الاثنين، 29 أغسطس 2016

مع الشنقيطي وابن خلدون وهينتجتون: من يقود الأمة؟!

       رددت على مسامع صديقي، الذي هلل مستبشرا مغتبطا بمقالة الباحث الموريتاني محمد الشنقيطي "عودة الأتراك إلى الصدارة بجدارة" الذي نشره في موقع "الجزيرة نت"، بأننا نحمّل اليوم تركيا فوق ما
تحتمل.
وسقت له ما قاله صديقي الباحث التركي محمد زاهد جول، الذي ناقشته على ضفاف البسفور قبل عامين، وقال نصا: "كل من يصدّر تركيا قائدة للعالم الاسلامي، وأن أرودغان خليفة عثمانيا؛ يسيء جدا له ولتركيا، ويحمّل تركيا وأردوغان فوق ما تحتملان".
الباحث الشنقيطي سرد ببراعة في مقالته الرصينة الآنفة عن مقومات قيادة العالم الاسلامي، وتوسّل نصوصا لأبّ علم الاجتماع المؤرخ الشهير عبدالرحمن بن خلدون، وكيف احتفى بأن الأتراك قادوا العالم الاسلامي: "الأتراك جددوا نضارة الحضارة الإسلامية بعد أن أبْلتها القرون، وقعدت بها النخب الممسكة بزمام الدولة العباسية، حين تخلَّت عن معاني الرجولة والقوة، وأدمنت الترف والخمول"، ومضى ابن خلدون يصفهم بقوله: "بأن بعث لهم من هذه الطائفة التركية، وقبائلها العزيزة المتوافرة، أمراء حامية، وأنصارا متوافية..‏ يدخلون في الدين بعزائم إيمانية، وأخلاق بدوية، لم يدنِّسها لُؤْم الطباع، ولا خالطتها أقذارُ اللذات، ولا دنَّستها عوائد الحضارة، ولا كسَر من سورتها غزارةُ الترف".
لذلك – بما يقول الشنقيطي- امتدت حقبة الريادة التركية في العالم الإسلامي ثمانية قرون ونصف قرن، من تتويج أول سلطان سلجوقي -وهو السلطان طغرل- في بغداد عام 1055م إلى خلع آخر سلطان عثماني قوي -وهو السلطان عبد الحميد الثاني- في إسطنبول عام 1909م.
بودي أن يطلع القارئ على تلك المقالة المهمة للباحث الشنقيطي، إذ التلخيص مخلّ هنا كثيرا لمحدودية المساحة، وأنا لا أختلف أبدا معه في ما سرد ، سوى في الخلاصة التي انتهى إليها، بأن تركيا بعد الانقلاب في طريقها لتصدّر العالم الاسلامي، ولي أسبابي في ذلك، إذ على مدى التاريخ من يحوي الحرمين الشريفين هو من يقود ويتصدّر، حتى لو كانت العاصمة في بغداد أو القاهرة أو اسطنبول.
وساق الشنقيطي ما كتبه صمويل هنتيغتون الكاتب الأمريكي ذائع الصيت الذي قال في كتابه الشهير"صدام الحضارات" عن هذه النقطة بأن هناك ست دول إسلامية يمكن لها أن تضطلع بدور "دولة المركز" في الحضارة الإسلامية، وهي: السعودية، ومصر، وتركيا، وإندونيسيا، وباكستان، وإيران. فوجد أن خمسا منها تعاني من موانع جوهرية تحول بينها وبين هذه الريادة، إما بسبب "عدد سكانها الصغير نسبيا وعدم حصانتها الجغرافية" (السعودية)، أو بسبب "الفوارق الدينية" بينها وبين جمهور الأمة وسوء العلاقة بينها وبين العرب (إيران)، أو لفقرها في الموارد الطبيعية (مصر)، أو لانقسامها العرقي وعدم استقرارها السياسي (باكستان)، أو لأنها "تقع على حدود الإسلام بعيدا عن مركزه العربي" (إندونيسيا). وبقيت من الدول الست تركيا وحدها هي المؤهلة لريادة العالم الإسلامي، فـ"تركيا لديها التاريخ، وعدد السكان، والمستوى المتوسط من النمو الاقتصادي، والتماسك الوطني، والتقاليد العسكرية، والكفاءة.. لكي تكون دولة مركز.
وانتهى الشنقيطي بعد استعراضه لمقولات هنتيجتون بأن عبرة التاريخ، ومنطق الجغرافيا السياسية الذي تحدث به هنتيغتون، يدلان على أن تحول أي من الدول اليوم إلى "دولة مركز" في العالم الإسلامي يستلزم شروطا ثلاثة: أن تكون قريبة مكانيا ووجدانيا من العالم العربي الذي هو القلب الثقافي للإسلام. وأن تملك القوة الاقتصادية والعسكرية والبشرية والمؤسسية الداعمة لطموحاتها. وأن تملك الإرادة السياسية والاستعداد للتضحية والمخاطرة ثمنا لهذه الريادة.
المسألة هنا مع الباحث الشنقيطي وغيره من المحبين لتركيا وأردوغان ليست مسألة تنافسية، بل أي دولة يقيضها الله تعالى لخدمة دينه وحمل رسالة الاسلام، وتأخذ بالأسباب والسنن التي وضعها الله، ندعو لها، ونفرح أن ينصر الاسلام بها، ولكن اختلافي هنا بأن تركيا اليوم بعيدة عن هذه القيادة التي تستلزم تلكم الشروط الثلاث، وأقف عند الشرط الثالث الذي فيه من التضحية بمقدرات الدولة في سبيل الريادة، وأتصور أن دولة كالسعودية قامت أساسا على حمل الرسالة الاسلامية من معاهدة الامامين محمد بن عبدالوهاب ومحمد بن سعود، وظلت وفية لهذا الشرط، طيلة عهودها الثلاث، وتسابق ملوكها في تحقيق ذلك الشرط، خصوصا في وقت الملك فيصل يرحمه الله تعالى، التي وظفت كل ميزانيات وامكانات الدولة في سبيل تحقيق التضامن الاسلامي، وبقيت على هذا العهد في أزمات أفغانستان والشيشان والبوسنة، وكثيرا من القضايا الاسلامية التي دفعت أكلافا باهضة لهذه الريادة.
صحيح أننا من بعد 11 سبتمبر المشؤومة، كفت يدنا -من مدها لاخواننا في العالم الاسلامي- قليلا بسبب تسلط الأمريكي، ولكن تظل الريادة للعالم الاسلامي هنا، وأننا نقوم بواجباتنا تجاه المسلمين، ونحظى بالمكانة الأولى في قلوبهم، ولا أدل من صيحة مليك الحزم الذي استجابت له الدول الاسلامية، ولو فعل أي زعيم اسلامي غيره، لما كانت الاستجابة بمثل ما استجابوا لسلمان.
هذه النقطة الثالثة ستكون اشكالية كبرى أمام ريادة تركيا للعالم الاسلامي، ولا يستقيم الأمر لها في سوريا مثلا، رغم كل ما فعلته، أو علاقتها مع إيران في هذا الظرف التاريخي مع الدولة الصفوية، فضلا على الأحرج لها أمام الأمة وهي مسألة اسرائيل والتطبيع معها، وهي ماضية قدما في هذا الاتجاه، فلا أتصور أن يقبل العرب والمسلمون أي دولة ،تقوم بالتطبيع السافر مع الصهاينة والدعوة له، لتقودهم، بمثل ما سقطت مصر قبلا.
لا أفهم كيف ستقود تركيا العالم الاسلامي، وهي لم تفعل أي شيء أمام التمدد الصفوي الذي اجتاح الدول الاسلامية، لم تتصد له ولم تقم بأية جهود حيال ذلك، عكس السعودية التي ربما لم يتوافر بها العامل الثاني بشكل تام، في محددات الشنقيطي، ولكن مسألة الريادة للأمة بظني بالدرجة الأولى ستكون لمن يحمل الرسالة الاسلامية ويذود عنها، ويا لأكلافها!!.
هناك اشكالية تتمثل في اللسان العربي، إذ لا تقوم حضارة اسلامية إلا بها، والقيادة العثمانية التي امتن الله بها على الأمة طيلة القرون الثمان كانت عسكرية فقط، إذ تخلفت الأمة في تلك الفترة حضاريا عن العالم، ونهضت أوروبا وقتها، وأتمنى من الباحث الشنقطي وكل المراهنين على ريادة تركيا تأمل الداخل التركي مليا، فمظاهر التخلع والأوربة الظاهرة، والعلمانية الضاربة في صميمها تحتاج أزمنة طويلة لتتأسلم، رغم كل ما يفعله حزب "العدالة والتنمية".
هناك سنن قال بها ابن خلدون لمن يريد أن يقود العالم الاسلامي ويحقق النهضة له، عندما أشار إلى انتكاسة العرب وهزيمتهم الحضارية: "السبب في هذا التراجع هو إهمال العرب لمصدريْ قوتهم، وهما الرسالة الإسلامية والعصبية الاجتماعية".
الدولة التي تأخذ بالرسالة الاسلامية، وتجعلها هدفا وتذود عنه؛ هي من تسود وتتصدر وتقود أمة الاسلام، ومن تتنكر لها تسقط.

   بقلم: عبدالعزيز قاسم
     صحيفة المصريون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..