لا يُمكنني أن أنتزع الدهشة التي ألمحها في محاجر عيونكم بسببٍ من عنوان الدرس الذي جاء مثقلاً بمفردةٍ تنضح وساخةً ذلك أنّ مثل هذه القاذورات من المصطلحات العفنة ذات الإيحاء المهوس بأفعالٍ فاحشةٍ ليس مكانها بالضرورة الشرعية/ والأخلاقية مثل هذا المكان المبارك كما وأنّ دروسنا هذه إنما الأصل فيها أن تتنزّه عن إيراد مصطلحٍ نتنٍ لا يُمكن أن يعرف طريقه عبر لسانٍ عفّ غير أنّ واحداً – عفا الله عنه – من أرباب البشوت الفارهة ممن يُحسب على الدعوة اضطراراً قد اُبتلِينا به وخاصةٍ حين لا يكفّ عن استظراف نفسه فاستخفّ «دمَه» فآذانا بفاحشٍ من القول – وساء سبيلاً – وذلك قبالة الناس أجمعين وبضحكاتٍ لا يمكن أن تتصور صدورها إلا من استراحاتٍ نائيةٍ وفي هزيعٍ أخيرٍ من الليل وبمكانٍ قصيّ لا يمكن أن تطاله: «الهيئة».. وأيّاً يكن الأمر فإنّ كلّ من كان سوياً لا بُدّ أنه قد تأذى من ذلك المشهد المزري!.
ولما أن علت الشيخ الرّحضاء – العرق – مسد طرف ذؤابة «شماغه الأحمر» على جبينه المتفصّد عرقاً وهو لا يكف عن الاستغفار والحوقلة…
قطع الشيخُ الفاضل لحظة الصمت التي قد طالت بقوله:
كلّ أحدٍ من أمّةٍ محمد – صلى الله عليه وسلم- معافى إلا المجاهرون وإنّ من أعظم باب المجاهرة في زماننا هذا أن يُبتلى الواحد فيهم بالفاحش من القول ولو على سبيل التندّر الذي يتسامى عنه العقلاء.. فيأبى المبتلى إلا أن يُظهره عبر قنواتهم.. وقد ستره الله بما هو عليه من خبيئةٍ لا يعلمها إلا الله تعالى.. إذ يأبى المخذول إلا أن يكشف ستر ربه عليه.. وهو المعنى الذي ما من أحدٍ فينا إلا يحفظ فيه ما صحّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة كما في البخاري.. وقال بأبي هو وأمي – كما في الموطأ عن زيد بن أسلم: «من ابتلي من هذه القاذروة بشيءٍ فليستتر بستر الله فإنه من يُبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله».
وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة» وما بين لحييه يتناول الكلام ذلك أنّ من الناس من يُبتلى بالكلام بفاحشٍ من القول وإن كان عفيفاً عن مقارفة الفاحشة على الحقيقة وفي الذكر الحكيم: «فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».
قال المحققون من أهل التفسير: الأول من الاستمتاع يتضمن الشبهات والثاني يتضمن الشهوات. فالأول إذن يتضمن الدين الفاسد والثاني يتضمن الدنيا الفاجرة..
وقال الإمام ابن تيمية تأويلاً لقوله تعالى: «وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا».. فهؤلاء إنما أعجبهم صورهم الظاهرة للبصر وأقوالهم الظاهرة للسمع لما فيه من الأمر المعجِب لكن لما كانت حقائق أخلاقهم – التي هي أملك بهم – مشتملة على ما هو من أبغض الأشياء وأمقتها إليه لم ينفعهم حسن الصورة والكلام).
وقال في موضعٍ آخر: (والمحبة الحيوانية – محبة النساء الأجانب والمردان- مما يبغضها الله ويمقتها وتوابعها منهي عنها مع ذلك سواء كان مع المحبة فعل الفاحشة الكبرى أو كانت للتمتع بالنظر أو السماع وغير ذلك… فالتمتع مقدمات الوطء فإن كان الوطء حلالاً حلّت مقدماته وإن كان الوطء حراماً حرمت مقدماته.. حتى حرّم الشارع النظر بلذة وشهوة وبغير لذة وشهوة… والفتنة مخوفة في النظر إلى الأجنبية الحسنة والأمرد الحسن في أحد قولي العلماء الذي يصححه كثير من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما..).
وبما أن الدرس قارب على الانتهاء آثر الشيخ أن يختم درسه بما نقله عن القشيري في رسالته حيث قال: (ومن أصعب الآفات في هذه الطريقة صحبة الأحداث.. ومن ابتلاه الله بشيءٍ من ذلك فبإجماع الشيوخ: هذا عبد أهانه الله وخذله بل عن نفسه شغله ولو لألف كرامة أهّله.. وهب أنه بلغ رتبة الشهداء. لما في الخبر من التلويح بذلك أليس قد شغل ذلك القلب بمخلوق وأصعب من ذلك تهوين ذلك على القلب حتى يعد ذلك يسيراً وقد قال الله تعالى:
« وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم»)
وما إن همّ الشيخ بالانصراف حتى استأذنه أحدهم سائلاً: هل يُمكننا من خلال بسطكم الموضوع على هذا النحو من التفصيل.. هل يمكننا القول: إن التلفظ بمصطلح: «القردنة» وما رافقها من فاحش قول: «الشفشفة ولقطها» ومخاطبة الأمرد بأنه: «الزين» يُعدّ من قبيل المنكر الذي تجب إزالته علانيةً من قبيل عدم محابةِ أحدٍ في دين الله وهل.. وهل..؟
قاطعه الشيخ بقوله: الله المستعان ثم انصرف وهو يردد قول شيخ المعرّة:
                وخَفَّ بالجهل أقوامٌ فبلَّغهمْ..       منازلاً بسناء العِزِّ تلتفِعُ.


خالد السيف
خالد السيف
نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (١٤٦٢) صفحة (٢٠) بتاريخ (٠٥-١٢-٢٠١٥)