أظلَّ رمضان وما عندنا ما توقد عليه نار، ولا تمرَ عندنا، لأن النخل في تلك العُقل يسقى بالأيدي والسواني وأكثر ما يجنونه من تمر وقصب يسددون به ديونهم التي عليهم للعمال ؛
: فخشيت أن يتصرم رمضان ويحل العيد وما عندنا تمر ولا طعام، فضاقت بي الدنيا، وقلت أحتطب من أرطى النفود وأجلبه على قرى الضلع ، فبقيت أياما أحتطب في نهار الصيام من نفود الضويحي حتى إذا حملت راحلتين سريت إلى المجمعة، هنالك برّكت ناقتي في السوق صباحا، ولكن السوق شبه خال ويبدو أن البلوى عامة والسوق خامل ، والكساد شامل ، وأنا في أمر عظيم من الجوع والجهد والسهر والبرد، فأذن للظهر وما وقف علي مُستام، وصليت ورجعت ، وأذن العصر كذلك، ودنا الليل فجزعت وركبني همٌّ عظيم، وقلت : الساعةَ يؤذن المغرب ويحل الظلام ولا زاد ولا مأوى ، وإني لفي همي وتفكيري إذ مرّ بي رجل كبير متأبط بشته، مستعجل الخطى ليدرك فطوره ، فالتفت إلي وقال: يا ولدي ستُمرح في مكانك عند نويقتيك (أي ستنام ليلتك عندهما) ولكن ألا أشير عليك برأي ؟ قلت : بلى والله ما أحوجني إليه ، قال : هذا قصر الأمير ابن عسكر ألا تراه - وأشار إليه ؟ قلت بلى ، قال : فاذهب وأهده حطبك لعلك تجد ولو فطورا ! قال : فما أبطأت حتى بعثت راحلتَي وتوجهت فلما رآني رجال ابن عسكر فتحوا باب القصر الطيني حيث تدخل المطايا ، فبرّكت ، وقلت هذه هدية للأمير، فحلوا حبال الأحمال ووضعوها وأطعموا الدواب ، ودلوني على (قهوة) الأمير أي : مكان الاستقبال ، فما كان أسرع حتى حضر الأمير وسلم ووضع التمر (المغمِيّ) كما يسمونه أي المصبوب عليه الدبس ، والتمر بالزبد ، وأديرت القهوة ، وهجمت على الطعام ، فلولا الحياء من الأمير لأكلت التمر وإناءه ، وابن عسكر رحمه الله يرمقني بطرفه ، ثم قمنا إلى الصلاة، ثم قدم الجريش بالسمن ، فقلت في نفسي يكفيني والله هذا، من أسعد مني اليوم ! وأكلت وشبعت ، ثم نظرني الأمير ، وقال : من أين يا ولدي ؟ قلت : من الزلفي معي لك (صوغة) وهو مصطلح عندنا - أهل نجد - للهدية الطريفة ، قال: أيش هي ياولدي ؟ قلت : حمل من أرطى نفودنا ، قال : مقبولة يا ولدي ، وما أدراك أنا محتاجون حطب ، وهذا من أدبه رحمه الله وإلا فحوشه (مليان) حطب ، ثم قلت : أسلم عليك يا الأمير في أمان الله ، وودعته ، ووجدت راحلتي في الخارج ، وانصرفت شبعان شاكرا ، فلما خطوت شيئا إذا بواحد من رجال الأمير يسعى خلفي ، فاستوقفني فوقفت : ومدّ إلي كيسا وقال : يسلم عليك الأمير ويقول هذه ( عرقتك) أي أجرك ، فلما عددتها إذا عشرة أريل فضة ، فكدت أخرّ من الفرح ، وقلت في نفسي : من أسعد مني أنا اليوم ملك ، وعدلت عن السّرى ، وصليت القيام في المجمعة ونمت في المسجد ، حتى إذا أصبحنا ذهبت إلى السوق ، وسألت عن التمار فدلوني عليه ، فإذا شيخ معه مصحفه يقرأ فسلمت وقلت : أريد تمرا ، قال: ما عندي تمر ، فأخرجت النقود وقلت هذه دراهمي ، قال : الآن نعم ، إن أردت تعبيء أنت فالكيس بثلاثة وإن أردت أعبيء أنا فبريالين ، قلت: أنا أعبيء ، قال هذي العتلة والجصة والأكياس ، قال فملأت كيسَي خام كبيرين حتى ما أطقت حملهما وسلمته ستة واشتريت بريالين كسوة عيد لأمي وزوجتي ونعلين ورجعت بريالين وعادلت الكيسين على مطية وركبت أخرى وتوجهت إلى أهلي وأدخلت في الظلام تمري بتلطف، فلما رأت أمي أحمال التمر صاحت: حسبي الله، عشنا أعمارنا في ستر الله وآخرالأمر تسرق تؤكلنا الحرام؟! وذلك استبعادا منها لغير السرقة، من أين له بثمنها فقلت : يا أمي تا الله ما ذهبنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين ، وقصصت عليها الخبر وأريتها بقية الدراهم، وقلت: حصلنا على تمر الشهر والعيد ومدة بعدهما، فحمدتْ الله ، وشكرته ، وقلتُ : الآن أستريح قبل الصلاة ، فأسندتُ ظهري للجدر وعيني على أكياس تمري خوفا عليه، ثم انتبهت فإذا ما أمامي غير كيس واحد منقوص ، فصرخت : يا أمي أين التمر ، فضحكت وقالت : قسمت كيسا وبقي بعض البيوت ما نالها شيء ففتحت الكيس الآخر، والله ياولدي
ما هناك بيتٌ من بيوت العقل إلا ويتسحرون الآن على تمرك ، فتلاشى فزعي وغضبي وقلت : الحمدلله
جميل أن نقصها على أبنائنا بأسلوب طيب للعبرة..
اللهم أدم علينا النعم وأعنا على شكرها ..
اللهم أدم علينا النعم وأعنا على شكرها ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..