الثلاثاء، 27 سبتمبر 2016

هل البنك الدولي عونا للضعفاء أم أداة للأقوياء ؟

 تقديم :
عندما تحدثنا سابقا عن منظمة التجارة العالمية كان هدفنا تعريف القاريء العربي بالمنظمات الدولية وكيف تعمل ومن تمثل وكيف تنعكس سياساتها على واقعنا العربي والإسلامي ، وإعتقدنا أن الحديث عن منظمة التجارة العالمية كان كافيا لإعطاء صورة عن
المنظمات الدولية في عالم اليوم ، غير أن أحد القراء الكرام بعث برسالة يطلب منا فيها أن نتحدث عن البنك الدولي كمنظمة دولية أخرى وها نحن نستجيب لطلبه الوجيه لأن البنك الدولي كما سيتضح لاحقا هو أكثر أهمية من منظمة التجارة العالمية خاصة في ما يتعلق بقضايا التنمية المختلفة لأن موارده أكبر وتدخله في سياسات الدول النامية أكبر وتاريخه كذلك أطول .
التأسيس والأهداف
إن ما يعرف اليوم بالبنك الدولي هو في الحقيقة كيان من منظمتين الأولى يطلق عليها البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية (IBRD ) وقد تأسست مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية وكانت مهمتها هي إعادة إعمار أوروبا واليابان من الدمار الذي خلفته الحرب أما الثانية فهي ما يعرف بالإتحاد أو الرابطة الدولية للتنمية (IDS ) والتي تم تأسيسها عام 1960 وذلك من أجل معالجة الأخطاء التي حصلت في ممارسات البنك العالمي للتنمية والإعمار في عملية تقديم القروض . كما وأن هناك مؤسسات أخرى تندرج في ما يعرف بمجموعة البنك الدولي وهي تكمل دور البنك الدولي بمنظمتيه المذكورتين . ولا شك أن البنك الدولي يعتبر أكبر مؤسسة تنموية عالمية ففي عام 2002 قدم قروضا تصل إلى 19.6 مليار دولار إلى 229 مشروع منتشرة في حوالي 100 دولة ,ويبلغ عدد العاملين فيه والمنتشرين في العالم أكثر من 10000 موظف [1].
الأدوات والتمويل
يقدم البنك الدولي نوعين من القروض : قروض إستثمارية و قروض تسهل عملية تصحيح السياسات. أما القروض الإستثمارية فإنها تستخدم لتمويل المشروعات الأساسية كالطرق والموانيء وتوفير المياه والصحة والتعليم وتمتد لفترة 5 إلى 10 سنوات . أما القروض التصحيحية فتهدف إلى تطوير أسواق تنافسية من خلال بناء المؤسسات القانونية التي تنظم أداء السوق وتصحيح الإختلالات في نظام الحوافز والأسعار أي تحرير السوق من القيود وتوفير البيئة المشجعة لتطور القطاع الخاص وإتخاذ الإجراءات الإحتياطية لمواجهة الأزمات الإجتماعية والكمالية والمساعدة على تحسين أداء المؤسسات العامة والخاصة وهذا النوع الثاني من القروض مدته بين سنة وثلاث سنوات . ولاشك أن هذه الوظائف للبنك الدولي لم تكن بهذا الشمول عند تأسيسه وإنما توسعت مع تجربة البنك وممارساته المتتالية عبر أكثر من ست حقب زمنية . فعلى سبيل المثال لم تكن من بين مهام البنك المساعدة على توفير الإجراءات الإحتياطية للأزمات إلا بعد أزمة شرق آسيا وأمثالها من الأزمات التي حلت بالإقتصاد العالمي خلال العشرين سنة الأخيرة وكذلك الإهتمام بنوعية الحكومات [2]. وتختلف المنظمتان التي يتكون منها البنك من حيث مصادر تمويلهما . فالبنك الدولي لإعادة الإعمار يحصل على تمويله من أسواق المال العالمية ببيع السندات والأدوات الأخرى إلى المؤسسات المالية والمستثمرين خاصة في الدول الصناعية ويقدم قروضه للدول التي لديها موارد وتستطيع إعادة القروض خاصة الدول النامية ذات الدخل المتوسط كالصين والهند وغيرها بينما تحصل المنظمة التصحيحية على تمويلها من أعضاء البنك الأغنياء وتقدم قروضا ميسرة بكلفة منخفضة للدول الفقيرة .
الإدارة والتصويت
نظريا البنك الدولي هو ملك لأعضائه ال 184 ومن المفترض أن يكون التصويت متكافيء والإدارة مشتركة بين هؤلاء الأعضاء حتى تكون لهذا البنك مصداقية وتأثير . إلا أن الواقع يشير إلى أن البنك الدولي تهيمن على قراراته الدول الصناعية الغنية خاصة الولايات المتحدة الأمريكية . فمجلس المدراء التفيذين للبنك البالغ عددهم 24 عضو منهم 5 أعضاء للدول التي تملك أكبر الأسهم في تمويل البنك وهي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا واليابان . كما وأن السعودية والصين وروسيا يمثل كل منها مدير واحد ، أما المدارء ال 16 الباقين فإنهم يمثلون 176 دولة وهذا يعني أن كل من هؤلاء المدراء ال 16 يمثلون عددا من الدول المختلفة والتي لا يعرف عنها المدير التفيذي شيء . والصين التي تمثل حوالي 13% من الإنتاج العالمي والهند التي تمثل 6% من الناتج العالمي والسعودية التي تمثل 0.6 من الناتج العالمي كل هذه الدول تتساوى في التصويت في البنك الدولي بحصول كل واحدة منها على حوالي 2.8 % من الأصوات . وهناك إتفاق غير مكتوب على أن تكون رئاسة البنك لدى الولايات المتحدة بينما يكون المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي – المؤسسة الشقيقة للبنك الدولي والتي تهتم بأمور النقد وموازين المدفوعات- من الدول الأوروبية . ويعود هذا النفوذ الأمريكي إلى نظام التصويت في البنك الذي يعطي كل عضو 250 صوت أساسي حتى يكون لكل دولة صوت وبعد ذلك يضاف إلى هذه الأصوات أصواتا أخرى ترتبط بحجم المساهمة في رأس مال البنك والتي يتم تحديدها بحجم إقتصاد الدولة وهذا يعني أن الولايات المتحدة التي يزيد ناتجها المحلي الإجمالي على ربع الناتج العالمي تحصل على أكثر من 15% من إجمالي الأصوات في البنك وهذا يعطيها حق الفيتو في قرارات البنك . هذا يعني أن الولايات المتحدة تستطيع أن تلزم البنك بتقديم القروض لمن يقف بجانبها وتمنع البنك من تقديم القروض لمن لا يتفق معها وقد مارست الولايات المتحدة هذا الإمتياز مرات كثيرة عبر تاريخ البنك ومنها سحب عرض تمويل السد العالي عام 1956 أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومنع البنك من تقديم القروض لنظام صدام حسين بعد عام 1990 [3]. ولم تستطع هاييتي خلال الفترة 1997-2004 أن تقترض من البنك لخلافات سياسية بين ارستيد الرئيس المنتخب وبين الإدارة الأمريكية ولكن مصر والأردن ، وهما أقل فقرا وحرية سياسية من هاييتي حصلتا على مساعدات البنك لإستعدادهما في السير في ركب مشروع السلام الأمريكي [4]. وعندما تم إنتخاب حماس من قبل الشعب الفلسطيني حرم الشعب الفلسطيني من أي نوع من المساعدات الدولية لأن برنامج حماس لا ينسجم مع خطة أوسلو التي تدعمها الولايات المتحدة الأمريكية وبقية الدول الصناعية . هذا الإحتكار من قبل الدول الصناعية لمنظمة عالمية قد يبرره البعض بحرص الدول ذات الأسهم الكبيرة في البنك الدولي على الحفاظ على أموالها غير أن هذه الهيمنة للدول الكبرى تفقد هذه المنظمة مصداقيتها لأنها لا تخضع لمفاهيم الديمقراطية والشفافية والعدالة التي تنادي بها الدول الكبرى وتسعى لنشرها في العالم من أجل تعميق الإزدهار والإستقرار العالميين . فعلى سبيل المثال تراجعت القروض التي أخذتها كثير من الدول النامية الكبيرة كالهند والصين وغيرها بسبب هذا الإحتكار وهذا الإدبار من قبل هذه الدول النامية له إنعكاسات سلبية على أداء البنك الدولي لأن كثير من نفقات إدارة البنك وتوظيف العاملين فيه تعتمد على حجم عوائد القروض المقدمة للدول النامية ذات الدخل المتوسط والدول ذات الحجم الإقتصادي الكبير كالهند والصين . فبينما كان صافي إقتراض هذه الدول من البنك خلال الفترة 1999-2002 حوالي 14 مليار دولار كان ما دفعته هذه الدول للبنك خلال الفترة 2003-2005 يصل إلى 15 مليار دولار أي أن هذه الدول متجهة إلى تسديد ديونها للبنك وهذا دليل على وجود بدائل للبنك كأسواق المال العالمية ومنظمات المجتمع المدني والإستثمارات المباشرة وبشروط أفضل من شروط البنك الدولي [5]. كما وأن هذا التراجع لدور البنك يعيق تراكم المعرفة والخبرات وإنتشارها لأن الدول النامية تحتاج لخبرات البنك والبنك يحتاج للدول النامية لتعميق مخزونه المعرفي الناتج عن تقديم القروض ومتابعتها ومن خلال ذلك فهم تعقيدات التنمية [6].
أداة للأقوياء ؟
لقد تأثرت سياسات البنك الدولي تجاه الدول النامية منذ تأسيسه بتطور الفكر التنموي في الجامعات الغربية وبالواقع السياسي للدول الغربية وكانت الدول النامية بمثابة الطرف المتلقي للأفكار والنظريات إضافة إلى المساعدات والقروض . ونحن ليس لدينا إعتراض على أن تستفيد الدول النامية اليوم من الدول الغربية المتقدمة كما إستفادت هذه الأخيره من حضارات الشرق في فترة سابقة . ولكن إعتراضنا هو أن تتحول الدول النامية إلى ميدان تجارب للفكر الغربي بغثه وثمينه من غير فهم لمعطيات الدول الناميه وخصوصياتها التي تعني أن بعض السياسات التي نجحت في بعض الدول الغربية قد لا تنجح بالضرورة في ظل معطيات الدول النامية بسبب خصوصياتها المختلفة وهذا ما حصل فعلا ولازال في علاقة البنك الدولي بالدول النامية وجزء كبير من هذه الدول هي دولا إسلامية . فعندما تأسس البنك بعد الحرب العالمية الثانية كانت المرحلة الأولى من تجربته هي كما ذكرنا عملية إعمار الدول الأوروبية واليابان المتضررتان من الحرب وكانت الولايات المتحدة تتخوف من وقوع هذه الدول بسبب الدمار الإقتصادي في مصيدة المد الشيوعي الذي كان الإتحاد السوفييتي رأس حربته خاصة إذا تذكرنا أن الرأسمالية المفرطة أو المتوحشة إذا شئت هي التي أفرزت الفاشستيه في إيطاليا والنازية في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى . وبالفعل تمت إعادة إعمار هذه الدول في ظل ما عرف بخطة مارشال وبذلك ساد النظام الرأسمالي أي نظام السوق في غرب أوروبا واليابان بينما إنتشر النظام الإشتراكي أي التخطيط المركزي وهيمنة الدولة على الإنتاج والتوزيع في كل من الإتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية في ظل ما عرف بالحرب الباردة والتي إرتكزت على نظرية توازن الرعب الذري حتى إنتهاء هذه الحرب بإنهيار النظام الإشتراكي وتحول العالم من ثنائي القطبية ( الإتحاد السوفييتي وحلفائه في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها ) إلى نظام أحادي القطبية تتصدر فيه الولايات المتحدة وحدها . ما نود تأكيده إذن هو أن البنك الدولي واجهة تستخدمها الولايات المتحدة وبقية الدول الصناعية الغربية للترويج لنظامها الإقتصادي وللحفاظ على مصالحها في بقية دول العالم سواء كانت هذه المصالح هي موارد طبيعية أو أسواق تجارية أو مواقع إستراتيجية. والنظام الإقتصادي الذي يروج له البنك هو نظام السوق الذي يتضاءل فيه دور الدولة لصالح القطاع الخاص ويقل فيه دعم الصادرات أو الإنتاج المحلي وتتحرر فيه حركة رؤوس الأموال من كافة القيود وتتجه الجهود لإنتاج السلع التي للدولة فيها كفاءة وتقوم بتصديرها وغيرها من مكونات السوق كما تدرس في المقررات الإقتصادية . وبالفعل عندما إنتقل البنك من مهمة إعمار أوروبا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية إلى مهمة تنمية الدول النامية التي كانت مستعمرات سابقة لم تكن لديه تصورات خاصة بواقع الدول النامية وما إذا كان نظام السوق فاعلا أو كافيا لتحقيق التنمية أم أن هناك ضرورة لتدخل الدولة بدرجة أكبر لتكملة دور السوق ولإزالة المعوقات التي تعترض عمله . بل إن كل ما كان لدى البنك الدولي هي مرتكزات النظرية الكلاسيكية الجديدة ذلك بالإضافة إلى بعض نظريات الحداثه التي كانت ترى أن الدول النامية إذا إستوعبت تجارب الغرب بخيرها وشرها فإنها ستجد نفسها على نفس المسار التنموي للمجتمعات الغربية . وقد شجع هذا التوجه تخرج عددا لا بأس به من إقتصاديي الدول النامية من الجامعات الغربية وقد عادوا وهم متفائلون بأن ما حدث في المجتمعات الغربية سيتكرر في دولهم إذا سلكت نفس المسار وأخذت بنظام السوق . وتجاهل هؤلاء تجارب التاريخ التي تشير إلى أن تدخل الدولة الذي ينهى عنه البنك الدولي اليوم كان هو السبب الأساسي في تقدم كل الدول الصناعية السابقة واللاحقة . فكما يقول هاجون شتانغ – أستاذ الإقتصاد بجامعة كمبرج – أن الدول الصناعية لم تنتقل من مجتمعات زراعية تقليدية إلى مجتمعات صناعية متنوعة الهياكل الإقتصادية إلا بإستخدام ترسانة من السياسات الصناعية كالتعرفة الجمركية والدعم بأنواعه والقيود بأشكالها ، وهذا ينطبق على أوروبا والولايات المتحدة وشرق آسيا ، وكأن هذه الدول إستخدمت هذه السياسات وهي تطالب الدول النامية بعدم إستخدامها اليوم بالضبط كما يستخدم الإنسان السلم للصعود إلى قمة مبنى ثم يمنع الآخرين من إستخدامه [7].
وبالفعل بدأ البنك بتقديم المساعدات المشروطه بالأخذ بنظام السوق وتقليل دور الدولة ولكن التجارب اللاحقة أثبتت سذاجة هذا التصور فنظام السوق لا يعمل في فراغ وهناك شروط كثيرة لازمة لأدائه وجزء من هذه الشروط غير متوفر حتى في الدول الصناعية ولذلك فإننا نرى الدور الكبير للحكومات في المجتمعات الغربية ، أما في الدول النامية فإن أكثر هذه الشروط غير متوفر فكيف يمكن لهذه القروض التي تقدم أن تتحول إلى آلية تنمية في مجتمعات تفتقر إلى المؤسسات الفاعلة وإلى البيانات التفصيلية وإلى الموارد البشرية المدربة وإلى الأجهزة الإدارية المتقدمة وإلى الأنظمة الضريبة المتطورة وإلى الحكومات المنتخبة وإلى المؤسسات القانوينة المستقلة وغيرها فهذه كلها معطيات تطورت في المجتمعات الغربية عبر فترات طويلة ولكنها مفقودة في الدولة النامية الأمر الذي جعل الأموال التي يقدمها البنك تذهب في جيوب الحكومات وفي مشاريع مظهرية وفي مصاريف المنظمات الدولية وإستمرارية توظيف الخبراء من الدول الغربية وحتى عندما كان يحدث نموا إقتصاديا هنا وهناك فإنه لا يتحول إلى نموا ذاتيا بسبب غياب الشروط اللازمة ولذلك لم يتضاءل الفقر ولم تتنوع الهياكل الإقتصادية بل وتعمق التفاوت المعيشي في الدول النامية وبينها وبين الدول الغنية وفرطت كثير من الدول النامية في سيادتها التي أنتقصت بتدخل البنك الدولي في سياساتها الداخلية . وعلى الرغم من أن البنك عدل من شعاراته المرفوعة من النمو الإقتصادي إلى النمو مع التوزيع إلى توفير الأساسيات إلى الإرتقاء بأداء الحكومات إلى توفير الشفافية إلى محاربة الفساد إلا أن سياساته الواقعية بقيت متمركزه حول فتح الأسواق وتقليل الحواجز وتقليل دور الحكومات وتشجيع دور القطاع الخاص وغيرها من رزمة الإصلاحات التي سميت بالإصلاحات الهيكلية والتي لم تعد على الدول النامية إلا بمزيد من الديون ومزيد من الضعف الإقتصادي خاصة إذا تذكرنا أن المطلوب من الدول النامية أن تفتح أسواقها للمنتجات المستوردة من دول وفرت لها الحماية لفترات طويلة حتى أصبحت تنافسية من حيث الجودة والسعر . ففي عام 2002 أزالت غانا التعرفة الجمركية على وارداتها الغذائية ليتم إغراق أسواقها بالمنتجات الأوروبية ويتضرر نتيجة لذلك المزارعون فيها لأن أسعار الواردات كانت أقل من ثلث السعر المحلي . ولكن البنك والصندوق لم يستطيعان أن يفرضا على المجموعة الأوروبية تقليل الدعم لمنتجاتها الزراعية التي تصدرها للعالم الخارجي بأسعار منخفضة . وفي نفس الفترة رضخت زامبيا لشروط البنك والصندوق وأزالت التعرفة على وارداتها من الملابس التي كانت تحمي بها حوالي 140 شركة محلية للملابس وخلال فترة قصيرة لم يتبقى من هذه الشركات المحلية سوى 8 شركات وحتى لو إستطاعت هذه الشركات الوطنية في زامبيا أن تنافس وتصدر منتجاتها إلى سوق المجموعة الأوروبية أو الولايات المتحدة فإنها لن تتمكن من ذلك بسبب التعرفة الجمركية التي تفرضها هذه الدول على وارداتها من الدول النامية . وفي بداية التسعينيات وفي إطار هذه الإصلاحات الهيكلية قامت بيرو بتخفيض تعرفتها الجمركية على القمح المستورد من الولايات المتحدة الدولة التي تقدم لمزارعيها دعم سنوي يصل إلى 40 مليار في السنة مما ألحق الضرر بمزارعي بيرو ودفعهم إلى إنتاج الكوكا الذي يستخدم في إنتاج الكوكاين كبديل للقمح[8] . وفي تحرير حركة رؤوس الأموال في ظل غياب البيئة القانونية والإدارية المتطورة رأينا كيف تتالت أزمات أسواق المال من المكسيك إلى شرق آسيا إلى روسيا ولاشك أن هذه الأزمات المالية تكون تكاليفها أكبر في الدول النامية التي لازالت بيئتها القانوينة ضعيفة . أما تقليص النفقات الحكومية التي تفرض على الدول النامية لتصحيح موازناتها العامة في إطار البرامج الإصلاحية فإن لها كلفة عالية في زيادة الفقر والأمية وتقليل النمو الإقتصادي في المدى البعيد لأنها تؤدي إلى تقليص النفقات على المشروعات الإجتماعية خاصة التعليم والصحة وبقية مشاريع البنية الأساسية . بإختصار إذن إن الإندماج السريع في الإقتصاد العالمي الذي تطالب به المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ، الدول النامية من غير أن تكون هذه الأخيرة مستعدة هو أقرب إلى مباراة غير متكافئة في الملاكمة تحقق مكاسبا للأقوى ومزيد من الخسائر للطرف الضعيف [9]. والذي يحصل في تحرير تجارة السلع والخدمات والأموال وتقليل النفقات الحكومية من آثار سلبية على إقتصاديات الدول النامية يحصل كذلك في عمليات التخصيصية التي تتحول من وسيلة لتطوير القطاع الخاص ورفع كفاءة المؤسسات الإقتصادية وإعادة توزيع الثروة إلى عملية نهب لثروات المجتمعات النامية من قبل المتنفذين المحليين ومن قبل الشركات العالمية نظرا لغياب الشفافية والمساءلة والبيئة المؤسسية المتطورة . وبدل أن يتحرر العالم الثالث من وطأة الفقر والجوع والتخلف ، وقع في مصيدة الديون التي إرتفعت من 130 مليار دولار عام 1973 إلى 612 مليار عام 1982 ثم إلى 3.2 ترليون عام 2006 مما جعل هذه الدول تنفق جزء كبير من مداخيلها السنوية على خدمة الدين أي الفائدة المتراكمة على الديون ولا نقول تسديد الدين [10] . وفوق هذا وذاك تشير بعض الدراسات من قبل بعض العاملين في البنك عبر السنوات بأن ما لا يقل عن 100 مليار دولار من قروض البنك ضاعت نتيجة لسوء تنفيذ المشروعات ولتواطؤ الشركات العالمية مع حكومات الدول النامية من أجل نهب هذه القروض من قبل القلة المستفيدة في الوقت الذي لم تنتفع الشرائح المستهدفة من هذه القروض وتراكمت الديون على هذه الدول كما حصل مع ماركوس في الفلبين وبوتو في نيجيريا وسوهارتو في أندنوسيا غيرهم من رموز الفساد في الدول النامية والذين لم يخلفوا لشعوبهم إلا الفقر والتبعية ومليارات الديون [11].
هل يعني هذا أن البنك الدولي والدول الغربية هي وحدها مسؤولة عن واقع التخلف في دول العالم الثالث ؟ وهل يعني هذا أن سياسات الدول النامية السابقة والحالية هي صحيحه ؟ بالطبع لا ، وذلك لأن تخلف الدول النامية له أسباب داخلية كالإستبداد والفساد وضعف المؤسسات وغياب العنصر البشري المؤهل وشح البيانات وعدم جدية الجهود التكاملية بينها وعلى هذه الدول أن تعمل على تذليل هذه الصعاب ، أما الدول الغربية فعليها أن تجعل المؤسسات الدولية أكثر تمثيلا لمصالح وواقع الدول النامية وأن تجعل القرارات فيها تأخذ في الإعتبار الفجوة الكبيرة بين الدول الصناعية والدول النامية سعيا لردمها بدل الواقع الحالي الذي يعمقها ، وعليها أن تجعل هذه المؤسسات الدولية تخضع لمعايير الأداء لمعرفة مدى نجاح أو فشل برامجها في الدول النامية وهو أمر غير متوفر في الوقت الحاضر ، كما وأن عليها ترفع من دور هذه المؤسسات العالمية في إنتاج ونشر المعرفة اللازمة لتطور الدول النامية وأن تساهم في إستنبات المعرفة والتقنية في الدول النامية نفسها . إذن المطلوب هو مزيج من العمل على معالجة العوامل الداخلية والخارجية التي تعيق مسيرة الدول النامية وإلا فإننا مقبلون على عالم فيه كثير من الفقر والعنف والحروب والفساد وتراجع في الأداء الإقتصادي.
وشهد شاهد من أهله
حاولنا في الفقرات السابقة أن نوضح بأن البنك الدولي هو أحد الأذرع التي تستخدمها الدول الغربية للحفاظ على هيمنتها ومصالحها في بقية دول العالم وهو ليس بالمؤسسة الخيرية التي تتبادر إلى أذهان البعض وإنما هو أداة للسيطرة والنفوذ . فسجل البنك ، ومعه صندوق النقد كذلك ، يشير إلى ثغرات في مدى فهم القائمين عليه لواقع الدول النامية التي يحاولون مساعدتها وإلى عدم وجود مبررات إقتصادية لكثير من الشروط التي يفرضها على المقترضين وإلى إخفاقات كبيرة في معالجة مشكلة الفقر في الدول النامية بعد أكثر من ستين سنة من الجهود وإلى وجود بعض الفساد الإداري والمالي في هذه المؤسسة المالية الدولية آخرها سوء إستغلال رئيس البنك الجديد ولفووتز لمنصبه وسقوطه على إثر ذلك . وحتى لا نبدوا نحن أبناء العالم النامي متحيزين ضد هذه المؤسسة أردنا أن نستشهد بآراء أهل الإختصاص من الدول الصناعية نفسها حتى يرسمون لنا صورة واقعية وحقيقية عن هذه المؤسسة التي تمارس نفوذا كبيرا على عملية التنمية في دول العالم الثالث خاصة الفقيرة منها . فهذا جيفري ساش أستاذ الإقتصاد في جامعة هارفرد الأمريكية لأكثر من ثلاثين عاما ومستشارا لعدد كبير من الدول النامية من إفريقيا إلى آسيا إلى أمريكا اللاتينية منذ أكثر من ربع قرن يشير إلى أن السياسات المالية التي فرضها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على الدول الأفريقية هي سياسات ليس لها أساس علمي ، ونتائجها هامشية ، ويؤكد أن إفريقيا هي أكثر فقرا في بداية القرن الحادي والعشرين مما كانت عليه خلال الستينيات عندما بدأت تتبنى سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، حيث أن هذه القارة تعج الآن بالأمراض وتآكل البيئة ومعدلات النمو السكاني المرتفعة [12]. ويؤكد ساش في مكان آخر على أن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لا ينسقان مع المؤسسات المتخصصة في الأمم المتحدة وهذا يجعلهما على عدم دراية بواقع الدول النامية وهذا يفسر إلى حد كبير عدم فعالية سياساتهما التنموية ، وعلى الرغم من ذلك فإن الدول الصناعية تعطيهما الأولوية على بقية المؤسسات الدولية لسبب بسيط وهو أن التصويت فيهما ليس " صوت لكل دولة" كما هو حال الأمم المتحدة وإنما التصويت مرتبط بالحصة المالية التي تملكها الدولة وهذا يجعلهما تحت هيمنة الدول الصناعية [13]. أما عن كيفية علاج الأزمة التي تعاني منها المؤسستين المذكورتين فهو يقترح إستبدال الوصفات الإقتصادية الحالية الجاهزة التي تفرض على الدول النامية مقابل القروض ببرامج تنموية تأخذ في الإعتبار خصوصيات كل دولة والظروف المحيطة بتخلفها حتى لا تؤدي هذه البرامج إلى تفاقم مشكلات التنمية كما حصل نتيجة لممارسات البنك والصندوق الدوليين عبر السنوات الماضية [14].
وهذا جوزيف ستيغلتس الحائز على جائزة نوبل في الإقتصاد لعام 2001 وكبير المستشارين الإقتصاديين في إدارة كلينتون وفي البنك الدولي سابقا يؤكد بأن الشروط التي تفرضهما المؤسستان الدوليتان على القروض المقدمة للدول النامية ليست لها إعتبارات إقتصادية وقد تكون ضارة في حالات كثيرة . بل إن هناك مواد في لوائح هذه المنظمات تمنع من ممارسة ضغوط على الدول المقترضة لإجبارها على تبني سياسات لا علاقة لها بالمشكلة الإقتصادية التي تقدم القروض لحلها . ولكن كوريا تعرضت لهكذا ضغوط ، فخلال أزمة أسواق شرق آسيا في عام 1997 طلب من كوريا فتح قطاعاتها الخدمية كالمصارف والتأمين للشركات الأجنبية الغربية وتحرير بعض قطاعات المنتجات الصناعية أمام السيارات اليابانية مقابل حصولها على القروض لعلاج أزمتها [15]. بل إن حتى الأرقام التي ينشرها البنك حول التغيرات الإقتصادية كمعدلات النمو والإستثمار والإدخار وغيرها ليست بالدقة التي يدعيها البنك بل إن فيها ، كما يقول ستيغلتس ، كثير من التعديلات التي يتطلبها إظهار البنك بمظهر المؤسسة الناجحة . فهذه الإحصاءات لا تقوم على تنبؤات مرتكزة على نماذج إحصائية متطورة ولا حتى على أفضل التقديرات من قبل من هم على دراية بهذه الإقتصاديات وإنما هي أرقام تم الإتفاق عليها كجزء من البرامج الإصلاحية أي أنها أقرب إلى الأرقام المطبوخة أو المتفق عليها [16].
وفي عام 2005 عندما وقع صندوق النقد مع العراق إتفاقية توفير التسهيلات المالية كان هناك بند صغير في هذه الإتفاقية على ضرورة إنهاء العراق تمرير قانون النفط مع نهاية عام 2006 [17]. ولاشك أن هذا الشرط لا صلة له بالقرض الموعود ولكنه يخدم شركات النفط لأن هذا القانون النفطي الذي بدأت تتضح معالمه الآن هو مدخل لإعادة ملكية النفط العراقي من قبل الشركات العالمية الغربية وبشروط مجحفة في حق العراق وهو في نفس الوقت بالون إختبار لما يمكن أن يحصل للقطاعات النفطية في بقية دول المنطقة التي لازالت في مرحلة الممانعة من عودة هيمنة الشركات الغربية على الثروة النفطية ظاهرا على الأقل.
وأخيرا هذا وليام استرلي ، أستاذ الإقتصاد بجامعة نيويورك والذي عمل في البنك الدولي أكثر من 16 عاما في قضايا التنمية ، يؤكد بأن البنك الدولي يفتقر إلى المعايير التي يمكن من خلالها معرفة درجة كفاءة إستغلاله لموارده ومدى إنتاجية برامجه ومشروعاته مما يعني أن بيئة المسائلة في هذه المؤسسة الدولية ضعيفة اذا لم تكن مفقوده كليا ، وذلك لأن البنك توسع في أهدافة المعلنة من بناء المشاريع الأساسية إلى تغيير السياسات إلى بناء المؤسسات ثم إلى إعادة بناء الدول المدمرة بالحروب وهذه الأهداف سامية في رأيه إلا أن البنك الدولي لا يستطيع تحقيقها فعلا لأنها تتأثر بقوى خارجة عن سيطرته الأمر الذي يحتم على البنك أن يقلص من أهدافه ويجعلها محددة وقابلة للقياس كبناء الطرق ومعالجة أمراض محددة وتوفير معارف معينة وترك القضايا الكبرى لشعوب الدول النامية وحدها لأن التنمية الفعلية لن تتم إلا على أيدي أبناء هذه المجتمعات الناميه وحدهم [18].
كلمة أخيرة
لقد شهدت السنوات الأخيرة ضغوط كبيرة من قبل بعض الدول النامية على المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ليس فقط على مستوى التصريحات وإنما على مستوى الممارسات فكثير من الدول النامية كالصين والهند وغيرها من الدول ذات الدخل المتوسط تمكنت من تقليص قروضها من المؤسسات الدولية لأنها إستطاعت أن تقوم بإصلاحات داخلية إستقطبت الأموال الخاصة مباشرة من غير وساطة البنك الدولي والصداع الذي يرافقها ولقد أزعج هذا الموقف العاملين في هذه المؤسسات الدولية لأن بقاؤهم في هذه المؤسسات ومصروفاتهم فيهما يعتمدان على عوائد القروض التي يتم تقديمها للدول ذات الدخل المتوسط مما دفع بأصوات من الداخل للمطالبة بإصلاح هذه المؤسسات على أصعدة مجالس الإدارة والتوظيف وإنتاج المعرفة وتعميق المساءلة وغيرها من جوانب الضعف في أداء هذه المؤسسات . وهنا يتساءل المرء عن ما يمكن أن تقوم به الدول العربية ومعها الدول الإسلامية في هذا السياق ؟ إن هذه الدول تستطيع في رأينا ، ان تقوم على الأقل بخطوتين هامتين إحداهما الإقتداء بالصين والهند وإجراء إصلاحات داخلية جادة توفر بيئة إستثمارية تستقطب الأموال والأفكار والتقنية ، أما الخطوة الثانية فهي تفعيل دور كل من صندوق النقد العربي وبنك التنمية الإسلامي من خلال إسنادهما بموارد مالية وبشرية حتى يشكلان أدوات تنمية تمر خلالهما الموارد البشرية والمادية لتوجد تكاملا جادا بين الدول العر بية والإسلامية مما سيكسر القبضة التي تمارسها الدول الصناعية على أموال ومشروعات هذه الدول في الوقت الحاضر . بل وأن دائرة التكامل يمكنها أن تمتد خارج محيط الدائرة الإسلامية إلى بقية الدول النامية كالهند والصين والدول الأفريقية ودول أمريكا اللاتينية لإيجاد مسيرة تنموية جادة ومتكافئة تعود على كل الدول النامية بالإزدهار والإستقرار وتحسن من موازين القوى المختلة بينها وبين الدول الصناعية ومن يدور في فلكها كإسرائيل مثلا . إننا نعتقد أن هذا المسار التنموي هو الذي يمكن يرتقي بدولنا وبالدول النامية من تشرذمها الحالي إلى أول خطوة في سلم التنمية الفعلية . فهل نرتقي إلى مستوى هذا التحدي ؟ نرجوا ذلك .


[1]“What is the World Bank ?” http:/web.worldbank.org
[2] World Bank , Lending Instruments , Washington, D.C., The World Bank 2000 , P.24 .
[3] Gros , J and O. Prokopovych (2005) When Reality Contradicts Bank Lending Practices in Developing Countries in Historical , Theoretical , and Empirical Perspectives .Codersia Monegraph Series . P.8 .
[4] Gros , J and O. Prokopovych (2005), ibid, P.P:52-52.
[5]Lerrick, Adam (2006),” Has the World Bank Lost Control”. In Rescuing the World Bank , published by the Center for Global Development (CGD) , Washington , D.C. P:117.
[6] CGD (2006), Rescuing the World Bank , Washington , D.C. P.P:25-27.
[7] Chang, Ha-joon (2002) Kiking A way the Ladder : How the Economic and Intellectual Histories of Capitalism Have been Re-Written to Justify Neo-Liberal Capitalism . Cambridge: Cambridge University Press.
[8] Hiatt Steven (2007) “ Global Empire : the Web of Control ” in A Game As Old As Empire , Steven Hiatt (editor). Berret-Koehler , Inc. San Francisco , P.P:22-23.
[9] Khor , Martin (2003) “ Developing A Global Partnership for Development” Challenges to the World Bank and the IMF , (editor Ariel Buira. Anthem Press , London . P.P:227-229.
[10] Henry , James (2007) “ The Mirage of Debt Relief” in A Game As Old As Empire , Steven Hiatt (editor). Berret-Koehler , Inc. San Francisco , P.P:219-261.
[11] Berkman, Steve (2007) “ The World Bank and the $100 Billion Question” in A Game As Old As Empire , Steven Hiatt (editor). Berret-Koehler , Inc. San Francisco , P.P:157-174.
[12] Sachs, Jeffrey (2005) The End of Poverty, the Penguin Press, New York . P.189 .
[13] Sachs , Jeffrey , ibid , P.P : 285-287.
[14] Sachs , Jeffrey , ibid , P.P : 78-82.
[15] Buira , Ariel(2003 ) “ Analysis of Conditionality “ in Challenges to the World Bank and the IMF , (editor Ariel Buira. Anthem Press , London . P.73 .
[16] Stiglitz , Joseph (2003) Globalization and Its Discontents . New York : Norton. P.232.
[17] Muttit, Greg (2007) “ Hijacking Iraq’s Oil Reserves : Economic Hit Men at Work” in A Game As Old As Empire , Steven Hiatt (editor). Berret-Koehler , Inc. San Francisco , P.153.
[18] Easterly , William (2006), “ The World Bank and Low-Income Countries” in Rescuing the World Bank , published by the Center for Global Development , Washington , D.C. P.P:103108
أ. د. يوسف خليفة اليوسف
المصدر
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..