ وَأَنْتَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ؟ فَذَلِكَ الْبُرْهَانُ، فَانْتَزَعَ اللَّهُ كُلَّ شَهْوَةٍ كَانَتْ فِي مَفَاصِلِهِ.



فقوله تعالى ( كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء )  فيه أن الله سبحانه صرف عن يوسف عليه السلام أمرين اثنين: السوء و الفحشاء. فقولك أن يوسف لم يحصل منه هم مخالف للنظم القرآني. أليس كذلك ؟



قال النحاس في «معاني القرآن» (3/413) :
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: ((وقد زعم بعض من يتكلم في القرآن برأيه أن يوسف صلى الله عليه وسلم لم يهم بها يذهب إلى أن الكلام انقطع عند قوله ولقد همت به قال ثم استأنف فقال وهم بها لولا ان رأى برهان ربه بمعنى لولا ان رأى برهان ربه لهم بها واحتج بقوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وبقوله واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه هم بها وهم أعلم بالله وبتأويل كتابه وأشد تعظيما للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم)).
قال أبو جعفر -أي: النحاس- وكلام أبي عبيد هذا كلام حسن بيّن لمن لم يَمِل إلى الهوى والذي ذكر من احتجاجهم بقول ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب لا يلزم لأنه لم يواقع المعصية. وأيضا فإنه قد صح في الحديث أن جبريل صلى الله عليه وسلم قال له حين قال ذلك ليعلم أني لم اخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين، ولا حين هممت فقال وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسو.ء وكذلك احتجاجهم بقوله واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر لا يلزم لأنه يجوز ان يكون هذا بعد الهموم. وقال الحسن: إن الله جل وعز لم يذكر معاصي الأنبياء ليعيرهم بها ولكنه ذكرها لئلا تيأسوا من التوبة. وقيل معنى وهم أنه شئ يخطر على القلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من هم بسيئة ثم لم يعملها لم تكتب عليه فهذا مما يخطر بالقلب ولو هم بها على أنه يواقعها لكان ذلك عظيما، وفي الحديث إني لأستغفر الله جل وعز في اليوم والليلة مائة مرة إلى آخر كلامه ".اهـ




وقال ابن قتيبة في "مشكل القرآن" :
" و كتأولهم في قوله سبحانه: وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها أنها همّت بالمعصية، و همّ بالفرار منها! و قال (بعضهم): و همّ بضربها! و اللّه تعالى يقول: لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ . أ فتراه أراد الفرار منها. أو الضرب لها، فلما رأى البرهان أقام
عندها و أمسك عن ضربها؟! هذا ما ليس به خفاء و لا يغلط متأوّله. و لكنها همّت منه بالمعصية همّ نيّة و اعتقاد، و همّ نبي اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، همّا عارضا بعد طول المراودة، و عند حدوث الشهوة التي أتي أكثر الأنبياء في هفواتهم منها.
و قد روي في الحديث: أنه ليس من نبي إلا و قد أخطأ أو همّ بخطيئة غير يحيى بن زكريا، عليهما السلام، لأنّه كان حصورا لا يأتي النساء و لا يريدهنّ". اهـ




و قد صح هذا الذي ذكره ابن قتيبة عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.

يقول ابن عساكر في " تاريخ دمشق 70047 ":
وَحَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الأَصْبَهَانِيِّ ، نا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : " مَا أَحَدٌ إِلا يَلْقَى اللَّهَ بِذَنْبٍ ، إِلا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا ، ثُمَّ تَلا : (وَسَيِّدًا وَحَصُورًا) سورة آل عمران آية 39 ، ثُمَّ رَفَعَ شَيْئًا مِنَ الأَرْضِ ، فَقَالَ : مَا كَانَ مَعَهُ إِلا مِثْلَ هَذَا ، ثُمَّ ذبح ذَبْحًا ".اهـ



يقول محمد بن عبد الله (ابن أبي زمنين) الأندلسي في " تفسير القرآن العزيز 2/320 ":
" {وَقَالَت هيت لَك} أَي: هَلُمَّ لَك.
وتقرأ: (هيت لَك) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَتَسْكِينِ الْيَاءِ.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: هَيْتَ فلانٌ بِفُلانٍ؛ إِذَا صَاحَ بِهِ.
قَالَ الشَّاعِرُ: (قَدْ رَابَنِي أَنَّ الْكَرِيَّ أَسْكَتَا ... لَوْ كَانَ مَعْنِيًّا بِهَا لَهَيَّتَا)
قَوْلُهُ (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّه رَبِّي} أَيْ: سَيِّدِي، يَعْنِي: الْعَزِيزَ {أَحْسَنَ مثواي} أَيْ: أَكْرَمَ مَنْزِلَتِي.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيُّ: أَوَّلُ مَا قَالَتْ لَهُ: يَا يُوسُفُ مَا أَحْسَنَ شَعْرَكَ! قَالَ: أَمَّا إِنَّهُ أول شيءٍ يبْلى مني.
{وَلَقَد هَمت بِهِ} يَعْنِي: مَا أَرَادَتْهُ حِينَ اضْطَجَعَتْ لَهُ
{وهم بهَا} يَعْنِي: حَلَّ سَرَاوِيلَهُ
{لَوْلا أَنْ رأى برهَان ربه} قَالَ مُجَاهِدٌ: مُثِّلَ لَهُ يَعْقُوبُ فَاسْتَحْيَى مِنْهُ، فَصَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَذْهَبَ كُلَّ شهوةٍ كَانَتْ فِي مَفَاصِلِهِ.

قَالَ اللَّهُ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء} الْآيَة، فولّى هَارِبا واتبعته ". اهـ



و هنا تظهر الحكمة من ذِكر همّ يوسف عليه السلام. فلربما ظن ظان أن يوسف لم تكن عنده شهوة، أو أن امرآة العزيز لم تكن ذات حسن لذلك تركها مستبقا الباب. فلا هذا و لا هذا كان. بل اجتمعت عليه كل الأسباب المؤدية إلى الكبيرة فضلا عن الهم، من الشهوة و القوة و الحسن الذي أوتيه و الغربة وجمال المرأة و أنها هي الداعية له الملحة عليه و الخلوة و غيرها من الأسباب، مع كل هذا نجاه الله و صرف عنه السوء و الفحشاء .


و لكن القوم لا يفهمون، و يظنون أن في ذلك تنقيصا لهم و حطا لقدرهم.


و هذا على العكس مما فهمه الكملي - و كان يحرك يديه عند ذكر كلام السلف تنقيصا لهم -. فقد خرج أحمد في " مسنده 36 ":حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً ؟ قَالَ :
" الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ " ، قَالَ : " يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ زِيدَ فِي بَلائِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ ، فَلا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الأَرْضِ وَمَا لَهُ خَطِيئَةٌ " . اهـ





و قال في الدقيقة ( 12:40):
" ( كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء إنه من عبادنا المخلصين )، المصطفين، جرى عليه الإجتباء و الإصطفاء، فكيف يتطرق إليها ". اهـ


و هنا مسألة بخصوص عصمة الأنبياء من الصغائر:

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في " الفتاوى ":
" وإتفق علماء المسلمين على انه لا يكفر احد من علماء المسلمين المنازعين فى عصمة الأنبياء والذين قالوا انه يجوز عليهم الصغائر والخطأ ولا يقرون على ذلك لم يكفر أحد منهم باتفاق المسلمين فان هؤلاء يقولون إنهم معصومون من الاقرار على ذلك ".اهـ


و قال في جامع المسائل (4/28):
وفي هذا ردٌّ على طائفةٍ من الناس ء كبعض المصنِّفين في السِّيَر وفي مسألة العصمة ء يقولون في قوله (ليَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذَنبك) : وهو ذنبُ آدم، (وَمَا تَأَخرَ) ذنبُ أمتِه، فإن هذا القولَ وإن كان لم يَقُلْه أحدٌ من الصحابة والتابعين ولا أئمة المسلمين، ولا يقولُه من يَعقِلُ ما يقول، فقد قاله طائفة من المتأخرين .
ويَظُنُّ بعضُ الجهال أن هذا معنى شريف، وهو كذب على الله وتحريفُ الكَلِم عن مواضعه.
فإنه قد ثبت في الصحاح في أحاديث الشفاعة أن الناسَ يومَ القيامة يأتون آدمَ يَطلبون منه الشفاعةَ، فيعتذِرُ إليهم ويقول: إني نُهِيْتُ عن الشجرة فأكلتُ منها، نفسي نفسي، ويأتون نبيًّا بعد نبي إلى أن يَأتوا المسيحَ، فيقول: ائْتُوا محمدًا فإنه عبد قد غفرَ اللهُ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
فلو كانت "ما تقدم" هو ذنب آدم لم يعتذر آدم.

وأيضًا فلما نزلتِ الآية قالت الصحابةُ: هذا لكَ فما لنا؟ فأنزل الله: (هُوَ اَلَّذِي أَنزَلَ السكينَةَ في قُلُوبِ اَلمُؤْمِنِينَ) ، فلو كان "ما تأخر" مغفرة ذنوبهم لقال: هذه لكم.

وأيضًا فقد قال تعالى: (وَاَستَغْفِر لِذَنبِك وَلِلمُؤمِنِينَ وَالمؤمناتِ) ، ففرَّقَ بين ما أضاف إليه وما يُضاف إلى المؤمنين والمؤمنات.

وأيضًا فإضافةُ ذنبِ غيره إليه أمرٌ لا يَصْلُح في حق آحادِ الناس، فكيف في حقَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ حتى تُضَاف ذنوبُ الفُسَّاق من أمته إليه.  ويُجعلَ ما جعلوه من الكبائر كالزنا والسرقة وشرب الخمر ذَنْبًا له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، والله يقول في كتابه: (وَلَا تزِرُ وَازِرَةٌ وزرَ أخُرَى) ".اهـ


و قال أيضا " ( 4/40):
وقد اتفقوا أنه لا يُقَرُّ على خَطَأٍ في ذلك، وكذلك لا يُقَرُّ على الذنوب لا صغائرِها ولا كبائرِها.
ولكن تنازعوا: هل يقع منهم بعضُ الصغائرِ مع التوبة منها أو لا يَقَعُ بحالٍ؟
فقال كثير من المتكلمين من الشيعة والمعتزلين وبعض متكلمي أهل الحديث: لا يَقَع منهم الصغيرةُ بحالٍ ، وزادت الشيعةُ حتى قالوا: لا يقع منهم لا خطأ ولا غيرُ خطأٍ .
وأما السلف وجمهور أهل الفقه والحديث والتفسير وجمهور متكلمي أهل الحديث من أصحابِ الأشعري وغيرهم فلم يَمنَعوا الوقوعَ إذا كانَ مع التوبة، كما دَلتْ عليه نصوصُ الكتابِ والسنة، فإن اللهَ يُحِبُّ التوَّابين ويُحِبُّ المتطهرين.
وإذا ابْتَلَى بعضَ الأكابر بما يَتُوب منه فذاك لكمالِ النهاية، لا لنقصِ البدايةِ.
كما قال بعضُهم: لو لم يكن التوبةُ أحبَّ الأشياءِ إليه لما ابتلَى بالذنب أكرمَ الخلق عليه.
وفي الأثر : "إنّ العبد لَيَعْمَل السيئةَ فيدخَلُ بها الجنةَ، وإنّ العبدَ لَيعملُ الحسنة فيدخلُ بها النارَ"، يعني أن السيئة يذكرُها ويتوبُ منها فيُدْخِلُه ذلك الجنةَ، والحسنةُ يُعْجَبُ بها ويَسْتكبرُ فيُدخِلُه ذلك النارَ.
وأيضًا فالحسنات والسيئات تَتنوَّعُ بحسبِ المقامات، كما يقال: "حسنات الأبرار سيئاتُ المقرَّبِين"، فمن فَهِمَ ما تَمحُوه التوبةُ وتَرفَعُ صاحبَها إليه من الدرجات وما يَتفاوتُ الناسُ فيه من الحسنات والسيئات زالتْ عنه الشبهةُ في هذا الباب، وأقرَّ الكتابَ والسنةَ على ما فيهما من الهدى والصواب.
فإنّ الغُلاةَ يتوهمون أن الذنبَ إذا صدرَ من العبد كان نقصًا في حقّه لا يَنْجبرُ، حتى يجعلوا من فضلِ بعضِ الناس أنه لم يَسجدْ لصَنَم قطُّ. وهذا جهلٌ منهم.
فإن المهاجرين والأنصار والذين هم أفضل هذه الأمة هم أفضلُ من أولادِهم وغيرِ أولادِهم ممن وُلِدَ على الإسلام، وإن كانوا في أولِ الأمر كانوا كُفارًا يعبدون الأصنام.
 بل المنتقلُ من الضلال إلى الهدى ومن السيئات إلى الحسنات يُضاعَفُ له الثوابُ، كما قال تعالى: (إِلًا مَن تَابَ وَآمَن وَعَمِلَ عملا صالِحًا فَأُوْلَئك يبَدِّلُ الله سيئاتِهِم حَسَنَات وَكاَنَ اللهُ غَفُورا رَّحِيمًا (70) ) .
وقد ثبت في الصحيح أن الله يومَ القيامة يَظهر لعبدِه فيقول: "إني قد أبدلتك مكانَ كل سيئةٍ حسنةً"، فحينئذٍ يَطلبُ كبائرَ ذُنوبِه.
وقد ثبت في الصحاح من غير وجهٍ عن النبي ء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ء أنه أخبر أن الله أشدُ فَرَحًا بتوبةِ عبدِه من رجلٍ أضلَّ راحلتَه بأرضٍ دَوِّيَّةٍ مَهلَكةٍ عليها طعامُه وشرابُه، فطلبَها فلم يجدْها، فنامَ تحت شجرةٍ يَنتظِرُ الموتَ، فلما استفاقَ إذا بدابَّتِه عليها طعامُه وشرابُه، فالله أشدُّ فَرَحًا بتوبة عبدِه مِن هذا براحلتِه.
وهذا أمرٌ عظيمٌ إلى الغاية. فإذا كانت التوبةُ بهذه المنزلةِ كيف لا يكون صاحبُها مَعظَّمًا عند اللهِ؟
وقد قال تعالى: (إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السماوات والأرض والجِبَالِ فَأَبَين أَن يحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَملَها الإنسانُ إِنَّه كانَ ظَلُوما جَهُولا (72) لِيَعُذبَ اللهُ اَلمُنافِقِينَ وَالمُناَفِقات وَالمشركين والمشركات ويتوب الله عَلَى اَلْمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنات وكَاَنَ الله غَفُورا رَّحيِما )
فوصفَ الإنسانَ بالجهل والظلمِ، وجعلَ الفرقَ بين المؤمن والكافر والمنافق أن يتوبَ الله عليه، إذْ لم يكن له بُدٌّ من الجهل والظلم. ولهذا جاء في الحديث : "كل ابنِ آدمَ خَطَّاء ، وخيرُ الخطَّائين التوَّابُون ".اهـ


و لعل هذا - و الله أعلم - هو سبب رده لقول السلف في المسألة.



يقول أبو نعيم في الحلية:
حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ :ثَنَا عبد الله بن محمد قَالَ :ثَنَا ابن أبي عمر قَالَ :ثَنَا سفيان ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قتادة قَالَ :لَمْ يَتَمَنَّ الْمَوْتَ أَحَدٌ قَطُّ لَا نَبِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ إِلَّا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؛ حِينَ تَكَامَلَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ ، وَجُمِعَ لَهُ الشَّمْلُ ، اشْتَاقَ إِلَى لِقَاءِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ) فَاشْتَاقَ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ .اهـ

خذها فائدة و إن كانت تخالف النظم القرآني !

هذا وصل اللهم على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم.


_______
ملحوظة:
نصوص شيخ الإسلام ابن تيمية مستفادة من مقالات للأخ عبد الله الخليفي وفقه الله.
و نص ابن قتيبة و نص النحاس أفادني بهما الأخ مأمون وفقه الله.


---------------------------------------------------------

تفسير قوله تعالى "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ"






....
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..