انثالت من الذاكرة الكليلة مشاهد وصورا تعود لقرابة ثلاثة
عقود ونصف من السنوات، وأنا أطالع وأتابع كغيري من الأمة العربية التدخل
الفاضح لروسيا في الأزمة السورية، وتبجح بوتن بأنه سيدحر الدواعش وكل
الفصائل الإسلامية التي
تقاتل ربيب روسيا وقاتل النساء والأطفال بشار
الأسد.
ولأني ابن مدينة الطائف بالسعودية والتي أقيم فيها مؤتمر
القمة الإسلامي في العام 1981 م، مازالت راسخة في ذاكرتي صورة القائد
الأفغاني الشهير عبد رب الرسول سياف بلحيته الكثة ووقفته الشامخة وهو يخاطب
الأمة الإسلامية في ذلك المؤتمر، وارتجت القاعة يومذاك لخطابه البليغ،
الذي شكا عبره، بفصاحة وخطابية عالية تحصل عليها من دراسته في الأزهر
الشريف، للقادة العرب والمسلمين الحاضرين إذاك كوارث الغزو السوفيتي
لبلاده، والمجازر التي ارتكبها الجنود السوفيت حيال شعب أعزل، واستنصر همم
الأمة الإسلامية لنجدة أفغانستان ضد ذلك الغزو الوحشي.
التاريخ يعيد نفسه اليوم، وهاهو القيصر بوتن على خطى سلفه
بريجنيف، دون أن يتعظ بدرس أفغانستان الذي كان المسمار الأخير في نعش
الاتحاد السوفيتي البائد. وما يزيد الطين بلة هنا، مباركة الكنيسة
الأرثوذكسية على لسان البطريرك «كيريل» بطريرك موسكو وعموم روسيا، هذا
التدخل الروسي السافر، معتبرا أن الحرب في سوريا حرب مقدسة، وتناقل نشطاء
في تويتر صور مباركة كاهن أرثوذكسي في مطار بحر القرم لطائرة حربية روسية
ستذهب لرمي القنابل على العزل والأهالي في أرض الشام، والأحمق بوتن يظن أنه
اليوم سيحارب داعش، ولا يدري أنه بهذا التدخل الأخرق منه، ومباركة كنيسته،
حّول الحرب لحرب دينية بالكامل، وقدم لداعش كرتا ذهبيا، ودعم حجتها الذي
أشهرته في وجوه العلماء والدعاة بأن ما يقومون به من قتل وحشي وتدمير هو
جهاد مقدس ضد الكفار والصليبين والصهاينة.
ما لم يدركه الروس –ومعهم الصفويون البغضاء- في حال سوريا،
أنهم سيوحدون هذه الجماعات الإسلامية، وستشهد المنطقة حالة صراع شديدة،
ستمتد لحقب طويلة، فلا أبرع من هذه الجماعات الإسلامية المسلحة في حرب
العصابات، ولعل هذا القيصر الأخرق –الذي يأتي سوريا منتشيا بما فعله في
أوكرانيا وجورجيا- يعود لأرشيف بلاده المهترئ ويقرأ ما فعلته الجماعات
الإسلامية بأسلافه في الثمانينيات، فلا أصلب ولا أقوى من المسلم المتسلح
بعقيدته، وهو لم يواجههم بعد للآن، وخمود ثورة الشيشان بسبب خذلانهم من قبل
الدول الإسلامية والغربية وقتها، وإلا فقد رأى من المجاهد الشيشاني "شامل
باساييف" وقائد المجاهدين العرب"خطاب" وغيرهما الأمرين.
المشهد قاتم للآن ولا ندري كيف ستتصرف الدول المعارضة لهذا
التدخل الروسي في سوريا، وعلى رأسها السعودية وقطر وتركيا، وهل ستقوم بدعم
فصائل المعارضة المعتدلة في سوريا، وتبعد الشباب الذي سيهب عن داعش؟، وهل
ستأخذ تركيا موقع باكستان في حرب السوفييت الأولى في أفغانستان، وستتحول
أنطاكية مثلا لتكون بشاور هذه الحرب الجديدة؟، وهل سيسمح لآلاف الشباب
المسلم بالتقاطر من كل جهات العالم بشكل أكثر، وسينبجس عرابو الجهاد
الجديد، ونلقى أنفسنا أمام عبدالله عزام جديد، وتميم العدناني، وبقية دعاة
الجهاد الذين كانوا يجوبون في الثمانينيات الميلادية الخليج والعالم العربي
من أقصاه لأقصاه دعما للجهاد في أفغانستان؟
كل ما يحدث اليوم من تعقيد وتأزم سببه في رأيي الرئيس
الأمريكي الضعيف باراك أوباما، ولم أر تخبطا في السياسة الأمريكية وتراجعا
كما شهدناه في هذه المرحلة، ما جعل الكاتب والمحلل السياسي الأمريكي "ديفيد
روثكوبف" يوجه نقدا شديدا لأوباما في مجلة "فورين بوليسي" ويقول له: "دع
سوريا والعراق للقيصر والمرشد الأعلى!"، ويضيف متحسرا: الولايات المتحدة
تخلت عن مبدأ الحرب العالمية الثانية "الانتصار مهما كان الثمن"، وساد طوال
فترة حكم الرئيس أوباما مبدأ آخر يتمثل في "الخروج مهما كان الثمن".
ومرة أخرى: ما لا يفهمه أوباما ولا بوتن ولا الغرب كله، بأن
شظايا هذه الحرب في سوريا ستصل لهم في عقر ديارهم، وأنهم بتواطئهم اليوم
وحمايتهم للرئيس السوري بشار الأسد، ودخول الكنيسة الحرب، حولوا ما يجري
بالكامل لحرب دينية مقدسة، وملحمة "دابق" التي تتغنى بها داعش ستطفو
للأدبيات الإسلامية من جديد، وسيهب ملايين الشباب الملتزم في كل العالم
الإسلامي لتلبية نداء الجهاد، وستسري روح جهادية جديدة بمعنويات عالية،
لربما لخص هذه الروح أحد قادة الجهاد في سوريا الشيخ عبدالله المحسيني الذي
كان مغتبطا ومتفائلا بمجيء روسيا، وجزم بأسر الثوار لجنود روس في الغد
القريب، مضيفا: "والله لنتفاءل بأن بواريدنا ستكون غنائم من رجال، ونتفاءل
بأن الدبابات المهترئة التي نقاتل بها سنستبدل بها دباباتهم التي سنغنمها
ونقتحم عليهم بها".
بوتن أتى سوريا بفكرة لخصتها صحيفة "يديعوت أحرنوت" في
افتتاحيتها: "بأنه يفهم ما لا يفهمه العالم الحر، وهو يعلم أن من لا يقاتل
الجهاد من خارج بيته، سيضطر إلى أن يقاتله داخل البيت، ولذلك فإن بوتن لن
ينتظرهم، بل يخرج إليهم".
ولكن أجزم هنا يقينا بأن الحرب ستنعكس عاجلا أم آجلا في
الشيشان والداغستان وبلاد القفقاس، والتفجيرات سترتد للعواصم الغربية،
وسيدخل العالم مرحلة لا استقرار لحقبة طويلة للأسف، وكان بالإمكان نزع فتيل
ذلك كله من الآن، ولكن من يستمع لصوت العقل!!
مستنقع أفغانستان سيتكرر في سوريا الأبية، والذي سيدفع الثمن بجوار الدب الروسي هو الغرب الذي يتفرج عليه اليوم.
بقلم:عبدالعزيز قاسم
الشرق القطرية
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..