الأربعاء، 25 فبراير 2015

تيار الصنعة الشعرية بين الجاهلية والإسلام

حفل النقد العربي القديم بالبحث في الشعر وطبيعته وماهيته وأسسه وأغراضه وبنائه، وتكلم النقاد على الكيفية التي يخرج عليها الشعر من أفواه الشعراء، وشاعت عندهم قضية الإلهام في الشعر، تلك
القضية التي كانت تعني أن الشاعر إنما يقول قصيدته دون عناء يتكبده، أو مشقة تتعثر معها خطاه، ويصعب معها ما يقول، وقد رأى العرب القدامى أن مرجعية ذلك الإلهام إنما تعود إلى الجن والشياطين؛ فقد كانوا يعتقدون " أن الشاعر متصل بشيطان خاص به يلهمه الشعر"[1] وقد ذكر القرشي في كتاب الجمهرة تحت عنوان: ما حُفظ عن الجن من الشعر، أشعارًا لمشاهير شعراء العرب في الجاهلية وكانت عن طريق الجن الذين كانوا يصاحبون هؤلاء الشعراء[2].

وقد نبعت قضية الإلهام في الشعر، وما يصحبها من العلاقة بين الشياطين والشعراء من فكرة الإبداع الذي يحوز إعجاب المتلقين، وكأن ما يبدعه الشاعر أمر خارق للعادة مثلما تُنسب إلى الجن خوارق العادات وأعاجيبها، وربما لأجل ذلك " أدرك النقاد العرب حقيقة ما يمتاز به الأديب من إلهام يتجلى فيما يبدع من أدب، وفيما يوحَى إليه من قول كما وصلوا إلى أن الإلهام أساس لابد أن يوجد لدى الأديب أولاً، وإلا ضاعت محاولاته سدًى، وذهب ما يقوله عبثًا، ولم يكن لقوله هذا الصدى الذي يرجعه الزمان وتردده جنبات الأرض في كل مكان "[3].

ولم تكن علاقة الشعراء بالشياطين والجن وقفًا على النقاد وحدهم إذ قد تبارى الشعراء أنفسهم مفاخرين بما لديهم من شياطين يوحون إليهم زخرف القول الذي يسحر العقول، ويخلب الألباب، ومن هؤلاء الشعراء فيما ذهب الرواة: عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم والكميت الأسدي والنابغة الذبياني وطرفة بن العبد وقيس بن الخطيم، وأبو تمام والبحتري، والمتنبي[4] وهؤلاء الشعراء الثلاثة المتأخرون من العصور الإسلامية، مما يعني أن فكرة العلاقة بين الشعراء والشياطين أو الجن قد امتدت إلى العصور الإسلامية، ولعل قول الله عز وجل على لسان الجن: ﴿ وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً[5] يؤكد تلك العلاقة فقد كان الرجل كما ذهب المفسرون إذا أدركه الليل بالقفر أو الخلاء كان يقول: " أعوذ بسيد هذا الوادي، أو بعزيز هذا المكان من شر سفهاء قومه الجن فيبيت في جوار منهم حتى يصبح "[6] وهو الأمر الذي ظل مسيطرًا على عقول الكثير من العرب، حيث يتوجسون خيفة من الخلاء والأماكن الخربة.

ولم تكن قضية الإلهام الشعري، وارتباطه بالجن والشياطين، أو بقوى عليا أمرًا مقصورًا على العرب وحدهم، وإنما سبقهم إليه اليونانيون الذين جعلوا للشعر ولسائر الفنون تسع ربات يقمن بإلهام الشعراء والفنانين الشعر والفن، وتلك فكرة كانت تنطلق كذلك من الإيمان بأن الشعر والفن إبداعٌ، والإبداع مرتبط بقوة عليا، قوة غير بشرية هي التي تقوم بعملية الإلهام، وما يترتب عليه من الإبداع في الشعر والفن.

ولم يُعمم الرواة والنقاد القدامى علاقة الشعراء بالجن والشياطين على كل الشعراء العرب بل إن هؤلاء الرواة قد سمُّوا بعض الشعراء وذكروا أسماء قرنائهم من الجن وذلك أمر يلفت إلى أن ثمة طائفة أخرى من الشعراء القدامى لم تكن لهم علاقة بالجن والشياطين وإنما كانوا يقولون الشعر عن طبع وقريحة شعرية بعيدة عن التماس العون من قوة أخرى، ووجود مثل هذه الطائفة من الشعراء استحضر على الساحة النقدية عند العرب التفرقة بين من يقولون الشعر عن إلهام، أو ارتجال، ودون تأنٍّ أو رويّة، ومن يقولونه ثم يعيدون النظر فيه بالتهذيب والتنقيح والتثقيف والتحكيك، وثارت قضية العلاقة بين الطبع والصنعة في الشعر، حيث ارتبط أولهما بالإلهام وانتفاء المشقة والعنت أو التكلف في قول الشعر، وأن " أصحابه يسيرون وفق عمود الشعر الموروث، فلا ينمقون، ولا يتأنقون ولا يتكلفون ولا يُغرِبون "[7].

بينما ارتبط ثانيهما بالمشقة والتكلف والمعاناة في النظم، وأن " أصحابه كانوا ينحرفون عن هذا العمود إلى التنميق والتأنق، أو إلى الإغراب والتكلف "[8] وهذا ابن قتيبة يقسم الشعراء إلى متكلف ومطبوع ويقول عن المتكلف: " هو الذي قوم شعره بالثقاف، ونقحه بطول التفتيش وأعاد فيه النظر بعد النظر كزهير والحطيئة "[9] ويبدو أن التقويم والتثقيف والتنقيح إنما يكون بعد قول الشعر، وليس أثناءه، ومن ثمة يبدو هذا الفريق من الشعراء كالسابق في عملية الإلهام أو الارتجال، ولكنه ارتجال مصحوب برغبة الوصول إلى أقصى حالات الجودة التي ترضي الشاعر، قبل أن تحوز إعجاب المتلقي، وذلك ما أشار إليه الجاحظ بقوله: " ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولاً كريتًا :تامًّا وزمنًا طويلاً، يردد فيها نظره ويُجيل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه؛ اتهامًا لعقله وتتبعًا على نفسه، فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره إشفاقًا على أدبه وإحرازًا لما خوّله الله من نعمته "[10].

ويؤكد ابن قتيبة في الشعر والشعراء على أن التكلف والجهد الذي يتضح في شعر المتكلِّفين، إنما يكون بعد انتهاء عملية النظم، وليس أثناءه، وجاء تأكيد ابن قتيبة هذا عند تعريفه الشعر المتكلف بقوله: " والمتكلف من الشعر، وإن كان جيدًا محكمًا، فليس به خفاء على ذوي العلم؛ لتبينهم فيه ما نزل بصاحبه من طول التفكر، وشدة العناء، ورشح الجبين وكثرة الضرورات وحذف ما بالمعاني حاجة إليه، وزيادة ما بالمعاني غنًى عنه " [11] وهو بذلك يلفت إلى الحالة النفسية التي يكون عليها صاحب هذا الشعر المتكلف بعد الفراغ من نظمه، كما يلفت إلى طريقته في النظم حيث كثرة الضرورات الشعرية والحذف والزيادة.

بيد أن حديث ابن قتيبة عن الشعراء المطبوعين يؤكد على المفارقة بينه وبين المتكلف منهم، وأن هذا الأخير إنما ينظم شعره عن تصنع وتكلف، أما المطبوع فهو " مَن سمح بالشعر، واقتدر على القوافي وأراك في صدر بيته عجزه، وفي فاتحته قافيته، وتبينت على شعره رونق الطبع ووشي الغريزة، وإذا امتُحِن لم يتلعثم، ولم يتزحر "[12] وهو يشير إلى ما في شعر المطبوعين من السبك والتلاحم سواء أكان ذلك في البيت الواحد، أو في القصيدة كلها، مما يعني رضاء هؤلاء المطبوعين عن شعرهم.

لقد كان رواة الشعر أسبق من نقاده في إدراك قضية الطبع وما تشير إليه من دلالات السهولة واليسر وطواعية الشعر الذي يخرج من أفواههم أول ما يخرج تام الخلق مستويًا على سوقه دون أدنى عناء أو مشقة وأدركوا بالمثل قضية الصنعة، وما تستدعيه عند صاحبها من التكلف والمشقة والجهد، فهذا الأصمعي يقول فيما يرويه الجاحظ في بيانه: " زهير والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر؛ لأنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين، وكذلك كل من جوّد في جميع شعره، ووقف عند كل بيت قاله وأعاد فيه النظر حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة، وكان يُقال: لولا أن الشعر قد كان استعبدهم، واستفرغ مجهودهم حتى أدخلهم في باب التكلف وأصحاب الصنعة، ومن يلتمس قهر الكلام واغتصاب الألفاظ لذهبوا مذهب المطبوعين الذين تأتيهم المعاني سهوًا ورهوًا، وتنثال عليهم الألفاظ انثيالاً "[13] وما تأتي المعاني سهوًا رهوًا، وانثيال الألفاظ انثيالاً إلا صورة من صور البديهة الحاضرة، والارتجال الذي ينم عن قريحة شعرية ملهمة تبعد بصاحبها عن أن يراجع شعره وينقحه ويهذبه ويثقفه، وبذلك نجد الجاحظ يذم التكلف والتصنع الذي ينصرف إلى قهر النفس على قول الشعر مع إعمال العقل وكده - برغم أنه أكد في الحيوان على ضرورة مراجعة العمل الأدبي[14] لأنه يفارق المطبوع من الشعراء.

وذم التكلف بهذا المعنى عند الأصمعي وابن قتيبة نجده عند القاضي الجرجاني حيث يقول: " ومع التكلف المقت، وللنفس عن التصنع نفرة، وفي مفارقة الطبع قلة الحلاوة "[15] وهو مذهب ابن سنان الذي يوصي كلاًّ من الكاتب والشاعر بقوله: " والوصية لهما ترك التكلف، والاسترسال مع الطبع "[16] وذمه ابن الأثير في تفرقته بين المتكلف والمطبوع، عند حديثه عن لزوميات أبي العلاء " وأما المتكلف فهو الذي يأتي بالفكرة والروية، وذلك أن ينضى الخاطر في طلبه، ويُبعث على تتبعه واقتفاء أثره وغير المتكلف يأتي مستريحًا من ذلك كله، وهو أن يكون الشاعر في نظم قصيدته، أو الخطيب أو الكاتب في إنشاء خطبته أو كتابته، فبينا هو كذلك إذا سنح له نوع من هذه الأنواع بالاتفاق لا بالسعي والطلب "[17].

وقد ميز الباقلاني بين الطبع والصنعة عندما تحدث عن دور الكلام في تحديد مكانة صاحبه بين الرفعة والحطة، وقد مثل لذلك بأمثلة من شعر الغزل والحرب والفخر، وخلص إلى أن "الشيء إذا صدر من أهله وبدا من أصله، وانتسب إلى ذويه، سلم في نفسه وبانت فخامته وشوهد أثر الاستحقاق فيه، وإذا صدر من متكلف وبدا من متصنع، بان أثر الغربة عليه وظهرت مخايل الاستيحاش فيه، وعرف شمائل التحير منه"[18] وهو ينطلق في ذلك من التمييز بين صدق الرغبة في النظم وانعدامها، وحمل النفس عليه حملاً؛ لأن ذلك من آيات التكلف الذي يشير إلى " طلب الشيء بصعوبة للجهل بطرائق طلبه بالسهولة، فالكلام إذا جُمِع وطُلب بتعبٍ وجَهدٍ، وتنوِّلت ألفاظه من بُعدٍ فهو متكلف "[19] والمتكلف مذموم فالكلام " إذا خرج في غير تكلفٍ وكدٍّ وشدة تفكرٍ وتعملٍ كان سلسًا سهلاً، وكان له ماءٌ ورواء ورقراق، وعليه فِرِند لا يكون لغيره مما عسر بروزه واستكره خروجه"[20] لأن في ذلك ما فيه من التعب والمشقة التي لا تنم عن بديهة.

ويبدو أن هؤلاء النقاد الذين نظروا إلى التكلف هذه النظرة قد خلطوا " بين مراجعة العمل الأدبي بمعنى تنقيحه وتهذيبه، وبين المجاهدة والمعاناة في إبرازه وإخراجه، فأطلقوا على كلٍّ منهما اسم التكلف، غير مدركين أن كل عمل أدبي لابد فيه من مراجعة وتنقيح وتعديل حتى يخرج بصورة مرضية "[21] من شأنها أن تحوز إعجاب صاحبها، ورضاء نفسه أولاً قبل أن تنال إعجاب المستمع أو المتلقي ومن ثمة فالشعر أشبه ما يكون بمعركة إبداعية بين الشاعر وأدوات فنه، فيها من المعاناة ما لا ينكره أحد، و " الشاعر الحق يفتش عن الكلام بكل ما يومئ إليه هذا التعبير من محاسبة الذات، ومراجعة الوسائل، أما أصحاب الطريق السهل، فيقنعون بالإغارة على أسلاب هذه المعركة الإبداعية "[22].

ولا شك أن مثل هذا الشاعر الذي يفتش عن الكلام الملائم سوف " ينتهي إلى الإجادة بعد البحث والدرس، وبعد التحقيق والتمحيص، وبعد الاجتهاد الطويل في اختيار الجيد، وإسقاط الرديء ثم الاجتهاد الطويل بعد ذلك في اختيار أجود الجيد، وإسقاط ما عداه، وهو رقيب نفسه قبل أن يراقبه غيره، وهو ناقد فنه قبل أن ينقده غيره "[23].

وعلى هذا النحو ندرك أن الصنعة التي يراد بها التهذيب والتنقيح وامتحان القريحة، والاقتدار على النظم، ليست مذمومة، بل إنها لأمر لم يتحرج الشعراء من الاعتراف به، فهذا زهير بن أبي سلمى وهو من كبار فحول شعراء العربية يسمي قصائده الحوليات؛ لأنه كان يدعها عنده حولاً كاملاً لا يذيعها بين الناس إلا بعد أن تقرعينه بها، وتطمئن نفسه إلى جودتها، وهذا الحطيئة وهو من الفحول يقول: " خير الشعر الحولي المحكك "[24] والتحكيك يعني مراجعة القصيدة مرة بعد مرة؛ لإزالة ما بها من الغث القبيح والرث الفاسد وهذا كعب ابن زهير يُزهى بشعره وشعر الحطيئة؛ لأنهما يثقفانه ويهذبانه وينقحانه ويتنخلانه، فيقول[25]:
فَمَنْ لِلْقَوَافِي مَنْ لََهَا مَنْ يَحُوكُهَا
يَقُولُ فَلاَ يَعْيَا بِشَيْءٍ يَقُولُهُ
يُقَوِّمُهَا حَتَّى تَقُومَ مُتُونُهَا
كَفَيْتُكَ لا تَلْقَى مِنَ النَّاسِ شَاعِرًا
إِذَا مَا ثَوَى كَعْبٌ وَفَوَّزَ جَرْوَلُ
وَمِنْ قَائِلِيهَا مَنْ يُسِيءُ وَيَعْمَلُ
فَيَقْصُرُ عَنْهَا كُلُّ مَا يَتَمَثَّلُ
تَنَخَّلَ مِنْهَا مِثْلَ مَا أَتَنَخَّلُ

وهو يشير إلى أن الكثيرين من الشعراء يصنعون قصائدهم ويحوكونها مثلما يفعل هو والحطيئة، ولكنهم لا يأتون مثلما يصنعان ويحوكان، بل إنه ليؤكد في البيت الأخير أنه ليس ثمة شاعر يصنع صنيعهما؛ إذ " يتنخلان شعرهما ويأخذانه بالثقاف والتنقيح، ويجمعان له كل ما يمكن من وسائل التجويد والتحبير "[26].

ولم يكن الاعتراف بالصنعة، والزهو بها بالأمر المشين لدى أمثال هؤلاء الشعراء؛ إذا كانوا يدركون صعوبة الفن الذي يبدعونه، وحاجته مع هذه الصعوبة إلى المعاناة والتثقيف والتنقيح دون خجل أو تحرج من مثل هذه المراجعة المرة بعد المرة فالفن معاناة، والإبداع الشعري حالة تجمع إلى المعاناة الصعوبة على المبدعين، فما بالنا بمن يتكلف هذه الحالة؟!، وهذا الحطيئة وهو الفحل يعترف بما للشعر من صعوبة، وبُعْد منال خاصة على من لا يُحسنونه يقول الحطيئة[27]:
فَالشِّعْرُ صَعْبٌ وَطَوِيلٌ سُلَّمُهْ
إِذَا ارْتَقَى فِيهِ الَّذِي لا يَعْلَمُهْ
زَلَّتْ بِهِ إِلَى الْحَضِيضِ قَدَمُهْ
وَالشِّعْرُ لا يَسْطِيعُهُ مَنْ يَظْلِمُهْ
يُريدُ أَنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمَُهْ


وهذا عدي بن الرقاع يقول موضحًا كيف يسهر الليل يجمع بين أبيات قصيدة أنشدها ليقومها ويهذبها مثلما يفعل صانع الرمح عندما يسوي رماحه[28]:
وَقَصِيدَةٍ قَدْ بِتُّ أَجْمَعُ بَيْنَهَا
نَظَرَ الْمُثَقِّفِ فِي كُعُوبِ قَنَاتِهِ
حَتَّى أُقَوِّمَ مَيْلَهَا وَسِنَادَهَا
حَتَّى يُقِيمَ ثِقَافُهُ مُنْآدَهَا

وكذلك نجد سويد بن كراع لا يخجل من تثقيف قصائده وتهذيبها مرددًا فيها نظره الحول الكامل، كأنما يصيد سربًا من الوحش[29]:
أَبِيتُ بِأبْوَابِ الْقَوَافِي كَأَنَّمَا
أُكَالِئُهَا حَتَّى أُعَرِّسَ بَعْدَمَا
إِذَا خِفْتُ أَنْ تُرْوَى عَلَيَّ رَدَدْتُهَا
وَجَشَّمَنِي خَوْفُ ابْنِ عَفَّانَ رَدَّهَا
وَقَدْ كَانَ فِي نَفْسِي عَلَيْهَا زِيَادَةً
أُصَادِي بِهَا سِرْبًا مِنَ الْوَحْشِ نُزَّعَا
يَكُونُ سُحَيْرًا أَوْ بُعَيْدَُ فَأَهْجَعَا
وَرَاءَ التَّرَاقِي خَشْيَةَ أَنْ تَطَلَّعَا
فَثَقَّفْتُهَا حَوْلاً جَرِيدًا وَمَرْبَعَا
فَلَمْ أَرَ إِلاَّ أَنْ أُطِيعَ وَأَسْمَعَا

استحسان التنقيح والتهذيب والمراجعة نجده كذلك عند غير واحد من النقاد العرب، فابن طباطبا يقول عن صناعة الشعر: " فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا، وأعدّ له ما يُلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه والوزن الذي يسلس له القول عليه[30] ولا يقنع ابن طباطبا بهذا الإعداد الذي يشمل الشكل والمضمون معًا و إنما ينصح الشاعر بإثبات كل بيت يأتيه دون تنسيق أو ترتيب، حتى يتوقف ما يأتيه من الأبيات، وعندها " يتأمل ما قد أداه إليه طبعه، ونتجته فكرته فيستقصي انتقاده، ويرمُّ ما وهى منه، ويبدل بكل لفظة مستكرهة لفظة سهلة نقية، وإن اتفقت له قافية قد شغلها في معنًى من المعاني، واتفق له معنًى آخر مضاد للمعنى الأول، وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني منها في المعنى الأول نقلها إلى المعنى المختار الذي هو أحسن، وأبطل ذلك البيت، أو نقض بعضه، وطلب لمعناه قافية تشاكله "[31].

ونجد العسكري بعد أن ينصح باستحضار المعاني في الفكر وإخطارها في القلب وتخيُّر الوزن والقافية واللفظ الملائم للمعنى يقول: " فإذا عملت القصيدة، فهذبها ونقحها بإلقاء ما غثَّ من أبياتها ورثَّ ورذل، والاقتصار على ما حسن وفخم، بإبدال حرفٍ منها بآخر أجود منه حتى تستوي أجزاؤها، وتتضارع هواديها وأعجازها "[32].

وإلى مثل ذلك ذهب ابن خلدون بعد حديثه عن كيفية عمل الشعر وإحكام صنعته وشروط ذلك، ومنها حفظ الكثير من أشعار المجودين من الشعراء المتقدمين والرواية عنهم، ثم نسيان ذلك المحفوظ بالجملة، ومحاولة النظم بعد تمام النسيان، مع تحديد قافية شعره، مع تخيُّر الأوقات الملائمة للنظم؛ لأن للشعر أوقات يجيء فيها، ثم " إذا سمح الخاطر بالبيت ولم يناسب الذي عنده، فليتركه إلى موضعه الأليق به فإن كل بيت مستقل بنفسه، ولم تبق إلا المناسبة فليتخير فيها كما يشاء، وليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح والنقد ولا يضنُّ به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة، فإن الإنسان مفتون بشعره؛ إذ هو نبات فكره واختراع قريحته "[33].

وقد ذهب حازم القرطاجني إلى أن الشاعر يحتاج إلى وجود ثلاث قوًى في نفسه ليتمكن من قول الشعر، يقول: " و لا يكمل لشاعر قول على الوجه المختار إلا بأن تكون له قوة حافظة وقوة مائزة وقوة صانعة "[34] وإذا كانت القوة الحافظة مختصة بخيالات الفكر وهي ما يمكن تسميته بالذاكرة الواعية التي تختزن الصور والمعاني حتى يتم استدعاؤها عند قول الشعر في أي غرض، وإذا كانت القوة المائزة مختصة بالتمييز بين ما يلائم النظم وما لا يلائمه وبين ما يصحّ وما لا يصحّ منه، فإن " القوة الصانعة هي التي تتولى العمل في ضمّ بعض أجزاء الألفاظ والمعاني والتركيبات النظمية والمذاهب الأسلوبية إلى بعض، والتدرج من بعضها إلى بعض، وبالجملة التي تتولى جميع ما تلتئم به كليات هذه الصناعة "[35].

ووصف هذه القوة بالصانعة، والشعر بالصناعة دال على أنها تصنع الشعر، وهي تقوم بهذه الصناعة بعد أن يمر الشعر بمرحلتين: الأولى مرحلة الحفظ والاستظهار لما في الذاكرة الواعية من مخزون فكري وخيالي، والثانية: مرحلة التأليف بين أجزاء هذا المخزون، وهو تأليف مصحوب بعملية التمييز التي تقوم بها القوة المائزة، ثم مرحلة التصنيع التي تقوم بها القوة الصانعة.

ويخلص البحث مما سبق إلى أن الصنعة قد كانت تيارًا شعريا أو اتجاهًا فنيا في نظم الشعر لم ينكره من ذمه واستهجنه، وأكده من استحسنه من النقاد، ويبدو أنه قد كان حقيقة واقعة أمام الطرفين كليهما؛ ولذلك راح كل منهم يضع أمام الشعراء بعضًا من الصفات التي ينبغي وجودها في النص؛ بغية الوصول به إلى الجودة التي يصبو إليها الشاعر، وينتظرها منه الناقد والقارئ على حد سواء ومن ثمة قال قدامة: " ولما كانت للشعر صناعة، وكان الغرض في كل صناعة إجراء ما يُصنع ويُعمل بها على غاية التجويد والكمال.. كان الشعر أيضًا إذ كان جاريًا على سبيل سائر الصناعات مقصودًا فيه وفي ما يُحاك ويؤلف منه إلى غاية التجويد، فكان العاجز عن هذه الغاية من الشعراء إنما هو من ضعفت صناعته " [36]؛ ولذلك فقد راح قدامة يضع أمام الشاعر أهم النعوت التي يجب توافرها صنعته؛ حتى يصل إلى مرحلة الجودة التي يأملها، ولهذه الجودة عنده أربعة محاور هي: ائتلاف اللفظ مع المعنى، وائتلاف اللفظ مع الوزن، وائتلاف المعنى مع الوزن، ثم ائتلاف الوزن مع القافية[37].

وشرع قدامة في وضع النعوت التي يقوم بها كل محور من هذه المحاور، وأولها نعوت اللفظ وهي: " أن يكون سمحًا سهل مخارج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة مع الخلوِّ من البشاعة "[38] ويدل قوله: سهل مخارج الحروف من مواضعها على عنايته بالأصوات التي تتألف منها الكلمة، وحتى تكون الكلمة فصيحة لابد " أن يكون تأليف تلك اللفظة من حروفٍ متباعدة المخارج...وعلة هذا واضحة، وهي أن الحروف التي هي أصوات تجري من السمع مجرى الألوان من البصر، ولا شك أن الألوان المتباينة إذا جُمعت، كانت في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة؛ ولهذا كان البياض مع السواد أحسن منه مع الصفرة؛ لقرب ما بينه وبين الأصفر، وبُعدِ ما بينه وبين الأسود "[39] ولم يقصر ابن سنان الخفاجي حسن اللفظة وفصاحتها على تباعد مخارج حروفها وحده، وإنما يضيف إليه ما " يقع في التأليف ويعرض في المزاج كما يتفق في بعض النقوش "[40].

وأمر العناية بالأصوات وحسن تأليفها، ودور ذلك في فصاحة الكلمة نجده عند الفخر الرازي الذي يربط بين فصاحة الكلمة ومخارج الحروف، وهو ينقل كلام الرماني عن مخارج الحروف، وما يحسُن اجتماعه منها، وما يقبح تجاوره بسبب موضعية المخارج وطبيعة الأصوات، ثم يعلق الفخر الرازي على ذلك بقوله: " وهذه الاعتبارات لابد من مراعاتها ليكون الكلام سلسًا علّ الأسلات عذبًا على العذبات وهي كالشرط للفصاحة والبلاغة "[41].

ويربط الجاحظ بين اللفظة والمعنى الذي تؤديه، بحيث تكون بينهما آصرة قوية؛ إذ لابد للفظ من مشاكلة المعنى والإعراب عن الفحوى، والبعد عن سماجة الاستكراه، وفساد التكلف بقوله: "ومتى كان اللفظ أيضًا كريمًا في نفسه متخيرًا من جنسه وكان سليمًا من الفضول بريئًا من التعقيد حُبِّبَ إلى النفوس واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول "[42]، ولعل سلامة اللفظ من الفضول قد كان دافعًا حدا بابن قتيبة أن يعيب بيت الأعشى الذي يقول فيه:
وَقَدْ غَدَوْتُ إِلَى الْحَانُوتِ يَتْبَعُنِي
شَاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلْشَلٌ شَوِلُ

يقول ابن قتيبة:" وهذه الألفاظ الأربعة في معنًى واحد، وكان قد يستغني بأحدها عن جميعها "[43] وإن كان النقد الحديث لا يرى في البيت عيبًا إذ نظر إلى القيمة الإيحائية للأصوات، فالأعشى " قد نجح بأصوات الشين الستة - صوت التفشي - أن يحكي مشية تابعه المنطلقة المتراقصة، وكأنه يصطنع السُّكْر ويتكلف النشوة قبل وقوعها " [44]، ونظر البعض إلى مراد الشاعر، وأن البيت " ليس فيه إسفاف، وأيُّ إسفاف في أن يتفكه الشاعر، ويكون في شعره مداعبًا فالأعشى لم يقصد بهذا البيت إلا مجرد التفكُّه والدعابة "[45].

وذمّ يحيى بن حمزة العلوي في كتاب الطراز تكرار الحروف وتقارب مخارجها لما له من ثقل على النفس، ونزول عن الفصاحة، وعيب في البلاغة، وهو يعلق على هذا البيت:
وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَان قَفْرٍ
وَلَيْسَ قُرْبُ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ

بقوله: " فهذه القافات والراءات من الأحرف قد تكررت، وتقاربت، فأكسبت الكلام ثقلاً وركة تبعد به عن الفصاحة، وتنأى لأجله عن البلاغة "[46] وربما كانت القافات والراءات المتكررة في البيت ذات دلالة على الحالة النفسية والسياقية التي يحكيها البيت الدال على موقف ندبة وبكاء يستدعي تكرار الكلمات والأصوات.

وفي التراث النقدي العربي يجد الباحث عدد من النعوت الخاصة بفصاحة اللفظة يضعها النقاد بين يديْ مَن يريد حسن النظم وفصاحة الكلم، وهذه النعوت هي: العذوبة والجزالة والسهولة والرصانة مع السلاسة والنصاعة والرونق والطلاوة[47] واجتماع هذه النعوت في اللفظة يدل على جودة اللفظة وعربيتها، وفصاحتها، وإلى ما لها من أثر في المتلقي مهما كان المعنى الذي تؤديه دونها في الجودة؛ لأن " المعاني موجودة في طباع الناس، يستوي الجاهل فيها والحاذق، ولكن العمل على جودة الألفاظ، وحُسن السبك، وصحة التأليف "[48] الذي ينقضه ما يوجد في الكلام من الوحشي الغريب - كما ذهب ابن سنان -؛ ولذلك قال الجاحظ: " وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميًّا وساقطًا سوقيًّا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبًا وحشيًّا، إلا أن يكون المتكلم بدويًّا أعرابيًّا "[49] وما وصف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لزهير بأنه " لا يُعاظل بين الكلام، ولا يتتبع وحشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه "[50] سوى صورة من صور الإقبال على اللفظ القريب، والنفور من اللفظ الغريب البعيد، فالمعاظلة بين الكلام تشير إلى ما فيه من تعقيد وموالاة بعضه فوق بعض حتى يتعقد ويغمض والوحشيّ أو الحوشيّ من الكلام هو الغريب.

وأما الوزن، وهو العنصر الثاني الذي تقوم عليه صناعة الشعر فقد وجدنا قدامة يلفت الشعراء إلى الصورة المقبولة التي تكون عليها أوزانهم، وهي أن تكون سهلة العروض مشتملة على الترصيع وهو " أن يتوخى فيه تصيير مقاطع الأجزاء في البيت على سجعٍ، أو شبيه به أو من جنسٍ واحد في التصريف "[51] وقد سبق قول ابن طباطبا العلوي لمن رام صناعة الشعر، وهمَّ بعمل قصيدة أن عليه أولاً إحضار المعنى في الفكر، ثم نثره بتخير الألفاظ التي تطابقه والقوافي التي توافقه، ثم عليه أن يتخير "الوزن الذي يسلس له القول عليه"[52].

وتخير الوزن يقتضي المعرفة التامة به وباستخداماته وبكل الأحوال التي يكون عليها من الزحافات والعلل، ومعرفة القوافي وأحوالها، وكل ذلك يعني أن التعرف على الأوزان إنما هو صورة من صور الصنعة الشعرية التي قد يكون صاحبها متكلفًا أو غير متكلف، ولقد ذكر ابن رشيق القيرواني الوزن وأهميته ومكانته في صنعة الشعر، والزحافات والعلل، وكل ما يتعلق به، ثم ختم كلامه هذا بقوله: " وقد ذكرت ما يليق ذكره بهذا الموضع؛ ليعرفه المتكلم إن شاء غير متكلفٍ به شعرًا، إلا ما ساعده عليه الطبع، وصحّ له فيه الذوق "[53].

وتسلمنا إشارة قدامة إلى أهمية اشتمال الوزن على الترصيع، إلى دور البديع باعتباره بابًا من أبواب البلاغة في صناعة الشعر، وقد ارتبط البديع بقضية الطبع والتكلف ارتباطًا شديدًا، خاصة في حالة الإكثار منه ومن محسناته بحيث عُدّ الإكثار منه دليلاً على التكلف والتعمل، وخاصة في عصور الضعف الأدبي، حيث صار البديع غاية يلهث وراءها ضعاف القريحة من الشعراء، برغم أنه وسيلة من وسائل تحسين الصياغة الشعرية؛ ولأنه وسيلة للتجويد والتحسين، " فإنها تظل مقبولة ما دامت لم تتحول إلى غاية، فإذا تحولت، فإن التصنع والتكلف حينئذ هو الذي يملي لا الطبع، ومن ثم يفتقد الجمال الطبيعي ليحل الجمال المصنوع، مما لا يدني النفوس نحوه، ولا القلوب إليه "[54].

كما ارتبط درس البديع ومحسناته وأنواعها بالبحث في مسائل الإعجاز القرآني، وخاصة السجع الذي انقسم العلماء والمتكلمون حوله ما بين مؤيد لاشتمال القرآن الكريم عليه، وبين معارض ينفي وجوده في القرآن؛ رغبة في تنزيه آياته الكريمة من أن تشابه كلام البشر [55]، وفريق ثالث توسط بين هؤلاء وأولئك، وذهب إلى التفرقة بين المتكلف وغير المتكلف من السجع الذي يكون مذمومًا متكلفًا إذا تبع المعنى فيه اللفظ، أما أن يتبع اللفظ فيه المعنى، أو أن يكون المعنى هو الذي يستدعيه، فذلك غير المتكلف، وهو ما وجد في القرآن الكريم، ولقد قال الإمام عبد القاهر الجرجاني عن البديع عامة والسجع والتجنيس بصفة خاصة: " وعلى الجملة فإنك لا تجد تجنيسًا مقبولاً و لا سجعًا حسنًا حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساقه نحوه "[56] وغير المقبول أو المستحسن من السجع أو التجنيس ما كان غير ذلك.

أما من حيث الخيال الشعري والتصوير الفني والمجاز، فقد وجدنا النقاد القدامى يلتفتون إلى أهميتها من النص الشعري ومكانتها التي بدت مع قولة الجاحظ وهو يفرق بين اللفظ والمعنى: " إنما الشعر صناعة وضرب من الصبغ وجنس من التصوير "[57] وهي مكانة تدل على أهمية التصوير في نقل المعنى والعاطفة إلى المتلقي، وقد عرف النقاد العرب الخيال، ودرسوه " في أبواب المجاز المرسل والتشبيه والاستعارة المبنية عليه، والكناية، وجميعها مبنية على تداعي المعاني "[58] ورأوا أن الكلام المتكئ على الخيال ذو روعة وتأثير في النفوس من نظيره المتكئ على الحقيقة، وقد قال ابن رشيق القيرواني عن المجاز: " والمجاز في كثير من الكلام أبلغ من الحقيقة وأحسن موقعًا في القلوب والأسماع " [59]، وانحصرت دراستهم للمجاز والخيال " في أبواب الاستعارة والتشبيه والكناية والمجاز المرسل "[60].

وفي دراستهم لهذه الألوان الخيالية وجدناهم بين أمرين:
أولهما استحسان نماذج شعرية لكل نوع منها مع تبيان سبب الاستحسان، واستهجان نماذج منها وبيان سبب ذلك أيضًا، ووضع ذلك كله أمام الشعراء حتى يصلوا بفنهم وصنعتهم إلى الغاية المرجوة وهي التجويد الذي هو غاية كل صناعة كما سبق من قول قدامة بن جعفر الذي آلى على نفسه أن يضع أمام الشعراء وأصحاب صنعته ما يصل بهم إلى غايته، فحدد مفهوم التشبيه ونعوته وأنواعه، وأيها أحسن وقعًا وأجود في التعبير عن المعنى[61] وعرض ابن طباطبا العلوي لطريقة العرب في التشبيه؛ بغية أن يسير على هديٍ منها كل من يروم صناعة الشعر ولن يستقيم له ذلك إلا بأن يفيء إلى أشعار العرب قراءة وسماعًا ورواية وإذا عثر على تشبيه لا يتقبله، أو حكاية يستغربها، فليعمد إلى البحث والتنقيب عن معناه حتى يحصل على العلة من التصوير[62].

وكما أن للعرب طريقة في التشبيه لابد أن يسير على سننها الشعراء، فالأمر كذلك في الاستعارة، فقد ذم الآمدي أبا تمام في استعاراته التي خرج فيها عن سنة العرب وطريقتها، فقد استخدم بعض الاستعارات في غير ما وضعت له، " وإنما استعارت العرب المعنى لما ليس له إذا كان يقاربه أو يناسبه أو يشبهه في بعض أحواله أو كان سببًا من أسابه، فتكون اللفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشيء الذي استعيرت له وملائمة لمعناه " [63]، كما ذكر القاضي الجرجاني في الوساطة الاستعارة وحدودها وما تصلح به وذلك في قوله: " وإنما الاستعارة ما اكتفي فيها بالاسم المستعار عن الأصل، ونقلت العبارة، فجعلت مكان غيرها وملاكها تقريب الشبه ومناسبة المستعار له للمستعار منه، وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة ولا يتبين في أحدهما إعراض عن الآخر "[64] ومن خلال ما سبق نخلص إلى أن النقاد العرب القدامى قد شرطوا لجمال الاستعارة وبلاغتها " أمورًا أربعة: أولها: القرب، وثانيها: الرفعة والخصوصية وثالثها: الطرافة، ورابعها: تجاهل التشبيه "[65].

كما عني النقاد القدامى بالكناية ووضعوها موضعها من الفنون البيانية، فمكانتها أرفع من التصريح، مثلما كان المجاز أبلغ من الحقيقة كما أدركوا " ما في المجاز المرسل من البلاغة، وأنه ليس تلاعبًا بالألفاظ ولكنه اختيار يدل على عاطفة الشاعر وإحساسه "[66].

وعلى هذا النحو نجد النقاد القدامى لا ينكرون الصنعة التي تتم عن رغبة صادقة في تجويدها؛ ولذلك وجدناهم يضعون أمام الشعراء الصفات و الوسائل التي تصل بهم إلى بغيتهم، وإذا تكلم واحد منهم عن المطبوع من الشعراء وسلوكه في شعره وأهمل المتصنع، أو المتكلف، فإنما يراد به آنئذ الإشارة والتلويح إلى أن ما افتقد سمات المطبوع من الشعراء، فهو المتكلف في عمل شعره، ولما كان المطبوع من الشعراء عندهم محمودًا، فإن من يلتزم الأسس والوسائل التي وضعوها عن الصنعة الشعرية، فإنه سوف يصل إلى هذه الحالة المزاجية، وهي الرضا عنه، أو أنه سوف يقترب من منازل المطبوعين.

ومن خلال ما ذكرت عن الطبع والصنعة في الفكر النقدي القديم، وأقوال النقاد وأحكامهم النقدية على الشعراء، تبين ما يشبه الإجماع على أن شعراء الصنعة الذين كانوا يميلون إلى تهذيب شعرهم وتنقيحه وتثقيفه وهم أنفسهم شعراء الحوليات، هم أيضًا عبيد الشعر الذين أشار إليهم ابن رشيق فيما يرويه عن الأصمعي: زهير والنابغة، وعلل الأصمعي ذلك بأنهما يتكلفان إصلاحه ويشغلان به حواسهما، ومنهم كذلك: الحطيئة وطفيل الغنوي والنمر بن تولب[67].

وقد سبق الاستشهاد بشعر كعب الذي يشيد فيه بنفسه وبالحطيئة؛ لأنهما يثقفان شعرهما وينقحانه ويتنخلانه، وأنه لا أحد ممن يتنخل الشعر غيرهما يرقى إلى درجتهما، وذلك ما يعني أن كعبًا من بين شعراء الصنعة شأنه في ذلك شأن أبيه وصديقه الحطيئة، ونضيف إليهم أوسًا بن حجر؛ لما بين أشعارهم جميعًا من الخصائص الفنية المشتركة، والرابطة الاجتماعية، وهي رابطة القرابة؛ إذ كان أوس بن حجر زوج أم زهير [68]، وكان زهير راويته وتلميذه، وزوج ابنته[69] وكان الحطيئة تلميذ زهير وراويته[70] وأما كعب، فقد كان شاعرًا وله نسب عريق في الشعر، إذ تربى في حجر أبيه زهير بن أبي سلمى وأخذ عنه الشعر الذي استمر في أحفاده من بعده[71].

وقد سلك الدكتور طه حسين هؤلاء الأربعة في مدرسة شعرية واحدة، بعد الإشارة إلى الروابط التي تربط بينهم من حيث الفن والنسب والرواية الشعرية التي كانت عاملاً كبيرًا من عوامل النبوغ و الشاعرية - على نحو ما مر - يقول الدكتور طه حسين مشيرًا إلى الخصائص الفنية والروابط الاجتماعية " فإذا كان هذا كله حقًّا، فإننا بإزاء مدرسة شعرية معينة، أستاذها الأول أوس بن حجر، وأستاذها الثاني زهير، وأستاذها الثالث الحطيئة " [72]، وبالطبع فإن رابع هؤلاء الشعراء الثلاثة كعب بن زهير؛ لما بينه وبينهم من الروابط التي سبقت الإشارة إليها.

وإذا كان الدكتور طه حسين قد جعل من أوس بن حجر الأستاذ الأول لهذه المدرسة، فإن الدكتور شوقي ضيف قد جعل زهيرًا أستاذ مدرسة الصنعة، وفي ذلك يقول بعد عرضه للروابط الاجتماعية التي تربط بين الشعراء الأربعة: " وإذن فنحن أمام مدرسة في الشعر أستاذها زهير، وتلامذتها جماعة تارة يكونون من أهل بيته وتارة لا يكونون، وهي مدرسة كانت تعتمد على الأناة والروية، وتقاوم الطبع والاندفاع في قول الشعر مع السجية فكثر عندها التشبيه والمجاز والاستعارة، واتكأت في وصفها على التصوير المادي، وأن يأخذ الشاعر نفسه بالتجويد والتصفية والتنقيح، ثم التأليف "[73].

وأيًّا من يكون الأستاذ الأول لهذه المدرسة، فإن الحقيقة التاريخية تشير إلى أنها تبدأ بأوس بن حجر " زعيم مدرسة الصنعة " [74]، وقد كانت هذه المدرسة " أولى المدارس الفنية تأثيرًا في نقل الشعر العربي من مرحلة التلقائية والطبع العفوي، إلى مرحلة الخلق القائم على الإدراك والفهم لوسائل التحبير الفني " [75]، وتلك سمات ومظاهر الصنعة الشعرية التي انتسب إليها هؤلاء الشعراء.


[1] د: إحسان عباس: تاريخ النقد الأدبي عند العربي: نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري ص 16 - ط2:1993م - دار الشروق - عَمَّان.
[2] أبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي: جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام تحقيق د:محمد علي الهاشمي 1:165، 186 جامعة الإمام محمد بن سعود 14.1:1981.
[3] د: طه أبو كريشة: أصول النقد الأدبي ص 146 - ط1:1996م - لونجمان.
[4] د: إحسان عباس: تاريخ النقد الأدبي عند العرب ص 2.، 21.
[5] سورة الجن آية 6.
[6] الفخر الرازي - التفسير الكبير ومفاتيح الغيب - 3.:156 ط3:1985م دار الفكر.
[7] د: شوقي ضيف: الفن ومذاهبه في الشعر العربي ص 7 - ط1. : دار المعارف.
[8] السابق الصفحة نفسها.
[9] ابن قتيبة: الشعر والشعراء تحقيق أحمد محمد شاكر 1:78 - دار المعارف 1982م
[10] الجاحظ: البيان والتبيين تحقيق عبد السلام هارون 2:9 - ط5:1985م - الخانجي.
[11] ابن قتيبة: الشعر والشعراء: 1: 88.
[12] السابق 1: 9، قوله: يتزحر من الزحير وهو إخراج الصوت أو النفس بأنين عند عمل أو شدة، ونفي التزحر عند ابن قتيبة فيه إشارة إلى سهولة عمل المطبوعين من الشعراء مما يدخلهم في حيز الطبع البعيد عن التنقيح والتهذيب.
[13] الجاحظ: البيان والتبيين 2:13.
[14] الجاحظ: الحيوان تحقيق عبد السلام هارون 1:88 الهيئة المصرية للكتاب 2..4م.
[15] القاضي الجرجاني: الوساطة بين المتني وخصومه ص 24.
[16] ابن سنان الخفاجي: سر الفصاحة ص 282 - مكتبة محمد علي صبيح 1969م.
[17] ابن الأثير: المثل السائر 1:269.
[18] الباقلاني:إعجاز القرآن تحقيق السيد صقر ص 279، 28. ط4:1977م دار المعارف.
[19] العسكري: الصناعتين تحقيق علي البجاوي وصاحبه ص 5. ط2:دار الفكر العربي.
[20] السابق ص 177، والفرند: وشي السيف، وجوهره وماؤه الذي يجري فيه.
[21] د: طه أبو كريشة: أصول النقد الأدبي ص 19.
[22] : محمد فتوح أحمد: شعر المتنبي: قراءة أخرى ص 32 ط2:1988م دار المعارف.
[23] د: طه حسين: حديث الأربعاء 1:138.
[24] الجاحظ: البيان والتبيين 2: 12، 13.
[25] ديوانه صنعة العسكري - تقديم د: نصر الحتي ص 43 - دار الكتاب العربي- 1994م.
[26] د: شوقي ضيف: الفن ومذاهبه في الشعر العربي ص 24.
[27] الحطيئة: ديوانه برواية وشرح ابن السكيت ص 291 ط1:1987م- الخانجي.
[28] ديوانه تحقيق د: نوري حمودي القيسي ود :حاتم صالح الضامن ص 88- 9.
[29] الأبيات من قصيدة قالها في الاعتذار إلى سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنهما كما ورد في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني 12:349 دار الثقافة - بيروت 1958م، وفي الشعر والشعراء لابن قتيبة 1:78، أصادي: أخاتل، أكالئها: أردد فيها نظري، أعرس: أنزل آخر الليل جريدًا: تامًّا.
[30] ابن طباطبا العلوي: عيار الشعر ص 43 - ط3:1984م - منشأة المعارف.
[31] السابق الصفحة نفسها.
[32] أبو هلال العسكري: الصناعتين ص 157.
[33] ابن خلدون: المقدمة ص 574، 575.
[34] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء ص 42.
[35] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء ص 43.
[36] قدامة: نقد الشعر تحقيق كمال مصطفى ص 18 ط3:1978م مكتبة الخانجي.
[37] السابق ص 15. - 167.
[38] قدامة بن جعفر: نقد الشعر ص 28.
[39] ابن سنان الخفاجي: سر الفصاحة ص 54.
[40] السابق ص 97.
[41] الرازي: نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز ص 54 دار المعرفة الجامعية.
[42] الجاحظ: البيان والتبيين 2:8.
[43] ابن قتيبة: الشعر والشعراء 1:71.
[44] د: محمد العبد: إبداع الدلالة في الشعر الجاهلي ص 18 ط1:1988م دار المعارف.
[45] د:محمد محمد حسين: أساليب الصناعة في شعر الخمر والأسفار ص 47.
[46] العلوي: الطراز 3:52.
[47] أبو هلال العسكري: الصناعتين ص 71.
[48] ابن رشيق القيروان: العمدة 1:127 ط5:1981م - دار الجيل - بيروت.
[49] الجاحظ: البيان والتبيين 1:144، وانظر: سر الفصاحة لابن سنان ص 97.
[50] ابن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء 1:63.
[51] قدامة بن جعفر: نقد الشعر ص 4.
[52] ابن طباطبا العلويّ: عيار الشعر - سابق - ص 43.
[53] ابن رشيق القيرواني: العمدة - سابق - 1: 15.، 151.
[54] د: طه أبو كريشة: أصول النقد الأدبي - سابق - ص 2.7.
[55] الباقلاني: إعجاز القرآن - سابق - ص 57، 62.
[56] عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة ص7 مكتبة محمد علي صبيح ط6: 1959.
[57] الجاحظ: الحيوان تحقيق عبد السلام هارون 3:131.
[58] د: أحمد أحمد بدوي: أسس النقد الأدبي عند العرب ص 5.9 - نهضة مصر 1996م.
[59] ابن رشيق: العمدة - سابق - 1:266.
[60] د: أحمد أحمد بدوي: أسس النقد الأدبي عند العرب ص 512.
[61] قدامة بن جعفر: نقد الشعر - سابق - ص 1.8، 1.9.
[62] ابن طباطبا: عيار الشعر - سابق - ص 49.
[63] الآمدي: الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري 1:266 ط4:1992م دار المعارف.
[64] القاضي الجرجاني: الوساطة بين المتنبي وخصومه ص 43.
[65] د: أحمد أحمد بدوي: أسس النقد الأدبي عند العرب ص 514.
[66] السابق ص 531.
[67] ابن رشيق: العمدة - سابق - 1: 133.
[68] أوس بن حجر، ويكنى أبا شريح ويبدو أنه من بني نمير إحدى قبائل تميم، تزوج بأم زهير وهو من فحول الشعراء عند أبي عُبيدة والجمحي وابن الكلبي، وكان شاعر مضر حتى نشأ زهير والنابغة، فأخملاه، ويبدو أنه كان شاعرًا جوالاً، ويرجح أن يكون ميلاده بين عام 52.م و عام 535م، وربما كانت وفاته قبيل الهجرة النبوية وله ديوان شعر بتحقيق الدكتور محمد يوسف نجم. ومصادر ترجمته: تاريخ الأدب العربي: بروكلمان 1:112، تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين مج2 العصر الجاهلي 2:112، 115.
[69] هو: زهير بن أبي سُلمى، وأبو سلمى هو ربيعة بن رياح، و أصل زهير لأبيه من مُزيْنة و لأمه من من عبد العزى من ذبيان الذين ولد فيهم ونشأ بينهم، وهو من بيت شعر، واستمر الشعر في بيته، فقد قيل إن أباه كان شاعرًا، وخاله بشامة بن الغدير الشاعر الجاهلي، وابنه بجير شاعر، وكعب كذلك، ومن أحفاده شعراء مشهورون، كما كان ابن زوجة أوس بن حجر و تلميذه وراويته وزوج ابنته، وهو أحد الشعراء الثلاثة المقدمين على شعراء الجاهلية وهم: زهير والنابغة الذبياني وامرؤ القيس، وقد نال مكانة طيبة عند بعض الخلفاء الراشدين كعمر وعثمان رضي الله عنهما، انظر ترجمته ومصادرها في: تاريخ الأدب العربي 1:95، 96، تاريخ التراث العربي 2:19، 23.
[70] هو جرول بن أوس بن مالك، ويكنى أبا مليكة، ولقب بالحطيئة لقصره، وقربه من الأرض، ينتسب إلى عبس ويرجح أن مولده قد كان في العقد الأخير من القرن السادس الميلادي، من المخضرمين، أسلم في السنة التاسعة من الهجرة، وقيل إنما أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، روى الحطيئة الشعر عن زهير، وعن ابنه كعب وقد اشتهر عنه أنه شاعر جوَّال يطوف بالبلاد مادحًا، وهو هجَّاءٌ مُقذِعٌ في هجائه وكان مُجيدًا في الفخر والنسيب، وقد اتهم بضعف إيمانه، ويبدو أنه توفي على مشارف منتصف القرن الأول للهجرة.انظر مصادر ترجمته في تاريخ الأدب العربي بروكلمان 1:168، تاريخ التراث العربي 2:222، 226.
[71] كعب بن زهير بن أبي سلمى هو: أبو المضرَّب، أو: أبو عقبة المزني، ولد كعب في الجاهلية، وعاش أول الأمر بين بني ذبيان من غطفان وربما كانت نشأته في غطفان سببًا في عداوته الأولى للإسلام، وقال في ذلك شعرًا دفع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى إهدار دمه، وذلك كما ورد في بعض مصادر ترجمته، وتأخر إسلامه إلى السنة التاسعة من الهجرة النبوية، وقد ورث الشعر عن أبيه زهير، وامتد الشعر في أولاده وأحفاده، مصادر ترجمته: تاريخ الأدب العربي لبروكلمان 1:156، 162، تاريخ التراث العربي 2: 21.، 222.
[72] د: طه حسين: في الأدب الجاهلي ص 267 - ط9:1968م - دار المعارف.
[73] د: شوقي ضيف: الفن ومذاهبه في الشعر العربي - سابق - ص 25.
[74] د: محمد الكومي: الصراع بين الإنسان والطبيعة في الشعر الجاهلي ص 291.
[75] د: سيد حنفي حسنين: الشعر الجاهلي: مراحله واتجاهاته الفنية ص 1.3.

 


مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..