بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
الغلو آفة ابتليت بها شعوب وقبائل دول ومنظمات صغارا وكبارا،شيوخا
وشبابا،نساء ورجالا ،وهو فكر يصعب حصره في سبب واحد ! ويصعب حله بطرق سريعة
أو نقاط سطحية غير مدروسة ، فللغلو عدة أسباب رئيسة وله أسباب فرعية والقول
بأنه نتاج سبب واحد هي مغالطة للواقع والحقائق ، وقد تجتمع عدة أسباب تؤدي
بالشخص لحمل الفكر وقد يكتفي البعض بسبب واحد ليعتنق الفكر ، وهنا تكمن
الخطورة فنحن أمام مرض لا يمكن علاجه جزئيا بل نحتاج لعلاج متكامل لا يترك
شاردة ولا واردة من أسبابه إلا وتعالج وإلا فمن العبث علاجه بالمسكنات ثم
نتفاجأ بعودة المرض وانتشاره !! نحن هنا سنذكر الأسباب من واقع تجارب ووقوف
على عدة قضايا وقد اجتمعت لي بفضل من الله عدة أسباب لأقول أني أستطيع بإذن
الله أن أدلي بدلوي في هذه المسألة الخطيرة، لن أزين العبارات ولن أختار
الفصيح منها ولا تنتظر سرد قصصي،أدبي، فهذا مرض يهمنا فيه وضع الأصابع على
الجراح فهي متفرقة وتحتاج أن يعالج الأخطر منها ثم الأقل خطورة .
ومن التسطيح أن يقرر الأسباب كلها من لم يختلط بأهل الغلو ولم يناقشهم ومن
لم يجتمع معهم لأيام وأشهر وسنين أحيانا ولا يتأتى ذلك إلا في مواطنهم وهي
الجبهات والسجون وأراد الله أن أخوض التجربتين مع أهل الغلو ، فبمثل هذه
التجارب تستطيع فهم تفكيرهم وطريقتهم ومنطلقاتهم وبدراسة حياتهم الخاصة
تستطيع تكوين تصور أقرب للواقع منه للتنظير أو النقل من الكتب بشكل مجرد ،
تستطيع بإذن الله أن تعطي نظرة ثاقبة عن الأسباب التي أدت لهذا الغلو
ومحاولة حصر معظم الأسباب وأهمها بعد خوض التجارب مع شخصيات مختلفة في
التوجهات والأعمار والأسباب ونقاشهم لأيام وليالي تستشف منها كيف تغلغل
الغلو لأفكارهم وما هي المعطيات التي سهلت وصول هذا الفكر لعقول وقلوب
شبابنا .
ومعالجة الأسباب هي أول خطوات محاربة الغلو وضربه بمقتل وبذلك نوفر الجهد
والوقت والمال، وبدون التشخيص الصحيح فالعلاج لن يفيد وتستطيع الحكم عليه
بالفشل ، ولنا في حقبة التفجيرات التي ابتلينا بها خير دليل ، فقد عولج
الغلو علاجاً مباشراً ولم تعالج الأسباب وابتلينا اليوم بدل العشرات من
الغلاة بمئات بل بآلاف! والأدهى هو حمل أطفال ونساء لهذا الفكر والذي لم
يكن بالسابق بنفس هذه الأعداد المخيفة ، فقد علمنا بتبني بعض أهالي الغلاة
لهذا الفكر نساءً واطفالاً ونحن اليوم أمام تبني أطفال وشباب ونساء من أسر
علم وفضل وأسر لم تتلوث بفكر الغلو !!
وهذا الأمر في رأيي متجه حتما ليكون ظاهرة مالم تعالج الأسباب الحقيقية
بتوجه صادق وبتظافر الجهود ،هذه المقدمة الطويلة مهمة لأن الأسباب ليست
خافية لكن المصلحين يمرون عليها مرور الكرام يذكرونها ثم ينتقلون للحديث عن
التحذير من الغلو وترك التحذير من أسبابه !! وهنا وقعنا في مشكلة كبيرة
وصرنا سبب فرعي من أسباب انتشار الغلو سواء علمنا أو لم نعلم ، فحينما تأتي
لشخص يبطش به جاره ويؤذيه ويعتدي عليه وإذا احتج بشكل خاطئ وغير حضاري
وكانت ردة الفعل أسوء من الفعل فعلاج الشخص دون الحديث مع جاره لوقف
الاستفزاز والاعتداءات هذا هو العبث الذي لا يمكن أن يقره عاقل غير مسلم
فضلا عن مسلم يحمل دين العدل ودين رفع الظلم ودين الأخذ على يد الظالم ومن
هذا الأمر سأضع أخطر اسباب الغلو وهو الظلم :
١ - الظلم وهو رأس الغلو وأقوى وأهم أسبابه
والظلم أنواع ودرجات أشده وأعلاه السجن بلا مبرر شرعي ولا مستند نظامي إلا
الشبهة ! وهذا جعل حتى من لديه بعض العلم ينحرف ويؤل الأدلة وفق الهوى
لمجرد الانتقام ممن ظلمه، وملف المعتقلين هو الملف المتورم الذي زاد فيه
الإهمال دون علاج حتى أصبح قيحاً وصديدا يفرز الغلو إفرازا في عقول السجناء
وذويهم وأقاربهم وأصدقائهم وجيرانهم وأهاليهم ، مما أوجد لدعاة الغلو أرضا
خصبة في هذه المجتمعات للدعوة للغلو وتجنيد الاتباع وسهولة إقناعهم بحمل
فكر التطرّف،فالمظلوم غير المنضبط بالشرع بشكل صحيح في الغالب لا يهمه
العواقب بقدر ما يهمه الانتقام ورؤية ظالمه في حالة من الفوضى،وحل هذا
الملف هو حل بلا مبالغة لنصف أسباب الغلو من جذورها.
٢ - ضعف العلم الشرعي أو انعدامه خصوصا صغار السن وعدم فهم
النصوص،وإنزال الآيات على خلاف ما أنزلت ،والسبب هو عزوف العلماء وطلبة
العلم (وخوفهم) من مجالسة الشباب والاختلاط بهم كي لا تصنفهم الدولة
ويسجنوا بالشبه،وكذلك محاسبة من جلس مع بعضهم لنصحه عن سبب عدم التبليغ
عنهم لجهات الاختصاص !! هذا جعل الهوة تتسع بين الشباب والعلماء الذين لا
يسمع صوتهم عند المنكرات وعند الظلم لكنه يرتفع عند التحذير من هؤلاء
الشباب ومنهجهم الذي يرونه الحق المبين وغيره هو الباطل، وهذا فتح للشباب
تلقف العلم من الجهلة وأهل الغلو وأنصاف المتعالمين ،وصدقوا ما يروج ضد
العلماء من كونهم أدوات تستخدم وقت حاجة السياسي،مما سهل على الغلاة تجنيد
الشباب لغاياتهم بعد إبعادهم عن أهل العلم الحقيقيين.
٣ - الاعلام المفتوح بلا ضوابط أمام نقاشات الشباب وتغذيتهم منه
بالحوار أخذاً وعطاءً،مقابل علماء يريدون إيصال رسالتهم للمتلقي بمبدأ
"اسمع مني ولا تناقش" هذه رفعت أسهم الغلو في بورصاته وهي إحدى أخطر طرق
تجنيد النساء لفكر الغلو .
٤- ضعف الإسلام أمام التغريب وكبت الشباب عن الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر مقابل فتح الباب للمنكرات وأهلها وعدم محاسبتهم !! مما سبب
استفزاز الشباب وكبت طاقاتهم وحماسهم فمن لم يملك العلم الشرعي ينحرف ويظن
أن العلاج هو في تبني الغلو والعنف ويفرغ طاقته وحماسه في هذا الفكر الدخيل
لتغيير المنكر بالقوة ، والعمل للدفاع عن الإسلام فقد استفاد أهل الغلو من
هذه النقطة وغذّوا الاتباع بها وأنهم يعيشون غربة الاسلام .
٥- إتاحة حرية الرأي في الإعلام لمهاجمة الشعائر الدينية والعمل
الخيري ودور التحفيظ وجهاز الحسبة والتحريض عليها والعمل على تغريب المرأة
والسماح بالكفر والإلحاد في معارض الكتب والمكتبات والندوات ، مقابل إقصاء
كامل لهؤلاء الشباب من ابداء الرأي أو الرد على هذا الهجوم الممنهج المكرر
أو حتى انكاره، هذا أورث للشباب اليأس والقنوط من جميع القنوات للتغيير
واقتناعهم بقناة واحدة يصل من خلالها صوتهم وهي قناة الغلو والاقصاء المضاد
كردة فعل لما أصابهم من إحباط ووجود أنظمة تحاسبهم على الإنكار مقابل ضعف
شديد في محاسبة أهل المنكر ، ولم يعد يكترث صاحب فكر الغلو من تحذيرات
العلماء الذين لم يتحركوا لصد هذا التغريب والمنكرات،فلا يكترث بعد ذلك
بالعلماء سواء تحدثوا أم لا العلماء .
٦- الفقر والحرمان وهو أحد الأسباب المقلقة التي يكثر في بيئتها
تبني الغلو،فقد وجد أنه سبب مستقل قد لا يحتاج لأي سبب من الأسباب السابقة
ليعاضده فيكفي أنه فقير محروم في مجتمع ثري يرى تبدد الثروات من حوله وهو
مستوى معيشته يتردى مع التضخم وقد ساهمت وسائل التواصل في وضعه في مصاف
الدركات السفلى من المجتمع حينما يشاهد القصور الباذخة والسيارات الفارهة
والأموال الضائعة في التوافه،والثراء الفاحش وليد الصدفة بعد تولي المناصب،
وهو قابع في حضيض الأحياء القذرة لا يستطيع تلبية رغباته الطبيعية لا في
زواج ولا سكن ولا علاج ولا حياة كريمة ولا وظيفة آمنة وهذا زاد في أوار
الحقد من المجتمعات والدول فاقنع نفسه ببريق العدل الذي ينادي به الغلاة في
مجتمع إسلامي وفي توزيع الثروات والغنائم تحت ضَل الرماح بعدل بين الرعية.
٧- من الأسباب المنسية والخطيرة غياب القدوة الصالحة، فقد أخمدت
الحكومات الصوت الوسطي في بيئة المجاهدين من القادة المعتدلين الذين
يحاربون الغلو وطاردتهم بعصا الطاعة ووقف كل أنشطتهم في مواطن الجهاد ووقف
التواصل مع تلك المناطق ووضع من لم يرضخ لهذه الأوامر تحت طائلة المطاردات
والسجن والوضع في قوائم المطلوبين فحصل اختفاء قسري وتام لهذا الصوت الوسطي
المعتدل المحارب للغلو والتطرف مما سهل على الغلاة إيجاد قدوات سيئة في تلك
الأماكن لصغار الشباب وساهمت شبكات التواصل لجعل هؤلاء قدوات للاجيال
القادمة سواء من وصل منهم لمواطن القتال او من هو في أقاصي الدنيا فكان
للغلاة ما أرادوا من تفريغ الساحة لهم بشكل تام فرفعوا راية الدفاع عن
المستضعفين وسد ثغر من ثغور الامة عظيم وللأسف بهذا الفكر الغالي وهذا
المنهج المنحرف فطبيعي جدا أن يتمرد الشباب على العلماء "التاركين للجهاد"
المغلقين لمجالسهم من استقبالهم،والتمرد على قادة الجهاد المعتدلين الذين
"ركنوا للدنيا" فلم يعد أمامهم إلا هذه النماذج المنحرفة التي صوّرتهم
كأبطال لا منافس لهم من أي صوت آخر فعلى صوت الغلو ونحر المسلم الموحد على
تكبيرات الغلاة وغسلت أدمغة الشباب فاستعدوا لتفجير أنفسهم في أي مكان يطلب
منهم بل واستعدوا لقتل أقرب الناس إليهم، والتنكر لعلمائهم أوطانهم وكل شيء
جميل في حياتهم فلا يفكر إلا كيف يُقتل دون هذه الأهداف التي ظن أنها أهداف
سامية شرعية مطلوبة منه وليس بعدها الا الجنة.
٨- تجفيف المنابع وهو من الأسباب الخطيرة فقد ضُيّق على الدروس
والمحاضرات والأنشطة الحاضنة للشباب بسبب دواعي الشك في أصحابها وبتحريض
جماعات الحسد والحقد مما جعل النبع قليل ونادر،فعلى سبيل المثال :
ترك الحديث تماما عن شعيرة الجهاد وأصبحت كلمة الجهاد حساسة مخيفة جعل
عليها قيود وتصنيفات وتبعات وسجون ويوضع صاحبها تحت دوائر الشكوك، فحصل
عزوف من العلماء والدعاة المعتدلين عن الحديث في هذا الجانب واستقطاب
الشباب لإعادة توجيهه التوجيه الصحيح فلم يعد هناك من يتحدث عن الجهاد
وضوابطه وشروطه فنجح السياسي في إعطاء الغلاة فرصة العمر لسد هذا الثغر
وتبني هذه المسار بكل جوانبه ،وتبني الحديث عن الجهاد كشعيرة غائبة وتبني
قضايا الأمة في هذا الجانب والسباق لكل أماكن الصراع القديمة التي أفرغت
لهم،والحديثة التي لا ينافسهم فيها أحد وبشكل شبه تام فمن البدهيات أن
يتلقفوا عقول الشباب ويسحرون لُبّ قلوبهم فيوجهونهم ويكيفونهم وفق ما يرون
واكتفينا فقط بردات الفعل لأفعال الغلاة.
٩- الحلم الضائع،وهو قيام دولة إسلامية تحكم بالشريعة والعدل
والنَّاس فيها سواسية وتوزع الثروات فيها بإنصاف ويعيش الناس فيها بكرامة
ويرجع فيها القوي والضعيف لحكم الله، هذه مفقودة في الواقع مدونة في الكتب
يرضعها المسلم منذ الولادة في انتظار الخلافة الراشدة فيجد في واقعه الظلم
والعنصرية والطبقية والحكم على الضعيف وترك الأقوياء وثروات الأرض لفئات
دون غيرها، فصاح الغلاة للناس أننا سنحقق حلمكم وسترون دولة الحق وخلافة
الإسلام فدغدغ مشاعرهم واستغل ضعف تحصيلهم العلمي وخصوصا الأعاجم الذين
يعيشون بعنصرية في الغرب وهم يتمنون هذه الدولة الحلم ،فصاروا يخوضون
التجربة بلا تردد ويضطرون لحمل هذا الفكر لظنهم أنه الفكر الذي حمله أصحاب
محمد عليه الصلاة والسلام ،فأقاموا العدل في الارض،فكثير ممن لم يذق العدل
تجده مستعد لخوض كل التجارب ليراه واقعا ملموسا،لأنهم لم يجدوا العدل في كل
الدول الإسلامية ووجدوه في هذه الدول التي لا تدافع عن الإسلام الا بعد ضغط
الجماهير ومصالح الاقتصاد والأمن،ووجدوا المسلمين يقتلون في كل صقع ولا
يدافع أحد عنهم ! في مقابل دولة لكل مذهب ودين فالنّصارى لهم دول والهندوس
والرافضة واليهود والبوذيين وكل ملة ونحلة لها من يدافع عنها ويغضب لها بغض
النظر عن جنسيته،يتخطون الحدود للدفاع عن أبناء ملتهم في الوقت الذي تتخطى
دول السنة الحدود لقتل السني الذي يدافع عن نفسه!! ووجدوا أنه لا يجرّم إلا
الاٍرهاب السني ولا يحارب إلا المنظمات السنية ،ووجدوا المسلم السني دمه
أرخص الدماء ! فإن لم يقتله الغزاة قتله الحاكم الذي يحكمه ! ففقدوا الثقة
تماما وأصبحوا كالغرقى يريدون أي قشة يمسكونها لتنقذهم ،فلم يجدوا سوى
هؤلاء الغلاة ينادونهم بما يحبون ويتمنون وهم من سيحقق أمنيتهم مقابل عشرات
السنين من كذب السياسي السني الذي يقف متفرجا على ظلم المسلمين دون أن يحرك
ساكنا،لذلك ركب الشاب والمرأة والشيخ والعجوز موجة الغلاة لعل وعسى أن
يجدوا ضالتهم عند الغلاة،ونجح الغلاة إعلامياً في مخاطبة وجدانهم وتعبئة
عواطفهم في سد هذا النقص ومخاطبة غرائزهم مقابل جعجعات الحكومات السنية
التي لا تفارق الرأي الغربي ووجهة النظر الامريكية في كل قضايا العالم
الاسلامي.
هذا ما أجده من الأسباب التي تدفع الشباب للغلو لذلك كله يجب معالجة
الأسباب جميعها بتظافر الجهود دون الإخلال بسبب دون آخر، ولنا تجربة مؤلمة
حين استقبل المجاهدين في التسعينات من الجبهات للسجون خوفا منهم فسلط الله
علينا القاعدة ومنهجها المتطرف وبدل علاج الأمر بحكمة انشغلنا بعلاج
الأحداث فسلط الله علينا من جعل القاعدة ومنهجها عند هؤلاء شبه معتدلة
وكلما كابرنا في عدم علاج الأسباب كلما تفاقم الامر وسنبتلى بسبب سكوتنا عن
الظلم والفقر وحرب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أقول سنبتلى
ممن يخرج من أصلابنا من يسومنا سوء العذاب ويستحل دمائنا وأعراضنا ويدمر
مكتسباتنا وأمننا ، فهذا العالم خلقه الله بأسباب كونية دقيقة وأنزل لنا
كتابه سبحانه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام فإن لم نقم بما أمرنا الله به
وفق سننه المقررة فلن نكون خيرا من غيرنا ممن لم يمتثل أمر الله، فليس
بيننا وبين الله نسب ، هي أعمالنا التي تقربنا لربنا فإن صدقنا الله صدقنا
وإن نصرناه نصرنا، وإن خذلنا أمتنا فلا نلومن الا أنفسنا والله أعلم وأحكم
وهو على كل شيء قدير.
أبو عبدالرحمن التميمي
|
المصدر -------------------------------------------------------
ويؤيده هذا المقال
الاثنين 19 رمضان 1436 هـ - 6 يوليو 2015م - العدد 17178,
صفحة رقم
( 32 )
العقل الانتحاري: محاولة للفهم!
لم تكن عمليات التفجير التي طالت المصلين من
نوع ما حدث في القطيف او الدمام او الكويت.. إلا امتدادا لعمليات سابقة
حدثت في العراق تحديدا. فالأعوام الماضية شهدت عمليات تفجير وقتل للمصلين..
ولم يتورع أولئك القتلة عن أبشع العمليات التي طالت حتى بيوت الله لتأتي
على الركع السجود.
وإذا كان ما حدث في شرق السعودية والكويت في ايام جمع مشهودة من تفجيرات
انتحارية طالت المصلين يوحي بأن ثمة محاولة لإغراق دول الخليج بوحل
الطائفية القاتلة.. فقد ظل مبدأ تلك الحرب الكلام لسنوات.. الا انها اليوم
تحاول الانتقال إلى مرحلة الضرام الكبير فيما تبقى من المنطقة.
إن محاولة فهم ما يحدث على صعيد توظيف هذه الادوات القاتلة من قبل تنظيم
ارهابي لإحداث الخلل الكبير في منظومة استقرت لسنوات طويلة على مبدأ
التعايش، له ما يفسره.. فتنظيم الدولة عابر للحدود واهدافه تتجاوز الصراع
في العراق إلى استهداف المنطقة برمتها.
قيل وسيقال الكثير حول ارتباطات التنظيم واهدافه ومحاضن دعمه واستمراره.
إلا ان مواجهته لن تكون بالقبض الوهمي على القوى الكبرى او الاقليمية التي
تدعمه او تستفيد من بقائه. المواجهة المجدية الان تكمن في قطع حبل التنظيم
السري بأدوات القتل والانتحار في محاولة لنحر مقومات الدولة في الجزيرة
والخليج العربي.
الخطر الكبير اليوم يتمثل في ذلك الحبل السري، الذي يصل التنظيم بأدوات
القتل.. بهذه القنابل المتفجرة، بهذه الاحزمة المتجولة بين المساجد.. وربما
تطال مراكز وتجمعات اخرى.. وقد تكون اليوم استهدافا للمصلين في بيوت الله
الا أنه لا ضمانة ان تتطور الى استهداف يطال احياء او مراكز تجارية او
تجمعات سكانية لإحداث اكبر اضطراب ممكن ولصناعة صدمات متوالية تجعل السيطرة
عملية صعبة اذا ما جرت إلى كوارث مروعة.
ستظل "داعش" لغزا كبيرا في جوانب عديدة، إلا ان المؤكد اليوم انها تصنع
امتدادات قد لا تكون كبيرة وربما محدودة جدا، إلا ان عملية تفجير واحدة،
تقوم بها خلية لا يتجاوز عدد افرادها اصابع اليد الواحدة كافية لإحداث صدمة
مروعة وأثر كبير وخطر أكبر على منظومة الأمن وحماية المجتمع بكل أطيافه.
قطع الحبل السري بين التنظيم وادواته في الداخل، مهمة قد تكون صعبة، إلا
أنها ليست مستحيلة، ويجب أن تبدأ بمحاولة فهم العقل الذي يمكن استلابه
بهذه السهولة ليكون الأداة القاتلة في عمليات التفجير والنحر الجماعي.
التمكن من هذا العقل يبطل سحر الوهم بداعش ومشروعها.
تتبع ودراسة تاريخ كل حالة من حالات اولئك الذين يتم توظيفهم في مشروع
التدمير والتفتيت والتفجير المدوي، يجب أن يتجاوز مقولات التغرير، بحكم
السن او الاقران او مؤثرات الوعظ والتلقين.. الى مرحلة أعمق ليتم تشريح تلك
الحالات ومسارها والمؤثرات التي جذبتها حتى تصبح اسيرة ومستعدة ومندفعة
للمشاركة في حفلة الدم التي تدور رحاها بعد ان تحول الصراع الى معاول وحراب
الطائفية تحت عناوين التأجيج الكبرى في المنطقة.
النظام التعليمي والخطاب الدعوي، يبدو عنوانا اثيرا لمن يحاول ان يتصدى
لهذه الظاهرة الخطيرة. وإن كان هذا الخطاب مؤثرا قبل سنوات، إلا ان المهم
ان يدرك هؤلاء ان هناك نظاما معرفيا موازيا، متجاوزا للنظام المعرفي
التعليمي الرسمي او الخطاب الدعوي العام.
نجوم الدعاة قبل عقود، ليسوا هم المؤثرين اليوم في عقول هؤلاء الشباب.
لقد اصبح النظام المعرفي المتطرف عابرا للقارات عبر وسائل وسائط التواصل
الحديثة. ولذا المسألة ليست منهجا دراسيا يمكن التصرف فيه او خطابا وعظيا
مكشوفا يمكن التحكم بمفرداته.. المسألة اليوم أعقد من هذا كله.
عندما أطلت آفاق الربيع
العربي، قبل ما يزيد على اربعة اعوام، بدا أن مشروع القاعدة لم يعد مغرياً
الى درجة أن خفت وتضاءل دوره. إلا ان ادخال المنطقة في كابوس الحروب
الاهلية عبر انظمة الظلم والقتل الجماعي لاستعادة سلطتها الغاربة، صنع
الفرصة الذهبية لعودة مشروع أسوأ واعظم بلاء ولا افق له الا التقويض والهدم
والتدمير
عملية مسجد الصادق بالكويت نفذها شاب ربما كان في سن العاشرة من عمره
عندما حدثت كارثة 11 سبتمبر 2001 - وهو حدث فاصل بين مرحلتين - وليس من جيل
الصحوة ولا اعتقد أنه لازال أسير خطابها القديم. إنه من جيل مواقع التواصل
الاجتماعي، والنظام المعرفي العابر للحدود. انه من جيل الحرب الطائفية
الاعلامية التي تتلبس بالجهاد وتتورط فيها كل مكونات الطائفية في المنطقة
الممتدة من اطراف الشام الى العراق.
وإذا افترضنا انه كان متأثرا بالنظام المعرفي التعليمي او الوعظي او
الدعوي، الذي يتهم اليوم بأنه يحرض على الطائفية ويكرس مفرداتها.. فماذا عن
الآخر الشاب التونسي، الذي قتل في ذات الجمعة 38 سائحا.. وهو الذي يدرس في
مرحلة الماجستير في تخصص علمي.. والذي يعتقد انه من جيل تعلم في عهد تجفيف
المنابع في تونس قبل ثورة ديسمبر 2010.
علينا ان نعترف ان هناك نظاما معرفيا دعائيا موازيا، دفعت به الأحداث في
المنطقة ودعمت انتشاره مواقع التواصل الاجتماعي والاعلام العابر للحدود.
علينا ان نعترف ان هناك جيلا مختلفا لم يعد ينظر للدعاة المعروفين كما كان
الامر في الماضي القريب. ولذا تبدو قراءة شخصية مثل هؤلاء، وفهم حالة
العزلة التي اختطوها لأنفسهم، والمجموعات الصغيرة التي يتعاملون معها،
باعتبارها حلقات متصلة تغذي توجهاً لا يرى سوى صدمات الترويع بالتفجير
وسيلة للمعنى الذي يقتحم رؤوسهم دون ان يمر على مرشحات عقلية تجعل الجدل
الذهني حاجزا دون ان يصبحوا احزمة متجولة تنتظر الانفجار.
إن جاذبية مشروع "داعش" لتلك الادوات لا يمكن إفشالها إلا عبر فتح نوافذ
اخرى لقطع تلك الحبال السرية بين المخطط والمنفذ. وهذا لن يتم سوى
باستعادة الشباب، وهم المادة الاساسية في عمرهم المبكر للتوظيف في مشروعات
الهدم والتقويض. وهذا لن يكون متاحا في اجواء الصمت والمبالغة في الحجب
والقلق. بل سيكون ممكنا في حالة المكاشفة والبحث عن حلول أكثر جدوى وأعمق
تأثيرا وأعظم عائدا.
عندما ندرك كيف يمكن توظيف غريزة الانتماء وتحقيق الهوية الذاتية، في
وسط حالة يروج فيها الاحباط، وتنتشر فيها مظالم كبرى، فإن هذا كله يفعل
فعله في عقل ووعي شباب غض الاهاب وقليل التجربة، ودون وعي سياسي، او فهم
لحقيقة الصراع، ويميل للتبسيط ويهرب من البحث والتعقيد.. حتى ليستحكم فهمه
ووعيه على عالمين: ماضوي له بريق لا يقاومه وهو لا يعرف الكثير عنه سوى ما
يراد له ان يعرفه، وعالم حاضر لا يراه إلا يستهدف هويته ودينه. وإذا اقفلت
منافذ الاصلاح والحوار المجتمعي المباشر والصريح، واذا انتشر الشحن الطائفي
وتراكمت صور الانهاك والاحباط.. سنجد من يريد أن يأخذ هؤلاء الشباب
المأزومين إلى مشروعه في التقويض تحت أي يافطة مغرية تتوسل الهوية والاسلام
المهدد في عقر داره والاعداء الطائفيين والصليبيين المتربصين!
عندما أطلت آفاق الربيع العربي، قبل ما يزيد على اربعة اعوام، بدا أن
مشروع القاعدة لم يعد مغرياً الى درجة أن خفت وتضاءل دوره. إلا ان ادخال
المنطقة في كابوس الحروب الاهلية عبر انظمة الظلم والقتل الجماعي لاستعادة
سلطتها الغاربة، صنع الفرصة الذهبية لعودة مشروع أسوأ واعظم بلاء ولا افق
له الا التقويض والهدم والتدمير.. وإن جاء تحت عنوان جاذب "دولة الخلافة
الإسلامية". ولم تختر "داعش" هذا الاسم إلا لحمولته التاريخية الذهنية
الاستعلائية في معركة الاستحواذ على عقول الشباب المتقد والمتحمس والمحاصر
بالإحباط.
أليس من المهم افراغ شحنة التصورات المشوهة، وفتح آفاق التعبير لاكتشاف
الخلل الكامن في عقل محجوب عن الواقع او ملتبس أو اسير لعقل ماضوي لا يرى
إلا صورة منه ذات بريق بينما يخفي الكامن من سواده.. ألا يسهم هذا في فتح
آفاق نظام معرفي يجعل العقل ميزانا للحق عبر وعي انساني لا يمكن اختراقه
بسهولة.
ألسنا ايضا بحاجة لتفعيل ادوات أخرى لإدماج تلك العناصر الشابة المملوءة
حماسا لتعظيم شعورها بالفاعلية عبر تشاركية اجتماعية واسعة.. تواجه الظلم
بالعدل والوهن بالفاعلية والإحباط بالأمل؟!
د.عبد الله القفاري
:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..