قوله تعالى : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى
الضمير في قوله " منها " معا ، وقوله فيها راجع إلى " الأرض " المذكورة في قوله الذي جعل لكم الأرض مهدا .
وقد ذكر في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل :
الأولى : أنه خلق بني آدم من الأرض .
الثانية : أنه يعيدهم فيها .
الثالثة : أنه يخرجهم منها مرة أخرى . وهذه المسائل الثلاث المذكورة في هذه الآية جاءت موضحة في غير هذا الموضع .
أما خلقه إياهم من الأرض فقد ذكره في مواضع من كتابه . كقوله ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 5 ] ، وقوله تعالى : ومن آياته أن خلقكم من تراب الآية [ 30 20 ] ، وقوله في سورة " المؤمن " : هو الذي خلقكم من تراب [ 40 67 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والتحقيق أن معنى خلقه الناس من تراب أنه خلق أباهم آدم منها . كما قال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الآية [ 3 59 ] . ولما خلق أباهم من تراب وكانوا تبعا له في الخلق صدق عليهم أنهم خلقوا من تراب . وما يزعمه [ ص: 25 ] بعض أهل العلم من أن معنى خلقهم من تراب أن النطفة إذا وقعت في الرحم انطلق الملك الموكل بالرحم فأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة فيخلق الله النسمة من النطفة ، والتراب معا فهو خلاف التحقيق . لأن القرآن يدل على أن مرحلة النطفة بعد مرحلة التراب بمهلة . فهي غير مقارنة لها بدليل الترتيب بينهما بـ " ثم " في قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة [ 22 5 ] ، وقوله تعالى : هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة الآية [ 40 67 ] ، وقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين [ 23 12 - 13 ] ، وقوله تعالى : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين [ 32 6 - 8 ] وكذلك ما يزعمه بعض المفسرين من أن معنى خلقهم من تراب أن المراد أنهم خلقوا من الأغذية التي تتولد من الأرض فهو ظاهر السقوط كما ترى .
وأما المسألة الثانية فقد ذكرها تعالى أيضا في غير هذا الموضع . وذلك في قوله تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا [ 77 25 - 26 ] فقوله كفاتا [ 77 26 ] أي موضعهم الذي يكفتون فيه أي يضمون فيه : أحياء على ظهرها ، وأمواتا في بطنها . وهو معنى قوله وفيها نعيدكم .
وأما المسألة الثالثة : وهي إخراجهم من الأرض أحياء يوم القيامة فقد جاءت موضحة في آيات كثيرة . كقوله : ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 19 ] أي من قبوركم أحياء بعد الموت ، وقوله تعالى : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج [ 50 \ 11 ] أي من القبور بالبعث يوم القيامة ، وقوله تعالى : ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون [ 30 25 ] ، وقوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 57 ] ، وقوله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون [ 70 43 ] ، وقوله تعالى : يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج [ 50 \ 42 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
وقوله في هذه الآية الكريمة : منها خلقناكم الآية ، كقوله تعالى : قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون [ 7 25 ] . والتارة في قوله تارة أخرى بمعنى [ ص: 26 ] المرة . وفي حديث السنن : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حضر جنازة ، فلما أرادوا دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال " منها خلقناكم " ثم أخذ أخرى وقال " وفيها نعيدكم " ثم أخرى وقال " ومنها نخرجكم تارة أخرى " .
قال الخازن:
{قال فيها تحيون} يعني: قال الله عز وجل لآدم وذريته وإبليس وأولاده فيها تحيون يعني في الأرض تعيشون أيام حياتكم {وفيها تموتون} يعني: وفي الأرض تكون وفاتكم وموضع قبوركم {ومنها تخرجون} يعني: ومن الأرض يخرجكم ربكم ويحشركم للحساب يوم القيامة. اهـ.
هذا كالتفسير لقوله: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} أي بالحياة إلى حين الموت ولذلك جاء قال بغير واو العطف إذ الأكثر في لسان العرب إذا لم تكن الجملة تفسيرية أو كالتفسيرية أن تعطف على الجملة قبلها فتقول قال فلان كذا، وقال كذا وتقول زيد قائم وعمرو قاعد ويقل في كلامهم قال فلان كذا قال كذا وكذلك يقل زيد قائم عمرو قاعد وهنا جاء {قال اهبطوا} الآية {قال فيها تحيون} لما كانت كالتفسير لما قبلها وتمم هنا المقصود بالتنبيه علي البعث والنشور بقوله: {ومنها تخرجون} أي إلى المجازاة بالثواب والعقاب وهذا كقوله: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} وقرأ الأخوان وابن ذكوان {تخرجون} مبنيًا للفاعل هنا وعن ابن ذكوان في أوّل الروم خلاف، وقرأ باقي السّبعة مبنيًا للمفعول. اهـ.
وقرأ أهل الكوفة غير عاصم {تُخْرَجُونَ} بفتح التاء وضم الراء على البناء للفاعل. اهـ.
أعيد فعل القول في هذه الجملة مستأنفًا غير مقترن بعاطف، ولا مستغنى عن فعل القول بواو عطف، مع كون القائل واحدًا، والغرضضِ متّحدًا، خروجًا عن مقتضى الظّاهر لأنّ مقتضى الظاهر في مثله هو العطف، وقد أهمل توجيهَ ترك العطف جمهورُ الحذّاق من المفسّرين: الزمخشري وغيره، ولعلّه رأى ذلك أسلوبًا من أساليب الحكاية، وأوّل من رأيتُه حاول توجيه ترك العطف هو الشّيخ محمّد بن عرفة التّونسي في املاءات التّفسير المروية عنه، فإنّه قال في قوله تعالى الآتي في هذه السّورة (140): {قال أغير الله أبغيكم إلهًا بعد قوله قال إنكم قوم تجهلون} [الأعراف: 138] إذ جعل وجه إعادة لفظ قال هو ما بين المقالين من البَوْن، فالأوّل راجع إلى مجرد الإخبار ببطلان عبادة الأصنام في ذاته، والثاني إلى الاستدلال على بطلانه، وقد ذكر معناه الخفاجي عند الكلام على الآية الآتِيَة بعد هذه، ولم ينسبه إلى ابن عرفة فلعلّه من توارد الخواطر؛ وقال أبو السّعود: إعادة القول إمّا لإظهار الاعتناء بمضمون ما بعده، وهو قوله: {فيها تحيون} [الأعراف: 25] وإما للإيذان بكلام محذوف بين القولين كما في قوله تعالى: {قال فما خطبكم} [الحجر: 57] إثر قوله: {قال ومن يقنط من رحمة ربه} [الحجر: 56] فإن الخليل خاطب الملائكة أوّلًا بغير عنوان كونهم مرسلين، ثمّ خاطبهم بعنوان كونهم مرسلين عند تبين أنّ مجيئهم ليس لمجرّد البشارة، فلذلك قال: {فما خطبكم}، وكما في قوله تعالى: {أرايتك هذا الذي كرمت علي} [الإسراء: 62] بعد قوله: {قال أأسجد لِمَنْ خلقت طينًا} [الإسراء: 61] فإنّه قال قوله الثّاني بعد الإنظار المترتّب على استنظاره الذي لم يصرّح به اكتفاء بما ذكر في مواضع أخرى، هذا حاصل كلامه في مواضع، والتّوجيه الثّاني مردود إذ لا يلزم في حكاية الأقوال الإحاطة ولا الاتّصال.
والذي أراه أنّ هذا ليس أسلوبًا في حكاية القول يتخيّر فيه البليغ، وأنّه مساو للعطف بثمّ، وللجمع بين حرف العطف وإعادة فعل القول، كما في قوله تعالى: {وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل} [الأعراف: 39] بعد قوله: {قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا} [الأعراف: 38]، فإذا لم يكن كذلك كان توجيه إعادة فعل القول، وكونه مستأنفًا: أنّه استئناف ابتدائي للاهتمام بالخبَر، إيذانًا بتغيّر الخطاب بأن يكون بين الخطابين تخالُفٌ مَّا، فالمخاطب بالأوّل آدم وزوجه والشّيطان، والمخاطب بالثّاني آدم وزوجه وأبناؤهما، فإن كان هذا الخطاب قبل حدوث الذرّية لهما كما هو ظاهر السّياق فهو خطاب لهما بإشعارهما أنّهما أبوا خلق كثير: كلَّهم هذا حالهم، وهو من تغليب الموجود على من لم يوجد، وإن كان قد وقع بعدَ وجود الذرّية لهما فوجه الفصل أظهر وأجدر، والقرينةُ على أنّ إبليس غير داخل في الخطاب هو قوله: {ومنها تخرجون} لأنّ الإخراج من الأرض يقتضي سبق الدّخول في باطنها، وذلك هو الدّفن بعد الموت، والشّياطين لا يُدفنون.
وقد أمهل الله إبليس بالحياة إلى يوم البعث فهو يحشر حينئذٍ أو يموت ويبعث، ولا يَعلم ذلك إلاّ الله تعالى.
وقد جُعل تغيير الأسلوب وسيلة للتّخلّص إلى توجيه الخطاب إلى بني آدم عقب هذا.
وقد دلّ جمع الضّمير على كلام مطوي بطريقة الإيجاز: وهو أنّ آدم وزوجه استقرا في الأرض، وتَظهرُ لهما ذريّة، وأنّ الله أعلمهم بطريق من طرق الإعلام الإلهي بأنّ الأرض قرارهم، ومنها مبعثهم، يشمَل هذا الحكم الموجودين منهم يوم الخطاب والذين سيوجدون من بعد.
وقد يجعل سبب تغيير الأسلوب تخالف القولين بأنّ القول السابق قول مخاطبة، والقول الذي بعده قول تقدير وقضاء أي قدّر الله تحيون فيها وتموتون فيها وتخرجون منها.
وتقديم المجرورات الثّلاثة على متعلّقاتها للاهتمام بالأرض التي جعل فيها قرارهم ومتاعهم، إذ كانت هي مقرّ جميع أحوالهم.
وقد جعل هذا التّقديم وسيلة إلى مراعاة النّظير، إذ جعلت الأرض جامعة لهاته الأحوال، فالأرض واحدة وقد تداولت فيها أحوال سكّانها المتخالفة تخالفًا بعيدًا.
وقرأ الجمهور: تُخْرجون بضمّ الفوقية وفتح الرّاء على البناء للمفعول، وقرأه حمزة، والكسائي، وابن ذكوان عن ابن عامر، ويعقوبُ، وخلف: بالبناء للفاعل. اهـ.
كأنه قال: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} فأحب أن يعطينا الصور لرحلة الحياة، ويرسم لنا علاقتنا بالأرض التي قال فيها: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً...} [البقرة: 30]
فقد ربطنا بالأرض. إيجادًا من طينها، ومتعة بما فيها من ميزات، وخيرات وثمرات، ثم نموت لنعود لها ونبعث من بعد ذلك. فالإِنسان منا من الأرض، منها يحيا وفيها يموت، ويذهب إلى أصله ومرجعه، إلى الأم الأرض، فهي تكفته وتضمه وتأخذه في حضنها فهي الحانية عليه وبخاصة في وقت ضعفه. وساعة ما يكون الإِنسان في حالته الطيبة، وله أخ حالته عكس ذلك فإن قلب الأم إنما يكون مع الضعيف، ومع المريض، ومع الصغير.
والأرض هي التي تأخذ كل البشر، تأخذ الإِنسان وتمص منه الأذى، وتداري رائحته، أمّا أحبابه في الدنيا وإخوانه، فقد سارعوا بمواراته التراب تفاديًا لرحلة التحلل. وبمجرد أن يموت الإنسان، أول ما يُنْسىَ هو اسمه؛ فيقولون: أين الجثة، ولا يقولون: أين فلان. وبعد الكفن يوضع الجثمان في النعش، ليوارى في التراب ويدمدم اللحاد عليه برجليه. اهـ.
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
الضمير في قوله " منها " معا ، وقوله فيها راجع إلى " الأرض " المذكورة في قوله الذي جعل لكم الأرض مهدا .
وقد ذكر في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل :
الأولى : أنه خلق بني آدم من الأرض .
الثانية : أنه يعيدهم فيها .
الثالثة : أنه يخرجهم منها مرة أخرى . وهذه المسائل الثلاث المذكورة في هذه الآية جاءت موضحة في غير هذا الموضع .
أما خلقه إياهم من الأرض فقد ذكره في مواضع من كتابه . كقوله ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 5 ] ، وقوله تعالى : ومن آياته أن خلقكم من تراب الآية [ 30 20 ] ، وقوله في سورة " المؤمن " : هو الذي خلقكم من تراب [ 40 67 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والتحقيق أن معنى خلقه الناس من تراب أنه خلق أباهم آدم منها . كما قال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الآية [ 3 59 ] . ولما خلق أباهم من تراب وكانوا تبعا له في الخلق صدق عليهم أنهم خلقوا من تراب . وما يزعمه [ ص: 25 ] بعض أهل العلم من أن معنى خلقهم من تراب أن النطفة إذا وقعت في الرحم انطلق الملك الموكل بالرحم فأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة فيخلق الله النسمة من النطفة ، والتراب معا فهو خلاف التحقيق . لأن القرآن يدل على أن مرحلة النطفة بعد مرحلة التراب بمهلة . فهي غير مقارنة لها بدليل الترتيب بينهما بـ " ثم " في قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة [ 22 5 ] ، وقوله تعالى : هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة الآية [ 40 67 ] ، وقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين [ 23 12 - 13 ] ، وقوله تعالى : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين [ 32 6 - 8 ] وكذلك ما يزعمه بعض المفسرين من أن معنى خلقهم من تراب أن المراد أنهم خلقوا من الأغذية التي تتولد من الأرض فهو ظاهر السقوط كما ترى .
وأما المسألة الثانية فقد ذكرها تعالى أيضا في غير هذا الموضع . وذلك في قوله تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا [ 77 25 - 26 ] فقوله كفاتا [ 77 26 ] أي موضعهم الذي يكفتون فيه أي يضمون فيه : أحياء على ظهرها ، وأمواتا في بطنها . وهو معنى قوله وفيها نعيدكم .
وأما المسألة الثالثة : وهي إخراجهم من الأرض أحياء يوم القيامة فقد جاءت موضحة في آيات كثيرة . كقوله : ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 19 ] أي من قبوركم أحياء بعد الموت ، وقوله تعالى : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج [ 50 \ 11 ] أي من القبور بالبعث يوم القيامة ، وقوله تعالى : ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون [ 30 25 ] ، وقوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 57 ] ، وقوله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون [ 70 43 ] ، وقوله تعالى : يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج [ 50 \ 42 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
وقوله في هذه الآية الكريمة : منها خلقناكم الآية ، كقوله تعالى : قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون [ 7 25 ] . والتارة في قوله تارة أخرى بمعنى [ ص: 26 ] المرة . وفي حديث السنن : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حضر جنازة ، فلما أرادوا دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال " منها خلقناكم " ثم أخذ أخرى وقال " وفيها نعيدكم " ثم أخرى وقال " ومنها نخرجكم تارة أخرى " .
قال الخازن:
{قال فيها تحيون} يعني: قال الله عز وجل لآدم وذريته وإبليس وأولاده فيها تحيون يعني في الأرض تعيشون أيام حياتكم {وفيها تموتون} يعني: وفي الأرض تكون وفاتكم وموضع قبوركم {ومنها تخرجون} يعني: ومن الأرض يخرجكم ربكم ويحشركم للحساب يوم القيامة. اهـ.
.قال أبو حيان:
{قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون}.هذا كالتفسير لقوله: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} أي بالحياة إلى حين الموت ولذلك جاء قال بغير واو العطف إذ الأكثر في لسان العرب إذا لم تكن الجملة تفسيرية أو كالتفسيرية أن تعطف على الجملة قبلها فتقول قال فلان كذا، وقال كذا وتقول زيد قائم وعمرو قاعد ويقل في كلامهم قال فلان كذا قال كذا وكذلك يقل زيد قائم عمرو قاعد وهنا جاء {قال اهبطوا} الآية {قال فيها تحيون} لما كانت كالتفسير لما قبلها وتمم هنا المقصود بالتنبيه علي البعث والنشور بقوله: {ومنها تخرجون} أي إلى المجازاة بالثواب والعقاب وهذا كقوله: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} وقرأ الأخوان وابن ذكوان {تخرجون} مبنيًا للفاعل هنا وعن ابن ذكوان في أوّل الروم خلاف، وقرأ باقي السّبعة مبنيًا للمفعول. اهـ.
.قال أبو السعود:
{قَالَ} أُعيد الاستئنافُ إما للإيذان بعدم اتصالِ ما بعده بما قبله كما في قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون} إثرَ قوله تعالى: {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون} وقوله تعالى: {قَالَ أَرَءيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَىَّ} بعد قوله تعالى: {قَالَ أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} وإما لإظهار الاعتناءِ بمضمون ما بعده من قوله تعالى: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} أي للجزاءِ كقوله تعالى: {مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى}. اهـ.
.قال الألوسي:
{قَالَ} أعيد للاستئناف إما للإيذان بعدم اتصال ما بعده بما قبله، وإما لإظهار العناية بما بعده وهو قوله سبحانه: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} عند البعث يوم القيامة.وقرأ أهل الكوفة غير عاصم {تُخْرَجُونَ} بفتح التاء وضم الراء على البناء للفاعل. اهـ.
.قال ابن عاشور:
{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)}أعيد فعل القول في هذه الجملة مستأنفًا غير مقترن بعاطف، ولا مستغنى عن فعل القول بواو عطف، مع كون القائل واحدًا، والغرضضِ متّحدًا، خروجًا عن مقتضى الظّاهر لأنّ مقتضى الظاهر في مثله هو العطف، وقد أهمل توجيهَ ترك العطف جمهورُ الحذّاق من المفسّرين: الزمخشري وغيره، ولعلّه رأى ذلك أسلوبًا من أساليب الحكاية، وأوّل من رأيتُه حاول توجيه ترك العطف هو الشّيخ محمّد بن عرفة التّونسي في املاءات التّفسير المروية عنه، فإنّه قال في قوله تعالى الآتي في هذه السّورة (140): {قال أغير الله أبغيكم إلهًا بعد قوله قال إنكم قوم تجهلون} [الأعراف: 138] إذ جعل وجه إعادة لفظ قال هو ما بين المقالين من البَوْن، فالأوّل راجع إلى مجرد الإخبار ببطلان عبادة الأصنام في ذاته، والثاني إلى الاستدلال على بطلانه، وقد ذكر معناه الخفاجي عند الكلام على الآية الآتِيَة بعد هذه، ولم ينسبه إلى ابن عرفة فلعلّه من توارد الخواطر؛ وقال أبو السّعود: إعادة القول إمّا لإظهار الاعتناء بمضمون ما بعده، وهو قوله: {فيها تحيون} [الأعراف: 25] وإما للإيذان بكلام محذوف بين القولين كما في قوله تعالى: {قال فما خطبكم} [الحجر: 57] إثر قوله: {قال ومن يقنط من رحمة ربه} [الحجر: 56] فإن الخليل خاطب الملائكة أوّلًا بغير عنوان كونهم مرسلين، ثمّ خاطبهم بعنوان كونهم مرسلين عند تبين أنّ مجيئهم ليس لمجرّد البشارة، فلذلك قال: {فما خطبكم}، وكما في قوله تعالى: {أرايتك هذا الذي كرمت علي} [الإسراء: 62] بعد قوله: {قال أأسجد لِمَنْ خلقت طينًا} [الإسراء: 61] فإنّه قال قوله الثّاني بعد الإنظار المترتّب على استنظاره الذي لم يصرّح به اكتفاء بما ذكر في مواضع أخرى، هذا حاصل كلامه في مواضع، والتّوجيه الثّاني مردود إذ لا يلزم في حكاية الأقوال الإحاطة ولا الاتّصال.
والذي أراه أنّ هذا ليس أسلوبًا في حكاية القول يتخيّر فيه البليغ، وأنّه مساو للعطف بثمّ، وللجمع بين حرف العطف وإعادة فعل القول، كما في قوله تعالى: {وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل} [الأعراف: 39] بعد قوله: {قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا} [الأعراف: 38]، فإذا لم يكن كذلك كان توجيه إعادة فعل القول، وكونه مستأنفًا: أنّه استئناف ابتدائي للاهتمام بالخبَر، إيذانًا بتغيّر الخطاب بأن يكون بين الخطابين تخالُفٌ مَّا، فالمخاطب بالأوّل آدم وزوجه والشّيطان، والمخاطب بالثّاني آدم وزوجه وأبناؤهما، فإن كان هذا الخطاب قبل حدوث الذرّية لهما كما هو ظاهر السّياق فهو خطاب لهما بإشعارهما أنّهما أبوا خلق كثير: كلَّهم هذا حالهم، وهو من تغليب الموجود على من لم يوجد، وإن كان قد وقع بعدَ وجود الذرّية لهما فوجه الفصل أظهر وأجدر، والقرينةُ على أنّ إبليس غير داخل في الخطاب هو قوله: {ومنها تخرجون} لأنّ الإخراج من الأرض يقتضي سبق الدّخول في باطنها، وذلك هو الدّفن بعد الموت، والشّياطين لا يُدفنون.
وقد أمهل الله إبليس بالحياة إلى يوم البعث فهو يحشر حينئذٍ أو يموت ويبعث، ولا يَعلم ذلك إلاّ الله تعالى.
وقد جُعل تغيير الأسلوب وسيلة للتّخلّص إلى توجيه الخطاب إلى بني آدم عقب هذا.
وقد دلّ جمع الضّمير على كلام مطوي بطريقة الإيجاز: وهو أنّ آدم وزوجه استقرا في الأرض، وتَظهرُ لهما ذريّة، وأنّ الله أعلمهم بطريق من طرق الإعلام الإلهي بأنّ الأرض قرارهم، ومنها مبعثهم، يشمَل هذا الحكم الموجودين منهم يوم الخطاب والذين سيوجدون من بعد.
وقد يجعل سبب تغيير الأسلوب تخالف القولين بأنّ القول السابق قول مخاطبة، والقول الذي بعده قول تقدير وقضاء أي قدّر الله تحيون فيها وتموتون فيها وتخرجون منها.
وتقديم المجرورات الثّلاثة على متعلّقاتها للاهتمام بالأرض التي جعل فيها قرارهم ومتاعهم، إذ كانت هي مقرّ جميع أحوالهم.
وقد جعل هذا التّقديم وسيلة إلى مراعاة النّظير، إذ جعلت الأرض جامعة لهاته الأحوال، فالأرض واحدة وقد تداولت فيها أحوال سكّانها المتخالفة تخالفًا بعيدًا.
وقرأ الجمهور: تُخْرجون بضمّ الفوقية وفتح الرّاء على البناء للمفعول، وقرأه حمزة، والكسائي، وابن ذكوان عن ابن عامر، ويعقوبُ، وخلف: بالبناء للفاعل. اهـ.
.قال الشعراوي:
{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)}كأنه قال: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} فأحب أن يعطينا الصور لرحلة الحياة، ويرسم لنا علاقتنا بالأرض التي قال فيها: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً...} [البقرة: 30]
فقد ربطنا بالأرض. إيجادًا من طينها، ومتعة بما فيها من ميزات، وخيرات وثمرات، ثم نموت لنعود لها ونبعث من بعد ذلك. فالإِنسان منا من الأرض، منها يحيا وفيها يموت، ويذهب إلى أصله ومرجعه، إلى الأم الأرض، فهي تكفته وتضمه وتأخذه في حضنها فهي الحانية عليه وبخاصة في وقت ضعفه. وساعة ما يكون الإِنسان في حالته الطيبة، وله أخ حالته عكس ذلك فإن قلب الأم إنما يكون مع الضعيف، ومع المريض، ومع الصغير.
والأرض هي التي تأخذ كل البشر، تأخذ الإِنسان وتمص منه الأذى، وتداري رائحته، أمّا أحبابه في الدنيا وإخوانه، فقد سارعوا بمواراته التراب تفاديًا لرحلة التحلل. وبمجرد أن يموت الإنسان، أول ما يُنْسىَ هو اسمه؛ فيقولون: أين الجثة، ولا يقولون: أين فلان. وبعد الكفن يوضع الجثمان في النعش، ليوارى في التراب ويدمدم اللحاد عليه برجليه. اهـ.
.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:
{وَلَقَدْ
خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ
اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ
السَّاجِدِينَ (11)} إلى قوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)}مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..