الأحد، 10 يناير 2016

بحث إبراهيم السكران عن المقررات الدينية في السعودية 2004م

   (خطير جداً)   ولا يجب أن يمر مرور الكرام فإن وراء هذا البحث ما وراءه من المصائب
كثر الحديث -في ثنايا الحديث عن “الإصلاح”- عن إصلاح المناهج الدينية، وطُرحت تساؤلات عن
علاقتها بالإرهاب، وفي هذا السياق يقدم كلٌّ من إبراهيم السكران وعبد العزيز القاسم دراستهما القيمة عن “المقررات الدراسية الدينية” في المملكة العربية السعودية، يحاولان فيها قراءة وتحليل مكونات المنهج الدراسي من خلال محاور يحددانها في:
- مدى مراعاة المنهج لتدرج أهمية وأولوية الكليات الشرعية.

- مدى عناية المنهج بتقرير مبادئ العدل، خاصة في الحقوق الشرعية الأساسية للإنسان في التعامل مع الآخرين من المسلمين وأهل الكتاب وغيرهما.

- عناية المنهج بتقرير القواعد الشرعية للتعامل مع الحضارات والمعارف.

- عناية المنهج بالمشاركة المدنية التي تقدم للمتلقي قنوات التعبير السلمي.

بهدف معرفة مدى وضوح المنهج في تكوين التوازن النفسي للمتلقي، وإلى أي مدى يعير المقرر وسائل البناء المدنية الاهتمام، ومراجعة مدى تركيز المقررات على المواجهة بمختلف وسائلها.

الخطاب الديني.. الوظيفة والأهداف

يشكل الدين المكون الأساسي للشخصية، وتتميز الشخصية الدينية للمسلم بعمق التكوين وامتداده، فالإسلام يخاطب المسلم برؤية تتناول الجوانب الأساسية للحياة وعالم الغيب والعبادات والآداب؛ الأمر الذي أدى إلى عمق تأثير الخطاب الديني في حياة المسلمين، بيد أن هذا الخطاب قد يتعرض لآفات تنحرف به عن مساره المرسوم له شرعا؛ فقد يأخذ التدين منحى انعزاليا كما حدث لكثير من تيارات التربية والسلوك، وقد تذهب التربية الدينية نحو تعبئة الإنسان في حركة ثورية عارمة كما فعلت تيارات الخوارج.

وقد يكون الخلل أقل من ذلك، كتغليب ظاهر النص على معناه ومقاصده كما نَحَت الظاهرية، وقد يبالغ في تغليب المعاني حتى تتناقض مع صريح النصوص كما جرى في التفسير الإشاري والتأويلي للدين الذي ذهبت إليه طوائف من السلوكيين والفلاسفة.

إن تغليب أحد جوانب النص يؤدي إلى إهمال جوانبه الأخرى، ويترتب على ذلك تشويه معنى الدين وسلوك المؤمنين بهذا التفسير المتحيز لبعض النصوص، من هنا تأتي أهمية مراجعة توازن الخطاب الديني لإعادته نحو استيعاب مجمل النصوص وفقا لقيم الدين الأساسية ومقاصده الكبرى، حتى لا تتحول المعارك والانفعالات التي أنتجت تفسيرا متحيزا للدين إلى واقع ديني متحيز إلى بعض النصوص على حساب بعض.

وربما أوضحت هذه الدراسة أن تحميل المناهج الدينية مسئولية تحريك العنف المسلح ضد الغرب أمر مبالغ فيه؛ فأخطاء المناهج الحالية تؤذي علاقة المسلمين بعضهم ببعض أكثر من تحريضها على غير المسلمين، فنحن بحاجة للتصحيح؛ لمصلحتنا أكثر من حاجتنا لتحقيق ما يغضب مراكز القوى.

والواجب ألا نستنكف عن إصلاح أخطائنا لمجرد دعوة غيرنا إلى بعض ذلك، وهذا المعنى مقرر في كتاب الله تعالى حين استنكر الكفار على المسلمين القتال في الشهر الحرام فأقرهم القرآن على إنكار الخطأ وأمر المسلمين بتجنبه، والمهم هو أن يتركز الإصلاح لتحقيق مقاصد الشريعة وحماية مصالحنا.

لقد بينت دراسة المقررات -بحسب إبراهيم السكران وعبد العزيز القاسم- أن اضطرابا شديدا يموج بمحتوياتها في قضايا جوهرية تمس طمأنينة الطالب، وحقوق المسلمين، وأصول التعامل مع غير المسلمين من أهل الكتاب والمشركين، وقواعد التعامل مع المعارف والحضارات، وهو اضطراب يخالف أصول الشريعة، بيد أنه لا يبلغ المدى الذي ادعته حملات وسائل الإعلام الغربية، لكن ذلك لا يمنع من الإقرار بالأخطاء والعمل على إصلاحها.

الموقف من المخالف.. بين العدل والتعبئة

فالمقرر يتحدث -بدقة فقهية- عن الآداب الإسلامية الرفيعة وأخلاقيات التعامل، خاصة في سياقات التقرير النظري، لكنه يعود ليقدم مواقف مناقضة وموهمة -في المستوى التطبيقي- في حديثه عن التعامل مع المخالفين، وهذا الاضطراب يوقع الطالب في مأزق يصعب معه تكوين موقف فقهي دقيق لدى الطالب يتسق مع القواعد الشرعية؛ الأمر الذي يؤدي إلى اضطراب التكوين الأخلاقي للطالب في موقفه من المخالف، وتكاد تُختزل قواعد الأخلاق لتتحول إلى امتيازات خاصة تقدم للموافق، الذي تركت المقررات تحديد أوصافه لمعايير غامضة مضطربة.

قدمت المقررات نصوصا منضبطة فقهيا، تعرض بعض الآداب العامة وأخلاقيات التعامل، في المستوى النظري، إلا أن المقرر يعود ليقدم ما يكاد يناقض هذه المبادئ، ويتعارض مع ما قررته قواعد الشريعة حين يتعامل مع المخالفين من علماء الأمة وأتباعهم، ويأتي التعارض حين يقدم المقرر أحكاما مجملة موهمة لا تتفق مع القواعد الفقهية المقررة في الشريعة، وتؤدي في النهاية إلى إرباك الطالب المتلقي وهو في حداثة سنه.

والمقررات تقدم نصوصا تدفع باتجاه تعبئة الطالب حديث السن ضد المخالف المجهول الغائب عنه، بدل تأكيد روابط الإسلام المتينة وحقوق المسلمين العامة، وتقرير قواعد احترام الاجتهاد، وآداب الحوار، وظروف الاختلاف التي تستوجب رفع الملام عن الأئمة الأعلام -كما عبر ابن تيمية رحمه الله تعالى- وتعرض هذه الدراسة بعض نصوص المقررات المناقضة لقواعد حقوق المسلمين الموهمة لخلاف ما تقرره الشريعة.

ويقدم المقرر للطالب قواعد تكفيرية مجملة عن الأشاعرة والماتريدية، وكافة المخالفين في تفسير نصوص الصفات الإلهية، ويعتبر التحريف كفرًا، ومع ذلك يجعل تأويلات الأشاعرة تحريفًا، ويصف المخالف الإسلامي بالإلحاد! إن عَرض بعض ممارسات المسلمين بمبالغة وتهويل تنطلق بالأخطاء إلى مستويات مشبعة بالتضليل، من الطبيعي أن تربك الانضباط الشرعي للطالب مع المخالفين.

وبعد أن يصنف المقرر هؤلاء المخالفين في خانة المبتدعين -دون تفصيل أو تدقيق- يقدم قواعد للتعامل معهم تتعارض مع القواعد الشرعية للتعامل مع المخالف التي سبق أن عرض جانبا منها.

كما يشير المقرر إلى بعض التفسيرات العدوانية السلبية غير اللائقة في تفسير سلوك المخالف المسلم، ومن ذلك افتراض التواطؤ في علاقة المخالف بالمستعمر.

وفي الوقت الذي لفت المقرر انتباه الطالب إلى خطورة التكفير، جازف أحيانًا برسم صور تكفيرية شمولية عن العالم الإسلامي، ومع هذه الصور الموهمة التي تحمل تكفيرا مجملا، يلقي المقرر الكثير من عبارات إهدار الدماء واستباحة الممتلكات، وينثرها بين ثنايا المقرر بشكل فوضوي غير منظم المعنى والمعايير. وحتى لو كان المتهم بالشرك من جهلة المسلمين يقرر المنهج إهدار دمه واستباحة ماله! بل يتجاوز المقرر ذلك إلى تقرير مشروعية استرقاق أهالي المخالفين!

إن المقررات المدرسية تزداد اضطرابا حين تتناول الاتجاهات الفكرية المعاصرة، حيث يتضاعف حجم المجازفة في العبارات التكفيرية بهدف تعبئة الطالب ضد هذه الاتجاهات، بل يتجاوز الأمر -مع القومية العربية- التصعيد إلى تصوير النزعة الوطنية كعقوبة لأي مجتمع يرتد عن الإسلام، كما يقدم المقرر نماذج أخرى من التصعيد فيما يتعلق بالنظريات العلمية المعاصرة في الاقتصاد والسياسة والقانون وغيرها، فقد اعتبر المقرر الديني أن أي مسلم يتبنى النظرية الرأسمالية: منافق نفاقًا أكبر مخرجًا من الملة حتى لو أعلن انتماءه للإسلام.

في مواضع أخرى، يحاول المقرر الديني المبالغة في تضييق أشكال العلاقة بغير المسلم، وإبراز جوانب العداوة، وتعميم أحكام المحاربين، وعدم السعي إلى إبراز الجوانب الإنسانية في مبادئ الشريعة.

المقررات.. والموقف من الواقع

يقدم المقرر أحيانا الدعوة إلى الالتحام بالمجتمع والاندماج بمؤسساته، ويوضح أهمية ذلك في نهضة الأمة، ويحث الشاب على أن يكون عضوا فاعلا متفائلا، ويقدم صورة إيجابية عن الواقع، إلا أن المقرر يضطرب مرة أخرى فيقدم صورة قاتمة عن المجتمع ومؤسساته، ويبالغ في تصوير الانحراف، وفي تهويل الانحطاط، بما يربك التوازن النفسي للطالب، فيبالغ مثلا في تصوير طغيان الشركيات، وغرق العالم الإسلامي في البدع، وانحلال أخلاق المجتمع، ويؤكد مشاعر السلبية.

إن المقرر يتهور -أحيانًا- في إطلاق بعض الأوصاف التي تحمل قدرا من التهويل ضد المؤسسات الاجتماعية، كمؤسسات التعليم والإعلام ونحوها، كما يقدم للطالب قواعد خطرة حول تكفير الأنظمة والحكومات معزولة عن ضوابط التطبيق، أو يتحفظ على إطلاق وصف الإسلام عليها.

الموقف من التدين.. بين القلق والطمأنينة

إن اعتدال الخطاب الديني مهم في منح الفرد فرصة للثقة بالنفس، وإعطائه القدر اللازم من الطمأنينة، فالقلق المبالغ فيه يثمر انقيادًا غير متوازن، وكثير من حالات التخبط الفقهي والإقصاء الديني كانت نتيجة مباشرة لفائض القلق.

فالقلق المبالغ فيه يضع في الإنسان دوافع الإحجام والانزواء، ومن ثم الشعور بأن الانهماك في تحصيل المصالح، أو الانخراط في الواجبات اليومية: إنما هو غفلة عن الدين، وصدود عن الله والدار الآخرة! وهو حالة تتنافى مع أصول الدين ومقاصده في بناء القوة للأمة المسلمة كما أشار إلى ذلك الإمام الجويني وغيره من الفقهاء.

إن القلق والشعور بأن الضلالة شبح يتربص بنا يؤسس في الإنسان نزعات مقاومة التغيير، والوجل من الجديد دون فقه أو علم، ولذلك يلاحظ المتابع علاقة عكسية بين المبالغة في القلق على الإيمان وبين الحيوية المدنية، فكلما ازداد معدل التوتر الديني للفرد تناقص حجم مشاركته الاجتماعية، وكلما تمتع الإنسان بالقدر الكافي من الثقة والأمان ازداد مستوى إنتاجه الاجتماعي.

ومن أخطر ما يمكن أن يمارسه الوعظ الديني: محاولة تمزيق السكن النفسي للفرد عبر تهويل احتمالات الشرك، والمبالغة في الترويع من البدعة، وتضخيم حبائل النفاق، وهذا لا يعني أن المخاطر مستحيلة، لكن لا يعني أيضا أنها تطوق أنفاس الإنسان وحركاته وسكناته وتهدده في كل لحظة، وتتربص به في كل منعطف، بحيث لا يستطيع الإنسان أن يثق في إمكانية تجاوزها.

يحاول المقرر دوما إشعار الطالب بأنه: يسير بين مزالق البدع، ويحوم على شفير الردة، وتكاد تتخطفه كلاليب النفاق، أو يهوي عليه سقف الشرك.

الموقف من الحضارة.. بين التواصل والإدانة

لم يحاول المقرر الديني تقديم تكييف فقهي لمفهوم الحضارة، يتم فيه تفكيك المفهوم وتحديد مقوماته الأساسية، وتحليل مضامينها فقهيا، وعلاقتها بأحكام الشريعة مثل الفرض الكفائي، وواجب العمارة، والعدل الشرعي، والحاجات الفطرية، ونحو ذلك.

كما لم يحاول المقرر تعميق شرعية القيم المدنية المشروعة في وجدان الطالب، مثل: المشاركة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، وقيم البحث العلمي، والوعي السياسي، وقيم التعايش والحوار، واحترام القانون، والاستقلال القضائي، ودعم الحريات، والأمن البيئي، وأخلاقيات المهنة، وغيرها الكثير الكثير.

ولم يحاول المقرر توضيح الإطار الفقهي لنظم الحياة، وبيان الكليات الشرعية العامة المهيمنة على المجالات والعلوم المدنية المعاصرة، وإبراز الوظيفة الإسلامية للمعرفة والعمران، بما يعني تأهيل الطالب بأدوات الفحص والاختبار.

وإنما قدم المقرر موقفا مضطربا مترددا؛ فتارة يؤكد أهمية القيم المدنية وضرورة الاستفادة من خبرات الأمم الأخرى والاعتراف بما لديها من تميز وإمكانيات، وتارة أخرى يتجاهل الإيجابيات ويبالغ في نزعة التنقص والازدراء.

ومن نماذج الاضطراب أن المقرر يدعو مثلا إلى عدم تسمية العلماء في العلوم الإنسانية والتقنية بلقب “علماء”، بل يجب اعتبارهم جهالاً، وإنما الذي يستحق وصف عالم في نظر المقرر هو العابد فقط.

يغرس المقرر مفهوما خاطئا تجاه الدول المتقدمة والحضارة المعاصرة حين يؤكد على خطورة احترام تلك الدول المتقدمة، فيقرر أن من يحترم تقدمها فهو ضعيف الإيمان، أو حين يصور الحضارة المعاصرة كحظيرة بهائم حيوانية لا تملك أي سبب للسعادة، بل كل ما لديها من الإمكانيات إنما يقودها إلى السقوط!

ومن أخطر مراحل التوتر أن يصل التصعيد الديني إلى مستوى التحريض والاستعداء على المسالمين الذين عاملونا على أساس الثقة، فلما تعرض المقرر لقضية السفر للبلاد غير الإسلامية ذكر من أنواع السفر: السفر للدارسة أو التجارة أو العلاج أو الدعوة، ولكنه للأسف جعل من شروط الإقامة: (ويشترط لجواز الإقامة شرطين.. وأن يكون مضمرا لعداوة الكافرين وبغضهم).

ويزداد تأكيد هذا الموقف السلبي في المقررات تجاه الحضارة عبر ضعف حضور القضايا والقيم المدنية من الموضوعات الدينية للمقرر.

إن المقرر يعتبر أن الانبهار بالحضارة المادية من أسباب انحراف العقيدة، أما العلاج الذي يمارسه فهو: تجاهل منجزات هذه الحضارة أو جهدها. والحقيقة أن هذا العلاج يزيد الأمر تعقيدا، إذ إن احتمال تأثير الانبهار الحضاري على الإيمان إنما يعالج بتنظيم الرؤية الصحيحة، لا بتكريس مشاعر الصدام بين الدين والحضارة!

المنهج العلمي.. بين الموضوعية والتهويل

الحقيقة أن المقرر يقدم -في كثير من الأحيان- تفصيلات جيدة في دراسة القضايا، وشروطًا دقيقة لبعض المفاهيم، لكنه يرتبك في أحيان أخرى ويقع في الإجمال أو إهدار الضوابط العامة والأسس الشرعية، كأصل رفع الحرج، أو موانع التكفير، أو اعتبار الأعراف، ونحوها.

بل يجعل المقرر مجرد التضايق من بعض الممارسات التي تصدر من رجال الحسبة، والتي هي -في أغلب الأحوال- لا تعبر عن الدين، بقدر ما تعبر عن اجتهاد شخصي لأفراد الجهاز، ومع ذلك يجعل المقرر التضايق منها ردة عن الإسلام، وكفرًا مخرجًا من الملة!! كما يجعل من أمثلة النفاق المخرج من الملة: (الاستهزاء بالقائمين على أعمال البر).

ومن ظواهر الاضطراب في المنهج العلمي أن المقرر عقد درسا لـ”موانع التكفير” وهي “الجهل، والخطأ، والتأويل، والإكراه”، وقدم فيها مجموعة من التفصيلات والأدلة، إلا أنه في التطبيق العملي يتجاهل بعض موانع التكفير كالجهل والتأويل وعدم القدرة والخطأ والخوف ونحوها، إما بتصريح نظري، أو بشكل تطبيقي؛ وهو ما يترتب عليه وقوع الطالب في خطر التناقض والتطبيق العشوائي لقواعد التكفير والتضليل.

ومن النماذج التي يضطرب فيها المنهج العلمي أيضا ما يقوله المقرر عن ممارسة الأنشطة الأسبوعية كأسبوع الشجرة، وأسبوع المرور، حيث يجعلها فسقا ومعصية، والمشارك فيها آثم؛ لأنها تقليد للكفار.

ومن الخلل في المنهج العلمي، إعطاء العبارات التلقائية والعفوية أبعادا أضخم من حجمها الطبيعي، أو تحميلها بالدلالات الشركية. كما يجعل المقرر مثلا من أنواع الإلحاد من يطلق على الذات الإلهية اسم: “المهندس الأعظم، أو القوة المطلقة”.

ويلاحظ أن كثيرًا من الأحكام التي يضطرب فيها المنهج العلمي وتحمل تعنتا في التفسير تكون مدفوعة في الغالب بقلق عقائدي. كما في موقف المقرر من إضافة النتائج إلى أسبابها.

الخاتمة

إن تحقيق هذا التوازن يتطلب إعادة نظر جذرية في طريقة إعداد المقررات؛ ذلك أن المقررات تعتمد حاليا على مصنفات جرى تدوينها في ظروف المجادلات الفكرية، والمعارك الدينية والسياسية، وقد أدى ذلك إلى وجود اضطراب هائل في تنظيم الأولويات، كما أدى إلى توريط الطالب في نيران معارك فكرية لا حاجة له بدراسة ظروفها وإجاباتها؛ لأنه ببساطة لا ينتمي إليها من جهة، ولأن حججها لا تصل إليه من جهة أخرى، كما أن المقرر لن يحول دون تلقي الطالب لإجابات وحجج أخرى حين يثير تلك المسائل.

وفي المقابل تورطت المقررات في سكوت واسع النطاق عن القضايا التي يثيرها الواقع المعاصر، مثل الحقوق الأساسية للإنسان، والحريات الشرعية، وعرض الفروض الكفائية المتعلقة بمصالح الناس الضرورية والحاجية.

الخطاب الديني.. الوظيفة والأهداف

إبراهيم السكران – عبد العزيز القاسم

23/03/2004

يشكل الدين المكون الأساسي للشخصية، وتتميز الشخصية الدينية للمسلم بعمق التكوين وامتداده؛ فالإسلام يخاطب المسلم برؤية تتناول الجوانب الأساسية للحياة وعالم الغيب والعبادات والآداب؛ الأمر الذي أدى إلى عمق تأثير الخطاب الديني في حياة المسلمين، بيد أن هذا الخطاب قد يتعرض لآفات تنحرف به عن مساره المرسوم له شرعا؛ فقد يأخذ التدين منحى انعزاليا كما حدث لكثير من تيارات التربية والسلوك، وقد تذهب التربية الدينية نحو تعبئة الإنسان في حركة ثورية عارمة كما فعلت تيارات الخوارج. وقد يكون الخلل أقل من ذلك، كتغليب ظاهر النص على معناه ومقاصده كما نَحَت الظاهرية، وقد يبالغ في تغليب المعاني حتى تتناقض مع صريح النصوص كما جرى في التفسير الإشاري والتأويلي للدين الذي ذهبت إليه طوائف من السلوكيين والفلاسفة.

إن تغليب أحد جوانب النص يؤدي إلى إهمال جوانبه الأخرى ويترتب على ذلك تشويه معنى الدين وسلوك المؤمنين بهذا التفسير المتحيز لبعض النصوص، من هنا تأتي أهمية مراجعة توازن الخطاب الديني لإعادته نحو استيعاب مجمل النصوص وفقا لقيم الدين الأساسية ومقاصده الكبرى، حتى لا تتحول المعارك والانفعالات التي أنتجت تفسيرا متحيزا للدين إلى واقع ديني متحيز إلى بعض النصوص على حساب بعض.

لقد ركزنا في مراجعتنا لمناهج العلوم الشرعية في التعليم العام للبنين على مجموعة من وسائل التقويم الفقهية منها:

أولا: قراءةُ استيعابِ مجمل النصوص في القواعد التي يقررها المنهج، خاصة في قضايا العلاقة بالآخرين، بحيث يقرر المنهج القواعد التي تجتمع بها دلالات النصوص بدلا من الانحياز نحو معنى من المعاني الشرعية وإهمال ما يتعلق به من النصوص والمعاني الشرعية مثل التوازن بين موالاة المسلمين وبين تصحيح أخطائهم، والتوازن بين التعلق الوثني بالدنيا وبين عمارتها العمارة الشرعية.

ثانيًا: مراجعة مدى مراعاة المنهج لتدرج أهمية وأولوية الكليات الشرعية؛ فتقرير عصمة الدماء مقدم على بيان دقائق العقوبات التعزيرية التراثية التي ذكرها بعض العلماء في حق المخالفين في المسائل الكلامية الشائكة، والخلل في مراعاة الأولويات يؤدي إلى خلق بيئة تضطرب فيها الحقوق الأساسية تحت ضغط كثرة الاستثناءات الفرعية القليلة والنادرة، ويفتح أبواب الاستخفاف بالدماء والأعراض وغيرها من الحقوق.

ثالثا: قراءة مدى عناية المنهج بتقرير مبادئ العدل، خاصة في الحقوق الشرعية الأساسية للإنسان في التعامل مع الآخرين من المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم، ذلك أن العدل هو أساس العلاقة مع الناس، بل هو مقصد الشريعة الأكبر؛ قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، فإذا تحدث المنهج عن أخطاء المخالفين قبل تقرير قواعد العدل معهم أوشك ذلك أن يخلق سلوكا عدوانيا منفلتا من قواعد العدل التي قامت عليها الشريعة والرسالات.

رابعا: قراءة عناية المنهج بتقرير القواعد الشرعية للتعامل مع الحضارات والمعارف من حيث ضبط قواعد اشتراك الناس في المباح والمعرفة واستدماج النافع المفيد منها ما لم يناقض أصول الشرع ومقاصده، ورد ما يناقض أصول الشريعة ومقاصدها، ومراعاة القواعد التي تضيء للطالب منهجية التعامل مع الحضارة المعاصرة دون توتر وقلق من جهة، ودون خضوع لمنطلقاتها المناقضة للشريعة كتقديس المال، وتجاهل مؤسسة الأسرة.

خامسا: قراءة عناية المنهج بالمشاركة المدنية التي تقدم للمتلقي قنوات التعبير السلمي البناء عن قناعاته ومصالحه، بحيث لا يتركز المنهج على تكوين قناعة المتلقي بالانفصال عن مؤسسات مجتمعه؛ الأمر الذي يؤدي إلى أن ينفرد بمبادرات خارج قنوات المجتمع المشروعة.

سادسا: مراجعة مدى وضوح المنهج في تكوين توازن للمتلقي بين توظيف وسائل البناء المدنية في تحقيق الأهداف، ومراجعة مدى تركيز المقررات في تحقيق الأهداف على المواجهة بمختلف وسائلها.

إن إنجاز تقويم المنهج من خلال هذه المعايير يصعب تنفيذه بدرجة متكاملة، بيد أننا بذلنا من الجهد والوقت في قراءة وتحليل مكونات المنهج ما مكننا من الوصول إلى رؤية واضحة معززة بالنماذج والأمثلة، وقد حاولنا تجاهل الخلل المنفرد لنركز على ما يمكن أن نسميه بالنظريات التي تحرك عناصر المنهج بحيث نستخلص النظرية ثم نقدم نماذج لتطبيقاتها؛ ذلك أن الخلل في الرؤية أكبر خطرا من الأخطاء الجزئية العارضة، بل إن الرؤية الكلية هي التي يخرج بها الطالب في نهاية المطاف من قراءاته الدينية في مناهج التعليم، وهذا يوجب على الباحثين إعادة قراءة المقررات لضمان تحقيقها للتوازن الشرعي في شخصية الطالب، بحيث تتزن لديه التكاليف الشرعية، وتنضبط الحقوق، وتتضح له رؤية دينية سوية متسقة مع أصول الشريعة ومقاصدها.

إن هذا العمل -مراجعة المقررات وضبطها بأصول الشرع- يأتي في ظروف دقيقة، على رأسها حملات الإعلام الغربي ضد بلادنا، وربما أوضحت هذه الدراسة أن تحميل المناهج الدينية مسئولية تحريك العنف المسلح ضد الغرب أمر مبالغ فيه؛ إذ لا يمكن أن تكون السبب الأساسي، ذلك أن أخطاء المناهج الحالية تؤذي علاقة المسلمين بعضهم ببعض أكثر من تحريضها على غير المسلمين، فنحن بحاجة للتصحيح؛ لمصلحتنا أكثر من حاجتنا لتحقيق ما يغضب مراكز القوى، والواجب ألا نستنكف عن إصلاح أخطائنا لمجرد دعوة غيرنا إلى بعض ذلك، وهذا المعنى مقرر في كتاب الله تعالى حين استنكر الكفار على المسلمين القتال في الشهر الحرام فأقرهم القرآن على إنكار الخطأ وأمر المسلمين بتجنبه، والمهم هو أن يتركز الإصلاح لتحقيق مقاصد الشريعة وحماية مصالحنا.

لقد بينت لنا دراسة المقررات أن اضطرابا شديدا يموج بمحتوياتها، في قضايا جوهرية تمس طمأنينة الطالب، وحقوق المسلمين، وأصول التعامل مع غير المسلمين من أهل الكتاب والمشركين، وقواعد التعامل مع المعارف والحضارات، وهو اضطراب يخالف أصول الشريعة، بيد أنه لا يبلغ المدى الذي ادعته حملات وسائل الإعلام الغربية، لكن ذلك لا يمنع من الإقرار بالأخطاء والعمل على إصلاحها، وهذا ما سنوضحه بإيجاز في صفحات هذه الورقة، وسنقترح منهجية معالجة هذا الخلل.

الموقف من المخالف.. بين العدل والتعبئة

إبراهيم السكران – عبد العزيز القاسم

23/03/2004

إن التأسيس لاجتماع إنساني مسلم مستقر يتطلب البدء بالمناهج الدينية لتتضمن تأصيلا مسئولا للقواعد الشرعية الحاكمة لقضايا الاختلاف، مثل: كونية الاختلاف الإنساني، وتعميق الإيمان بالتعددية المشروعة أو المعذورة داخل دائرة الإسلام، وترسيخ التواضع للحق، ونبذ الزهو المذهبي، وتكريس القيم الشرعية للتعايش والمحبة والمودة، وتقرير أخلاقيات إنصاف المخالف واجتناب بخسه حقه أو غمطه ما معه من الصواب، وتعليم النشء وتدريبهم على مراعاة معيار القدرة والوسع الشرعي في الاجتهاد، وبيان أعذار المجتهدين وغير ذلك من قضايا الاختلاف المقررة في الكتاب والسنة وفقه الأمة.

بيد أن واقع مقرراتنا المدرسية لم ينجح في تقديم رؤية متسقة في هذه القضايا، بل كان الاضطراب والتناقض هو السائد فيما عرضته المقررات من أصول وتعليمات. فالمقرر يتحدث -بدقة فقهية- عن الآداب الإسلامية الرفيعة وأخلاقيات التعامل، خاصة في سياقات التقرير النظري، لكنه يعود ليقدم مواقف مناقضة وموهمة في المستوى التطبيقي في حديثه عن التعامل مع المخالفين، وهذا الاضطراب يوقع الطالب في مأزق يصعب معه تكوين موقف فقهي دقيق لدى الطالب يتسق مع القواعد الشرعية؛ الأمر الذي يؤدي إلى اضطراب التكوين الأخلاقي للطالب في موقفه من المخالف، وتكاد تُختزل قواعد الأخلاق لتتحول إلى امتيازات خاصة تقدم للموافق الذي تركت المقررات تحديد أوصافه لمعايير غامضة مضطربة كما سيأتي.

قدمت المقررات نصوصا منضبطة فقهيا، تعرض بعض الآداب العامة وأخلاقيات التعامل، في المستوى النظري، كما يؤكد المقرر مثلا على المبادئ الأخلاقية التالية:

- (عناية الإسلام بتعليم أبنائه الآداب الإسلامية، والأخلاق الرفيعة) مقرر الحديث-الصف الثالث متوسط- 69.

- (وجوب تقوية الروابط بين المسلمين) مقرر الحديث-الصف الثاني متوسط-92.

- (طلاقة الوجه والابتسامة من المعروف والخير، فالمسلم لا يبخل بها على إخوانه المسلمين) مقرر الحديث-الصف الثاني متوسط- 103.

- (ترابط المسلمين وتماسكهم، وإزالة أسباب الخلاف بينهم، من المعروف) مقرر الحديث-الصف الثاني متوسط- 103.

- (حرمة دم المسلم وعرضه) مقرر الحديث-الصف الأول متوسط -82.

- (التحذير الشديد من تكفير المسلم بدون سبب يكفره) مقرر الحديث-الصف الأول متوسط -83.

- (على المسلم أن ينصح أخاه المسلم إذا رأى منه أمرا يخل بالدين، بدل أن يسارع إلى رميه بالكفر) مقرر الحديث- الصف الأول متوسط -84.

- (تكفير المسلم أمر عظيم وخطير، لا يجوز الإقدام عليه إلا إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع) مقرر التوحيد-الصف الثالث ثانوي- القسم الشرعي -32.

- (التكفير حق لله، فلا نكفر إلا من كفره الله ورسوله) مقرر التوحيد-الصف الثالث ثانوي- القسم الشرعي -33.

هذه المبادئ الأخلاقية الشرعية النبيلة تدفع باتجاه التأسيس لتعظيم حقوق المخالف، إلا أن المقرر يعود ليقدم ما يكاد يناقض هذه المبادئ، ويتعارض مع ما قررته قواعد الشريعة حين يتعامل مع المخالفين من علماء الأمة وأتباعهم، ويأتي التعارض حين يقدم المقرر أحكاما مجملة موهمة لا تتفق مع القواعد الفقهية المقررة في الشريعة، وتؤدي في النهاية إلى إرباك الطالب المتلقي وهو في حداثة سنه، وغيابه عن معارك التراث التاريخية التي يعنى بها المتخصصون دون غيرهم من جمهور الأمة.

تقدم المقررات نصوصا تدفع باتجاه تعبئة الطالب في حداثة سنه ضد المخالف المجهول الغائب عنه، بدل تأكيد روابط الإسلام المتينة وحقوق المسلمين العامة، وتقرير قواعد احترام الاجتهاد، وآداب الحوار، وظروف الاختلاف التي تستوجب رفع الملام عن الأئمة الأعلام -كما عبر ابن تيمية- وسنعرض بعض نصوص المقررات المناقضة لقواعد حقوق المسلمين الموهمة لخلاف ما تقرره الشريعة، ومن ذلك:

(الفرق المخالفة من جهمية ومعتزلة وأشاعرة وصوفية حيث قلدوا من قبلهم من أئمة الضلال، فضلوا وانحرفوا) [1]، فهذا النص يختزل أسباب الاختلاف في تقليد أئمة الضلال وقد خلط فئات لا يجوز بحال التسوية بينهم ووصمهم بالضلال والانحراف في مادة تقدم لصغار الطلاب.

ويؤكد أوصاف الضلال والانحراف فيقول:

(قول الفرق الضالة.. المنحرفون عن منهج السلف).

ثم يذكر منهم: (الأشاعرة، والماتريدية) [2]

ويقدم للطالب قواعد تكفيرية مجملة عن الأشاعرة والماتريدية، وكافة المخالفين في تفسير نصوص الصفات الإلهية كقوله:

(من نفى ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله، فقد كفر) [3]، ففي هذا النص عدوان على جمهور علماء الأمة وأتباعهم؛ إذ لا قائل بالتكفير في هذا المقام بنص الإطلاق، وما علاقة الطالب حديث السن بدقائق أحكام التكفير هذه؟! ثم أليس في هذه النصوص تهوين لقواعد تعظيم التكفير وعظيم خطره؟!.

والمقرر يعتبر التحريف كفرًا، ومع ذلك يجعل تأويلات الأشاعرة تحريفًا كما يقول:

(التحريف اللفظي يكون بتغيير الكلمة: بزيادة أو تغيير شكل، كتحريف الأشاعرة…) [4].

ويقول واصفا المخالف الإسلامي بالإلحاد:

(الإلحاد في أسماء الله.. [مثل] أن ينكر شيئًا منها، أو مما دلت عليه من الصفات والأحكام، كما فعل أهل التعطيل…) [5].

(تأويل أسماء الله وصفاته عن ظاهرها، ونفي ما تدل عليه من المعاني الصحيحة، إلحاد فيها) [6]، وفي إطلاق مصطلح الإلحاد في هذا المقام -بهذا الإجمال- ما يؤدي إلى تهوين حقوق المخالف وتصعيد للموقف الفقهي معه دون انضباط علمي!

وتزداد حدة التصعيد مع أقوال المخالفين حين يقول:

(من رد شيئًا من نصوص الصفات، أو استنكره بعد صحته، فهو من الهالكين) [7].

وعَرض بعض ممارسات المسلمين بمبالغة وتهويل تنطلق بالأخطاء إلى مستويات مشبعة بالتضليل، من الطبيعي أن تربك الانضباط الشرعي للطالب مع المخالفين فيقول مثلا:

(الاحتفال بمناسبة المولد النبوي وهو تشبه بالنصارى.. فيحتفل جهلة المسلمين أو العلماء المضلون.. ويحضر جموع كثيرة من دهماء الناس وعوامهم، ولا يخلو من الشركيات والمنكرات.. وقد يكون فيها اختلاط الرجال والنساء مما يسبب الفتنة ويجر إلى الوقوع في الفواحش.. وهو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اغتنى لها الأكالون) [8].

وبعد أن يصنف المقرر هؤلاء المخالفين في خانة المبتدعين دون تفصيل أو تدقيق يقدم قواعد للتعامل معهم تتعارض مع القواعد الشرعية للتعامل مع المخالف التي سبق أن عرض جانبًا منها فيقول:

(تحرم زيارة المبتدع ومجالسته) [9].

ويضع المقرر منهج المفاصلة والعزلة فيقول:

(إياك وصاحب البدعة، فإنه يجرك إلى بدعته، ولا أقل من أن يشوش فكرك، ويؤذي خاطرك).

ثم ينقل في الهامش معلقًا على هذه العبارة:

(للاستزادة في هذه الجزئية، انظر رسالة: هجر المبتدع) [10]، وأقل ما يقال عن هذه الرسالة التي أحال إليها أنها تفتقر إلى الحد الأدنى من قواعد العدل وأخلاق الاختلاف المقررة في الشريعة، بل هي رسالة صدرت في ظروف خاصة من المنافسة ومغاضبة الأقران بعضهم لبعض، وكثيرا ما تكون هذه السياقات مواطن زلل وعدوان، فكيف تكون أساسا يربى عليه صغار الطلاب؟!

كما يشير المقرر إلى بعض التفسيرات العدوانية السلبية غير اللائقة في تفسير سلوك المخالف المسلم، ومن ذلك افتراض التواطؤ في علاقة المخالف بالمستعمر، كما يقول المقرر:

(يجب أن يُعلم أن دول الكفر تشجع المبتدعة على نشر بدعتهم، وتساعدهم على ذلك بشتى الطرق) [11].

وهذا الأسلوب في التشكيك بالمخالف المسلم يسهم في إضعاف أخلاقيات الطالب ويوهن حسن الظن بالمسلمين في وجدان الطالب؛ الأمر الذي قد يحطم ما سبق بناؤه من آداب الاختلاف.

إن انتشار لغة المفاصلة والتضليل والتشكيك تشكل خطرا على تكوين الطالب السوي، بيد أن الأخطر من ذلك هو عرض تاريخ الاختلاف الإسلامي بصورة قد يفهم منها الطالب مشروعية القمع العنيف للمخالف، أو جواز تصفيته جسديا من أجل رأيه في مسائل الخلاف حين تقدم هذه المعلومات لطالبٍ غض الأظفار، بعيدٍ عن إتقان مهارات القضاء وقواعد الإثبات، بما يوهم أن التعامل العنيف مع المخالفين إحدى المهام التي يجب أن يُعنى بها الطالب في حداثة سنه، يقول المقرر مثلا:

(مع طول الزمن والبعد عن آثار الرسالة يحصل كثير من الانحراف، ويخفى كثير من السنن، وينبت كثير من البدع…

وكان الصحابة والتابعون يقفون لهذه الأمور بحزم وعلم، فلم تفلت بل قمعوها، وبينوا الحق وأزالوا الشبهة، وما من بدعة إلا ويقيض الله لها من يردها ويكشف عُوارها وينصر السنة، وما من رأس من رؤوس الضلالة إلا ويقيض الله له من أعلام السنة من يتصدى له ويفضحه، ويرد عليه بدعته ويقيم عليه الحجة..

لما ظهرت نزعات الابتداع الأولى في عهد عمر الفاروق.. قيض الله لها عمر فأقام معوجها بدُرّته المشهورة.. وأدّب الأمة كلها بقطع شجرة الحديبية..

وأدب علي من غلا فيه وحرّقهم بالنار.. وأمر بجلد من فضله على الشيخين..

ولما ظهر من ينفون القدر تصدى لهم متأخرو الصحابة كابن عمر الذي حذر منهم وكشف عوارهم..

ولما أعلن غيلان الدمشقي هذه البدعة تصدى لها التابعون.. فلما أصر على بدعته قتله هشام بن عبد الملك..

وضحى الأمير خالد بن عبد الله القسري بالجعد بن درهم..

وهكذا كلما كثرت حشود البدعة تصدت لهم جحافل السنة..

ولما احتشدت حشود الأهواء.. قيض الله لهم إمام السنة وقامع البدعة، الإمام أحمد بن حنبل، فكسرهم كسرة لم ينهضوا بعدها إلا متعثرين بحمد الله..

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية مجاهدًا بعلمه ولسانه لأهل الكلام والفلاسفة والصوفية، وغيرهم من جحافل البدع الذين تصدى لهم..

ولا تزال آثاره ومؤلفاته مرجعًا لكل صاحب سنة، وقذى في عين كل صاحب بدعة…)[12].

فهذا العرض التمجيدي للتعامل العنيف مع المخالف شديد الخطورة على نفسية الطالب حيث قد يوحي بتأييد ضمني لما انطوت عليه من ظروف شائكة يصعب عليه فهم دقائقها وضوابط التعامل معها؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى انهيار حرمة الدماء والنفوس في وجدان الشاب فيشعر بهوان النفوس ومشروعية القتل وإزهاق الأرواح، خصوصا إذا انضاف إلى ذلك تقديم هذه الوسائل للطالب على أنها هي دعائم إقامة الدين والحفاظ عليه، فيتصور أن تعميق الهوية الإسلامية يتم من خلال الوسائل العقابية كما يقول المقرر:

(مصلحة الدين فوق كل مصلحة.. من رحمة الله أنْ شرع طرقًا كثيرة للمحافظة على الدين، منها:

1. الأمر باجتناب المعاصي، ومعاقبة مقترفيها.

2. محاربة الابتداع في الدين، ومعاقبة المبتدعين والسحرة وأمثالهم.

3. قتل المرتدين والزنادقة.

4. الجهاد…) [13].

يقرر هذا النص صورة عن الدين توهم الطالب بأن حفظ الدين يتم عبر سلسلة من العقوبات، متجاهلا أن حماية الدين الأساسية تقوم على البرهان وجلال الله تعالى وفطرة الله التي فطر الناس عليها والقسط، والشورى، والرحمة… أما العقوبات فهي في الشريعة تجري وفق نظام خاص لا يمكن إقحام الطالب فيه دون دراية بمجموعة كبيرة من القواعد التي تعرض الأمر بصورة دقيقة، وبغير ذلك قد يتسلل إلى فهم الطالب تصورات تختزل التعامل مع الناس عبر سلاسل من العقوبات والممارسات العنيفة.

كما يدعو المقرر إلى تعميق الكراهية ضد المسلم المقصر بينما كان الواجب نشر الحب والمودة، فحين تكلم عن أحكام البغض لوجه الله، قال في شرح ذلك:

(أبغض في الله: أي أبغض المخالفين والمعرضين عن أوامر الدين الصحيح) [14].

بل ويدعو إلى تجاوز الكراهية إلى المعاداة كما يقول:

(العصاة أصحاب الكبائر من المؤمنين.. فيوالَون لما فيهم من الإيمان، ويعادَون لما فيهم من المعاصي.. وهجرهم.. ردعًا لهم وتوبيخاً) [15].

وكان المفترض بث الروح الإسلامية وتأكيد الأخلاقيات النبوية مع المقصر كالمودة واللباقة وأدب الحديث والملاطفة، فلم يكن من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم إعلان العداوة على المقصرين من أصحابه بنسبة تقصيرهم، بل كان يبادر إلى الإعذار، ويدعم المعنويات ويتلطف في إيصال عتابه، كما قال أنس بن مالك: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبّابًا ولا فحّاشًا ولا لعّانا. كان يقول لأحدنا عند المعتبة: (ماله؟ تَرِب جبينه) [16].

أما التثريب على المقصرين فمخالفٌ للهدي النبوي حتى لو ارتكب المقصر كبيرة من الكبائر، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أَمَة أحدكم فليجلدها الحد، ولا يثرّب عليها)[17].

وفي الوقت الذي لفت المقرر انتباه الطالب إلى خطورة التكفير، جازف أحيانًا برسم صور تكفيرية شمولية عن العالم الإسلامي، يقول:

(قد حدث في هذه الأمة من الشرك والمبادئ الهدامة والنِّحَل الضالة ما خرج به كثير من الناس عن دين الإسلام، وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله) [18] و(فشا الجهل في القرون المتأخرة، ودخلها الدخيل من الديانات الأخرى، فعاد الشرك إلى كثير من هذه الأمة، بسبب دعاة الضلال، وبسبب البناء على القبور، متمثلاً بتعظيم الأولياء والصالحين، وادعاء المحبة لهم؛ حتى بنيت الأضرحة على قبورهم، واتخذت أوثانًا تعبد من دون الله بأنواع القربات من دعاء واستغاثة وذبح ونذر لمقاماتهم)[19]، و(إن ما ينذره جهلة المسلمين من نذور للأولياء والصالحين من أموات المسلمين، كأن يقول: يا سيد فلان إن رزقني الله كذا، أجعل لك كذا.. فهو شرك أكبر) [20].

ومع هذه الصور الموهمة التي تحمل تكفيرا مجملا يلقي المقرر الكثير من عبارات إهدار الدماء واستباحة الممتلكات، وينثرها بين ثنايا المقرر بشكل فوضوي غير منظم المعنى والمعايير كما يقول:

(الشرك الأكبر يبيح الدم والمال) [21].

ويعود أيضًا ليؤكد:

(المشرك حلال الدم والمال) [22].

وحتى لو كان المتهم بالشرك من جهلة المسلمين يقرر المنهج إهدار دمه واستباحة ماله فيقول المقرر:

(الذي يقول لا إله إلا الله، ولا يترك عبادة الموتى والتعلق بالأضرحة لا يحرم ماله ولا دمه) [23].

بل يتجاوز المقرر ذلك إلى تقرير مشروعية استرقاق أهالي المخالفين. يقول المقرر، وبلغة توحي بالتحريض: إن الذي وقع في الشركيات فإن الله قد: (أباح دمه، وماله، وأهله، لأهل التوحيد، وأن يتخذوهم عبيدًا لهم، لما تركوا القيام بعبوديته) [24].

هذه النصوص تجازف بأحكام كبيرة، منثورة بعبارات تفتقر إلى الحد الأدنى من الدقة الفقهية، والتناسب مع مستوى الطالب ومهامه المنتظرة منه تجاه تلك الانحرافات التي يحرضه المقرر ضد أصحابها.

إن المقررات المدرسية تزداد اضطرابا حين تتناول الاتجاهات الفكرية المعاصرة، حيث يتضاعف حجم المجازفة في العبارات التكفيرية بهدف تعبئة الطالب ضد هذه الاتجاهات، ولنأخذ نموذجًا على ذلك:

يؤمن الكثير من المفكرين والمثقفين في العالم العربي بأهمية الوحدة العربية، وتمتين الروابط القومية، وما يتبع ذلك من تبادل اقتصادي، ومواقف سياسية، وعلاقات ثقافية، وهموم مشتركة، وانبثق عن ذلك مجموعة من المشروعات: كالجامعة العربية، ومراكز البحوث المتخصصة بتطوير الثقافة العربية، والمطبوعات المعنية بهموم العالم العربي وغير ذلك، وقد بالغ المقرر في التصوير السلبي للدعوات القومية حيث وصفها بأنها:

(دعوة جاهلية إلحادية، تهدف إلى محاربة الإسلام، والتخلص من أحكامه وتعاليمه)[25].

ويقول:

(الفكر القومي يسقط الدين من اعتباره.. بل إنه يعتبر الدين عائقًا في سبيل القومية)[26].

ولذلك حكم عليها بكل قطعية وحدةً بقوله:

(الانتماء للأحزاب الجاهلية والقوميات العنصرية كفر وردة عن دين الإسلام) [27].

ويؤكد كذلك:

(لا شك أن الفكرة القومية ردة إلى الجاهلية) [28].

والسؤال الآن:

كيف يستطيع الطالب استيعاب هذا التناقض الحاد بين مبدأ خطورة التكفير وتطبيق هذه المجازفات التكفيرية غير المسئولة؟

بل يتجاوز الأمر التصعيد مع القومية العربية إلى تصوير النزعة الوطنية كعقوبة لأي مجتمع يرتد عن الإسلام كما يقول المقرر:

(العالم الإسلامي أصبح بعد ما غزته أوربا سياسيا وثقافيا يخضع لهذه العصبيات الدموية، والجنسية، والوطنية.. والواجب أن يعلم أن هذه الحزبيات عذاب بعثه الله على من أعرض عن شرعه وتنكر لدينه) [29].

كما يقدم المقرر نماذج أخرى من التصعيد فيما يتعلق بالنظريات العلمية المعاصرة في الاقتصاد والسياسة والقانون وغيرها، ولنأخذ نموذجا على ذلك:

تعتبر الرأسمالية نظرية اقتصادية تقوم على فكرة الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، وتحرير الأسواق وغيرها، وقد مرت بتطورات متتالية يتعدد فيها المد والجزر لمحددات النظرية ومستوى الحرية الاقتصادية فيها؛ وهو ما تولد عنه عدة مدارس رأسمالية، والمبشرون بالنظرية تختلف انتماءاتهم الدينية، لكنهم يشتركون في القناعة بمركزية الملكية وقوانين السوق في المسألة الاقتصادية، ومع ذلك فقد اعتبر المقرر الديني أن أي مسلم يتبنى النظرية الرأسمالية فهو منافق نفاقًا أكبر مخرجًا من الملة حتى لو أعلن انتماءه للإسلام، كما يقول:

(الانتماء إلى المذاهب الإلحادية كالشيوعية والعلمانية والرأسمالية وغيرها من مذاهب الكفر ردةٌ عن دين الإسلام، فإن كان المنتمي إلى تلك المذاهب يدعي الإسلام فهذا من النفاق الأكبر، فإن المنافقين ينتمون إلى الإسلام في الظاهر، وهم مع الكفار في الباطن) [30].

وبعد هذه المجازفات التكفيرية التي لا نصيب لها من الموضوعية والدقة يواصل وصف من يتبنى مثل هذه النظريات بقوله:

(فهؤلاء المنافقون المخادعون، لكل منهم وجهان: وجه يلقى به المؤمنين، ووجه ينقلب به إلى إخوانه الكافرين، وله لسانان: أحدهما يقبله بظاهره المسلمون، والآخر يترجم عن سره المكنون..

قد أعرضوا عن الكتاب والسنة استهزاءً بأهلهما واستحقارا، وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحًا بما عندهم من علم لا ينفع الاستكثار منه إلا أشرًا واستكبارًا، فتراهم أبدًا بالمتمسكين بصريح الوحي يستهزئون.. وهذه المذاهب الإلحادية مذاهب متناحرة لأنها مؤسسة على الباطل…) [31].

والحقيقة أن هذه المبالغة التكفيرية كافية لهز كل الكلام النظري الذي قدم للطالب عن خطر التكفير وقيمة العدل في الموقف من المخالف.

ويحاول المقرر الديني في مواضع أخرى المبالغة في تضييق أشكال العلاقة بغير المسلم، وإبراز جوانب العداوة، وتعميم أحكام المحاربين، وعدم السعي إلى إبراز الجوانب الإنسانية في مبادئ الشريعة، فيقول المقرر مثلا:

(الشرك الأكبر يوجب العداوة الخالصة بين صاحبه وبين المؤمنين، فلا يجوز للمؤمنين محبته وموالاته ولو كان أقرب قريب) [32].

وهذه العبارة نقلت من بعض المصادر المولودة في ظروف استثنائية، ولا تصلح قاعدة عامة لمناقضتها جملة من الأسس الشرعية، منها أن الشريعة تفرق بين الحب الجِبلِّي أو الطبيعي كحب الوالد لولده، والزوج لزوجه، والصديق لصديقه وهذا لا حيلة فيه، وبين الحب الديني الذي يعني الرضا بحال الكافر وكفره، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان عمه المشرك أبو طالب يحوطه وينصره ويدفع عنه؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يحبه محبة الرحم، وقد أخبرنا الله عما قام بقلب رسوله من هذا الحب الطبيعي لعمه فقال: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) [33].

وقد استوعب كثير من فقهاء الإسلام هذا التفصيل، ولذلك قال البخاري في صحيحه:

(باب: صلة الوالد المشرك).

وأورد فيه حديث أسماء أنها قالت: أتتني أمي وهي راغبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: أأصلها؟ قال نعم، قال ابن عيينة: فأنزل الله تعالى فيها {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}.

ثم عقد البخاري بابا يليه فقال:

(باب: صلة الأخ المشرك)، وأورد فيه حديث عمر أنه أهدى حُلّة سيراء [34] إلى أخ له كافر من أهل مكة[35].

ولذلك كان بعض فقهاء الإسلام يرون مشروعية إهداء المعارف والأقارب من غير المسلمين؛ فقد قال الإمام النووي معلقا على الحديث السابق: (وفيه صلة الأقارب والمعارف وإن كانوا كفارا)[36].

بل حتى الوالد الكافر الداعية للشرك أمرنا الله بالإحسان إليه، ولذلك فإن أم سعد بن مالك لما حاولت صد ولدها عن الإسلام بإضرابها عن الطعام، قال لها سعد: (لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني)، ومع ذلك عاتبه الله تعالى، وأرشده إلى المعاملة بالمعروف حتى لو كان الوالد داعية للكفر؛ فقال تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}.

وحتى لو توفي القريب على الكفر فإنه يجوز للمسلم زيارة قبره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي) [37].

وهكذا فإن الشريعة لم تحكم بـ(العداوة الخالصة) لكل من وقع في الشرك ولو كان أقرب قريب، بل جعلت للأمر تفصيلا؛ فالعداوة للمعتدي، والإحسان للمسالم.

ومن نماذج تعميم أحكام المحاربين ما يقوله المقرر مثلا: (ومحبة الله لها علامات تدل عليها.. ومنها: العزة على الكافرين بأن يظهروا لهم الغلظة والشدة والترفع عليهم) [38].

وهذا الإيهام بشمولية الغلظة والعنف لجميع الكفار، من العبارات المرسلة التي قد لا يخطر ببال واضع المقرر آثارها الجانبية وانعكاساتها، فإن القرآن خص الغلظة بالمعتدين، وأمر باللين والإحسان والقسط مع غير المعتدي.

بل لقد أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى التأدب حتى في مقابلة إساءات الكفار، فإن اليهود لما آذوا النبي بتحيتهم المليئة بالكيد الخفي، أثار ذلك حفيظة عائشة فأغلظت لهم القول، فنهاها صلى الله عليه وسلم، وسمى ردها عنفًا، وأمرها بالاحتشام والترفق في رد الإساءة، تقول عائشة: إن يهودًا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: عليكم، ولعنكم الله، وغضب الله عليكم، قال: (مهلا يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش)، قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: (أولم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم فيّ) [39].

فقد كانت معاملة النبي صلى الله عليه وسلم معاملة داعية، يستحضر أهمية الإحسان والرفق في تقريب القلوب؛ لذلك امتلأت سيرته بصور متنوعة من العلاقات الاجتماعية، وقد تأثر أهل الحديث بهذه الصور ونقلوها لمصنفاتهم، ولذا عقد البخاري في كتاب المرضى بابًا سماه: (باب عيادة المشرك) وأورد فيه حديث أنس (أن غلامًا ليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده…) [40].

وقد استحضر الإمام أبو داود الحديث السابق، وبوّب عليه في سننه بعنوان: (باب في عيادة الذمي) [41].

نستخلص مما تقدم أن المقرر لم يعِ أصول الاختلاف وقواعد التعامل مع المخالفين وعلى رأسها:

1. أن الاختلاف سنة كونية: فلا يمكن لأي منظومة فكرية مهما أوتيت من الإمكانيات ووسائل الاتصال وقدرات التغيير أن تقضي على الاختلاف البشري أو توحد اتجاهات الإنسانية أو تحمل الناس على مسار واحد. ذلك أن الاختلاف سنة كونية ملازمة للحياة الإنسانية كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [42]، وسيبقى هذا الاختلاف كما قال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [43].

ولما بعث الله الرسل وأنزل معهم الشرائع لم يبين فيها إلا القواعد العامة التي يحتاجها الناس في حياتهم، وبعض التفاصيل الثانوية، ولم يشأ الله تعالى أن يحسم كل مظاهر الاختلاف البشري، بل بيّن بعض ما يختلف الناس فيه وأعرض عن بعض كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [44]، وقال تعالى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [45].

فاقتضت حكمة العليم القدير أن تبقى مفاوز ظنية مفعمة بالاحتمال، يذهب الناس في تفسيرها كل مذهب، وتَطَلّب القطع في هذه المساحات لونا من تكلف المحال، وستبقى مساحة من النص الديني لا يمكن القطع بتفسيرها قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}[46] وستبقى شريحة من الأحكام الشرعية لا يتمكن كثير من الناس إلى حكم جازم فيها؛ قال صلى الله عليه وسلم: (الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس) [47].

2. تعميق الإيمان بالتعددية: بما يعني الإقرار بالاختلاف ومسئولية الإنسان عن حرية اختياره؛ قال تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [48]، وقال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [49]. فإذا كان ذلك في أصل الدين المقطوع به فكيف بالقضايا النسبية والظنية؟!

3. نبذ الزهوّ المذهبي: عبر تعميق أخلاقيات التواضع الفكري، خصوصا في القضايا الظنية التي تتجاذبها الأدلة؛ فبعض التيارات الفكرية تتشبع بوثوقية مطلقة تحملها على تَنَقّص المخالف والشعور بأن الآخرين ليسوا على شيء، وتلك من سمات أهل الكتاب التي حذرنا الله منها؛ فقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ}[50].

بل يصل الزهو المذهبي ببعض أتباع المذاهب الفكرية إلى تصوير قدرهم الكوني في كونهم ولدوا بهذه البقعة أو تلك، على أنه أشبه باصطفاء رباني حيث أنعم الله عليهم أن ترعرعوا في أرض الحقيقة، وغيرهم حائر بين ألوان الضلال، إلى درجة توهم بمزيد الاختصاص بالله ودينه، وتلك أيضاً من انحرافات أهل الكتاب التي حذرنا الله منها بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [51]، ولذلك لما افتخر الصحابة واليهود وادعى كل فريق اختصاصه بالله عاب الله الفريقين، وبيّن أن الشأن ليس بالأمنيات والمفاخرة فقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءً يُجْزَ بِهِ} [52]، قال ابن كثير: (روي أن هذه الآية لما نزلت شقّ ذلك على كثير من الصحابة) [53]، وإضافة إلى ما في الزهو المذهبي من بغي على الآخرين وغمط لهم فإنه يتحول إلى عائق يحرم من تصحيح رأيها والتناصح بين أبنائها.

4. تكريس قيم التعايش: بدلاً من تضخيم مشروعية قمع المخالف، ذلك أن الاختلاف سنة كونية كما سبق التأكيد، وسيبقى ما بقي الناس، كما احتضن المجتمع الإسلامي في تاريخه المديد شتى أنواع الطوائف والملل، فضلاً عن خلافات الداخل الإسلامي.

5. عدم بخس المخالف: بما يعني الإقرار بما معه من الحق، وعدم غمطه ما معه من الصواب الذي يحمله؛ ذلك أن أكثر ما يقع بسببه الاختلاف هو بغي كل فريق على الآخر، ورَدّ الحق الذي معه بسبب ما خالطه من الباطل، وكان المفترض فرز المضمون الذي يقدمه كل اتجاه وعدم أخذه كله أو رده كله، قال ابن تيمية: (عامة ما تنازع فيه الناس يكون مع هؤلاء بعض الحق، وقد تركوا بعضه، وكذلك مع الآخرين، ولا يشتبه على الناس الباطل المحض، بل لا بد أن يشاب بشيء من الحق؛ فلهذا لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فإنهم هم الذين آمنوا بالحق كله، وصدقوا كل طائفة فيما قالوه من الحق) [54]

6. مراعاة الوسع: وذلك عبر بث الوعي بأن المعيار الشرعي هو استفراغ الوسع وبذل الجهد في الوصول إلى الحق، فإن نجح الإنسان في الوصول للحقيقة ضوعف له الثواب، وإن أخفق كوفئ بما بذله من الجهد، ولذلك فكافة المختلفين الذين بذلوا وسعهم دائرون بين الأجر والأجرين، ولذلك قال ابن تيمية: (إذا أريد بالخطأ الإثم، فليس المجتهد بمخطئ، بل كل مجتهد مصيب) [55].

——————————————————————————–

[1] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي – 12.

[2] مقرر التوحيد – الصف الثاني ثانوي – القسم الشرعي – 37.

[3] مقرر التوحيد – الصف الثاني ثانوي – القسم الشرعي (38).

[4] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (59).

[5] مقرر التوحيد – الصف الثاني ثانوي – القسم الشرعي (32).

[6] مقرر التوحيد – الصف الثالث متوسط (36).

[7] مقرر التوحيد – الصف الثالث متوسط (36).

[8] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (126).

[9] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (130).

[10] مقرر الحديث – الصف الأول ثانوي (64).

[11] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (130).

[12] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (15-17).

[13] مقرر الفقه – الصف الأول ثانوي (10).

[14] مقرر التوحيد – الصف الثاني متوسط (105).

[15] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (86).

[16] رواه البخاري (6031).

[17] رواه مسلم (1703).

[18] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (18).

[19] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (10).

[20] مقرر التوحيد – الصف الأول متوسط (94).

[21] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (15).

[22] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (12).

[23] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (18).

[24] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (13).

[25] مقرر الحديث – الصف الثاني ثانوي – القسم الشرعي (206).

[26] مقرر الحديث – الصف الثاني ثانوي – القسم الشرعي (205).

[27] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (74).

[28] مقرر الحديث – الصف الثاني ثانوي – القسم الشرعي (206).

[29] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (74).

[30] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (73).

[31] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (73).

[32] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (15).

[33] سورة القصص (56).

[34] سيراء: أي منسوجة حرير.

[35] رواه: البخاري (5981)، مسلم (2068).

[36] شرح النووي على صحيح مسلم، (14/282).

[37] مسلم(976).

[38] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (41).

[39] رواه البخاري (6030).

[40] صحيح البخاري (5657).

[41] سنن أبي داود (3095).

[42] سورة يونس 19.

[43] سورة هود 119.

[44] سورة الزخرف 63.

[45] سورة النحل 76.

[46] سورة آل عمران 7.

[47] رواه: البخاري 52، مسلم 1599.

[48] سورة يونس 99.

[49] سورة البقرة 256.

[50] سورة البقرة 113.

[51] سورة المائدة 18.

[52] سورة النساء 123.

[53] تفسير ابن كثير (2/380).

[54] مجموع الفتاوى ( 8/37).

[55] مجموع فتاوى ابن تيمية (13/124).



المقررات.. والموقف من الواقع

إبراهيم السكران – عبد العزيز القاسم

23/03/2004

الشاب المتدين بحاجة إلى رؤية واضحة لمشروعية الاندماج الاجتماعي، خصوصًا المحافظة على مشروعية المجتمع ومؤسساته؛ ذلك أن اهتزاز الشرعية يوهن دوافع المشاركة والانتماء لديه فتأخذ في الانكماش، وتتزايد النزعة السلبية حتى يصل إلى إيثار الهروب والانسحاب من مسئولياته الاجتماعية بحثا عن تحقيق التطهر والنقاء من الامتزاج بفساد الواقع الذي جرى تصويره له، وقد يلجأ الشاب إلى إعلان المواجهة والصدام كتعبير عن الاحتجاج بدلا من المشاركة الإيجابية الفاعلة.

يقدم المقرر أحيانا الدعوة إلى الالتحام بالمجتمع والاندماج بمؤسساته، ويوضح أهمية ذلك في نهضة الأمة، ويحثّ الشاب على أن يكون عضوا فاعلا متفائلا، ويقدم صورة إيجابية عن الواقع، كما يصف المجتمع بقوله مثلا:

(فهو بلد الإسلام الذي وُلد فيه [الشاب]، وعلى أرضه نشأ…، وليحذر أن يكون آلة يستخدمها الأعداء لهدم الأمة من داخلها، والإفساد في الوطن) مقرر الحديث – الصف الثاني ثانوي – القسم الشرعي-71.

ويقول: (على الشاب أن يعلم أن أمته هي خير أمة…) مقرر الحديث – الصف الثاني ثانوي – القسم الشرعي-71.

ويقول: (صور استغلال الوقت، منها… التفكير في مصالح نفسك، ومصالح وطنك وأمتك، والعمل النافع المنتج..). مقرر الحديث – الصف الأول ثانوي -49.

ونحو هذه التصورات الإيجابية التي تدفع باتجاه تعميق الانتماء، وخلق دوافع المشاركة، عبر تأكيد المشروعية وإبراز جوانب الخير التي يفيض بها المجتمع، إلا أن المقرر يضطرب مرة أخرى فيقدم صورة قاتمة عن المجتمع ومؤسساته، ويبالغ في تصوير الانحراف، وفي تهويل الانحطاط، بما يربك التوازن النفسي للطالب، فيبالغ مثلا في تصوير طغيان الشركيات، وغرق العالم الإسلامي في البدع، وانحلال أخلاق المجتمع، حين يقول:

(غالب الناس من المسلمين قلدوا الكفار في عمل البدع والشركيات) [1].

(حدث في هذه الأمة من الشرك، والمبادئ الهدامة، والنحل الضالة ما خرج به كثير من الناس عن دين الإسلام وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله)[2].

(عاد الشرك إلى كثير من هذه الأمة) [3].

(الغلو في الأولياء والصالحين.. كما هو الحاصل من عبّاد القبور اليوم في كثير من الأمصار) [4].

(البدع المعاصرة كثيرة، بحكم تأخر الزمن، وقلة العلم، وكثرة الدعاة إلى البدع والمخالفات) [5].

(مع طول الزمن، والبعد عن آثار الرسالة، يحصل كثير من الانحراف، ويخفى كثير من السنن، وينبت كثير البدع) [6].

(لقد تهاون كثير من المسلمين اليوم مع الأسف بالتمسك بدينهم، والاعتزاز به، والدعوة إليه، فانحلت أخلاقهم، وشاعت بينهم الموبقات، ومالوا إلى الأهواء)[7].

(إذا تأملت حال أكثر الناس، وجدتهم بعد ذلك ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم، ومن هاهنا انقطعوا عن الله) [8].

والحقيقة أن مثل هذه المبالغة في تصوير الانحراف تهزّ انتماء الطالب لعالمه الإسلامي، وقد تمزق شعوره بروابطه الروحية تجاهه، ذلك أن اختزال المجتمع في بعض السلبيات والمخالفات يقضي على أي معنى للمشاركة والانتماء.

ويؤكد مشاعر السلبية أن المقرر أحيانا يتهور في إطلاق بعض الأوصاف التي تحمل قدرا من التهويل ضد المؤسسات الاجتماعية، كمؤسسات التعليم والإعلام ونحوها، فيقول مثلا:

(أصبحت مناهج التعليم في الغالب لا تولي جانب الدين اهتمامًا كبيرًا، أو لا تهتم به أصلاً)[9].

وفي هذا التقييم لمكانة العلوم الشرعية داخل البرنامج التعليمي إجحاف بارز، أو يشير إلى أن النظام التعليمي لا يمنحها الوقت الكافي كما يقول:

(سبل التوقي من الانحراف: العناية بتدريس العقيدة الصحيحة.. في مختلف المراحل الدراسية، وإعطاؤها الحصص الكافية من المنهج) [10].

ويبالغ المقرر أيضا في تصوير الخلل والثغرات التي يرتكبها الإعلام فيجعلها منسلخة عن العقيدة، منحلة الأخلاق في جميع وسائل الإعلام، سواءً كانت تلفزة، أم إذاعة، أو صحافة، حيث يقول المقرر:

(أصبحت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في الغالب أداة تدمير وانحراف، أو تعنى بأشياء مادية أو ترفيهية، ولا تهتم بما يقوّم الأخلاق، ويزرع العقيدة الصحيحة، ويقاوم التيارات المنحرفة)[11].

(بعض وسائل الإعلام المشبوهة)[12].

(الأخبار التي ترد عن الفسقة في هذه الأيام، وخاصة تلك الصادرة عن الإذاعات الأجنبية، أو الصحف، أو المجلات المنحرفة، أو وكالات الأنباء الحاقدة، ومن واجبنا عدم الاستماع إليها، أو تصديقها)[13].

كما يقدم للطالب قواعد خطرة حول تكفير الأنظمة والحكومات معزولة عن ضوابط التطبيق فيقول:

(إذا حكم حكمًا عاما في دين المسلمين بأن بعض القوانين جائر.. فهو كفر ناقل عن الملة، وإن قالوا: أخطأنا وحكم الشرع أعدل) [14].

أو يتحفظ على إطلاق وصف الإسلام:

(لا بد من الحكم بما أنزل الله والتحاكم إليه.. في سائر الحقوق، لا في الأحوال الشخصية فقط، كما في بعض الدول التي تنتسب إلى الإسلام)[15].

وهكذا فمن الخطورة تسليط الأضواء على نقاط الضعف في المجتمع، وثغرات الواقع وعرضها بصورة مكبرة؛ لما تخلقه هذه الصورة السوداوية من آثار على الحيوية الإصلاحية للطالب؛ فللإنسان طاقة نفسية محددة، تتلاشى بقاياها حين يشعر الشاب أن الخرق اتسع على الراقع، وأنه لا فائدة من محاولة التغيير، وتصبح أفضل وسيلة للمحافظة على الدين هي الاعتزال داخل دوائر محدودة، يتشارك فيها فتية آمنوا بربهم وسط هموم الغربة ووحشة الطريق.

وفضلا عن الحيوية الإصلاحية، فإن المبالغة في تصوير فساد الزمان وانحلال الأخلاق يؤدي إلى انهيار معنويات التدين ذاتها، حيث تتساقط دوافع الخير في وجدان الشاب حين نحاول إشعاره بأن المجتمع أغلبه على هذه الشاكلة، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى مخاطر هذه الحالة النفسية حين قال: (إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم) [16].

كما كان صلى الله عليه وسلم يحذر من تنمية مشاعر التوجس والارتياب في تفكير الإنسان تجاه مجتمعه؛ لأن ذلك يزيد من مستوى الانحراف الاجتماعي ذاته، كما قال صلى الله عليه وسلم محذرا معاوية: (إنك إذا اتبعت الريبة في الناس أفسدتهم) [17].

ليس من مصلحة المجتمع المسلم أن يوسع الفجوة بينه وبين شبابه، أو أن يضخ فيهم الغربة عنه وغياب الأرضيات المشتركة، حتى أصبح البعض يستعذب المخالفة، ويستمتع بحجم التباين الذي أصبح يمنحه شيئا من الفرادة يحقق بها ذاته ويشبع بها وجوده!

وأي خسارة أكبر من أن تستنزف الطاقات الشابة إمكانياتها في تكريس الفوارق والاختلاف؟!
——————————————————————————–
[1] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (121).
[2] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (18).
[3] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (10).
[4] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (12).
[5] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (126).
[6] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (15).
[7] مقرر التفسير – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (139).
[8] مقرر الحديث – الصف الثاني ثانوي – القسم الشرعي (191).
[9] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (13).
[10] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (14).
[11] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (13).
[12] مقرر الحديث – الصف الأول ثانوي (99).
[13] مقرر التفسير – الصف الأول ثانوي (96).
[14] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (72).
[15] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (70).
[16] رواه مسلم (2623).
[17] رواه: أبو داود(4888)، البخاري في الأدب المفرد(248)، قال الألباني: صحيح، صحيح الأدب(110).



المقررات.. والموقف من الواقع

إبراهيم السكران – عبد العزيز القاسم

23/03/2004

الشاب المتدين بحاجة إلى رؤية واضحة لمشروعية الاندماج الاجتماعي، خصوصًا المحافظة على مشروعية المجتمع ومؤسساته؛ ذلك أن اهتزاز الشرعية يوهن دوافع المشاركة والانتماء لديه فتأخذ في الانكماش، وتتزايد النزعة السلبية حتى يصل إلى إيثار الهروب والانسحاب من مسئولياته الاجتماعية بحثا عن تحقيق التطهر والنقاء من الامتزاج بفساد الواقع الذي جرى تصويره له، وقد يلجأ الشاب إلى إعلان المواجهة والصدام كتعبير عن الاحتجاج بدلا من المشاركة الإيجابية الفاعلة.

يقدم المقرر أحيانا الدعوة إلى الالتحام بالمجتمع والاندماج بمؤسساته، ويوضح أهمية ذلك في نهضة الأمة، ويحثّ الشاب على أن يكون عضوا فاعلا متفائلا، ويقدم صورة إيجابية عن الواقع، كما يصف المجتمع بقوله مثلا:

(فهو بلد الإسلام الذي وُلد فيه [الشاب]، وعلى أرضه نشأ…، وليحذر أن يكون آلة يستخدمها الأعداء لهدم الأمة من داخلها، والإفساد في الوطن) مقرر الحديث – الصف الثاني ثانوي – القسم الشرعي-71.

ويقول: (على الشاب أن يعلم أن أمته هي خير أمة…) مقرر الحديث – الصف الثاني ثانوي – القسم الشرعي-71.

ويقول: (صور استغلال الوقت، منها… التفكير في مصالح نفسك، ومصالح وطنك وأمتك، والعمل النافع المنتج..). مقرر الحديث – الصف الأول ثانوي -49.

ونحو هذه التصورات الإيجابية التي تدفع باتجاه تعميق الانتماء، وخلق دوافع المشاركة، عبر تأكيد المشروعية وإبراز جوانب الخير التي يفيض بها المجتمع، إلا أن المقرر يضطرب مرة أخرى فيقدم صورة قاتمة عن المجتمع ومؤسساته، ويبالغ في تصوير الانحراف، وفي تهويل الانحطاط، بما يربك التوازن النفسي للطالب، فيبالغ مثلا في تصوير طغيان الشركيات، وغرق العالم الإسلامي في البدع، وانحلال أخلاق المجتمع، حين يقول:

(غالب الناس من المسلمين قلدوا الكفار في عمل البدع والشركيات) [1].

(حدث في هذه الأمة من الشرك، والمبادئ الهدامة، والنحل الضالة ما خرج به كثير من الناس عن دين الإسلام وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله)[2].

(عاد الشرك إلى كثير من هذه الأمة) [3].

(الغلو في الأولياء والصالحين.. كما هو الحاصل من عبّاد القبور اليوم في كثير من الأمصار) [4].

(البدع المعاصرة كثيرة، بحكم تأخر الزمن، وقلة العلم، وكثرة الدعاة إلى البدع والمخالفات) [5].

(مع طول الزمن، والبعد عن آثار الرسالة، يحصل كثير من الانحراف، ويخفى كثير من السنن، وينبت كثير البدع) [6].

(لقد تهاون كثير من المسلمين اليوم مع الأسف بالتمسك بدينهم، والاعتزاز به، والدعوة إليه، فانحلت أخلاقهم، وشاعت بينهم الموبقات، ومالوا إلى الأهواء)[7].

(إذا تأملت حال أكثر الناس، وجدتهم بعد ذلك ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم، ومن هاهنا انقطعوا عن الله) [8].

والحقيقة أن مثل هذه المبالغة في تصوير الانحراف تهزّ انتماء الطالب لعالمه الإسلامي، وقد تمزق شعوره بروابطه الروحية تجاهه، ذلك أن اختزال المجتمع في بعض السلبيات والمخالفات يقضي على أي معنى للمشاركة والانتماء.

ويؤكد مشاعر السلبية أن المقرر أحيانا يتهور في إطلاق بعض الأوصاف التي تحمل قدرا من التهويل ضد المؤسسات الاجتماعية، كمؤسسات التعليم والإعلام ونحوها، فيقول مثلا:

(أصبحت مناهج التعليم في الغالب لا تولي جانب الدين اهتمامًا كبيرًا، أو لا تهتم به أصلاً)[9].

وفي هذا التقييم لمكانة العلوم الشرعية داخل البرنامج التعليمي إجحاف بارز، أو يشير إلى أن النظام التعليمي لا يمنحها الوقت الكافي كما يقول:

(سبل التوقي من الانحراف: العناية بتدريس العقيدة الصحيحة.. في مختلف المراحل الدراسية، وإعطاؤها الحصص الكافية من المنهج) [10].

ويبالغ المقرر أيضا في تصوير الخلل والثغرات التي يرتكبها الإعلام فيجعلها منسلخة عن العقيدة، منحلة الأخلاق في جميع وسائل الإعلام، سواءً كانت تلفزة، أم إذاعة، أو صحافة، حيث يقول المقرر:

(أصبحت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في الغالب أداة تدمير وانحراف، أو تعنى بأشياء مادية أو ترفيهية، ولا تهتم بما يقوّم الأخلاق، ويزرع العقيدة الصحيحة، ويقاوم التيارات المنحرفة)[11].

(بعض وسائل الإعلام المشبوهة)[12].

(الأخبار التي ترد عن الفسقة في هذه الأيام، وخاصة تلك الصادرة عن الإذاعات الأجنبية، أو الصحف، أو المجلات المنحرفة، أو وكالات الأنباء الحاقدة، ومن واجبنا عدم الاستماع إليها، أو تصديقها)[13].

كما يقدم للطالب قواعد خطرة حول تكفير الأنظمة والحكومات معزولة عن ضوابط التطبيق فيقول:

(إذا حكم حكمًا عاما في دين المسلمين بأن بعض القوانين جائر.. فهو كفر ناقل عن الملة، وإن قالوا: أخطأنا وحكم الشرع أعدل) [14].

أو يتحفظ على إطلاق وصف الإسلام:

(لا بد من الحكم بما أنزل الله والتحاكم إليه.. في سائر الحقوق، لا في الأحوال الشخصية فقط، كما في بعض الدول التي تنتسب إلى الإسلام)[15].

وهكذا فمن الخطورة تسليط الأضواء على نقاط الضعف في المجتمع، وثغرات الواقع وعرضها بصورة مكبرة؛ لما تخلقه هذه الصورة السوداوية من آثار على الحيوية الإصلاحية للطالب؛ فللإنسان طاقة نفسية محددة، تتلاشى بقاياها حين يشعر الشاب أن الخرق اتسع على الراقع، وأنه لا فائدة من محاولة التغيير، وتصبح أفضل وسيلة للمحافظة على الدين هي الاعتزال داخل دوائر محدودة، يتشارك فيها فتية آمنوا بربهم وسط هموم الغربة ووحشة الطريق.

وفضلا عن الحيوية الإصلاحية، فإن المبالغة في تصوير فساد الزمان وانحلال الأخلاق يؤدي إلى انهيار معنويات التدين ذاتها، حيث تتساقط دوافع الخير في وجدان الشاب حين نحاول إشعاره بأن المجتمع أغلبه على هذه الشاكلة، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى مخاطر هذه الحالة النفسية حين قال: (إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم) [16].

كما كان صلى الله عليه وسلم يحذر من تنمية مشاعر التوجس والارتياب في تفكير الإنسان تجاه مجتمعه؛ لأن ذلك يزيد من مستوى الانحراف الاجتماعي ذاته، كما قال صلى الله عليه وسلم محذرا معاوية: (إنك إذا اتبعت الريبة في الناس أفسدتهم) [17].

ليس من مصلحة المجتمع المسلم أن يوسع الفجوة بينه وبين شبابه، أو أن يضخ فيهم الغربة عنه وغياب الأرضيات المشتركة، حتى أصبح البعض يستعذب المخالفة، ويستمتع بحجم التباين الذي أصبح يمنحه شيئا من الفرادة يحقق بها ذاته ويشبع بها وجوده!

وأي خسارة أكبر من أن تستنزف الطاقات الشابة إمكانياتها في تكريس الفوارق والاختلاف؟!

——————————————————————————–
[1] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (121).
[2] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (18).
[3] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (10).
[4] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (12).
[5] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (126).
[6] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (15).
[7] مقرر التفسير – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (139).
[8] مقرر الحديث – الصف الثاني ثانوي – القسم الشرعي (191).
[9] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (13).
[10] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (14).
[11] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (13).
[12] مقرر الحديث – الصف الأول ثانوي (99).
[13] مقرر التفسير – الصف الأول ثانوي (96).
[14] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (72).
[15] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (70).
[16] رواه مسلم (2623).
[17] رواه: أبو داود(4888)، البخاري في الأدب المفرد(248)، قال الألباني: صحيح، صحيح الأدب(110).



 الموقف من التدين.. بين القلق والطمأنينة

إبراهيم السكران – عبد العزيز القاسم

23/03/2004

الطمأنينة من الحاجات الفطرية للإنسان التي تعزز دوافع العمل الصالح والإنتاج لديه، فإذا تسلل إلى الإنسان القنوط أو دبّ إليه اليأس فقد ينقلب على عقبيه يائسا من رحمة الله تعالى؛ ولهذا جاءت الشريعة بالتوازن الدقيق بين الرجاء والخوف، وهذا التوازن الشرعي يتعارض مع تضخيم الوعيد عبر تضييق نصوص الرجاء بالاستثناءات والقيود الغامضة التي تكاد أن تلغي وظيفة الرجاء وتهدد الطمأنينة، وتعود على أصل الرجاء بالإبطال، وذلك ما يتضمن ترجيحا مستترا للجانب الوعيدي في الإسلام؛ وهو ما تضافرت نصوص الشريعة على دفعه وتضييق نطاقه كما في نصوص كثيرة.

ولهذا فإن اعتدال الخطاب الديني مهم في منح الفرد فرصة للثقة بالنفس، وإعطائه القدر اللازم من الطمأنينة؛ فالقلق المبالغ فيه يثمر انقيادًا غير متوازن، وكثير من حالات التخبط الفقهي والإقصاء الديني كانت نتيجة مباشرة لفائض القلق.

فالقلق المبالغ فيه يضع في الإنسان دوافع الإحجام والانزواء، ومن ثم الشعور بأن الانهماك في تحصيل المصالح، أو الانخراط في الواجبات اليومية إنما هو غفلة عن الدين، وصدود عن الله والدار الآخرة! وهو حالة تتنافى مع أصول الدين ومقاصده في بناء القوة للأمة المسلمة كما أشار إلى ذلك الجويني وغيره من الفقهاء.

إن القلق والشعور بأن الضلالة شبح يتربص بنا يؤسس في الإنسان نزعات مقاومة التغيير، والوجل من الجديد دون فقه أو علم، ولذلك يلاحظ المتابع علاقة عكسية بين المبالغة في القلق على الإيمان والحيوية المدنية؛ فكلما ازداد معدل التوتر الديني للفرد تناقص حجم مشاركته الاجتماعية، وكلما تمتع الإنسان بالقدر الكافي من الثقة والأمان ازداد مستوى إنتاجه الاجتماعي.

ومن أخطر ما يمكن أن يمارسه الوعظ الديني محاولة تمزيق السكن النفسي للفرد عبر تهويل احتمالات الشرك، والمبالغة في الترويع من البدعة، وتضخيم حبائل النفاق، وهذا لا يعني أن المخاطر مستحيلة، لكن لا يعني أيضًا أنها تطوق أنفاس الإنسان وحركاته وسكناته وتهدده في كل لحظة، وتتربص به في كل منعطف، بحيث لا يستطيع الإنسان أن يثق في إمكانية تجاوزها.

فيحاول المقرر دوما إشعار الطالب بأنه: يسير بين مزالق البدع، ويحوم على شفير الردة، وتكاد تتخطفه كلاليب النفاق، أو يهوي عليه سقف الشرك.

من المهم إشعار الطالب بالمخاطر، لكن لا يجوز أبدا تصوير الانحراف كقوة خارقة لا يمكن مقاومتها، أو المبالغة في رفع سقف الإيمان بطريقة خيالية.

يقول المقرر:

(الناس قد يقعون في الشرك وهم لا يدرون) [1].

ثم يؤكد ذلك:

(الناس قد يقعون في ألوان من الشرك وهم يجهلون) [2].

(الشرك قد يتسرب إلى الإنسان من حيث لا يشعر) [3].

ويعرض المقرر الصحابة وهم بين أحابيل الشرك لا يعلمون، كما يقول:

(فهاهم الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى الشيطان لجرهم إلى الشرك من حيث لا يشعرون) [4].

كيف ستكون طمأنينة المتلقي للمقرر حين يشعر أنه قد يقع في الشرك في كل لحظة وهو غافل لا يعلم شيئا فيكون من الخالدين في النار أبد الآبدين؟!

بل كيف سيثق في إمكانية مقاومته وهو يشعر أن الشرك يتلاطم من حوله ويكاد يستحيل أن ينجو منه أحد، كما يقول المقرر:

(الشرك في الإرادات والنيات؛ فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقلّ من ينجو منه) [5].

(المسلم الذي حماه الله من الوقوع في الشرك الأكبر قد يقع في الشرك الأصغر من حيث لا يدري، وذلك بالتلفظ بألفاظ تشعر بجعل أنداد مع الله، وإن كان لا يقصد المتلفظ الشرك) [6]، ويؤكد المقرر قضية الفزع من نواقض الإسلام في موضوع النفاق أيضا، فيرى أن من الواجبات الشرعية:

(وجوب الخوف من النفاق)[7].

وفي أول دروس التوحيد في المرحلة المتوسطة:

(باب: الخوف من الشرك) [8].

وينقل المقرر بعض مقولات التابعين في محاولة منه لتأصيل مشروعية القلق على الإيمان، والرعب من الضلالة، كما يقول المقرر: (النفاق شر وخطير جدا، وقد كان الصحابة يتخوفون الوقوع فيه، قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه) [9].

——————————————————————————–
[1] مقرر التوحيد – الصف الأول متوسط (65).
[2] مقرر التوحيد – الصف الأول متوسط (65).
[3] مقرر التوحيد – الصف الأول متوسط (81).
[4] مقرر التوحيد – الصف الأول متوسط (80).
[5] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (15).
[6] مقرر التوحيد – الصف الثالث متوسط (42).
[7] مقرر التوحيد – الصف الثالث متوسط (70).
[8] مقرر التوحيد – الصف الأول متوسط (34).
[9] مقرر التوحيد – الصف الثالث متوسط (70).

 الموقف من الحضارة.. بين التواصل والإدانة

إبراهيم السكران – عبد العزيز القاسم

23/03/2004

إن أي ناصح للمجتمع الإسلامي يؤرقه التخطيط لمؤسساته، ونظمه، ومستقبله، والتبشير برسالته: لا يمكنه تجاهل أهمية الانفتاح المعرفي في بناء الأرضية المدنية والإطار الحضاري للواقع الإسلامي، خصوصاً في هذا العصر الذي تعقدت معظم الحياة فيه، وترابطت أجزاؤه، وأصبحت نسيجاً واحداً يؤثر بعض في بعض، وأصبح الحراك الاجتماعي يحتاج لأدوات حديثة، ومعايير دقيقة، واستيعاب لنظم الحياة المعقدة، وتنمية تدريبية للمهارات المدنية، لكي يستطيع الشاب المشاركة في المجتمع بصورة إيجابية تضمن تراكم الجهود في اتجاه البناء.

وقضية الموقف من الحضارة  قضية معاصرة تواجه الشاب المسلم بتجليات هائلة، وحضور مكثف في حياته، وهذا يعني أن القواعد التي سيتعامل الطالب على أساسها ذات آثار واسعة وحيوية. فكيف قدم المقرر الديني إشكالية الموقف من الحضارة؟

لم يحاول المقرر الديني تقديم تكييف فقهي لمفهوم الحضارة، يتم فيه تفكيك المفهوم وتحديد مقوماته الأساسية، وتحليل مضامينها فقهيا، وعلاقتها بأحكام الشريعة، مثل الفرض الكفائي، وواجب العمارة، والعدل الشرعي، والحاجات الفطرية، ونحو ذلك.

كما لم يحاول المقرر تعميق شرعية القيم المدنية المشروعة في وجدان الطالب مثل: المشاركة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، وقيم البحث العلمي، والوعي السياسي، وقيم التعايش والحوار، واحترام القانون، والاستقلال القضائي، ودعم الحريات، والأمن البيئي، وأخلاقيات المهنة، وغيرها الكثير الكثير..

ولم يحاول المقرر توضيح الإطار الفقهي لنظم الحياة، وبيان الكليات الشرعية العامة المهيمنة على المجالات والعلوم المدنية المعاصرة، وإبراز الوظيفة الإسلامية للمعرفة والعمران، بما يعني تأهيل الطالب بأدوات الفحص والاختبار.

وإنما قدم المقرر موقفا مضطربا مترددا؛ فتارة يؤكد أهمية القيم المدنية وضرورة الاستفادة من خبرات الأمم الأخرى والاعتراف بما لديها من تميز وإمكانيات، وتارة أخرى يتجاهل الإيجابيات ويبالغ في نزعة التنقص والازدراء.

فمثلا يقول:

(تقليد ]الكفار[ في الأمور التي ليست من خصائصهم، بل هي أمور مشتركة كتعلم الصناعات المفيدة، واتخاذ القوة، والانتفاع بما أباحه الله لنا من الزينة التي أخرج لعباده والأكل من الطيبات من الرزق، فهذا لا يعد تقليدا، بل هو من ديننا، والأصل أنه لنا وهم لنا فيه تبع) مقرر التوحيد - الصف الأول ثانوي-97 .

ويعيب المقلدين في الأمور التافهة فيقول: (ولم يقلدوهم في الجد، وإعداد القوة، والشيء النافع من المخترعات والصناعات) مقرر التوحيد-الصف الثالث ثانوي- القسم الشرعي -77 .

ويقول: (اتجاه الأمة للبناء والتنمية، وانشغالهم بما يصلح حالهم، ويطور حضارتهم، ويميزهم بين الأمم) مقرر الحديث - الصف الثاني ثانوي- القسم الشرعي -151.

ويقول: (ليست العبادة قاصرة على الشعائر المعروفة، فينبغي للمسلم أن يستحضر النية الصادقة في جميع أعماله الدنيوية، كالدراسة والوظيفة وغيرها حتى يثاب عليها)  مقرر التوحيد - الصف الأول ثانوي-46.

لكن المقرر بالمقابل وفي مناسبات أخرى يقدم خطابا تصعيديا متوترا يركز فيه على الإدانة، ويختصر الآخر في السلبيات، فيرتبك الطالب إزاء هذا الاضطراب، بينما كان المفترض تقديم رؤية متكاملة متوازنة تجاه قضية الحضارة.

ومن نماذج الاضطراب أن المقرر يدعو مثلا إلى عدم تسمية العلماء في العلوم الإنسانية والتقنية بلقب علماء، بل يجب اعتبارهم جهالاً، وإنما الذي يستحق وصف عالم في نظر المقرر هو العابد فقط، حيث يقول عن علماء الحضارة المعاصرة:

(فهم وإن كانوا أهل خبرة في المخترعات والصناعات فهم جهال لا يستحقون أن يوصفوا بالعلم؛ لأن علمهم لم يتجاوز ظاهر الحياة الدنيا، وهذا علم ناقص لا يستحق أصحابه أن يطلق عليهم هذا الاسم الشريف؛ فيقال: العلماء، وإنما يطلق هذا على أهل معرفة الله وخشيته) [1].

أيّ معنى للمدنية إذا كان علماء الحضارة المعاصرة في شتى ألوان المعرفة ثلة من الجهال؟!

إننا بهذه الطريقة التبخيسية التي نحط بها من قيمة خبراء العلوم المدنية نخسر أشياء كثيرة، فنحن أولا نفقد إمكانية تنظيم المنهج العلمي في وعي الطلاب، ونغرس بدلاً من ذلك أخلاق المكابرة العلمية، كما نخسر إمكانية تطوير واقع مجتمعنا الإسلامي عبر استثمار نتاج الأمم المتقدمة بما نوحيه لطلابنا من ازدرائه والتزهيد فيه.

إذا بلغ التخوف حد تجاوز العدل الشرعي فهو تخوف مرضي، يسفر دوماً عن آثار عكسية خطيرة، فالواجب هاهنا أن نفصل في ذهن الطالب بين التقدم المدني الذي وصلت إليه الحضارة المعاصرة، وبين قضية الإيمان، فنعترف بالكفاءة والتميز الذي وصلت إليه الحضارة المعاصرة في بناء المدنية، وندعو الطالب إلى احترام هذا الجانب حتى يشعر بقيمته، لا أن نعتبره لوناً من الجهل، في مقابل أن نبين  للطالب بشكل تام جوانب القصور والضلال الديني، وبذلك نحقق العدل الشرعي ونقبل الحق ونحمي هوية الطالب، ولا نتهامل وسائل البناء.

يجب أن نغرس الثقة في طلابنا، وأن نقدم لهم الحقيقة كما هي، فذلك أدعى للقناعة والاطمئنان، وهذا الفرز الذي يقضي به العدل الشرعي هو الذي طبقه القرآن حين أقر لغير المسلمين بالعلوم الكونية، بينما نفى عنهم علوم الآخرة، كما قال تعالى: (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون) [2]، فسمى معرفتهم بالدنيا علماً، وجهلهم بالآخرة غفلة، قال ابن عباس: (الكفار يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جهال) [3].

يغرس المقرر مفهوما خاطئا تجاه الدول المتقدمة والحضارة المعاصرة حين يؤكد خطورة احترام تلك الدول المتقدمة، ويقرر أن من يحترم تقدمها فهو ضعيف الإيمان:

(.. في الدول الكافرة وما عندهم من تقدم صناعي واقتصادي، فإن ضعاف الإيمان من المسلمين، ينظرون إليهم نظرة إعجاب، دون نظر إلى ما هم عليه من الكفر، وما ينتظرهم من سوء المصير، فتبعثهم هذه النظرة الخاطئة إلى تعظيم الكفار، واحترامهم في نفوسهم..)[4]

أو حين يصور المقرر تصوير الحضارة المعاصرة كحظيرة بهائم حيوانية لا تملك أي سبب للسعادة، بل كل ما لديها من الإمكانيات إنما يقودها إلى السقوط يقول:

(المجتمع الذي لا يسوده عقيدة صحيحة هو مجتمع بهيمي يفقد كل مقومات الحياة السعيدة، وإن كان يملك مقومات الحياة المادية والتي كثيراً ما تقوده إلى الدمار، كما هو مشاهد في المجتمعات الجاهلية) [5].

أو يقول:

(تلك بعض آثار الإيمان بالغيب، ولا تتخلف إلا بضعف الإيمان، وإذا تخلفت أصبح المجتمع حيوانيًّا..) [6].

ويقول أيضاً مؤكداً هذه الصورة:

(صارت القوة المادية وسيلة دمار وانحدار، كما هو المشاهد اليوم في الدول الكافرة، التي تملك مادة ولا تملك عقيدة صحيحة) [7].

وهذه المبالغة تربك الطالب أكثر مما تسهم في تعميق إيمانه، ذلك أن ما يشاهده في الواقع هو أن الإمكانيات التي تمتلكها القوى الكبرى تمنحها المزيد من الاستقرار وفرص بسط النفوذ لا العكس كما يوهم المقرر.

ومن أخطر مراحل التوتر أن يصل التصعيد الديني إلى مستوى التحريض والاستعداء على المسالمين الذين عاملونا على أساس الثقة، وذلك لما تعرض المقرر لقضية السفر للبلاد غير الإسلامية ذكر من أنواع السفر: السفر للدارسة أو التجارة أو العلاج أو الدعوة، ولكنه للأسف جعل من شروط الإقامة كما يقول:

(ويشترط لجواز الإقامة شرطان.. وأن يكون مضمراً لعداوة الكافرين وبغضهم) [8].

ويقول: (أن يقيم للدراسة، وهو أخطر، لكون الطالب يشعر بدنو منزلته، فقد يحصل من تعظيمه للكفار والاقتناع بآرائهم، ويشعر بحاجته إليهم، ولا سيما إلى معلمه، فقد يتودد إليه ويداهنه في ضلاله وانحرافه، وكذلك اتخاذهم أصدقاء يحبهم ويتولاهم) [9].

فأي أخلاق إسلامية يقدمها المقرر للطالب في هذا المقام؟!

نذهب إلى الناس لنتعلم منهم، أو نتطبب لديهم، أو نبرم معهم العقود، أو ندعوهم لديننا، بشرط أن نضمر لهم العداوة!

بالرغم من أن القاعدة الشرعية العامة هي أن الحكمة ضالة المؤمن، وليس في الشريعة جنسية جغرافية للمعرفة، فالمفاهيم والمنجزات في التشريع الإسلامي تفرز على أساس موضوعي لا على أساس شخصي، ولذلك تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع ثقافة عصره بشكل إيجابي، وتعاطى مع منتجات الدول الأخرى، وثقافات القوى الكبرى، ولم يكن يدفع باتجاه الانفصال الجذري.

فقد نقل صلى الله عليه وسلم في أحد معاركه بعض التقنيات العسكرية الفارسية متمثلا في تقنية الخندقة الدفاعية.

ونقل بعض تقاليد الاتصالات  الأساسية التي سار عليها رؤساء الدول المجاورة، كما قال أنس: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى كسرى، وقيصر، والنجاشي، فقيل: إنهم لا يقبلون كتاباً إلا بخاتم، فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً حلقته من فضة) [10].

كما احترم النبي صلى الله عليه وسلم المواثيق والأعراف الدولية وإن كان لم يوقعها، كعرف الحصانة الدولية للسفراء، كما قال صلى الله عليه وسلم لرسولي مسيلمة: (أما والله لولا أن الرسل لا تُقتل لضربت أعناقكما) [11].

وقد فتحت الشريعة أيضا مساحة مهمة من الأهداف والمصالح المشتركة مع غير المسلمين بشكل لا يتعارض مع قواعد الشريعة، حين يتحقق تبادل مصالح يدعم نمو المجتمع الإسلامي، كما في نماذج متعددة في السيرة الشريفة رغم بساطة الحياة الاجتماعية في عصر الرسالة.

فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة عن بعض الأهداف المشتركة مع غير المسلمين، منها المصالح العسكرية المشتركة التي سيقيمها المسلمون مع غيرهم، فقال: (ستصالحون الروم صلحا آمنا، وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم) [12].

ومنها المصالح الاجتماعية، فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم في أحد المواثيق الحقوقية في الجاهلية والمشهور بـ “حلف المطيبين” [13]، وذلك حين اجتمع بنو هاشم، وبنو زهرة، وتيم، في دار ابن جدعان، وتحالفوا على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم، فقال صلى الله عليه وسلم لاحقا: (شهدت مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن أنكثه وأن لي حُمُرَ النَّعَم) [14].

ومنها المصالح السياسية فقد كان المسلمون وقريش يتابعون الصراع بين الروم الكتابية وفارس الوثنية، فكان المسلمون يعلنون التأييد السياسي للروم باعتبار الاشتراك في الكتاب، بينما كانت قريش تدعم فارس، فاستاء المسلمون لهزيمة الروم، فبشرهم الله بقرب انتصار الروم، قال تعالى: (غُلبت الروم في أدنى الأرض * وهم من بعد غَلَبهم سيغلبون * في بضع سنين * لله الأمر من قبل ومن بعد * ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) [15]، قال ابن عباس: (كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم؛ لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس، لأنهم أهل كتاب) [16].

وقد كانت العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري وطيدة، كتبادل التجارة في الأسلحة والأواني والأطعمة ونحوها، ومن نماذج ذلك استيراد المنسوجات أو الحلي، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس جبة طيالسة كسروانية [17]، وكان يصلي في جبة رومية شامية [18]، واتخذ خاتما وجعل فصه حبشيا [19]، وكفن في أثواب يمانية [20].

بل كان صلى الله عليه وسلم يخاطب الصحابة أحيانا ببعض العبارات غير العربية، ولذلك عقد البخاري في صحيحه بابا لتأصيل مشروعية ذلك سماه: (باب من تكلم بالفارسية والرطانة) [21]، وساق فيه مجموعة من الأحاديث يستدل بها على جواز استخدام العبارات غير العربية، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أهل الخندق، إن جابرا قد صنع [سورا] ، فحيّهلا بكم) [22]، والسور مفردة فارسية تطلق على الوجبة التي تقدم للضيوف [23].

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبنت خالد بن سعيد لما أتت مع أبيها وعليها قميص أصفر (سنه، سنه) [24]، وهي مفردة حبشية تعني: حسن وجميل [25].

ومنها: (أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بالفارسية: [كخ، كخ] ، أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة؟) [26]، وهي تعبير فارسي يستخدم للزجر[27].

وهناك الكثير من الآثار التي تؤكد أن المسلمين في  العصر النبوي وما بعده لم يكونوا في عزلة عن الثقافات واللغات الحية المعاصرة لهم.

وطال ذلك الاطلاع على الثقافات الدينية الأخرى، كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل معها وفق أسس علمية بلا توجس، فلما تردد بعض الصحابة في جواز النقل عن الثقافة الدينية اليهودية، أزال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم هذه الحواجز، وقال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) [28]، وانعكاسا لهذا التوجيه الشريف ولدت في المجتمع المسلم مظاهر مبكرة للانفتاح الثقافي كما يصور لنا أبو هريرة هذا المشهد: (كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام) [29].

بل يتجاوز الأمر مجرد المرونة الثقافية إلى الاستثمار والتفعيل؛ فقد تراجع النبي صلى الله عليه وسلم عن إحدى الفتاوى الشرعية التي همّ بها بناءً على نتائج التجارب الاجتماعية في الدول الكبرى كما قال صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم ذلك شيئا)، وفي رواية (حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم) [30].

وكل هذه النصوص تعكس حجم التفاعل الإيجابي بين المجتمع المسلم والحضارات المعاصرة له، وأن المجتمع النبوي لم يكن حلقة معزولة عن أي مؤثرات خارجية، ولم يفرض النبي صلى الله عليه وسلم حول مجتمعه طوقا يوقف حركة المرور الثقافي، ولم يكن عليه الصلاة والسلام يتوجس تجاه أي صورة من صور الاتصال بالآخر ما لم تناقض أصول الشريعة.

ويزداد تأكيد هذا الموقف السلبي في المقررات تجاه الحضارة عبر ضعف حضور القضايا والقيم المدنية من الموضوعات الدينية للمقرر، وسنحاول أن نقرأ هذا الغياب بشكل كمي في إحدى الحالات النموذجية التالية:

يعتبر مقرر الحديث مقررًا عامًّا غير محدد بعلم معين ذلك أن قضايا الفقه والعبادات تُدرس في مقرر الفقه، أما قضايا العقيدة فتدرس في مقرر التوحيد، ويبقى مقرر الحديث مجالاً متاحا لتغطية القضايا العامة، ولذلك سنحاول أن ندرس الموضوعات التي تم انتقاؤها وتغطيتها، ومن ثم تصنيفها بأسلوب كمي، وسنجعل الحالة النموذجية هي مقرر الحديث للمرحلة المتوسطة بكامل سنواتها الثلاث لنلاحظ الآتي*:
الموضوعات  النسبة
- أحاديث العبادات 41%
- أحاديث الأخلاق 35%
- أحاديث العقائد  16%
- أحاديث القضايا المدنية  7%
* تصنيف الموضوعات في مقررات الحديث للمرحلة المتوسطة
وهكذا بدل الاستفادة من مقرر الحديث لتأصيل مشروعية الحركة الاجتماعية وقضايا الحياة العامة، يتم تكرار مواضيع العبادات والعقائد التي خصصت لها مقررات مستقلة، فهناك في كتب الفقه والتوحيد تعرض الأحكام ويعلق عليها بأدلتها، وهاهنا في مقرر الحديث تعرض الأدلة نفسها ويعلق عليها بأحكامها، فمثلاً من المواضيع التي يكررها مقرر الحديث بالرغم من استيفائها في مقرري التوحيد والفقه في تلك المرحلة: الحلف بغير الله [31]، أحكام الخلاء [32]، سنن الوضوء [33]، إسباغ الوضوء [34]، صفة الغسل [35]، آداب المسجد [36]، أحكام السجود [37]، أحكام الجماعة [38]، أحكام المسبوق [39]، ونحو هذه الموضوعات.

وحين ينضاف إلى ذلك ضخ المواقف السلبية تجاه الحياة الدنيا، وجعل ذلك مؤشرا على عمق الإيمان فإن قيمة الحياة المدنية أو الدنيا  تفقد كثيرًا من مقوماتها، كما يقول المقرر: (للإيمان بالغيب آثار كبيرة جدًّا تنعكس على سلوك الإنسان وسيرته في الحياة)

ثم ذكر منها: (احتقار المظاهر الدنيوية) [40].

ولكن ما السبب الذي دفع المقرر إلى تبني هذه الصورة الخاطئة، والتأكيد عليها، بالرغم من انعكاساتها السلبية؟

في الحقيقة أن نصوص المقرر تكشف عن دوافع وخلفيات هذه النتائج، وهو الدافع الأساسي الذي أربك كثيراً من أحكام وتصورات المقرر الديني ألا وهو القلق على العقيدة، والشعور بأن الشباب إن اكتشفوا إبداعات غير المسلمين فسينقلبون على أعقابهم وينسلخون من عقيدتهم، كما يقول المقرر: (الانحراف عن العقيدة الصحيحة، له أسباب تجب معرفتها وعلاجها)

ثم ذكر منها: (الانبهار بمعطيات الحضارة المادية) [41].

ويقول: (.. الانبهار بمعطيات الحضارة المادية، حتى ظنوا أنها من مقدور الإنسان وحده، فصاروا يعظمون الإنسان ويضيفون هذه المعطيات إلى مجهوده واختراعه وحده) [42].
إذن المقرر يعتبر أن الانبهار بالحضارة المادية من أسباب انحراف العقيدة، أما العلاج الذي يمارسه فهو: تجاهل منجزات هذه الحضارة أو جهدها. والحقيقة أن هذا العلاج يزيد الأمر تعقيدا كما سبق، إذ إن احتمال تأثير الانبهار الحضاري على الإيمان إنما يعالج بتنظيم الرؤية الصحيحة، لا بتكريس مشاعر الصدام بين الدين والحضارة!
——————————————————————————–
[1] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (77)
[2] سورة الروم (7)
[3] تفسير ابن كثير (5/78)
[4] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (77)
[5] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (10)
[6] مقرر التوحيد – الصف الثاني ثانوي – القسم الشرعي (24)
[7] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (10)
[8] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (93)
[9] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (94)
[10] رواه البخاري (5872)، مسلم (2092)
[11] رواه: أبو داود (2791)، وأحمد (1/391)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5328)
[12] رواه: أبو داود (2767) ، وابن ماجة (4089) ، وقال الألباني: صحيح، صحيح الجامع (3612).
[13] سمي حلف المطيبين بهذا الاسم؛ لأنهم جعلوا طيبا في جفنة وغمسوا أيديهم فيه تأكيدا للميثاق.
[14] رواه: البخاري في الأدب المفرد (567)، وأحمد (1658)، وانظر السلسلة الصحيحة (1900).
[15] سورة الروم (4).
[16] رواه الترمذي (3193)، وانظر الآثار الكثيرة في سياق تلك المرحلة في تفسير ابن كثير، أول سورة الروم.
[17] رواه مسلم (2069).
[18] البخاري (363)، مسلم (274)، الترمذي (1768)، النسائي (123).
[19] رواه مسلم (2094).
[20] رواه: البخاري (1264)، مسلم (941).
[21] البخاري، الجهاد والسير، باب(188).
[22] البخاري (3070).
[23] فتح الباري(6/213) .
[24] البخاري (3071).
[25] فتح الباري (6/212)، النهاية لابن الأثير(2/415).
[26] البخاري (3072).
[27] فتح الباري (6/214).
[28] رواه البخاري (3461).
[29] رواه البخاري (7542).
[30] رواه مسلم: كتاب النكاح، باب جواز الغيلة (1442)، والغيلة: هي وطء المرضع.
[31] مقرر الحديث – الصف الأول متوسط (15).
[32] مقرر الحديث – الصف الأول متوسط (41-50).
[33] مقرر الحديث – الصف الأول متوسط (53).
[34] مقرر الحديث – الصف الأول متوسط (51).
[35] مقرر الحديث ـ الصف الثالث متوسط (24).
[36] مقرر الحديث – الصف الأول متوسط (55).
[37] مقرر الحديث – الصف الأول متوسط (59).
[38] مقرر الحديث – الصف الأول متوسط (63).
[39] مقرر الحديث – الصف الأول متوسط (57).
[40] مقرر التوحيد – الصف الثاني ثانوي – القسم الشرعي (23).
[41] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (12).
[42] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (13).
 المنهج العلمي.. بين الموضوعية والتهويل
إبراهيم السكران – عبد العزيز القاسم
23/03/2004

الخطاب العلمي هو الخطاب الذي يتوخى العدل الشرعي في التقييم والتفسير، عبر رؤية الواقع واستيعابه كما هو، ومحاولة فرز ألوانه، والميل الشديد للتفصيل في موضعه، وتنظيم المعطيات، وإصدار الأحكام الهادئة، التي تحتفظ بهامش من النسبية، ولا يتورط في مجازفات تمليها عليه الإغراءات الكلامية، مع الاحترام المستمر للبرهان، ومحاولة تفهم دوافع المخالف، والبحث عن اعتباراته سواء المعلنة أو الضمنية.

أما الخطاب الانفعالي فيحتوي على قدر عالٍ من التهويل والمبالغة، والمجازفة بالأحكام العامة، وتأكيدها بمفردات الحسم والقطع، وتجويز المغالطات في سبيل التعبئة للفكرة.

والخطاب الانفعالي يبني عقلية جذرية مندفعة شديدة الانجذاب للتيارات الثورية، قابلة للاختطاف لأي اتجاه، غير مؤمنة بالحلول التدريجية، بخلاف الخطاب العلمي الذي يبني شخصية علمية تحاول اكتشاف المزايا وتعميقها، وتطويق الثغرات ومعالجتها.

والحقيقة أن المقرر يقدم في كثير من الأحيان تفصيلات جيدة في دراسة القضايا، وشروطًا دقيقة لبعض المفاهيم، لكنه يرتبك في أحيان أخرى ويقع في الإجمال أو إهدار الضوابط العامة والأسس الشرعية، كأصل رفع الحرج، أو موانع التكليف، أو اعتبار الأعراف، ونحوها، وسنحاول أن نقدم نموذجا لذلك:

فمثلا من أهم الأصول الفقهية أصل مراعاة المقاصد، ومن الخطير جدا تقديم الأحكام المجملة للطالب دون مراعاة هذا الأصل عبر تحميل العبارات من الدلالات الكفرية دون النظر في قصد قائلها، كما يعتبر المقرر مثلا أن التعليق على الشخص الملتحي بعبارة: (الدين ليس في الشَّعَر) استهزاء بالسنة يكفر به صاحبه، ويخرج من الدين بالكلية!!.

والمعروف أن كثيرا ممن يقول هذه العبارة لا يقصد تنقص الدين، بل يقصد معنى صحيحاً جاءت به الشريعة، وهو أن التدين ليس مجرد مظهر أو شكل أو هيئة، بل التدين الحقيقي هو القيام بالواجبات الأساسية ومراعاة الأولويات، بيد أن المقرر يوهم أن المناط الوحيد هو صورة العبارة دون إبراز كاف لبقية الاعتبارات، فيقول:

(… وما أشبه هذه الأقوال التي كلها سب للدين وأهله واستهزاء بالعقيدة الصحيحة ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومن ذلك استهزاؤهم بمن تمسك بسنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم [كقولهم]: الدين ليس في الشعر، استهزاء بإعفاء اللحية، وما أشبه هذه الألفاظ الوقحة)[1].

بل يجعل المقرر مجرد التضايق من بعض الممارسات التي تصدر من رجال الحسبة، والتي هي -في أغلب الأحوال- لا تعبر عن الدين، بقدر ما تعبر عن اجتهاد شخصي لأفراد الجهاز، ومع ذلك يجعل المقرر التضايق منها ردة عن الإسلام، وكفراً مخرجاً من الملة!!

حيث يرى المقرر أن من أنواع الاستهزاء الذي يكفر به صاحبه ويرتد عن الإسلام ويخرج من الملة:

(قول الآخر إذا رأى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر: جاءكم أهل الدين، من باب السخرية، وما أشبه ذلك مما لا يحصى إلا بكلفة، مما هو أعظم من قول الذين نزلت فيهم الآية)[2].

وهكذا دون تفريق بين الاعتراض على شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الثابتة بالنصوص القرآنية، وبين الاعتراض على مجرد تصرفات رجل الحسبة التي قد تخرج أحياناً عن المفهوم الشرعي للحسبة.

كما يجعل من أمثلة النفاق المخرج من الملة: (الاستهزاء بالقائمين على أعمال البر)[3].

ولسنا بحاجة إلى أن نؤكد مرة أخرى أن هناك فارقاً بين شعيرة الإحسان إلى الفقراء، وبين الاجتهادات الشخصية لممارسي العمل في هذا النشاط الخيري.

ومن ظواهر الاضطراب في المنهج العلمي أن المقرر عقد درسا لـ(موانع التكفير) وهي (الجهل، والخطأ، والتأويل، والإكراه) وقدم فيها مجموعة من التفصيلات والأدلة. (مقرر التوحيد – الثالث ثانوي – شرعي – 25 )
إلا أنه في التطبيق العملي يتجاهل بعض موانع التكفير كالجهل والتأويل وعدم القدرة والخطأ والخوف ونحوها، إما بتصريح نظري، أو بشكل تطبيقي، مما يترتب عليه وقوع الطالب في خطر التناقض والتطبيق العشوائي لقواعد التكفير والتضليل.
فمثلا يتجاهل المقرر عذر المخطئ بشكل موهم فيقول:
(الناس قد يقعون في الشرك وهم لا يدرون)[4].
(الشرك قد يتسرب إلى الإنسان من حيث لا يشعر)[5].
كما يتجاهل بعض حالات عذر الجاهل فيقول:
(الجهل يكون مانعاً من موانع التكفير في حالات دون حالات)[6].
ولذلك فكثيراً ما يوحي بإطلاق الكفر على الجاهل كما يقول:
(إن ما ينذره جهلة المسلمين، من نذور للأولياء والصالحين من أموات المسلمين، كأن يقول: يا سيد فلان إن رزقني الله كذا، أجعل لك كذا.. فهو شرك أكبر)[7].
(الناس قد يقعون في ألوان من الشرك وهم يجهلون)[8].
كما يلغي عذر الخائف فيقول:
(ولا فرق في جميع هذه النواقض، بين الهازل، والجاد، والخائف)[9].
كما يتجاهل عذر المتأول فيوحي بإطلاق الكفر على كثير من المذاهب المخالفة كما في موضوع الموقف من الصفات الإلهية، أو الموقف من الصحابة، أو غيرها.
ومن النماذج التي يضطرب فيها المنهج العلمي أيضا ما يقوله المقرر عن ممارسة الأنشطة الأسبوعية كأسبوع الشجرة، وأسبوع المرور، حيث يجعلها فسقاً ومعصية، والمشارك فيها آثم، لأنها تقليد للكفار، فحينما قسم تقليد الكفار إلى كفر وفسق، جعل من أنواع التقليد الذي هو فسق ومعصية:
(تخصيص بعض الأيام والأسابيع للنشاط في بعض الأعمال، واتخاذ الأيام الوطنية والقومية وهذا محرم وفسق)[10].
وهذا فقط أحد نماذج التهويل الفقهي، وتضخيم الدلالات، والتعنت في تفسير الممارسات الاجتماعية، فالأنشطة التي يمارسها غير المسلمين:
إما أن تكون شعائر دينية وممارسات تختص بهم،
وإما أن تكون أنشطة اجتماعية يتخذونها بشكل مدني أو لتدبير شؤونهم العامة.
فالنوع الأول لا يجوز للمسلم ممارسته،
أما النوع الثاني، فله ثلاثة شروط:
1ـ تحقق المصلحة.
2ـ وخلوه من الموانع الشرعية.
3ـ وانتفاء قصد التشبه.
وكثير من الأحكام التي يضطرب فيها المنهج العلمي وتحمل تعنتا في التفسير تكون مدفوعة في الغالب بقلق عقائدي، كما في موقف المقرر من إضافة النتائج إلى أسبابها حيث يرى مثلاً أن مقولة: (الخطط التنموية تقضي على الفقر والجهل) شرك أصغر والذي هو من أكبر الكبائر، لأن فيها نسبة النعمة لغير الله، واضح طبعاً أن واضع المقرر يقصد الاستخدام الصحفي لهذه العبارة، فهل الكاتب المسلم حين يقول ذلك يقصد الشرك مع الله؟!
إنما يقصد أن الخطط التنموية سبب والأمر كله بيد الله، وفي أسوأ الأحوال قد تعتبر هذه العبارة تحتاج إلى بعض التحفظات لتكون أكمل أدباً، لا أن تكون لوناً من الشرك.
ومن نماذج الشرك الأصغر التي يعرضها المقرر عبارة: (تقدم الطب قضى على الأمراض) لذات الاعتبار السابق وهو كونها نسبة للنعمة إلى غير الله، دون مراعاة مقاصد الناس.
ومن النماذج كذلك أن من فسر سلامة رحلته بكفاءة قائد الرحلة فالمقرر يعتبره لوناً من الشرك، أو فسرها بكون الطقس والأجواء كانت مناسبة.
وكذلك إذا نسب المال إلى نفسه أو مورثه فإن هذا شرك أصغر لأنه نسبة النعم لغير الله.
ومما يزيد الأمر تعقيدا أن المقرر يؤكد أنه، حتى لو سلم قصد القائل، وكان يرى أن النعمة كلها من الله لكن الطب، أو الخطط التنموية، أو كفاءة القائد، أو الأجواء، ونحوها، كانت مجرد أسباب، فإن التعبير بذلك وإضافتها إلى الأسباب يعتبر شركاً أصغر، يقول المقرر:
(من أقر بقلبه أن النعم كلها من الله وحده، وهو بلسانه تارة يضيفها إلى الله، وتارة إلى نفسه وعمله أو سعي غيره، فهذا شرك أصغر.. يجب التوبة منه..، ولنسبة النعم إلى غير الله أمثلة كثيرة: .. كقول بعضهم -إذا طاب سير السفينة-: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً، وقول: لولا فلان لكان كذا، وهذا مالي ورثته عن آبائي، ومن الأمثلة المعاصرة، قول بعضهم: تقدم الطب قضى على الأمراض، والخطط التنموية تقضي على الفقر والجهل، ونحو ذلك)[11].
ولا شك في أن هذا الحكم فيه كثير من المبالغة فإن الله تعالى يضيف النعم إلى نفسه إضافة خلق وإيجاد، ويضيفها إلى المخلوق إضافة سببية كما قال تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه، وأنعمت عليه)[12] فإن الله تعالى هاهنا أضاف النعمة التي يتمتع بها زيد بن حارثة إلى الله سبحانه باعتباره خالقها، وأضافها إلى رسوله صلى الله عليه وسلم المخلوق باعتباره سبباً، وبصيغة تحتمل التسوية.
وكذلك فإن الله سبحانه نسب الفضل إلى الخالق نفسه على وجه الاختصاص فقال: (قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء)[13]، وأضافه إلى الخالق والمخلوق، وبصيغة تحتمل التسوية، فقال: (وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسولُه)[14]، فجمع هاهنا بين نسبة النعمة إلى غير الله، وبين صيغة التسوية، كلاهما في الخطاب العقدي للمقرر نوع من الشرك الأصغر، وأضافه للمخلوق مفردا فقال: (ولا يأتل أولو الفضل منكم)[15]، فكانت إضافة نعمة الإحسان والتفضل إلى الخالق إضافة خلق وإيجاد، وإضافتها للمخلوق إضافة سبب بإذن الله، ولم يعتبر القرآن هذه الصيغ في التعبير شركاً أصغر.
بل حتى عبارة (هذا مالي ورثته عن آبائي) إذا كان يعتقد أنه ومورثه مجرد سبب لا يمكن أن تكون شركاً أصغر من أكبر الكبائر، فالقرآن نفسه نسب المال إلى شتى أصناف المخلوقين، فخاطبنا الله وأضاف المال إلينا فقال: (اعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة)[16]، وأضاف المال إلى الناس فقال: (وأكلهم أموال الناس)[17]، وأضاف المال إلى اليتامى فقال: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى)[18]، وأضافه إلى المجاهدين فقال: (والمجاهدين في سبيل الله بأموالهم)[19]، وأضافه إلى التجار فقال: (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم)[20]، وأضافه إلى الكفار فقال: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم)[21]، وأضافه إلى المنافقين فقال: (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم)[22].
ومن نماذج التعنت العقائدي أيضا أن المقرر يجعل من صور اتخاذ الأنداد مع الله من يقول:
(لولا الحارس لأتانا اللصوص) ونحو هذه العبارات فيقول مثلا: (الشرك الأصغر.. كالتلفظ بألفاظ تشعر بجعل أنداد مع الله وإن كان لا يقصد المتلفظ الشرك.. [مثل] لولا الله وأنت)[23].
فإذا كان لا يقصد المتلفظ بها الشرك فلا يمكن أن تكون شركاً، ولو كان انتقادها من باب الأدب واللباقة لكان اجتهاداً سائغاً، أما أن تجعل شركاً أصغر توضع في مصاف الكبائر الشنيعة كالغش والخيانة والزنا والسرقة ونحوها ففيه كثير من المبالغة كما يقول المقرر: (الشرك الأصغر الذي هو أكبر الكبائر.. مثل قول: لولا الله ولولا فلان)[24].
فإذا كان يقصد مساواة السبب بالله فمفهوم أنه شرك أكبر، لكن إن كان لا يقصد الشرك، كما يؤكد المقرر ذاته، فلا يمكن أن تكون من أكبر الكبائر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعبر بمثل هذ التعبيرات، فإنه لما سأله عمه العباس عما قدم لعمه بقوله: (ما أغنيت من عمك أبي طالب فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟) فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: (لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)[25] فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد الشرك قطعاً وإنما كان يقصد أنه مجرد سبب.
ومن الخلل في المنهج العلمي، إعطاء العبارات التلقائية والعفوية أبعادا أضخم من حجمها الطبيعي، أو تحميلها بالدلالات الشركية. كما يجعل المقرر مثلا من أنواع الإلحاد من يطلق على الذات الإلهية اسم: (المهندس الأعظم، أو القوة المطلقة)[26].
فلو انتقد المقرر هذه العبارة من جهة الأدب مع الله لكان أمراً مقبولاً، لكن أن يجعلها إلحاداً في أسماء الله، ويجعلها نظير تسمية المشركين أصنامهم باسم اللات اشتقاقا من اسم (الله)، أو العزى اشتقاقا من اسم (العزيز)، فهذا تهويل يبني العقل الديني للطالب بشكل انفعالي غير علمي.
——————————————————————————–
[1] مقرر التوحيد ثالث ثانوي – شرعي (67)
[2] مقرر التوحيد ثالث ثانوي – شرعي (67)
[3] مقرر التوحيد – ثالث متوسط (69)
[4] مقرر التوحيد – الصف الأول متوسط (65)
[5] مقرر التوحيد – الصف الأول متوسط (81)
[6] مقرر التوحيد – الثالث ثانوي – شرعي – (25)
[7] مقرر التوحيد – الصف الأول متوسط (94)
[8] مقرر التوحيد – الصف الأول متوسط (65)
[9] مقرر التوحيد والحديث والفقه والتجويد – الصف السادس الابتدائي – الفصل الثاني (14)
[10] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (96)
[11] مقرر التوحيد – الصف الثالث ثانوي – القسم الشرعي (50)
[12] سورة الأحزاب (37)
[13] سورة آل عمران (73)
[14] سورة التوبة (59)
[15] سورة النور (22)
[16] سورة الأنفال (28)
[17] سورة النساء (161)
[18] سورة النساء (10)
[19] سورة النساء (95)
[20] سورة البقرة (279)
[21] سورة الأنفال (36)
[22] سورة التوبة (81)
[23] مقرر التوحيد – الصف الأول ثانوي (62)
[24] مقرر الحديث – الصف الثاني ثانوي – القسم الشرعي (174)
[25] رواه البخاري: كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، ومسلم: كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب
[26] مقرر التوحيد – الصف الثالث متوسط (83).

الخاتمة والتوصيات
أولا: الخاتمة:
إن وظيفة المقررات الدينية في التعليم العام هي تكوين أساسيات الشخصية الدينية للطالب، بحيث يتلقى من المادة الدينية ما يؤسس لشخصية دينية سوية تتمثل قيم الدين، وتتشرب طمأنينته، وهذا يتطلب قراءة كلية للدين لتحديد الكليات الأساسية، ثم التدرج مع الكليات من الأعلى إلى الأدنى آخذين في الاعتبار أسئلة الحياة العامة واحتياجات المتلقي، والمدة الممكن تخصيصها للمقررات الدينية مقارنة ببقية احتياجات الطالب الدنيوية والعلمية.
إن تحقيق هذا التوازن يتطلب إعادة نظر جذرية في طريقة إعداد المقررات؛ ذلك أن المقررات تعتمد حاليا على مصنفات جرى تدوينها في ظروف المجادلات الفكرية، والمعارك الدينية والسياسية، وقد أدى ذلك إلى وجود اضطراب هائل في تنظيم الأولويات، كما أدى إلى توريط الطالب في نيران معارك فكرية لا حاجة له بدراسة ظروفها وإجاباتها؛ لأنه ببساطة لا ينتمي إليها من جهة ولأن حججها لا تصل إليه من جهة أخرى، كما أن المقرر لن يحول دون تلقي الطالب لإجابات وحجج أخرى حين يثير تلك المسائل.
في المقابل تورطت المقررات في سكوت واسع النطاق عن القضايا التي يثيرها الواقع المعاصر مثل الحقوق الأساسية للإنسان، والحريات الشرعية، وعرض الفروض الكفائية المتعلقة بمصالح الناس الضرورية والحاجية.

ذلك أن الشريعة الإسلامية في مجتمعنا المصدر الأساسي للحقوق والواجبات، وقد جاءت الشريعة بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الأساس الذي تقوم عليه جميع مبادرات الرقابة العامة الفردية والاجتماعية، وقد أدى تجاهل المقررات للنظام السياسي ومبادئه المكتوبة والعرفية إلى تجاهل تنظيم قنوات المشاركة الشعبية والتعبير عن الرأي بطريقة متمدنة، الأمر الذي أوجد فراغا هائلا أصبح ميدانا لشتى أنواع المعارك الاجتماعية التي تسعى إلى تعبئة الفراغ كل بطريقته الخاصة، وقد انعكس ذلك على المناهج من جوانب عديدة منها أن المقررات تضمر -كما تقدم- في الأمثلة خطابا موجها للطالب بصفته الفردية بما يناقض مؤسسات المجتمع ومنها نظام التعليم. فالمقرر في بعض نصوصه يحاول التعويض عن عجزه في المشاركة بطريقة مشروعة عبر تعبئة الطالب في زوايا المقرر بما يحصنه من المؤسسات القائمة، وهذا يؤدي إلى انفصام خطير في مصدر الشرعية الاجتماعية والسياسية، ولا يمكن معالجة ذلك إلا عبر تنظيم قنوات المشاركة وتحقيق الشفافية بحيث يعتمد الجميع على القنوات الرسمية للحياة السياسية والاجتماعية.

إن المقررات تصمت عن آليات اندماج الطالب في مجتمعه ومشاركته فيه، الأمر الذي يجعل التعبئة الدينية التي تلقاها تجاه القيم: ما يجوز وما يحرم، ما يستحسن وما يستقبح.. دون قنوات عامة لمزاولة مواقفه تجاه ما تشربه من قيم وتعبئة، ويترتب على ذلك إما البحث عن قنوات غير مشروعة يواجه بسببها التأنيب والمعاقبة، وإما أن ينكسر أمام عجزه فيبقى محبطا عاجزا ربما تلقفته دعوات الغضب والتمرد لتسترد له بعض ما عجز عن الوصول إليه، ولا يمكن معالجة ذلك إلا بتنظيم وسائل المشاركة بمختلف أنواعها.

إن الطالب يواجه في حياته العامة شتى مظاهر التخلف الحضاري في مواجهة العدو المحتل والغلبة الدولية في كثير من المؤسسات والميادين، فيعجز عن الاستجابة لنزعات الانتصار لأمته ومساعدة مجتمعه والإسهام في الرقي بها لفقدان المجتمع للروابط المهنية والمؤسسات المدنية التي تتيح له المشاركة فيما يميل إليه من تطوع، وقد كان من واجبات المقررات الدينية والنظام السياسي فتح آفاق المشاركة المدنية، وتيسير سبل تنشيطها وتدريب الطالب على ممارستها بحيث تكون منفذًا يحقق البناء ويستوعب المشاركات، بيد أن المناهج تكاد تحصر أوجه المشاركة في الجمعيات الخيرية، والحسبة، وهما من أبواب الخير لكنهما جزء محدود من واجبات الأمة.

ثانيا: التوصيات:

1– إعادة النظر في المقررات الدراسية بحيث تتم تنقيتها من آثار المعارك الكلامية والسياسية في تاريخ الجدل العقدي، لتتركز على تقرير مقتضى النصوص برصانة ورفق، وتجنيب الطالب المعارك الكلامية التي يمكن أن تترك للمختصين.

2– تنقية المقررات من النزعات التكفيرية التي يضطرب بها، والتركيز على ما دلت عليه النصوص واستقر عليه كبار فقهاء الأمة من الكف عن تكفير أهل القبلة ووجوب تقرير عصمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
3– تعميق مفاهيم الحقوق الشرعية للإنسان.
3– تقرير قواعد التعامل مع المخالف كالعدل والرحمة والمجادلة بالتي هي أحسن، وبيان أسباب رفع الملام عن أئمة المسلمين وعلمائهم.
4– إعادة التوازن إلى مضمون المقررات الدينية بحيث تتناسب مع حاجات المتلقي بتقرير مقتضى النصوص وتجنب المجادلة وتجنيب الناشئة مزالقها.
5– ضبط منظور فقهي متزن تجاه الحضارات والمعارف بحيث يتمكن المتلقي من استثمار نتاج الحضارات والمعارف دون إفراط أو تفريط في التعامل الفقهي والكلامي معها.
6– ضبط منظور فقهي متزن تجاه التعامل مع الآخرين في حالات السلم والعدوان والعهد وغيرها بإيجاز يقرر الرؤية العامة دون إرباك أو تفصيل.
7– توعية المتلقي بواجباته الاجتماعية (فروض الكفاية) وآليات أدائها.
8– توعية المتلقي بواجباته في المشاركة السياسية الشعبية وآليات أدائها.
والله الموفق.


مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..