مناسبة القصيدة
تقلد شبيب بن جرير العقيلي عمان والبلقاء وما بينهما من البر والجبال، فعلت منزلته وزادت رتبته واشتدت
شوكته.
وغزا العرب في مشاتيها بالسماوة وغيرها، فاجتمعت إليه العرب وكثرت حوله. وطمع في الأسود، وأنف من طاعته، وسوّلت له نفسه أخذ دمشق والعصيان بها، فسار إليها في نحو عشرة آلاف. وقاتله أهلها وسلطانها. واستأمن إليه جمهور الجند الذين كانوا بها.
وغلقت أبوابها واستعصموا بالحجارة والنشاب.
فنزل بعض أصحابه على الثلاثة الأبواب التي تلي المصلى يشغلهم بهم، ودار هو حتى دخل من الحميريين على القنوات حتى انتهى إلى باب الجبابية وحال بين الوالي وبين المدينة ليأخذها.
وكان يقدم أصحابه، فزعموا أن امرأة دلّت على رأسه صخرة.
فاختلف الناس في أمره، فقال قوم وقعت يد فرسه في قناة وقنعها فشبت به ولم تتخلص يدها فسقط، وكان مكسور الكتف والترقوة لسقطة سقطها عن الفرس في الميدان بعمان قبل ذلك بيسير، وسار إلى دمشق قبل تمام الانجبار. وذكروا أنه ثار من سقطته فمشى خطوات ثم غُلب فجلس وضرب بيده إلى قائم سيفه وجعل يذب حوله. وكان شرب وقت ركوبه سويقا فزعم قوم أنه طرح له فيه شيء، فلما سار وحمي الحديد عليه وازدحم الناس حوله عمل فيه، غير أنه سقط ولم ير أثر شيء من السلاح والحجارة أصابه. وكثر تعجب الناس من أمره حتى قال قوم كان يتعهده صرع فأصابه في تلك الساعة.
وانهزم أصحابه لما رأوا ذلك فخالفوا إلى الموضع الذي دخلوا منه، فأرادوا الخروج منه فقتل منهم أربعمائة فارس وبضعة عشر.
وأخذ رأسه ووردت الكتب إلى مصر بخبره يوم الجمعة لخمس خلون من جمادي الآخرة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وطالب الأسود أبا الطيب بذكره، فقال هذه القصيدة وأنشدها في يوم السبت لست خلون من جمادي الآخرة.
الأبيات :
---------------------------------------------------
من مصدر آخر : قراءة نقدية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه , كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لعظيم وجهه وجليل سلطانه ..
والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين , من لا ينطق عن الهوى , من أوتي جوامع الكلم , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين ..
أما بعد :
فهذه قراءة ٌ متأنية ٌ هادئة ٌ في قصيدة أبي الطيب المتنبي :
(عدوك مذموم بكل لسان ِ) التي قيل إنها في مدح كافور الإخشيدي..
ليست من النقد في شيء لأنها لا تملك أدواته المنهجية ..
ولا تعدو كونها قراءة شخصية بسيطة بصوت مرتفع ..
ابتعدت ُ فيها قدر الإمكان عن التفسير الحرفي الموجود في شرح ديوانه..
ـــــــــــــــــــ
حين قرأت ُ هذه القصيدة-أول مرة – شعرت ٌ أن َّ أصابع َ خفية ً تطرق الديوان ؛ تأمرني فأعتدل من استرخائي .. لأركِّــز َ وأُعمِل َذهني .. فهذه القصيدة البديعة ُ للعقل ِ أكثر منها للعاطفة..
هي قصيدة ٌ"بلورية " حين تعرضها على ضوء من التدبر تُـريك ألوانا مختلفة ..
حركها بأي اتجاه .. وافهمها كيف تشاء ..
وهي قصيدة ٌ " كيمياء " تتوازن فيها العناصر وتمتزج فيكون المحلول مديحا حلوا ..
وبتغيير بسيط في معادلة طرفي التفاعل ينتج مركب ُ هجــاء ٍ شديد المرارة ..!!
عدوك مذموم ٌبكل لسان ِ** ولوكان من أعدائك القمران ِ
ما القصة ؟
اجتمع "شبيب العقيلي " -وكان واليا على معرة النعمان - مع عشرة آلاف رجلٍ وحاصر دمشق خارجا على كافور , وفي رواية أن امرأة ً ألقت عليه رحى ً وهو واقف فصرعته ؛ ففر من معه وهُزموا بهلاكه ..
هنا توقف الشُرَّاح ..
إذن :لم يفعل كافور شيئا يستحق عليه المدح !!مات الرجل بعيدا عنه بل وقد أفلح وحاصر وقتل ..
قلتُ: (الطريق لفهم القصيدة ليس معبَّدا ..وهذا أول انحناء ٍ حاد في النص ..)
البيت من ظاهره المدح : عدوك جاهل يذمه الناس ولو كان الشمس أو القمر ..
ومن باطنه سوء الهجاء : يقول ابن جني :(هذا المدح قد ينقلب هجاء يقول أنت ساقط ومن يضاهيك مثلك ولو كان شمسا أو قمرا لذممناه )
لم أرَ المتنبي مضطرا لتخليد المناسبة ! فلا حدثا مشرفا ولا مناسبة تاريخية ..
لماذا أنشد عليه هذه الإهانات الناضجة على نار ٍ هادئة !!
تذكرت قول العلامة "محمود شاكر "إنه لطمه أول لقاء بينهما حين قال في أولى المدائح المُرَّة :
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ** وحسب المنايا أن يكن أمانيا !!!
و ألح ُّ علي ّ سؤالٌ : من هو كافور ؟
وما عجبـْـتُ حين عرفت ُ أنه كان أديبا عالما ,حاد الذكاء , شديد الفطنة ...
بقدر ما عجبت ُ أن المتنبي كان يعلم هذا علم اليقين !!
إنها حرب باردة بين قطبين داهيتين , لكل منهما في صاحبه " مآرب أخرى "!!
المتنبي والولاية ... وكافور وقوة الشاعر والاستعانة به على الأعداء ..
ولله سرٌّ في علاك وإنما ** كلام العدا ضربٌ من الهذيان ِ
أتلتمس الأعداء بعد الذي رأت ** قيام ُ دليل ٍ أو وضوح بيان ؟
في فن التواصل مع الآخرين ..ينصح الخبراء ألا تبدي دهشتك الشديدة لحصول صديقك على منصب .. وألا تسأله عن تفوقه المفاجئ .. وألا تقول له خدمك الحظ والصدفة !!
فعدم التوقع يعني أنه ليس بكفء ٍ ..
هذا بالضبط مضمون الرسالة المشفرة التي وصلت بوضوح!!
إمارتك سر ٌّ لا ندرك كنهه .. وواقع ٌ لا نجد له تفسيرا !!
والتمسوا دهاء الدليل : مارق ٌ تقتله رحى امرأة وقد حاصر المدينة !! إهانة وأيما إهانة ..
ر
أت كل َّ من ينوي لك الغدر َ يبتلى ** بغدر حياة ٍ أو بغدر ِ زمان ِ
هلاَّ رأفت َ به يا أبا الطيب ؟
يقول : لم تنتصر على عدو ٍ لك َ قط ....
يغدر به الظفر .. ويخونه النصر ..
رثيت كثيرا لك يا كافور .. ما أغناك عن هذا المدح !! أما لك في الشعراء "وإن رثت حبالك واصل ٌ "؟؟؟
وأنت يا أبا الطيب لم تكن محتاجا وأنت تكره "ففي الأرض عن دار ِ القلى متحوَّلُ "
برغم شبيب ٍ فارق السيف كفه ** وكانا على العـِلَّات ِ يصطحبان ِ
كأن رقاب الناس قالت لسيفه **رفيقك َ قيسي ٌ وأنت يمــاني !
ينحني بي النص مرة أخرى ..
أزعجتني "برغم " سرت لأفكاري لمحة غريبة ..لم أتأكد منها حتى اللحظة ..
لماذا يشيد بأنه ترك السيف راغما .. وأنهما مصطحبان ..
هي كيمياء المديح المُــر .. شِعرٌ في كأسٍ قاتم يقدمه المتنبي بجرأة ٍ واثقة , ويتجرعه كافور بقهر ٍ صامت , ويحتسيه بإحساس ٍ بارد . دون أن يوحي بأي اعتراض , أو يبدي أدنى امتعاض ..
فإن ْ يك ُ إنسانا مضى لسبيله ** فإن المنايا غاية الحيوان ِ
لم يرد شبيب الخلود .. فمصير كل حي إلى الموت ..
أهو عزاء ؟...أهو تعاطف ؟؟.. أهي حكمة مجردة ؟..
قد يكون أي َّ قصد .. إلا الهجاء لشبيب !!
وما كان إلا النار في كل موضع ٍ** يثير غبارا في مكان في مكان دخان ِ
فنال حياة ً يشتهيها عدوه ** وموتا يشهِّــي الموت كل َّ جبان ِ!!
أثار فتنةً أعقبت حربا .. وقد عاش عزيزا .. ومات :....بلا ألم !!!موت يشتهيه الجبان !
بخل المتنبي على كافور حتى أن يستمتع بألم عدوه ..
نفى وقع أطراف الرماح ِ برمحه ** ولم يخش َ وقع النجم والدبران
ولم يدر ِ أن الموت َ فوق وشاته ** معــارُ جناح ٍ ..محسن ِ الطيران ِ
للإنصاف ما رأيت ُ الرحى الطائر أجمل منه هنا ..!!
وهذه صورة تلتقطها عدسته فنتخيل : مقاتلا شجاعا يدافع بشراسة ما خاف أبدا في أرض المعركة ..لكنه غفل عما جاء من سمائها حيث جاءته من الأعلى من الرحى الطائر ..
كل هذا وليس لك يا كافور حيلة ..
وقد قتل الأقران َ حتى قتلته ** بأضعف قـِرْن ٍ في أذل ِّ مكان ِ
وهنا فاض به الكيل ولم يعد يطيق التمثيل بعدم الفهم :
فانتفض قائلا : لا والله , بأشذ قرن ٍ في أعز مكان ِ
وقيل رواه الناس كما قاله كافور.. وهيهات أن يرويه سياق المتنبي هذا !
أتته المنايا في طرقٍ خفية ** على كل سمع ٍ حوله وعيان ِ
ولوسلكت طرق السلاح لردها **بطول ِ يمين ٍ واتساع ِ جنان ِ
تقصده المقدار ُ بين صحابه **على ثقة ٍ من دهره ِ وأمان ِ
منحنىً حاد جديد ....
وحتى اللحظة لم ينتج لي في تفاعل هذا البيت ما يثبت أنه هجاء لشبيب كما حاول أن يُـفْـهِـم الناس , وكما أراد أن يَفْهَــم َ كافور ..
ولوسلكت طرق السلاح لردها **
بطول ِ يمين ٍ واتساع ِ جنان
هجاء داهية ومدح داهية .. غطته فلسفة المواقف الصعبة ,و غلَّـفتْه سياسة أنصاف الحلول ..
لا يرضى المتنبي الجبن , ولا يقوى الصمت ..
فكانت حربه الباردة شبه ُحلٍ .. لشبهِ مدح ٍ.. لشبه هجاءٍ ..
وهل ينفع الجيش الكثير التفافه **
على غير منصور ٍ وغير مُعان ِ!
هل تشعرون أنه أدار بصره باتجاه أحد ٍ ما !!
أو نظرا شزرا واحتقارا وسخرية نحواً ما ..
سينحني يمينا ليمتص َّ الغضب المتصاعد باتجاه الداخل في نفس كافور :
أتمسك ما أوليته يد ُ عاقل ٍ** وتمسك في كفرانها بعنان ِ
ويركب ما أركبته من كرامة ٍ** ويركب للعصيان ظهر حصان ِ
ثنى يده الإحسان حتى كأنها ** وقد قُـبـِضـَت بغير بنان ِ
وعند من اليوم الوفـــاءُ لصاحبٍ ** شبيب ُ وأوفى من ترى أخوان ِ
هـــــــــذا بيت ُ القصيد...
"على طريقة الشيخ الجليل "ابن هشام "
عند من اليوم الوفاء ؟؟
الرجل قاس ٍ معذورٌ معا .. اعتاد على الفتوحات .. على المعارك .. على مثل "قلعة الحدث "
وفجع بكافور يفرح بالسلامة واكتفاء مؤونة القتال على يد امرأةٍ ,وغدرا !! ..
نثرت هذه الحادثة الملح على جراحٍ لم تلتئم ..
أمضــَّت مدمعه ..و أقضــَّت ْ مضجعه ..
لقد أطلق قصائده المريرة في مصر مدوية ً ..ملتاعة .. باحثا عن المعالي كما يقول إذا بحث غيره عن المعاش .. أطلقها هجاء أو مدحا أو غزلا أو فخرا أو حتى في وصف الحمى ..كلها كانت تغلي مراجلها في صدره على لهيب السؤال :
عند من اليوم الوفاء ؟ ....
قضى الله يا كافور أنك أول ٌ ** وليس بقاض أن يـُرى لك ثان ِ
على ضوء الواحدي : هوأجود ما مدح به ملك ..
تذكرت ُ قول ابن جني في إحدى مدائحه المرة : ما أحسنه لولا أنه في كافور ..
فقال المتنبي : أحذرناه وأنذرناه.. يقصد سيف الدولة ..وقلنا له :
أ ذا الجود .. أعط الناس ما أنت مالك**
ولا تعطيــَن َّ الناس ما أنا قائل ُ ..
وسينحني يسارا مرة أخرى :
فما لك تختار القسي َّ وإنما **
عن السعد يرمي دونك الثقلان ِ
وما لك تُـعنى بالأسنة والقنا **
وجدك طعــَّان ٌ بغير طعان ِ
ولِم ْ تحمل السيف الطويل نجاده **
وأنت غني عنه بالحدثان ِ
-في رأيي – هذا أهجى ما في النص ..
لأنه على غرار أقذع بيت هجاء قالته العرب للحطيئة :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي !!
يا لصــبـرِكَ يا كافور ..أتراها كانت رماحا تخترق سمعك وفؤادك !
جعله بلا هم ولا رأي ولا رؤية ..
توارت الفلسفة .. فازدادت التجربة ُ مرارةً ..
امتلأ القلب حنقا وضِيقا .. فاشتعل المدح ذما وحريقا ..
حين (أحب ): انظر كيف وصف الهم عند صاحبه سيف الدولة :
يكلف سيف الدولة الجيش همه ** وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم ُ
ويطلب عند الناس ما عند نفسه **وذلك ما لا تدعيه الضراغم ُ
وحين (أبغض ): تأمل كيف طلب منه ألا يحمل هما ..
ونحن كلنا المتنبي في هذه ..
حين نـجـِـلُّ ونقدِّر ..نشعر أن الآخر يحمل هما كبيرا وددنا لو شاركناه إياه..
في ذات اللحظة التي نزدري ونـُحـقِّـر .. يبدو أمامنا فارغا .. خاويا .. بلا دور .. ولا هدف ....
..قصيدة ٌ خطرة .. متعرجة .. تحتاج هدوءا أثناء السير لنصل المراد ..
وأبيات هذه القصيدة رسائل مشفرة ..فحواها ما أبعد صباحه في حلب .. عن مسائه في مصر !
فلم يكن له بد من قول الشعر ..
مـُـذعــنا ً للتلميح .. مــُـمعـِـنا في التجريح ..
أثابك الله يا كافور ..
وتجاوز عنا وعنك -أبا الطيب – إنه حسن التجاوز ..
والحمدلله رب العالمين
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
تقلد شبيب بن جرير العقيلي عمان والبلقاء وما بينهما من البر والجبال، فعلت منزلته وزادت رتبته واشتدت
شوكته.
وغزا العرب في مشاتيها بالسماوة وغيرها، فاجتمعت إليه العرب وكثرت حوله. وطمع في الأسود، وأنف من طاعته، وسوّلت له نفسه أخذ دمشق والعصيان بها، فسار إليها في نحو عشرة آلاف. وقاتله أهلها وسلطانها. واستأمن إليه جمهور الجند الذين كانوا بها.
وغلقت أبوابها واستعصموا بالحجارة والنشاب.
فنزل بعض أصحابه على الثلاثة الأبواب التي تلي المصلى يشغلهم بهم، ودار هو حتى دخل من الحميريين على القنوات حتى انتهى إلى باب الجبابية وحال بين الوالي وبين المدينة ليأخذها.
وكان يقدم أصحابه، فزعموا أن امرأة دلّت على رأسه صخرة.
فاختلف الناس في أمره، فقال قوم وقعت يد فرسه في قناة وقنعها فشبت به ولم تتخلص يدها فسقط، وكان مكسور الكتف والترقوة لسقطة سقطها عن الفرس في الميدان بعمان قبل ذلك بيسير، وسار إلى دمشق قبل تمام الانجبار. وذكروا أنه ثار من سقطته فمشى خطوات ثم غُلب فجلس وضرب بيده إلى قائم سيفه وجعل يذب حوله. وكان شرب وقت ركوبه سويقا فزعم قوم أنه طرح له فيه شيء، فلما سار وحمي الحديد عليه وازدحم الناس حوله عمل فيه، غير أنه سقط ولم ير أثر شيء من السلاح والحجارة أصابه. وكثر تعجب الناس من أمره حتى قال قوم كان يتعهده صرع فأصابه في تلك الساعة.
وانهزم أصحابه لما رأوا ذلك فخالفوا إلى الموضع الذي دخلوا منه، فأرادوا الخروج منه فقتل منهم أربعمائة فارس وبضعة عشر.
وأخذ رأسه ووردت الكتب إلى مصر بخبره يوم الجمعة لخمس خلون من جمادي الآخرة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وطالب الأسود أبا الطيب بذكره، فقال هذه القصيدة وأنشدها في يوم السبت لست خلون من جمادي الآخرة.
الأبيات :
عَدُوُّكَ مَذمومٌ بِكُلِّ لِسانِ وَلَو كانَ مِن أَعدائِكَ القَمَرانِ
وَلِلَّهِ سِرٌّ في عُلاكَ وَإِنَّما كَلامُ العِدا ضَربٌ مِنَ الهَذَيانِ
أَتَلتَمِسُ الأَعداءُ بَعدَ الَّذي رَأَت قِيامَ دَليلٍ أَو وُضوحَ بَيانِ
رَأَت كُلَّ مَن يَنوي لَكَ الغَدرَ يُبتَلى بِغَدرِ حَياةٍ أَو بِغَدرِ زَمانِ
بِرَغمِ شَبيبٍ فارَقَ السَيفُ كَفَّهُ وَكانا عَلى العِلّاتِ يَصطَحِبانِ
كَأَنَّ رِقابَ الناسِ قالَت لِسَيفِهِ رَفيقُكَ قَيسِيٌّ وَأَنتَ يَمانِ
فَإِن يَكُ إِنساناً مَضى لِسَبيلِهِ فَإِنَّ المَنايا غايَةُ الحَيَوانِ
وَما كانَ إِلّا النارَ في كُلِّ مَوضِعٍ تُثيرُ غُباراً في مَكانِ دُخانِ
فَنالَ حَياةً يَشتَهيها عَدوُّهُ وَمَوتاً يُشَهّي المَوتَ كُلَّ جَبانِ
نَفى وَقعَ أَطرافِ الرِماحِ بِرُمحِهِ وَلَم يَخشَ وَقعَ النَجمِ وَالدَبَرانِ
وَلَم يَدرِ أَنَّ المَوتَ فَوقَ شَواتِهِ مُعارُ جَناحٍ مُحسِنِ الطَيَرانِ
وَقَد قَتَلَ الأَقرانَ حَتّى قَتَلتَهُ بِأَضعَفِ قِرنٍ في أَذَلِّ مَكانِ
أَتَتهُ المَنايا في طَريقٍ خَفِيَّةٍ عَلى كُلِّ سَمعٍ حَولَهُ وَعِيانِ
وَلَو سَلَكَت طُرقَ السِلاحِ لَرَدَّها بِطولِ يَمينٍ وَاِتِّساعِ جَنانِ
تَقَصَّدَهُ المِقدارُ بَينَ صِحابِهِ عَلى ثِقَةٍ مِن دَهرِهِ وَأَمانِ
وَهَل يَنفَعُ الجَيشُ الكَثيرُ اِلتِفافُهُ عَلى غَيرِ مَنصورٍ وَغَيرِ مُعانِ
وَدى ما جَنى قَبلَ المَبيتِ بِنَفسِهِ وَلَم يَدِهِ بِالجامِلِ العَكَنانِ
أَتُمسِكُ ما أَولَيتَهُ يَدُ عاقِلٍ وَتُمسِكُ في كُفرانِهِ بِعِنانِ
وَيَركَبُ ما أَركَبتَهُ مِن كَرامَةٍ وَيَركَبُ لِلعِصيانِ ظَهرَ حِصانِ
ثَنى يَدَهُ الإِحسانُ حَتّى كَأَنَّها وَقَد قُبِضَت كانَت بِغَيرِ بَنانِ
وَعِندَ مَنِ اليَومَ الوَفاءُ لِصاحِبٍ شَبيبٌ وَأَوفى مَن تَرى أَخَوانِ
قَضى اللَهُ يا كافورُ أَنَّكَ أَوَّلٌ وَلَيسَ بِقاضٍ أَن يُرى لَكَ ثانِ
فَما لَكَ تَختارُ القِسِيَّ وَإِنَّما عَنِ السَعدِ يَرمي دونَكَ الثَقَلانِ
وَمالَكَ تُعنى بِالأَسِنَّةِ وَالقَنا وَجَدُّكَ طَعّانٌ بِغَيرِ سِنانِ
وَلِم تَحمِلُ السَيفَ الطَويلَ نِجادُهُ وَأَنتَ غَنِيٌّ عَنهُ بِالحَدَثانِ
أَرِد لي جَميلاً جُدتَ أَو لَم تَجُد بِهِ فَإِنَّكَ ما أَحبَبتَ فيَّ أَتاني
لَوِ الفَلَكَ الدَوّارَ أَبغَضتَ سَعيَهُ لَعَوَّقَهُ شَيءٌ عَنِ الدَوَرانِ
وَلِلَّهِ سِرٌّ في عُلاكَ وَإِنَّما كَلامُ العِدا ضَربٌ مِنَ الهَذَيانِ
أَتَلتَمِسُ الأَعداءُ بَعدَ الَّذي رَأَت قِيامَ دَليلٍ أَو وُضوحَ بَيانِ
رَأَت كُلَّ مَن يَنوي لَكَ الغَدرَ يُبتَلى بِغَدرِ حَياةٍ أَو بِغَدرِ زَمانِ
بِرَغمِ شَبيبٍ فارَقَ السَيفُ كَفَّهُ وَكانا عَلى العِلّاتِ يَصطَحِبانِ
كَأَنَّ رِقابَ الناسِ قالَت لِسَيفِهِ رَفيقُكَ قَيسِيٌّ وَأَنتَ يَمانِ
فَإِن يَكُ إِنساناً مَضى لِسَبيلِهِ فَإِنَّ المَنايا غايَةُ الحَيَوانِ
وَما كانَ إِلّا النارَ في كُلِّ مَوضِعٍ تُثيرُ غُباراً في مَكانِ دُخانِ
فَنالَ حَياةً يَشتَهيها عَدوُّهُ وَمَوتاً يُشَهّي المَوتَ كُلَّ جَبانِ
نَفى وَقعَ أَطرافِ الرِماحِ بِرُمحِهِ وَلَم يَخشَ وَقعَ النَجمِ وَالدَبَرانِ
وَلَم يَدرِ أَنَّ المَوتَ فَوقَ شَواتِهِ مُعارُ جَناحٍ مُحسِنِ الطَيَرانِ
وَقَد قَتَلَ الأَقرانَ حَتّى قَتَلتَهُ بِأَضعَفِ قِرنٍ في أَذَلِّ مَكانِ
أَتَتهُ المَنايا في طَريقٍ خَفِيَّةٍ عَلى كُلِّ سَمعٍ حَولَهُ وَعِيانِ
وَلَو سَلَكَت طُرقَ السِلاحِ لَرَدَّها بِطولِ يَمينٍ وَاِتِّساعِ جَنانِ
تَقَصَّدَهُ المِقدارُ بَينَ صِحابِهِ عَلى ثِقَةٍ مِن دَهرِهِ وَأَمانِ
وَهَل يَنفَعُ الجَيشُ الكَثيرُ اِلتِفافُهُ عَلى غَيرِ مَنصورٍ وَغَيرِ مُعانِ
وَدى ما جَنى قَبلَ المَبيتِ بِنَفسِهِ وَلَم يَدِهِ بِالجامِلِ العَكَنانِ
أَتُمسِكُ ما أَولَيتَهُ يَدُ عاقِلٍ وَتُمسِكُ في كُفرانِهِ بِعِنانِ
وَيَركَبُ ما أَركَبتَهُ مِن كَرامَةٍ وَيَركَبُ لِلعِصيانِ ظَهرَ حِصانِ
ثَنى يَدَهُ الإِحسانُ حَتّى كَأَنَّها وَقَد قُبِضَت كانَت بِغَيرِ بَنانِ
وَعِندَ مَنِ اليَومَ الوَفاءُ لِصاحِبٍ شَبيبٌ وَأَوفى مَن تَرى أَخَوانِ
قَضى اللَهُ يا كافورُ أَنَّكَ أَوَّلٌ وَلَيسَ بِقاضٍ أَن يُرى لَكَ ثانِ
فَما لَكَ تَختارُ القِسِيَّ وَإِنَّما عَنِ السَعدِ يَرمي دونَكَ الثَقَلانِ
وَمالَكَ تُعنى بِالأَسِنَّةِ وَالقَنا وَجَدُّكَ طَعّانٌ بِغَيرِ سِنانِ
وَلِم تَحمِلُ السَيفَ الطَويلَ نِجادُهُ وَأَنتَ غَنِيٌّ عَنهُ بِالحَدَثانِ
أَرِد لي جَميلاً جُدتَ أَو لَم تَجُد بِهِ فَإِنَّكَ ما أَحبَبتَ فيَّ أَتاني
لَوِ الفَلَكَ الدَوّارَ أَبغَضتَ سَعيَهُ لَعَوَّقَهُ شَيءٌ عَنِ الدَوَرانِ
---------------------------------------------------
من مصدر آخر : قراءة نقدية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه , كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لعظيم وجهه وجليل سلطانه ..
والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين , من لا ينطق عن الهوى , من أوتي جوامع الكلم , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين ..
أما بعد :
فهذه قراءة ٌ متأنية ٌ هادئة ٌ في قصيدة أبي الطيب المتنبي :
(عدوك مذموم بكل لسان ِ) التي قيل إنها في مدح كافور الإخشيدي..
ليست من النقد في شيء لأنها لا تملك أدواته المنهجية ..
ولا تعدو كونها قراءة شخصية بسيطة بصوت مرتفع ..
ابتعدت ُ فيها قدر الإمكان عن التفسير الحرفي الموجود في شرح ديوانه..
ـــــــــــــــــــ
حين قرأت ُ هذه القصيدة-أول مرة – شعرت ٌ أن َّ أصابع َ خفية ً تطرق الديوان ؛ تأمرني فأعتدل من استرخائي .. لأركِّــز َ وأُعمِل َذهني .. فهذه القصيدة البديعة ُ للعقل ِ أكثر منها للعاطفة..
هي قصيدة ٌ"بلورية " حين تعرضها على ضوء من التدبر تُـريك ألوانا مختلفة ..
حركها بأي اتجاه .. وافهمها كيف تشاء ..
وهي قصيدة ٌ " كيمياء " تتوازن فيها العناصر وتمتزج فيكون المحلول مديحا حلوا ..
وبتغيير بسيط في معادلة طرفي التفاعل ينتج مركب ُ هجــاء ٍ شديد المرارة ..!!
عدوك مذموم ٌبكل لسان ِ** ولوكان من أعدائك القمران ِ
ما القصة ؟
اجتمع "شبيب العقيلي " -وكان واليا على معرة النعمان - مع عشرة آلاف رجلٍ وحاصر دمشق خارجا على كافور , وفي رواية أن امرأة ً ألقت عليه رحى ً وهو واقف فصرعته ؛ ففر من معه وهُزموا بهلاكه ..
هنا توقف الشُرَّاح ..
إذن :لم يفعل كافور شيئا يستحق عليه المدح !!مات الرجل بعيدا عنه بل وقد أفلح وحاصر وقتل ..
قلتُ: (الطريق لفهم القصيدة ليس معبَّدا ..وهذا أول انحناء ٍ حاد في النص ..)
البيت من ظاهره المدح : عدوك جاهل يذمه الناس ولو كان الشمس أو القمر ..
ومن باطنه سوء الهجاء : يقول ابن جني :(هذا المدح قد ينقلب هجاء يقول أنت ساقط ومن يضاهيك مثلك ولو كان شمسا أو قمرا لذممناه )
لم أرَ المتنبي مضطرا لتخليد المناسبة ! فلا حدثا مشرفا ولا مناسبة تاريخية ..
لماذا أنشد عليه هذه الإهانات الناضجة على نار ٍ هادئة !!
تذكرت قول العلامة "محمود شاكر "إنه لطمه أول لقاء بينهما حين قال في أولى المدائح المُرَّة :
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ** وحسب المنايا أن يكن أمانيا !!!
و ألح ُّ علي ّ سؤالٌ : من هو كافور ؟
وما عجبـْـتُ حين عرفت ُ أنه كان أديبا عالما ,حاد الذكاء , شديد الفطنة ...
بقدر ما عجبت ُ أن المتنبي كان يعلم هذا علم اليقين !!
إنها حرب باردة بين قطبين داهيتين , لكل منهما في صاحبه " مآرب أخرى "!!
المتنبي والولاية ... وكافور وقوة الشاعر والاستعانة به على الأعداء ..
ولله سرٌّ في علاك وإنما ** كلام العدا ضربٌ من الهذيان ِ
أتلتمس الأعداء بعد الذي رأت ** قيام ُ دليل ٍ أو وضوح بيان ؟
في فن التواصل مع الآخرين ..ينصح الخبراء ألا تبدي دهشتك الشديدة لحصول صديقك على منصب .. وألا تسأله عن تفوقه المفاجئ .. وألا تقول له خدمك الحظ والصدفة !!
فعدم التوقع يعني أنه ليس بكفء ٍ ..
هذا بالضبط مضمون الرسالة المشفرة التي وصلت بوضوح!!
إمارتك سر ٌّ لا ندرك كنهه .. وواقع ٌ لا نجد له تفسيرا !!
والتمسوا دهاء الدليل : مارق ٌ تقتله رحى امرأة وقد حاصر المدينة !! إهانة وأيما إهانة ..
ر
أت كل َّ من ينوي لك الغدر َ يبتلى ** بغدر حياة ٍ أو بغدر ِ زمان ِ
هلاَّ رأفت َ به يا أبا الطيب ؟
يقول : لم تنتصر على عدو ٍ لك َ قط ....
يغدر به الظفر .. ويخونه النصر ..
رثيت كثيرا لك يا كافور .. ما أغناك عن هذا المدح !! أما لك في الشعراء "وإن رثت حبالك واصل ٌ "؟؟؟
وأنت يا أبا الطيب لم تكن محتاجا وأنت تكره "ففي الأرض عن دار ِ القلى متحوَّلُ "
برغم شبيب ٍ فارق السيف كفه ** وكانا على العـِلَّات ِ يصطحبان ِ
كأن رقاب الناس قالت لسيفه **رفيقك َ قيسي ٌ وأنت يمــاني !
ينحني بي النص مرة أخرى ..
أزعجتني "برغم " سرت لأفكاري لمحة غريبة ..لم أتأكد منها حتى اللحظة ..
لماذا يشيد بأنه ترك السيف راغما .. وأنهما مصطحبان ..
هي كيمياء المديح المُــر .. شِعرٌ في كأسٍ قاتم يقدمه المتنبي بجرأة ٍ واثقة , ويتجرعه كافور بقهر ٍ صامت , ويحتسيه بإحساس ٍ بارد . دون أن يوحي بأي اعتراض , أو يبدي أدنى امتعاض ..
فإن ْ يك ُ إنسانا مضى لسبيله ** فإن المنايا غاية الحيوان ِ
لم يرد شبيب الخلود .. فمصير كل حي إلى الموت ..
أهو عزاء ؟...أهو تعاطف ؟؟.. أهي حكمة مجردة ؟..
قد يكون أي َّ قصد .. إلا الهجاء لشبيب !!
وما كان إلا النار في كل موضع ٍ** يثير غبارا في مكان في مكان دخان ِ
فنال حياة ً يشتهيها عدوه ** وموتا يشهِّــي الموت كل َّ جبان ِ!!
أثار فتنةً أعقبت حربا .. وقد عاش عزيزا .. ومات :....بلا ألم !!!موت يشتهيه الجبان !
بخل المتنبي على كافور حتى أن يستمتع بألم عدوه ..
نفى وقع أطراف الرماح ِ برمحه ** ولم يخش َ وقع النجم والدبران
ولم يدر ِ أن الموت َ فوق وشاته ** معــارُ جناح ٍ ..محسن ِ الطيران ِ
للإنصاف ما رأيت ُ الرحى الطائر أجمل منه هنا ..!!
وهذه صورة تلتقطها عدسته فنتخيل : مقاتلا شجاعا يدافع بشراسة ما خاف أبدا في أرض المعركة ..لكنه غفل عما جاء من سمائها حيث جاءته من الأعلى من الرحى الطائر ..
كل هذا وليس لك يا كافور حيلة ..
وقد قتل الأقران َ حتى قتلته ** بأضعف قـِرْن ٍ في أذل ِّ مكان ِ
وهنا فاض به الكيل ولم يعد يطيق التمثيل بعدم الفهم :
فانتفض قائلا : لا والله , بأشذ قرن ٍ في أعز مكان ِ
وقيل رواه الناس كما قاله كافور.. وهيهات أن يرويه سياق المتنبي هذا !
أتته المنايا في طرقٍ خفية ** على كل سمع ٍ حوله وعيان ِ
ولوسلكت طرق السلاح لردها **بطول ِ يمين ٍ واتساع ِ جنان ِ
تقصده المقدار ُ بين صحابه **على ثقة ٍ من دهره ِ وأمان ِ
منحنىً حاد جديد ....
وحتى اللحظة لم ينتج لي في تفاعل هذا البيت ما يثبت أنه هجاء لشبيب كما حاول أن يُـفْـهِـم الناس , وكما أراد أن يَفْهَــم َ كافور ..
ولوسلكت طرق السلاح لردها **
بطول ِ يمين ٍ واتساع ِ جنان
هجاء داهية ومدح داهية .. غطته فلسفة المواقف الصعبة ,و غلَّـفتْه سياسة أنصاف الحلول ..
لا يرضى المتنبي الجبن , ولا يقوى الصمت ..
فكانت حربه الباردة شبه ُحلٍ .. لشبهِ مدح ٍ.. لشبه هجاءٍ ..
وهل ينفع الجيش الكثير التفافه **
على غير منصور ٍ وغير مُعان ِ!
هل تشعرون أنه أدار بصره باتجاه أحد ٍ ما !!
أو نظرا شزرا واحتقارا وسخرية نحواً ما ..
سينحني يمينا ليمتص َّ الغضب المتصاعد باتجاه الداخل في نفس كافور :
أتمسك ما أوليته يد ُ عاقل ٍ** وتمسك في كفرانها بعنان ِ
ويركب ما أركبته من كرامة ٍ** ويركب للعصيان ظهر حصان ِ
ثنى يده الإحسان حتى كأنها ** وقد قُـبـِضـَت بغير بنان ِ
وعند من اليوم الوفـــاءُ لصاحبٍ ** شبيب ُ وأوفى من ترى أخوان ِ
هـــــــــذا بيت ُ القصيد...
"على طريقة الشيخ الجليل "ابن هشام "
عند من اليوم الوفاء ؟؟
الرجل قاس ٍ معذورٌ معا .. اعتاد على الفتوحات .. على المعارك .. على مثل "قلعة الحدث "
وفجع بكافور يفرح بالسلامة واكتفاء مؤونة القتال على يد امرأةٍ ,وغدرا !! ..
نثرت هذه الحادثة الملح على جراحٍ لم تلتئم ..
أمضــَّت مدمعه ..و أقضــَّت ْ مضجعه ..
لقد أطلق قصائده المريرة في مصر مدوية ً ..ملتاعة .. باحثا عن المعالي كما يقول إذا بحث غيره عن المعاش .. أطلقها هجاء أو مدحا أو غزلا أو فخرا أو حتى في وصف الحمى ..كلها كانت تغلي مراجلها في صدره على لهيب السؤال :
عند من اليوم الوفاء ؟ ....
قضى الله يا كافور أنك أول ٌ ** وليس بقاض أن يـُرى لك ثان ِ
على ضوء الواحدي : هوأجود ما مدح به ملك ..
تذكرت ُ قول ابن جني في إحدى مدائحه المرة : ما أحسنه لولا أنه في كافور ..
فقال المتنبي : أحذرناه وأنذرناه.. يقصد سيف الدولة ..وقلنا له :
أ ذا الجود .. أعط الناس ما أنت مالك**
ولا تعطيــَن َّ الناس ما أنا قائل ُ ..
وسينحني يسارا مرة أخرى :
فما لك تختار القسي َّ وإنما **
عن السعد يرمي دونك الثقلان ِ
وما لك تُـعنى بالأسنة والقنا **
وجدك طعــَّان ٌ بغير طعان ِ
ولِم ْ تحمل السيف الطويل نجاده **
وأنت غني عنه بالحدثان ِ
-في رأيي – هذا أهجى ما في النص ..
لأنه على غرار أقذع بيت هجاء قالته العرب للحطيئة :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي !!
يا لصــبـرِكَ يا كافور ..أتراها كانت رماحا تخترق سمعك وفؤادك !
جعله بلا هم ولا رأي ولا رؤية ..
توارت الفلسفة .. فازدادت التجربة ُ مرارةً ..
امتلأ القلب حنقا وضِيقا .. فاشتعل المدح ذما وحريقا ..
حين (أحب ): انظر كيف وصف الهم عند صاحبه سيف الدولة :
يكلف سيف الدولة الجيش همه ** وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم ُ
ويطلب عند الناس ما عند نفسه **وذلك ما لا تدعيه الضراغم ُ
وحين (أبغض ): تأمل كيف طلب منه ألا يحمل هما ..
ونحن كلنا المتنبي في هذه ..
حين نـجـِـلُّ ونقدِّر ..نشعر أن الآخر يحمل هما كبيرا وددنا لو شاركناه إياه..
في ذات اللحظة التي نزدري ونـُحـقِّـر .. يبدو أمامنا فارغا .. خاويا .. بلا دور .. ولا هدف ....
..قصيدة ٌ خطرة .. متعرجة .. تحتاج هدوءا أثناء السير لنصل المراد ..
وأبيات هذه القصيدة رسائل مشفرة ..فحواها ما أبعد صباحه في حلب .. عن مسائه في مصر !
فلم يكن له بد من قول الشعر ..
مـُـذعــنا ً للتلميح .. مــُـمعـِـنا في التجريح ..
أثابك الله يا كافور ..
وتجاوز عنا وعنك -أبا الطيب – إنه حسن التجاوز ..
والحمدلله رب العالمين
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..