الثلاثاء، 6 سبتمبر 2016

وستكون هناك "غروزنيات" أُخر

              في العام 1991م، انفلتُّ وصديق لي في رحلة دعوية إلى الجمهوريات الإسلامية التي كانت تتبع الاتحاد السوفيتي البائد إذاك، وكانت تلك الدول لتوها استقلت. وعبر أحداث ومغامرات في سهوب آسيا
الوسطى الشاسعة تلك، انتهينا لقرية أعجوبة في جمهورية قرغيزيا بالقرب من الصين، وكان يقطن القرية - التي يتكلم أبناؤها وكهولها اللغة العربية الفصحى - قومية "الدرقين" من جمهورية داغستان، قام بتهجيرهم قبل حوالي خمسين عاما من وصولنا لهم، الديكتاتور الشهير جوزف ستالين، بسبب وقوف مسلمي القفقاس مع النازيين في الحرب العالمية الثانية.
عندما عرفوا أننا من السعودية، استقبلنا طلبة العلم في المسجد الكبير استقبال الصحابة، وتوجس كبار القرية منا، وكانوا يهمهمون بأننا "وهابية"، سيما وأننا اصطحبنا معنا مقررات كتب التوحيد التي ندرّسها في مدارسنا، كونها مبسطة وسهلة. أتذكر أنهم عقدوا اجتماعات عاصفة لأجل دراسة وضعنا، وكيفية التعامل مع الوهابية هؤلاء، حتى انتهى عقلاؤهم لقبولنا، وازدادوا يقينا بعد تعاملنا المتسامح معهم، ما جعلنا نتردد لخمس سنوات على تلكم البلاد نقيم الدورات الشرعية عبر جمعية "الوقف الإسلامي".
هذه التوطئة التي قدمتها لمقالتي، كي أبين الكيفية التي ينظر أولئك الشيشانيون لنا، والنظرة هذه تسربل معظم منطقة القوقاز، بل معظم آسيا الوسطى والدول التي كانت في منظومة الاتحاد السوفيتي حيال السلفية، فلا يزال القوم يتوارثون تلك الصورة الشائهة عن منهجنا السلفي في هذه البلاد، لذلك عندما سمعت العبارات التي وصف وهجا بها الرئيس الشيشاني رمضان قديروف "الوهابية"، لم أستغرب منه، بل لم أستغرب هذا الإخراج منهم لمنهجنا في هذه البلاد من جماعة أهل السنة والجماعة، بل كان استغرابي من موقف الأزهر وبقية الحضور، الذين يعرفوننا جيدا، والتقوا علماءنا في مؤتمرات عدة.
عموما، للقضية جانبان من وجهة نظري، شرعي أو مذهبي، والآخر والأهم منه السياسي، ورؤيتي البسيطة تتلخص في أن الكاوبوي الأمريكي والغرب معه، ضجروا من بعد 11 سبتمبر - وليومنا هذا - من هذه السلفية التي زعموا أن القاعدة وداعش وكل الجماعات السنية المتطرفة توالدت عبرها، ولوأد هؤلاء الأبناء المتطرفين، ارتأى الأمريكي بضرورة تجفيف منابع الأم التي تلدهم بزعمه – وما تبرع به بعض أبنائنا بالبصم على هذا الاتهام والقسم المغلظ عليه - وشيطنتها أمام مسلمي العالم، وأخذوا بتوصية تقرير "راند" الذي صدر قبل أكثر من عشر سنوات، الذي أوصى بدعم الصوفية في العالم الإسلامي، وتسييدها لأهل السنة بدلا من السلفية، كون الصوفية لا تدعو للعنف ولا للجهاد، وهو ما حصل،
وتبرعت جارة خليجية بأخذ هذا الدور في تقوية وإشاعة الصوفية في العالم الإسلامي، فأنشأت مجلس "حكماء المسلمين"، وجلبت له ثلة دعاة وعلماء من كافة أنحاء العالم الإسلامي من مختلف المذاهب إلا السلفية، وأقيم مؤتمرين قبل مؤتمر "غروزني" الأخير، الذي اشتهر بسبب إخراج السلفية من أهل السنة والجماعة، مستعيدين معارك مذهبية ضاربة في القدم بين الحنابلة والأشاعرة.
السؤال: ما الذي علينا فعله اليوم تجاه هذا الجور الذي حصل؟
يقينا أن مؤتمر "غروزني" لن يكون آخر القصة، فالمشاركون فيه ينتمون إلى تجمعاتٍ ومؤسساتٍ، فضح المؤتمر هويتها للعالم الإسلامي، لكن المتابعين المختصين يعرفون تفاصيل هذه القصة قبل المؤتمر وبعده، وستكون هناك "غروزنيات" أُخر، وسنتفاجأ بما يزيد في تفتيت أهل السنة، وأتمنى أن نحذو حذو هيئة كبار العلماء في السعودية التي أصدرت بيانا هادئا، ليس في لغته تشنج أو انفعال، ولعمرو الله أحسنوا جدا في ذلك، فنحن في وقت يجب أن تكون ردودنا، إن على المستوى الشرعي أو السياسي، هادئة ومتزنة، فالكل أجمع على حرب السعودية ومنهجها وقادتها إلا ما رحم الله، وأيضا لا نود أبدًا خسارة جارة خليجية كبرى في هذا الظرف، فالأخ الأكبر دوما يتحمل ويتصرف بكل الحكمة مع إخوته.
من المهم إقامة مؤتمرات كبرى عبر "رابطة العالم الإسلامي"، وبمشاركة الأزهر الذي انتبه للفخ متأخرا وبعد ردود الأفعال، واستدرك عبر بيان له بإدخال السلفيين في مفهوم أهل السنة. ندعو لهذه المؤتمرات علماء من ذوي الرسوخ في العلم من أقطار العالم الإسلامي، وكذلك ممن شارك في مؤتمر"غروزني" ممن اتسم بالوسطية، ولم تك له يد فيما حيك من نتائج، وهذه المؤتمرات ليست للرد المباشر على مؤتمر "غروزني"، بل هي لجمع الكلمة والاتحاد وتخفيف الاحتقان الذي حدث في وسط السنة، فأسوأ ما سنقوم به اليوم وفي هذا الظرف الحرج أن نرد الصاع صاعين، ونعلنها حربا ضروسا، ونساهم في تفتيت ما هو مفتتٌ أصلا، بل بيان عام وحكيم من لدن علماء جهابذة يمثلون المذاهب الإسلامية، يسع ما اتفق عليه سلف الأمة من الصحابة ليومنا هذا.
أما على الجانب السياسي، فأٌقول إنه آن الأوان لنفض غبار 11 سبتمبر المشؤوم، والسعي الحثيث والممنهج في استعادة دور السعودية القيادي في الأوساط الدينية في العالم الإسلامي، والمبادرة لملء الفراغات التي ملأ كثيرًا منها الخصوم.
بودي توجيه شكر خاص للزملاء الإعلاميين الذين استنكروا نتائج المؤتمر، وشعروا بالمؤامرة على السعودية بالدرجة الأولى، هامسا بحدب وحب للبعض منهم، وأنا الذي لا أشكك في وطنيتهم الحقة، أن تراجعوا حساباتكم في موضوع ربط المملكة ومناهجها وعلمائها بالإرهاب، "غروزني" وما يَتهم به بعض الباحثين والكتبة من السعوديين، ثمرة مكرٍ غربي ضخمٍ هدفه وغايته وضع المملكة تحت ضغطٍ متواصلٍ لخلخلة بنيتها الداخلية وتفكيكها.
ودوما للمأساة جانب مشرق، فبيانات الاستنكار التي صدرت من عدة جهات أسهمت في تحجيم الكيد للسعودية ورده، بيد أن أبلغ ردٍّ وأقواه سيكون ممن شاركوا فيه، متى كان موقفهم قويًا وصريحًا، وأطلب من أخي د. حاتم العوني ألا يكتفي ببضع تغريدات وهو الباحث المتين، يجب عليه أن يتمايز بوضوح وقوة، وله في الشيخ عبد الله بن بيه قدوة، وابن بيه قدم استقالته من مجلس "حكماء المسلمين" بعد أن انتبه لما يراد.
باحث سعودي مقيم في دولة خليجية كتب يقول إن مسارات التاريخ تدل على أن السلفية في طريقها لتكون طائفة، وباحث سعودي آخر كتب يقول إن جهود الوهابية ستتحول إلى إثبات وجودهم ضمن أهل السنة، وسأشهر لهما من التاريخ ما يفند مقولتهما، ففي سنة ١٩٠٠ كتب المنصّر الشهير "صاموئيل زويمر" معلقًا على ما فعله محمد علي باشا بالدولة السعودية وما تبع ذلك لاحقًا، بأسلوب لا يخفي الفرح والشماتة:"لقد انتهت هذه الحركة الوهابية نهاية ذليلة، ويمكن اعتبار سلطة السعوديين الآن في الجزيرة العربية في خبر كان"، وذهب زويمر ومحمد علي باشا وكل الشامتين وبقيت السلفية مزدهرة.
هناك جبروت المعتزلة ضد السلفية على مدى حكم ثلاثة خلفاء عباسيين، ما الذي حصل؟، تبخّر سلطانهم وبقيت السلفية ليومنا هذا ولغدنا وإلى ما يشاء الله، غير ناس ابن تيمية الذي يثير عصارة معدة بعض مترأسي المؤتمر في الشيشان، وكيف انتصر وذهب مناوؤه لمزبلة التاريخ.
على السعودية اليوم أن تعالج –سياسيا ومذهبيا - تداعيات مؤتمر "غروزني" بحكمتها واتزانها واعتدالها، والسكوت وغض الطرف يجعل القوم يتجرأون أكثر في "الغروزنيات" المقبلة التي يبشرون بها من الآن.


 
     بقلم :عبدالعزيز قاسم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..