السبت، 16 أبريل 2016

نظام الحسبة في الإمارات

       تستقبل زوّار مبنى النيابة بدبي جدارية منقوش عليها رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري حين ولاه القضاء، وتجعل من يتأملها يسرح بخياله ليرى قاضياً يفترش الأرض وأمامه شخصان يختصمان في جرة عسل، فلا مبنى مخصص للقضاء، ولا قاعة، ولا منصة، ولا أوراق.
وستظل القواعد التي تأمر بها الرسالة ترن في أذن الزائر وسيراها ماثلة أمامه وهو ينهي معاملته في أقسام النيابة والمحاكم، ذلك أن جوهر النظام القضائي لم يتغير لكن تطوّر شكله ليكون ملائماً لزمنه، وهو ما حدث حتى في بدايات العهد الإسلامي، فمن خليفة يقضي بين الناس، أصبح هناك قضاة مستقلون في العصر الأموي، ثم استحدثوا في العصر العباسي منصب قاضي القضاة ومعاون القاضي وكاتبه والمنادي والحاجب وخازن ديوان الحكم والترجمان وغيرهم.

ونظام الحسبة لا يختلف في هذا عن نظام القضاء، فالحسبة معمول بها في دولة مثل الإمارات، لكن الواجبات التي كانت منوطة بنظام الحسبة قديماً، صارت الآن موزعة بين أجهزة متعددة، ولا تحمل أياً منها مسمى الحسبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلاهما مسميان لشيء واحد.

ومن يستقصي واجبات نظام الحسبة قديماً، سيجدها مناطة الآن بأجهزة قضائية وأمنية ورقابية ودعوية. ولا يسمح المقام بالإشارة إلا إلى القليل من الأمثلة. فوزارة العمل مثلا أوجدت نظاماً إلكترونياً تدفع بموجبه المنشآت أجور عمالها عبر المصارف، وهو عين الوصية بإعطاء الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، بل حظرت الوزارة تأدية الأعمال تحت أشعة الشمس في ساعات محددة، لئلا ينهمر عرق ذلك الأجير من شدة الحر.

ووزارة الاقتصاد أنشأت إدارةً لحماية المستهلك تتصدى للممارسات التجارية غير المشروعة التي تضر بالمستهلك، وتراقب الأسعار وتحارب الاحتكار، وهو ما كان يفعله محتسب الأسواق في زمانه.

والجهات الأمنية خصصت وسائل لتواصل الجمهور معها بشأن ملاحظاتهم على ما قد يقع من جرائم وأمور مخلة، كـ«خدمة الأمين»، وهذا يدخل في باب النهي عن المنكر، بالإبلاغ عن وقوعه، وترك مسألة التصدي له للسُلطات.

والهيئة المسؤولة عن الاتصالات تحظر أولا بأول مواقع التعري والمواعدة ولعب القمار والميسر، وتلك التي تتعارض مع القيم والأخلاق، والمواقع التي تعبّر عن كراهية الأديان، وتوفر الهيئة طرقاً لإبلاغ الجمهور عن تلك المواقع، وهو نهي عن منكر إلكتروني، بطريقة إلكترونية، فاختلف شكل النهي باختلاف شكل المنكر، وبقي المضمون.

وماذا يمكن أن نسمي صندوق تسديد قروض المواطنين المتعثرين، وصندوق أبوظبي للتنمية الذي يقدم قروضاً ميسرة لتمويل المشاريع في الدول النامية، وإنشاء «صندوق الزكاة» الذي يهدف إلى إحياء هذه الفريضة وزيادة الوعي بها ويوفر طريقة لاحتسابها وأوجه صرفها، وإنشاء مؤسسة «نور دبي» لعلاج والوقاية من العمى وضعف البصر في الدول النامية، ومؤسسة «دبي العطاء» لتحسين فرص حصول الأطفال في البلدان النامية على التعليم الأساسي، وتوفير الهلال الأحمر الإماراتي آليات كفالة الأيتام وطلبة العلم والأسر الفقيرة وذوي الاحتياجات الخاصة، سوى أنها وغيرها تندرج ضمن الأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير وتوفير الأرضية له؟

وماذا يعني وجود هذا العدد الكبير من المؤسسات والهيئات الخيرية، وتوفير المصارف الإسلامية، ودور رعاية المسنين، والمسلمين الجدد، وإعلان اليوم التاسع عشر من رمضان كيوم للعمل الإنساني الإماراتي، وتحقيق الإمارات المرتبة الأولى في حجم مساعداتها الخارجية، سوى أننا نأمر بالخير وندعو له ونشجع عليه ونوفر فرص المساهمة فيه؟

ومن المعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، وأجهزة الدولة تؤدي هذا الفرض لكن تحت مسميات مختلفة، وهو عين الصواب، إذ أن ترك هذا الواجب بيد كل من هبّ ودبّ يؤدي إلى استغلاله وإثارة البلبلة، فنحن كمسلمين لسنا متفقين، بسبب اختلاف فقهائنا، فيما يعد معروفاً وما يعد منكراً في أمور كثيرة، كالنقاب والتدخين والموسيقى والإبداع الفني وغيرها. ولم يعد مجتمعنا محصوراً بالمسلمين، فهناك أجانب من ديانات أخرى يعيشون بيننا، ولا يمكن تأدية ذلك الواجب من قبل الأفراد إلا بوقوع مصائب لا تعد ولا تحصى.

تحديث القضاء لم يمس أساسياته وقواعده، والأمر نفسه ينطبق على الحسبة، تغيرت أساليبها وتم تقنين طرقها، وبقيت قواعدها.
أحمد أميري






تاريخ النشر: الخميس 12 سبتمبر 2013

المصدر


مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..