رحلة أبها في دفاتري القديمة ( صفحة من مذكراتي صيف 1425هـ ) !!!

** البساط الأسود ؟؟

اثنتا عشرة ساعة كانت كافية لتلتهم سيارتنا البساط الأسود الممتد من الرياض إلى أبها عبر وادي

الدواسر ؟
البساط من تحتنا يمتد سريعاً كما يجري السير المتحرك في المطارات حين ينقل المسافرين من صالة إلى صالة ومن محطة إلى محطة ؟
وثلاث ساعات ونصف استغرقتها الرحلة فوق هذا البساط من أبها إلى الباحة ؟
وساعتان من الباحة إلى الطائف؟
وساعة من الطائف إلى مكة المكرمة ؟
وأقل من ساعة من مكة المكرمة إلى جدة ؟
لتكتمل رحلة الذهاب وتبدأ رحلة العودة في ساعتين من جدة إلى الطائف ؟
وثمان ساعات من الطائف إلى الرياض ؟
هذه الساعات تجري والبساط الأسود يجري والدقائق قبل الساعات من أعمارنا تجري وتجري ؟
الأعمق تأملاً أننا لابد أن نحرس نظراتنا من هجمة الغفوة أو النوم أثناء سيرنا على البساط الأسود وكأننا نرغمها على أن تراقب الساعات وهي تلتهم هذا البساط الأسود الذي يظهر في الأفق من بعيد وكأنه ليس له آخر ، نطويه في محطة لنجده ممتداً أمامنا يزرع الأفق البعيد في المحطة التالية ؟
فهل حرصنا على أن لاتدركنا الغفوة أو النوم ونحن نجري في سيرنا مع الدقائق والساعات من أعمارنا ؟
** التأملات الراكدة ؟؟
البِركةُ مهما كانت مليئة بالماء إذا ركدت تعفنت ؟
هكذا هو الفكر والروح بحاجة إلى إشعال وإشغال يحركهما لتتجدد خلاياهما فلا تتعفن أو تصاب بالجمود ؟
هذا التجدد لايمكن أن يتم من طرف واحد إذ لابد من طرف آخر تناجيه الروح وتداعبه كي تتجدد حركتها وتنطق حيويتها ؟
وبذا يصبح الحوار المفعم بالتأملات وسيلة من أهم وسائل إنعاش الروح والفكر ؛ لأن هذه التأملات هي مفتاح نشاط الفكر وحيوية الروح ؟
إذا غفت هذه الوسيلة أو فقدت أصيبت الروح بالجفاف وتعرض الفكر للجمود وربما تعفنت خلاياهما وفاحت منهما الروائح المنتنة ؟
** وصف جمال الطبيعة ؟؟
هل يمكن للقلم أن يصف جمال الطبيعة بحق ؟
هل تستطيع الريشة أن تطبع الواقع في اللوحة ؟
الصدق أنه لايمكن للريشة ولاللقلم أن يترجما الواقع إلى كلمات أو ألوان ؟
جمال الطبيعة ينبض بالروح المتجددة والرسم والوصف يتوقف عند لحظته ؟
إذن الروح بسموها وشفافيتها تستعصي على الوصف والرسم ؟
لم يبقَ إلا الصورة الظاهرة هي عزاء الكاتب والرسام ؟
القاريء للكلمات أو اللوحة يتخيل نبض الروح وتجددها الذي لم يرسم أو يكتب لتكتمل الصورة في ذهنه فإذا وصل تخيله في عالم سمو الروح وشفافيتها إلى القمة تصبح الكلمات والألوان أقرب إلى الفهم ، وأقرب إلى القلب قبل ذلك ؟
** الجبل الأخضر ؟؟
هذا هو الجبل الأخضر ؟
يلامس الروح بيديه الاثنتين اليد الأولى شموخ الجبال ؟
والثانية خضرة الطبيعة ؟
النسمات العليلة هي بريده إلى الروح كتب في أجنحتها قصائد تأمل لاتنتهي ، نصعد درجاته ال43 ، ياللعجب إنها 43 درجة بالتمام والكمال ؟
لماذا هذه الدرجات وبهذا العدد ؟
ربما لتحرك الراكد في الروح من سمو كي تنشط للتأمل في بديع صنع الخالق وجمال الطبيعة ، ففي كل استراحة بعد عناء عدد من الدرجات يرفع الإنسان رأسه إلى فوق فيجد نفسه دون وعي منه غارقاً في تأمل ماحوله من جمال ، ومتعجباً مما في إيحاءات الطبيعة من روح ؟
ذكريات جميلة تنسكب على تلك الدرجات تنتزع منا الابتسامة تلو الابتسامة ؟
فهل تستطيع هذه الابتسامات أن تكون ساحرة لتجعل البعيد قريباً بذكرياته ؟؟
في هذه اللحظات التأملية الباهرة لابد أن يؤمن المرء أن هناك كائناً حياً اسمه الابتسامة الساحرة ؟
** الانتعاش رعشة ؟؟
رعشة يهتز لها البدن وترفرف لأجلها الروح ..
أقف على قمة الجبل وأرسل من العين نظراتها التي تبعث أشعتها إلى الأفق البعيد عبر البساط الأخضر الممتد أمامي فيطرب لها الخافق الخاشع !
السماء تنهمر بالغيث الهتون وحبات البرد تنتفض لها الأبدان وتصطك الأحناك ؟
وبرغم ذلك نشعر بأرواحنا تقفز هنا وهناك جذلاً وانتعاشاً ؟
المدرجات الخضراء التي تشكل سفوح الجبال تأسر نظراتنا لتجبرها على تأمل المطر وهو يتحول إلى شلالات زاخرة بالروعة يتلقفها مدرج من مدرج ؟
نقترب أكثر فيبهرنا صوت الخرير وهو ينشد ألحاناً مميزة تعانق موسيقاها أرواحنا لتستثير تأملاتنا ؟
شجرة أرز مخروطية يقف عليها طير ملون ذو منقار طويل يخشع على الغصن ليتقي حبات البَرَد البيضاء المصاحبة للمطر وحين نبعث نظراتنا لنطمئن عليه يأخذ بألبابنا منظره وهو يصفق بجناحيه لينفض المطر كموجة البحر عندما تصطدم بالصخور فتتطاير شلالاتها ؟؟
يرفع الطير رأسه ربما ليتأمل روعة المكان فتنزلق قدمه المبللة ليفرد جناحيه حتى لايقع ويطير إلى غصن آخر ؟
** أشجار السودة ؟؟
تلوح السودة هناك حيث تلتف الأشجار إلى بعض في عناق جميل بمباركة الضباب الذي يسحب قدميه على الأرض مخترقاً حلقات التجمع البشري وعوائق الطبيعة ليدخل المسام فيلامس بعذوبته الروح في خدرها والجوانح في مهجعها ؟
نرتقي قمة الجبل لنطل إلى أسفل فنرى جمال الطبيعة كيف يتحول إلى نقطة خضراء كحبة العين الخضراء تلامسها قطرات المطر كما تلامس العين دموع الفرح ونظرات العاشقين ؟
بساط أخضر جميل يمتد عبر الأفق تزينه تلك المدرجات المعشبة وهي تحتجر مياه الأمطار في جنباتها في احتضان معبر عن شفافية وسمو لايدركه سوى الأرواح المتأملة ؟
زخات المطر تعانق الأرض في صفوف متراصة برفق وحنان يبعث في الدواخل الانتعاش والانشراح ويعطرها بأريج الزهور البرية البكر حين يداعبها المطر فتنتشي ويفوح عطرها ؟
شيء لايمكن وصفه يسيح في النفس ليلتصق بجدرانها وتمر به أحاسيسها فتتلون بألوانه وتزهر به حدائق الروح ؟
** شمس السودة ؟؟
منذ أن عرفنا أنفسنا ونحن نؤمن بأن الشمس تبعث الدفء لكنها في السودة لم تفعل ذلك ؟
في عز الظهيرة حيث تعودنا لفحة الشمس الحارقة ارتعدت أوصالنا في السودة البهية ولم تستطع الشمس في ظهيرتها أن تزودنا بالدفء الذي كنا نبحث عنه ونأمله ، حيث تمكن البرد أن يتغلب على دفء الشمس حتى خالط العظم ودخل إلى كل مجاري الدم ؟
والعجيب أنه برغم ذلك لم نشعر بالحزن كثيراً ولابالأسى فقد وجدنا في هذا البرد لذة لاتعدلها لذة ، لاندري كنهها ، غير أننا قد نعلله بأنه دفء الروح وهي تنتعش بالأجواء الجميلة فتشرق عذوبتها في النظرات ، وتصل نشوتها إلى عمق الوجدان؟
** الشقيق شاطيء وشاطيء ؟؟
الشقيق شاطيء يئن بمخلفات البشر حين لايردعهم الوعي عن تركها تشوه منظر البحر الجميل ونسائمه المعطرة بعبقه المميز ؟
لجأنا إلى الشاليه لننعم بشاطيء رملي نظيف وغرف مكيفة حيث ترتفع درجة الحرارة والرطوبة إلى معدل لانحتمله ؟
عندما نزلنا إلى البحر غسلت موجاته ماطبعته حرارة الجو في أجسادنا ورطبت نسائمها يباس الروح بما أشاعته في الجوانح من النشوة حين رأينا موجات البحر تطل برؤوسها البيضاء من بعيد تقفز فوق سطح البحر حتى تصل إلينا فتصطدم بوجوهنا فيصبح مذاقنا مالحاً يطهر حلوقنا وشفاهنا من أسقامها المعتادة ؟
المنظر أصبح أجمل وأجمل حين تزحف تلك الموجات بزبدها لتهبط في المساحة المحجوزة أمام الشاليه برفق وحنان وصوتها الموسيقي يتردد لحناً بعد لحن ؟
وكان لنا مع الروعة ميعاد فهاهي البجعات الملونة ترفع رؤوسها لتغسل الموجات جسدها فتنفش ريشها فرحاً وانتعاشاً ثم تغمس منقارها الطويل في الماء وكأنها تتلذذ بملوحته ؟
** غروب البحر ؟؟
ساعة الغروب في أحضان البحر عالم خيالي ؟
الأفق البعيد وقد صبغته حمرة الشفق وسطح البحر وقد أصبح لامعاً يعكس فرحة الشفق بعناقه ، والموجات تلاحق بعضها كما يفعل السابحون في سباقات السباحة؟
وهاهي الشمس تختفي شيئاً فشيئاً وحولها السحاب يحرس رحلة المغادرة ويمحو حمرة الشفق ومن بعيد يعلن الضباب رحيله ولكن بسرعة أكبر من سرعة السحاب؟
وتظل الأرواح هائمة في هذا العالم العجيب بمعطياته ودلالاته الجمالية ؟
وهاهم الأطفال يلاحقون صغار الأسماك والقواقع فيغطسون شباكهم المعدنية الصغيرة في الماء ليصطادوا بها سمكة صغيرة أو قوقعة تتحرك فيها الحياة فتخيفهم حركة الحياة فيها ثم يطيروا بها فرحاً وتلك السمكة أو القوقعة تنتفض من بقايا الروح وكأنها تشاركهم فرحتهم ؟
جلست على الشاطيء ساعة كاملة أتأمل لحظة انطفاء الموجة حين تصل إلى رجلي الممدودتين في البحر ، وأتذوق سحر وعذوبة ذلك الصوت الشجي المنبعث من تلك الموجات وهي تستسلم لاحتضان الشاطيء المشتاق لها بلهفة ؟
** انبلاج الفجر ؟؟
تأملات ساحرة عندما يتعانق الليل والنهار في لحظة وداع مؤثرة فيذوب ظلام الليل في أحضان انبلاج الفجر وتخفق الروح بأجنحتها المنتشية مع هبوب النسمات العليلة عندما تلفح الوجوه فتخترقها إلى الوجدان حيث تسيل عذوبةً تستمطرها العروق وتتباهى بها الجوانح ؟
إنها لحظة حاسمة حين يغفو الظلام على صدر الضوء يهدهده حتى ينام في غياهب الاختفاء والشمس تصبغ الأفق بأشعتها الذهبية ترسل كمية ضئيلة من الضوء كحراس الغابة حين يطلبون من الزائرين الرحيل ، فيسرع الليل يطوي خيامه قبل أن يفاجئه الحراس بطلب الرحيل الإجباري المتعسف ؟
لحظات ساحرة بحق وحاسمة بصدق ، برغم أنها تتكرر يومياً إلا أنها تأتي كل يوم بنكهة جديدة تستنشقها الروح ، وتتكلم كل يوم بلغة جديدة يحاول الفكر ترجمتها لتصبح مفهومة من العقل والوجدان معاً ؟
فأي لغة هذه اللغة التي يفهمها العقل والوجدان في آن واحد ؟
** قشعريرة الغفوة ؟؟
قشعريرة خاطفة تلك التي تلامس الروح في غفوتها التأملية عندما تصبح فجأة في موقف الدهشة والانبهار من جمال الطبيعة ومن روعة اللحظة التي يتعانق فيها المطر مع الخضرة فتسيل حبات الغيث على وريقات الأشجار في قطرات عذبة شهية ثم تتساقط في موكب بديع يسير ببطء يبعث النشوة ويثير بواعث التأمل ؟
ويشرق بهاء المنظر حقاً عندما تجري الأنهار الصغيرة المتجمعة من قطرات المطر في جنبات الشارع تسابق السيارات ؟
وتتنفس الروعة مرة أخرى حين نتأمل اللمبات الكهربائية وقد أضيئت في المساكن القابعة فوق رؤوس الجبال الخضراء كحبات اللؤلؤ في جيد الحسناء تتخايل بين الأشجار لتسرق المتعة من العين ؟
والنسائم المبللة بالمطر تهب لتصافح الوجوه وتتخطى المعابر إلى عناق الروح في أوج عليائها فينعكس بهاؤها في تطلعاتنا الشغوفة إلى مسارب اللذة المنتشية بعطر اللحظات السعيدة ؟
** خيمة الغيمة ؟؟
نمشي فتكوينا الشمس بحرارتها ثم فجأة تلامسنا النسمات العذبة التي ترطب يباس الروح ببرودتها المحببة فنرفع رؤوسنا دون وعي لنجد أنها ليست سوى غيمة سحاب أصبحت خيمة تسكنها أرواحنا لتنتعش وتسترد حيويتها وضجيج تفاعلها ؟
كم هي كريمة خيمة الغيمة وهي تظللنا بظلّها وتسقينا بغيثها إنها تجري في السماء لاتتوقف لتمد كرمها السرمدي إلى كل روح متلهفة إلى السمو والشفافية ؟
هذه الغيمة الخيمة لاتكلفنا جهداً لنصبها أو لركز أوتادها فهي تنشر نفسها فوقنا حين نحتاج لها وترحل عنا إلى حيث تهفو إليها النفوس المحتاجة لظلالها الوارفة وخيرها الثري لاتهزه الرياح ولاتعبث به القوارض والعاديات ؟
هذه الخيمة الغيمة تحفزنا أن نسأل أنفسنا بإلحاح : ماذا عن التلك الغيمات الساكنة في دواخلنا تستظل بخيمتها أحاسيسنا المرهفة ومشاعرنا اليقظة وتلتحف بها عواطفنا الجياشة وتغرد في أفيائها وأفنانها طيور فرحنا ؟
تقتات عصافير الوجدان من خيراتها وتهب رياحها المعطرة بالعذوبة في الجوانح كلها ؟
** احتباس الأمطار ؟؟
بين أبها والطائف !!
في أبها أغرقتنا الأمطار ببهائها وروعتها ، وفي مصايف أخرى أرهقنا التطلع إلى السماء انتظاراً لأمطار لم يكتب المولى عز وجل لها أن تأتي فكان ذلك باعثاً لنا كي نتأمل ونقارن؟
عندما تحتبس الأمطار يتعاطف الجو معها فتصبح المعاناة صعبة جداً ، في مواضع نجد أن احتباس الأمطار أشعل حرارة الأرض ، وفي مواضع أخرى تحولت خضرة الأرض ونضارتها إلى صفرة يابسة ؟
الماء هو شريان الحياة عندما يجف الدم في الشريان يصبح يباساً متحجراً قابلاً للكسر، وتصبح الحياة معه ناقصة المعنى كثيراً ؟
قليل من الناس يأخذه تأمله إلى المقارنة بين مطر السماء حين يعانق الأرض فتعشب به وتزهو ، وبين مطر الروح حين تهطل خيرات سموها وشفافيتها فتسعد بها أرواح من حولها ؟

د. إبراهيم  بن عبد الله السماري

  تم نشره  قبل ساعة واحدة      ·