الاثنين، 15 فبراير 2016

هل تستحق داعش حرباً

image

عصر الأحداث المتسارعة يجعلك حين تُعلِّق على حدث ما، تضع في حسبانك أن الأمر قد يتغير وأنت تتكلم، وأن تعليقك لن يصل إلى القُرَّاء إلا وهو فاقد الجدوى بسبب ما تراكم بعده من أحداث. أكتب الآن والطائرات الحربية والمقاتلون السعوديون في قاعدة
إنجرلك التركية، والسعودية عازمة على حرب برية بغطاء جوي على تنظيم داعش في سورية، وإيران تغير خطابها فجأة، وتستبدل الاستعداد للتعاون مع السعودية في سورية بالتهديد والوعيد الذي كان مسؤولوها يطلقونه فيما لو دخلت السعودية إلى سورية. ولا أعلم حين ينشر المقال ماذا سيكون عليه الحال. لكن سأتطرق هنا لتقييم تاريخي مما لا يمكن أن يتأثر بتسارع الأحداث، يتحدث هذا التقييم عن تنظيم داعش، وهل يستحق هذا التنظيم أن تنجر المملكة من أجله إلى حرب برية، وتفتح من أجله جبهة أخرى وهي لم تزل مشغولة بحماية الجبهة الجنوبية؟ هذا الاستعراض التاريخي يوضح للقارئ حقيقة هذا التنظيم وحاجتنا الماسة إلى اجتثاثه عسكريا كما نحن بحاجة إلى اجتثاثه فكريا، بل قد أثبتت التجربة أن الاجتثاث الفكري لمثل هذه التنظيمات الخبيثة لا يكون حاسما دون الاجتثاث الوجودي على الأرض، وقد نبهت المملكة العالم لخطر هذه التنظيمات ليقوم بمسؤوليته على اجتثاثها، لكن يبدو لي أنه قد تأكد لها ما كان يصرح به عدد من المتابعين من كون هذا التنظيم صنيعة عالمية، وأن الدول التي تتولى القيادة في هذا العالم متواطئة بأشكال مختلفة من أجل إبقائه في الوجود. ولن أخفي القارئ سرا أن أصل هذا العرض أو التقييم التاريخي: تغريدات كنت كتبتها قبل أكثر من عام بعنوان ماذا فعلت داعش، وكانت ردا على المخدوعين بها آنذاك. فإبان الاحتلال الأميركي للعراق وبعده بقليل كانت القاعدة في بلاد الرافدين ثم دولة العراق الإسلامية هما الجذر الذي تفرعت عنه داعش، فما ارتكبه هذان التنظيمان قبل نشوء داعش لا يمكن أن يكون هو خالي المسؤولية عنه، فاتحاد العقيدة والبواعث والمنشأ، بل القيادات يُسَوِّغُ عند التقييم التاريخي وضعهم جميعا في سلة واحدة كما يُقال. فمما فعلته هذه التنظيمات: بعث عداوة السنة في قلوب عوام الشيعة في العراق، وهدم حالة التعايش التي كان يعيشها العراق قبل ظهور هذه التنظيمات، وهو هدف إيراني لتكوين الاصطفاف الشيعي وتقويته وإشعارهم بالخوف من السنة وإلجائهم لقبول الاستظلال بإيران، وقد نجحت إيران في تحقيق هدفها بطريق تفجيرات غير مبررة يقوم بها عناصر التنظيم في تجمعات الشيعة، وربما قامت إيران ببعضها ونسبتها لهم وتبنوها. وهذا الهدف الذي حققته تلك التنظيمات ويسعى داعش للوصول إليه في السعودية من خلال استهداف الشيعة في الخليج لتكرار التجربة العراقية نفسها. ثم نجحت المخابرات الإيرانية في تكوين كتائب الموت الصفوية التي لا تزال تعمل حتى اليوم مستحضرة تلك الجرائم القاعدية كمعزز نفسي لتأجيج الأحقاد واستجلاب الأحقاد. وفي الوقت الذي كانت فيه الكتائب الصفوية كجماعة أبي درع وجيش المهدي تقتل السنة، لم يكن ما يُسَمَّى دولة العراق الإسلامية تدافع عن هؤلاء السنة، بل كانت تتولى مقاتلة المقاومة السنية للاحتلال الأميركي آنذاك، بحجة عمالتهم للطواغيت أو كفرهم، وللأسف فقد كانت المقاومة السنية تنهزم أمام شراستهم. لذلك استطاع الأعداء الثلاثة: ما يُسمى بدولة العراق الإسلامية، والصفويون، والجيش الأميركي، كل فيما يخصه إخماد جميع فصائل المقاومة السنية العراقية، وهروب قياداتهم الدينية والاجتماعية والعسكرية إلى الخارج، وإبقاء سنة العراق دون أي رمز يمكن أن يجتمعوا عليه. وكان في أوقات قليلة يقع التحام قتالي بين عناصر دولة العراق الإسلامية المزعومة وكتائب الصفويين أو الأميركان، لكن ذلك الالتحام، وإن قل، يستغله بمهارة إعلام الجماعات التكفيرية لتعزيز موقفه أمام الأتباع وليس لإحداث أي تغيير في الخارطة السياسية، وكان معظم نشاط الدولة المزعومة ضد الصفويين والأميركان تفجيرات ينفذها أبناؤنا لا يمكن إطلاقا أن تحسم المعركة. وبعد تصفية أجنحة المكر الثلاثة للمقاومة السُّنيَّة وتسليم الأرض للصفويين ذابت دولة العراق الإسلامية فجأة، وتم سجن كثير من أتباعها وهم الذين كانوا آلات تتحرك، أما المحركون فلا يعرف من أمرهم شيء، بل اختفوا، ومنهم من زعموا أنه كان مسجونا وسوف تبدي الأيام خلاف ذلك. المهم أن العراق تم تسليمه بالكامل لإيران وأتباعها، ولم يكن هناك ثَمَّ من يستطيع تغيير هذه الحقيقة، فالمنافقون لأتباع الصفويين بين مقتول ولاجئ ومستضعف. بعد نجاح الثورة السورية وسيطرة المعارضة السورية على 70 % من الأرض ظهر داعش بمراحله المعروفة وأعظم إنجازاته تعطيل الثورة وإنقاذ النظام الأسدي وإيجاد الشقاق بين الثوار والاعتداء عليهم بالمبررات نفسها التي قاتلوا من أجلها المقاومة العراقية المخلصة، العمالة للكفار والرِّدة. وكان من إنجازات داعش إيجاد الحجة للنظام العالمي للصمت عن جرائم الأسد أمام الرأي العام الغربي، ثم تحويل الأولوية لدى دول العالم من إسقاط الأسد إلى إسقاط الثورة، حيث تم اعتبارها الثوار إرهابيين، بعد أن مكَّن الإعلام العالمي لداعش ليكون هو الصوت الأعلى من بين فصائل المعارضة. ولم يتغير هذا المفهوم لدى العالم إلا بعد أن نجحت السعودية في احتضان فصائل المعارضة السورية جميعا وتقديمها للعالم على أنها هي الممثل الحقيقي للسوريين وليس داعش. وتنفس سُنَّة العراق الصعداء بعد رحيل التكفيريين من بلادهم، فقام أهل الأنبار باعتصامات سلمية أخذت بُعدا عالميا، ومن أجل ذلك كادت تُودي بحكم نوري المالكي وبالنفوذ الصفوي إلا أن داعش قدم كتائبه من سورية ودخل إلى الأنبار، وقام هي بتفريق اعتصام أهل الأنبار الذي دام عاما، وكاد يأتي بثمار رائعة لكن داعش نيابة عن إيران فرقه ثم ذاب، وبدأ المالكي بضرب السنة بالأسلحة الثقيلة محتجا بكونهم دواعش، والعالم يقف معه صامتا. وقامت العشائر في الموصل بثورة لا نعلم بدقة كيف اشتعلت لكن الذي نعلمه أن من إنجازات داعش إيقاف تلك الثورة بإعلانهم الخلافة وتهديدهم كل من يخرج على الخليفة المزعوم بالحرب، لذلك توقفت العشائر خوفا من الاقتتال السني السني الذي كان داعش ومن بعثه يخططون له، وتم إنقاذ الحكومة الصفوية من ثورة العشائر مع أن كتائبهم كانت على مشارف بغداد، ولم يكن بينهم وبين دخولها وإنقاذ العراق من الاحتلال الإيراني إلا خطوات، لكن المخطط الصفوي أتى بداعش لإنفاذ مهمة ونجح فيها. ومن إنجازات داعش المساهمة في تأمين وصول مقاتلي عصائب أهل الباطل والميليشيات الصفوية إلى أعماق سورية لدعم النظام وحزب اللات، فقد كانت وما زالت الحافلات التي تحمل الكتائب الإرهابية الصفوية إلى سورية تمر بسلام من الأراضي السورية الشرقية التي تخضع لسلطة الدواعش. ومن إنجازات داعش محاولة إحداث الفوضى في الشمال الكردي الذي يعد حتى وقت قريب ملاذا آمنا للفارين من أهل السنة من نير الحكم الصفوي، وإقناع بعض الفصائل الكردية بمناصرة الأسد على اعتبار أنه هو المتكفل بحرب داعش، ولا يخلو الأكراد المناصرون للأسد من آثار عقيدة ماركسية تحدوهم لمناصرته واتخاذ داعش ذريعة أدبية فقط. أحيانا كان يقاتل داعش الجيش العراقي ذا الغالبية الشيعية العربية، ولم يكن ذلك انتصارا للسنة، حاشا وكلا، بل لكون إيران تريد إضعاف الجيش العراقي ولو كان شيعيا مواليا لها، فحقيقة إيران لا يهمها المذهب، وإن كانت تتخذه جسرا، بل يهمها أن يبقى العراق في حاجة لها، ولو كان ذلك على حساب دماء طائفتها، وكان داعش يقدم لها هذه الخدمة بمهارة فائقة. وفي حين كانت مجازر الأسد لمثيل لها في حُمُّص وحماة والقصير وحلب، وكان حصاره لغوطة دمشق الشرقية قاتلا، كان داعش يشغل الإعلام العالمي بما يرتكبه في حق اليزيديين من منكرات وفظائع ينسبها للشريعة، كما يشغلهم بالقتال في كوباني لاقتحام تركيا دون أي مبرر اقتصادي أو سياسي، سوى إشغال العالم عن جرائم الأسد. وحرص الدواعش على أخذ الشريط الحدودي بين تركيا وسورية من يد الثوار السوريين، لا من يد النظام، ليحولوا بين الثوار وأي دعم من جهة تركيا، ونجحوا فعلا في ذلك، لا سيما أن الثوار السوريين كانوا في بادئ الأمر يتورعون عن قتالهم، لكن الدواعش لم يتورعوا عن قتال الثوار الذين وقعوا بين قتال النظام الأسدي وقتال الكتائب الإيرانية وقتال الدواعش. ويعتبر داعش أكبر داعم للمشروع الإيراني في إثارة شيعة الخليج والسعودية خاصة لتحقيق الفوضى في بلادنا، فإيران وداعش يعملان الشيء نفسه، وليست تلك أولى نقاط الالتقاء بينهما. فإعلان البغدادي زعيم داعش في خطابه طموحه إلى التمدد نحو السعودية مع أنه لم يتقدم لفك الحصار عن الغوطة مثلا دليل على عنايته بالأولويات الإيرانية، والعجيب أنه في ذلك الخطاب كان يتشدق بتحرير فلسطين، وكأن طريقها يمر عبر السعودية. وضع داعش لنفسه قاعدة قتال المرتد أولى من قتال الكافر الأصلي، ليبرر للمتعاطفين تركه الأسد وعصابته والتفاته للمسلمين، فهو يقاتل الثوار السوريين نيابة عن الأسد وإيران، ولا يكلفه ذلك إلا رفع شعار قتال المرتد أولى من قتال الكافر، وبهذا الشعار قتلت قبيلة الشعيرات السورية وقوامهم سبعمئة رجل، وقتلت المئات من عشيرة آل بو نمر العراقية، وقضى على العديد من ألوية الثورة السورية، ولم يدخل مع قوات الأسد إلا في مواجهات قليلة ومسرحية، بل إن قوات الأسد انسحبت دون أي مقاومة من مدينة تدمر، لتدخلها قوات داعش وتقوم هذه القوات بتدمير سجن تدمر الشهير لإخفاء كل معالم الجرائم الأسدية التي كانت ترتكب هناك، وقاموا بتفجير الآثار لإخفاء جميع سرقات الآثار التي قام بها النظام، وبعد أن تم لهم ذلك، انسحب داعش من تدمر لتستغلهم قوات الأسد بسلام، مع شيء من المعارك المسرحية. المطلوب من داعش أميركيا وإيرانيا وصهيونيا هو المشاركة في خطتهم إحداث الفوضى في دول السنة، ولذلك اقتصر تهديد البغدادي عليها، فحين تستمع لخطابه تجده يهدد السعودية ومصر وليبيا والمغرب، لكنه لا يتعرض للكيان الصهيوني أو إيران مطلقا. كانت فكرة تنظيم القاعدة كما صرح بذلك بعض قياداتها: القيام بأعمال من شأنها جر الصليبيين لجزيرة العرب وبلاد الإسلام ليتمكنوا بزعمهم من سحقهم، وهذا كما لا يخفى ليس انهيارات في عقليتهم الاستراتيجية وحسب، بل شراكة تآمرية تعلن عن نفسها، وقد عمل داعش على الشيء نفسه وهو إعادة الصليبيين إلى العراق والشام، عن طريق ارتكاب الجرائم التي توجد المبرر القانوني الذي يتخذه الغزاة مظلة لوجودهم العسكري، ثم يعلو صراخ هؤلاء المعتوهين بالمناداة بقتال الصليبيين، ولا يستفيدون من التجارب الفاشلة، فكرة جلب الصليبيين لمناطق الصراع للقضاء عليهم ثبت فشلها، فها هي أفغانستان محطمة وكذلك الصومال واليمن وليبيا وسورية والعراق، ويريد داعش للسعودية ودوّل الخليج ومصر أن تكون كذلك، وما زال يرفع هذه الذريعة وهذا الشعار. يستخدم داعش بعض الأحاديث الواردة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أخبار الفتن ويوظفه لتبرير عداوته للسعودية، منها تبشيره صلى الله عليه وسلم بغزو الجزيرة ثم فارس والروم، وهذه البشارة تمت، كما وصف صلى الله عليه وسلم، وبالترتيب الذي أخبر به، فتنزيل الحديث على مؤامرة داعش لعب بالعقول السخيفة، فقد غزا أبوبكر -رضي الله عنه- أنحاء الجزيرة وقمع الردة ووطد دولة الإسلام ثم اتجه للعراق، وأتم الله على يد عمر -رضي الله عنه- فتح بلاد فارس ثم بلاد الروم. وتم استكمال فتح آسيا الصغرى في عهد السلاجقة الأتراك في القرن الرابع الهجري، ثم فتحت القسطنطينية وشرق أوروبا على يد العثمانيين. فاستخدام البشائر النبوية لتمرير جرائم داعش لعب بالعقول يجب أن يتوقف. والحقيقة أن أهل البدع أشد الناس حرصا على تنزيل أحاديث الفتن على الواقع ليثبتوا شرعية وجودهم، ولا نعلم فرقة فعلت ذلك إلا انتهى الأمر على خلاف قولها، وهذا ما سينتهي إليه أمر داعش بحول الله وقوته. د.محمد بن إبراهيم السعيدي
  • 15 فبراير 16

مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..