الاتفاق النووي الذي وقعته
إيران مع الدول الست الكبرى أخيرا، يمكن قراءته على وجوه
مختلفة، فهناك من
اعتبره نصرا مؤزرا لطهران، ونهاية إيجابية لقدرتها على الصمود وتحدي
"الشيطان الأكبر"، الذي اضطر للرضوخ لطلباتها، وما إلى ذلك من مزايا اعتبرت
أن إيران ستكون القوة الإقليمية الرئيسية في المنطقة.
وهناك
من تعامل مع الاتفاق على أنه هزيمة منكرة للقيادة الإيرانية، ونصرا ساحقا
للتوجهات الغربية والأميركية تحديدا، حيث وصل هذا الفريق إلى ما أراد
الحصول عليه، دون اطلاق صاروخ واحد، ويمكن استكمال قائمة الفوائد على هذا
المنوال، والتي أفاض وأزبد فيها كثيرون قبلي.
لكن بعض
التقديرات الدقيقة ترى ما حدث مع إيران مسألة طبيعية، في ظل تحديها السافر
للتصورات الغربية، فكان لابد من كسر شوكتها بالجزرة بدلا من العصا الغليظة،
منذ أن لاح في الأفق فقدان الأخيرة لجدواها، وبصرف النظر عن المبالغة
والتمثيل في هذا التحدي، فهو في النهاية أوجد انطباعات مليئة بالعداء
السياسي، تبرر لكل جانب رغبته العارمة في تكتيل الأوراق، كما أنه أدى إلى
تكهنات خفية بالتفاهم حول عدد من الملفات والقضايا، التي كان من الصعوبة
الالتقاء عندها، لو أن الخلاف كان قاطعا وحديا، ولا يقبل القسمة على اثنين.
من
يراجع تاريخ الخلاف بين بعض القوى الغربية في العصر الحديث، وقوى إقليمية
ودولية معينة كانت تمثل شوكة في خاصرة الأولى، يجد أن هناك روشتة أو وصفة
جاهزة، تقول ما لم تستطع الحصول عليه بالأدوات الخشنة، يمكن الوصول إليه
بالوسائل الناعمة، ولعل ما جرى مع الاتحاد السوفييتي السابق خير دليل، فقد
خاضت واشنطن وحلفاؤها في الغرب، سلسلة من المناوشات والمناكفات، من حرب
النجوم إلى حرب الكواكب إلى حرب الجواسيس، وكاد سباق التسلح ينهك الطرفين،
ولم تستسلم موسكو لحرب الاستنزاف البطيء، وجاء إذعان وانهيار القوى العظمى
الثانية في العالم عندما استجابت للدعوات والشعارات البراقة، وفتحت أراضيها
لجميع أنماط الحياة الغربية.
طبعا لا أقصد أو أؤيد
استمرار الانغلاق، لكن الانسياق وراء التطلعات والطموحات يجب أن يكون
محسوبا، ونابعا من البيئة المحلية، وليس مفروضا من جانب مجتمعات خارجية،
وربما يكون ما حصل مع مصر، عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد، شيئا من هذا
القبيل، فقد خرجت مصر من حرب أكتوبر 1973 قوة إقليمية كبيرة ومؤثرة، وكادت
الأمنيات تصل إلى عنان السماء لدى غالبية المصريين.
بالتالي استلزم الأمر التفكير في وسيلة لكسر هذه الإرادة لفترة طويلة،
فكانت اتفاقية السلام مع إسرائيل، التي حملت مغريات ودغدغت مشاعر القيادة
السياسية في ذلك الوقت، وتم الترويج أننا مقبلون على أزهر عصور الاستثمار
والانفتاح والديمقراطية، غير أن النتيجة التي وصلنا إليها، حافلة بالفقر
والمرض والجهل والعجز، وما إلى ذلك من صفات سلبية، ولم توجه إلينا إسرائيل
أو حليفتها الولايات المتحدة آلياتها العسكرية، وأمطرنا كلاهما بكميات
هائلة من الرصاص البلاستيكي الذي يدمي ولا يميت، حيث حققا أهدافهما كاملة،
من وراء إخراج مصر من الصراع العسكري الطويل مع العرب.
الواقع
أن ما يحدث مع إيران شيء أشبه بما جرى مع الاتحاد السوفييتي السابق ومصر،
تضخيم متعمد أن طهران حققت أهدافها، فقد حافظت على أسلحتها التقليدية،
ووعدت بامتلاك السلاح النووي بعد عشر سنوات، واستردت أموالها المجمدة في
البنوك الغربية، ورفعت عنها العقوبات الاقتصادية، وأصبحت مهيأة لجذب مئات
المليارات من الدولارات للاستثمار في أراضيها.
مرجح أن
يكون هذا صحيحا، عندما يمضي الاتفاق بين طهران والدول الست إلى محطته
الأخيرة، بموجب التوقيع عليه في صورته النهائية في غضون شهرين، خاصة أن كل
طرف حرص على تسويقه من الزاوية الإيجابية التي يريدها، وحتى التحذيرات
والتهديدات التي خرجت من هنا أو هناك جاءت على سبيل تجميله والترويج له
بشكل يتماشى مع الطبيعة البشرية، التي تقلق إذا تم امتداح شيء، وتصويره
للناس على أنه خال من العيوب.
الواقع أن كل جانب يعلم
تماما حقيقة ما حصل عليه أو منح له، بإرادته أو بدونها، بغض النظر عن
الرؤية التي يريد أن يقدمها للجمهور، ويعي نوايا وخفايا الطرف الآخر، وما
يرمي إليه في الظاهر والباطن، ويسعى لتجنب السلبيات والحصول على المزيد من
الايجابيات، لكن المشكلة تكمن في الاستحقاقات والروافد التلقائية التي سوف
تترتب عليها، وهي الطريقة السهلة التي تتسلل عبرها الأهداف والأغراض
البعيدة.
خذ مثلا جذب الاستثمارات الغربية إلى إيران،
أملا في تحقيق نهضة اقتصادية، والحد من نسبة البطالة والفقر، تتطلب مجموعة
من القوانين والتشريعات التي تهيئ التربة المحلية أمام القادمين من الغرب
وخلافه، وهذا يستلزم أيضا سن قوانين تفتح الباب أمام الحريات، التي أصبحت
أحد أهم شروط رأس المال الغربي للعمل في بلد يحكمه الولي الفقيه، ولأن
العالم تحول فعلا إلى قرية صغيرة، فمن الضروري أن تتماشى القوانين المحلية
مع نظيرتها الدولية، بخصوص حقوق الإنسان، والمرأة، والمجتمع المدني، وحتى
ما يعرف بحقوق الشواذ.
المؤكد أن إيران سوف تقف بالمرصاد
لهذه الشعارات الغربية، ولن ترضخ لها بسهولة، وستقاوم بكل قوتها المادية
والمعنوية، ولأن هذه المنظومة من القيم متراصة ومترابطة، ولها "لوبي" من
المدافعين عنها، حتما سوف تلين عزيمة طهران، لأنها لن تصبح محل اهتمام على
نطاق واسع في الأجندة الغربية ووسائل الإعلام العالمية، إلا عندما تكون فئة
كبيرة من الشعب الإيراني ذاقت حلاوة الانفتاح على الغرب، الذي سيفضي
تلقائيا إلى تشكيل جماعات ضغط محلية تدافع عن مصالحها، لن تستطيع أي حكومة
إيرانية صد طوفانها.
ربما يتصور البعض أن هذه الصورة من
وحي الخيال، أو نظرة سوداوية إلى مستقبل إيران، أو تخاريف صيفية أو حتى
أمنيات صحفية، غير أن التجارب السابقة علمتنا الاستفادة منها، ومعظم الدول
التي فرضت على نفسها سياجا من الانغلاق، ووضعت حولها أسوارا من المحرمات،
كان الانفتاح الاقتصادي والثقافي، من أهم الأسلحة التي جرى محاربتها بها،
والخريطة واضحة أمامنا، في الشرق والغرب، والشمال والجنوب، ومن الصعوبة أن
تكون طهران الاستثناء الوحيد، وسط هذا العالم الذي يموج بأمواج سياسية
متلاطمة.
الأخطر أن التغييرات المتوقعة في البنية
الداخلية لإيران، سوف تجبرها على تغييرات أكبر في الفضاء الإقليمي، الذي
تتحرك فيه الآن، والذي دفع أحد قادتها إلى التفاخر ذات يوم أنها أصبحت
تسيطر على أربعة عواصم عربية، فالتطورات المفاجئة في الداخل، سوف ترخي
بظلالها على التحركات المتسارعة في الخارج، وتجبرها على فرملة الاندفاعات
السابقة، لأن خيار المواءمة المعمول به في الوقت الراهن قد يتحول إلى
رفاهية مستقبلا، بعد أن فقدت سلاح المساومة، الأمر الذي يجبرها على حتمية
التخلي عن معظم، وربما كل، الأوراق التي جعلتها رقما مهما لفترة طويلة في
المعادلة الإقليمية، وهو ما يفتح المجال لبدء العد التنازلي لتخريب إيران.
محمد أبو الفضل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..