لم أصدق أبدا عندما انتهيت من قراءتي الأولى لما نشرته مجلة «ذي اتلانتيك» الأمريكية، وكتبه جيفري جولدبرج تحت عنوان: «عقيدة أوباما»، وما قاله الرئيس الأمريكي بكل صراحة –أو بجاحة لا
فرق- رأيه في دول الخليج والسعودية، وراسلت مباشرة الزميل الكبير جمال خاشقجي لأتأكد من أن الحوار حقيقي، وأن ما ورد في تلك "الوثيقة" تعبر عن فكر وقناعات الرئيس الأمريكي.
فرق- رأيه في دول الخليج والسعودية، وراسلت مباشرة الزميل الكبير جمال خاشقجي لأتأكد من أن الحوار حقيقي، وأن ما ورد في تلك "الوثيقة" تعبر عن فكر وقناعات الرئيس الأمريكي.
ربما كان الأمير تركي الفيصل أول من قام بالرد على ذلك الحديث الذي لم يراع كل هذا التاريخ الطويل بين السعودية وجاراتها من دول الخليج مع الولايات المتحدة الأمريكية، عبر مقالته الشهيرة بالزميلة "الشرق الأوسط" بعنوان "مهلا يا سيد أوباما"، أفصح فيها عن موقف النخب السياسية السعودية التي فوجئت تماما بما قاله أوباما وقال له بصراحة : "نحن لسنا من يمتطي ظهور الآخرين لنبلغ مقاصدنا"، واتهمه بدعم الإخوان المسلمين، ملمحا من طرف خفي بأن موقفه انعكاس لموقف المملكة من هذا الأمر، وكشف الأمير تركي في مقالته كيف وبّخ مليكنا عبدالله –يرحمه الله- الرئيس الأمريكي اوباما عندما قال له: "لا خطوط حمراء منك، مرة أخرى، يا فخامة الرئيس".
لا أدري أين هي اللياقة الدبلوماسية في تصريحات صفيقة مثل هذه، تضرب بعرض الحائط تاريخا طويلا من العلاقات المتينة بين السعودية ودول الخليج وبين الولايات المتحدة، ولماذا قبل شهور من مغادرته البيت الابيض يفجر الساحة السياسية بهكذا تصريحات، فالسيد أوباما يعتبر بشكل جازم –بما سطره جولدبرج- أن السعودية ودول الخليج العربية هي سبب ومنبع الارهاب ليس في المنطقة فقط, بل في العالم كله، ولهذا –بتعبيره- نجد ان الارهاب بالنسبة له كما عبّر عن ذلك هو «ارهاب اسلامي سني» فقط.
سأتوقف شخصيا عند هذه النقطة، لأسوق لأوباما ما قاله المفكر الأمريكي ذائع الصيت فرانسيس فوكوياما في محاضرة له في الدار البيضاء عام 2005م، وفوكوياما وقتذاك كان أحد منظري السياسة الأمريكية مع الرئيس بوش الابن، وحضرت تلك المحاضرة شخصيا، وانتابتني وقتها، ذات نوبة الغضب التي انتابتني بعد تصريحات أوباما، عندما قال فوكوياما بأن:"السعودية هي التي خلّقت السلفية الجهادية بأموال البترودولار"، ومضى في شرح مسهب لموضوعات متعددة. طلبت منه بعد المحاضرة لقاء منفردا، وواجهته في حوار صحفي طويل بقولي: "أليس من المغالطة العلمية، أو أبعد من ذلك (نفاق المثقف)، غضّ الطرف عن الدور الأمركي وجهاز المخابرات الأمريكية في تخليق هذه السلفية الجهادية، التي اتهمت فيها بلادي اليوم في محاضرتك؟".
الرجل أطرق برأسه طويلا ثم أجاب موافقا: " كثيرون في الولايات المتحدة يعتقدون بأننا ارتكبنا خطأ كبيرا في أفغانستان، لقد أردنا أن نخرج السوفييت من أفغانستان ولكننا للأسف خلقنا هناك وحشا، وأنا لا أحمّل السعودية المسؤولية لما حصل في أفغانستان، ولا أعتقد أن كثيرين في السعودية يتوقعون هذه النتيجة التي أدت إلى ظهور الايدولوجية المتطرفة الجهادية، ويجب عليّ بكل أمانة أن أعترف بأن ما حصل في أفغانستان خطأ كبير، وتكرر الولايات المتحدة اليوم ذات الخطأ في العراق، وتساهم في خلق ارهابيين جدد".
فوكوياما أحد الشاهدين يا سيد أوباما بأن بلادك وجهاز استخباراتك هي من كانت وراء تخليق هذه السلفية الجهادية المتطرفة، ويسرني أن أبعث لك بهذا الحوار الذي طبع في كتاب بعنوان: "نهاية التاريخ تحت مجهر الفكر العربي..حوار فوكوياما بمرأة المثقفين العرب"، وطبعته مشكورة دار العبيكان، وتداخلت في الحوار ثلة من النخب السعودية والعربية بكل أطيافها.
البجاحة المؤلمة، عندما يتهم أوباما بأن السعودية ودول الخليج "السنية" يسعون الى استغلال «العضلات» الأمريكية من أجل خدمة اهدافهم الخاصة الضيقة والطائفية، وعودة للتاريخ لنسأله: من الذي استغل الآخر؟، ومن وقف مع سياسة الولايات المتحدة في أفغانستان، وحروب البلقان، والشيشان، بل إن بعض دول الخليج قامت بتمويل ثوار "الكونترا" بأمريكا اللاتينية دعما للموقف الأمريكي، وشواهد وأمثلة عديدة تقول بوقوف دول الخليج أبدا مع سياسات الولايات المتحدة، التزاما بقواعد الصداقة والتحالف الاستراتيجي، وما تقتضيه المصالح لكلا الطرفين، ثم يأتي أوباما ليتحجج –أو يتبجح- أننا نستغل عضلات هذا الكاوبوي، ولكأنه لم يستغل جيوبنا.
أما حكاية أن السعودية ودول الخليج ترعى الارهاب والمنظمات التابعة لها، فلربما كان وزير خارجيتنا البارز عادل الجبير ممن رد على هذه النقطة، في مقالة له في"نيوزوويك"، قال فيها: "لطالما أدانت المملكة الإرهاب، واستمرت في ملاحقة الإرهابيين والفكر الذي يغذيه ومصادر تمويله، الإرهاب يتناقض مع قيم المملكة وطبيعتها وقبل ذلك العقيدة التي تقوم عليها، محاربته أولوية وطنية، الإرهاب آفة عالمية ينبغي التصدي لها، ولن ندخر أي جهد في سبيل ذلك". وأتذكر أنني قلت لفرانسيس فوكاياما في ذلك الحوار معه: "أنتم ألمحتم في محاضرتكم إلى علاقة المملكة وظاهرة الارهاب الموجودة اليوم، لا أدري يا سيد فوكوياما كيف تفسرون وجود حركات ارهابية في الداخل السعودي تستهدف السعودية ذاتها، السؤال: هل أنتجت السعودية الظاهرة لتحارب بها نفسها..هل يستقيم هذا التحليل منطقيا؟".
ونأتي للفرية التي قال بها أوباما عن حقوق المرأة في السعودية، وأن نصف المجتمع معطل، وأتعجب أن كل هذا الحكم الجائر من قبله والصحافة الغربية التي تروج باضطهاد النساء في السعودية، يقوم على مسألة عدم قيادتها للسيارة، وقد أغضوا الطرف عما أنجز خلال العقد الأخير، ولربما -مرة أخرى- ردّ وزيرنا المفوه الجبير في مؤتمر "ميونيخ العالمي للأمن" قبل أشهر وقتما قال: "لقد كانت المملكة عام 1960 خالية تمامًا من أي مدارس لتعليم البنات، نحن الآن لدينا العديد من الخريجات الجامعيات اللاتي يمثلن 55% من إجمالي الحاصلين على مؤهلات جامعية في المملكة، نحن الآن لدينا العديد من النساء اللاتي يعدهن المجتمع السعودي من خيرة أطباء ومهندسي ومحامي المملكة، بل إن الكثير من النساء السعوديات تفوقن- أيضا- في مجال إدارة الأعمال".
ورد الجبير في حديثه عن مسألة المسائل وقضية القضايا، والتي يقوم الغرب ويقعد لأجلها، إلى أن مسألة قيام المملكة بالسماح للمرأة بقيادة السيارة في الوقت الحالي يعد أمرًا مستبعدًا، وقال: "القضية لا تتعلق بالدين وأحكام الشريعة الإسلامية، ولكن هناك مسائل اجتماعية يجب مراعاتها، الوضع في المملكة ليس مستغربًا فالولايات المتحدة الأمريكية استغرقت 100 عام لإعطاء المرأة حق التصويت، واستغرقت 100 عام أخرى لانتخاب أول متحدثة برلمانية، أنا لا أطالبكم بإعطاء المملكة 200 عام لتغير وضع المرأة ولكني أطالبكم بالصبر".
المسائل والموضوعات التي طرقها أوباما في حواره الطويل (20 ألف كلمة) كثيرة، بيد أن الأخطر برأيي، هو رؤية أوباما للحل في مسألة التطرف والارهاب، عندما ذكر الكاتب جولدبرج أن أوباما في أحاديثه الخاصة مع قادة العالم الآخرين، يقول دوما: "أنه لن يكون هناك حل شامل للارهاب الاسلامي إلى أن يتصالح الاسلام نفسه مع العصرية والحداثة، وألى أن يمر باصلاحات مثل تلك التي غيّرت المسيحية"، وهو ما يفسر عدم رضاه عن نموذج الاسلام الأمريكي الذي قدمته تركيا أردوغان، فلأوباما موقف أيضا من الرئيس التركي أردوغان، فيذكر جولدبرج بأن آمالا كانت لدى الرئيس الأميركي في أردوغان، لكنه صار يعتبره منذ فترة حاكماً استبدادياً ذا سياسات فاشلة.
سأعود لكلمة هرطقة التي عنونت بها حديث أوباما، فهي ترجمة للكلمة اليونانية (HAIRESIS) ولم يكن لها معنى "الهرطقة" في الكتابات الكلاسيكية، ولكن في بداية العصر المسيحي صار لها هذا المعني، أي أنها تعني: كل ما يتعارض مع الرأي القويم، أو هي كل نكران لحق قويم.
اسمح لي سيد أوباما أن ما قلته عن بلادي ودول الخليج هي "هرطقة".
مقالتي الكاملة اليوم بالشرق القطرية أبعثها نصا لطلب بعض الأحبة. .
عبدالعزيز محمد قاسم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..