الإعتقاد بأن حكومة ووزرائها، من دون جهة محايدة مستقلة للحوكمة والمراقبة والمسائلة، سوف يُحسنون إدارة وعلاقات مجتمع يتكاثر أفراده ساعة بعد ساعة؛ وتتعقد مطالبه يوماً بعد الآخر؛ ويتطور وعيه من شهر إلى شهر، وتتحوّل علاقاته الخارجية من حقبة إلى أخرى، هو ضرب من الخيال والمبالغة وحالة مفرطة من الإنكار. (1) يزداد عدد سكان السعودية فتتكاثر المطالَب في التعليم والعمل والسكن والصحة والرعاية الإجتماعية والبلديات ويزداد حمل الحكومة. (2) ينفتح المجتمع السعودي على الخارج ويقتحم العالم السعودية في الداخل ويزداد مع ذلك حمل الحكومة؛ (3) يتطور العالم نحو التحديث والعصرنة ويتجه المجتمع السعودي نحو محاكاة الآخرين ومعه تتزايد وتتنوع المطالب ويزداد الحمل على الحكومة. (4) يتحول العالم ويضطرب من حول السعودية إقليمياً ودولياً في حقب سياسية وإقتصادية فيتفاقم حمل الحكومة. لكن كل ما تستطيع الحكومة ووزرائها عمله هو الإستمرار واللهث خلف المستجدات، فإن تأخرت أو تعثرت أو أخطأت فسينظر وزرائها بمكر وتضليل إلى الأعلى مشيرين بإصابع المسئولية إلى ولاة الأمر لكي يقولوا للمواطن والشعب، غمزاً ولمزاً، ما معناه دونكم الملك وولي العهد وولي ولي العهد فلوموهم. فلماذا تنتظر الدولة إلى اليوم الذي تضحّي الحكومة بالدولة، ولماذا لا يضحّي ولاة الأمر بالوزراء ويفوضون جزء من صلاحياتهم للمواطنين، ويجعلون من الوزراء كبش الفداء، كما يحدث في سائر الدنيا؟ تفاني الكثرة (المواطنين) في السمع والطاعة لولاة الأمر، أفضل ألف مرة من تفاني القلة (الوزراء) في إرضاء ولاة الأمر. فلماذا تستبدل الدولة الذي أدنى بالذي هو خير؟
كشفت حلقة “الصدمة” مع عينة مختارة من الوزراء وعينة منتقاة من المواضيع والأسئلة أمور كثيرة هي أبعد وأعمق وأخطر مما حاول الوزراء قوله أو إثباته أو تفاديه. بعد حديث الوزراء وخطورة مضمونه لا نظن أن من حق وزارة الإعلام أن توقف كاتب أو تمنع مقال بشكل مباشر أو غير مباشر. بعد حديث الوزراء لا مجال لرئيس تحرير صحيفة أن يمرر فقط مقالات تعتمد التلميح لا التصريح، ومداهنة الوزراء لا مداهمة أخطاءهم. بعد حديث الوزراء يتوجب على وزير الثقافة والإعلام أن يتوقف عن الأسلوب والمنهج القديم في التصفيق والتطبيل والتضخيم لما يعتبره منجزات للحكومة. بعد حديث الوزراء يستحسن بالحكومة إلغاء وزارة الإعلام وتوفير نفقاتها كجزء من خطة التقشف بدلاً من الإتجاه لدخل الموظف. ولذا فمن المفيد إلغاء وزارة الإعلام لثلاثة أسباب: (1) عدم ثقة الفاعلين والمسئولين في الحكومة في أي وسيلة إعلامية رسمية بدليل ظهورهم في وسائل الإعلام الغير رسمي، أما أجنبي أو مهاجر؛ (2) فشل المنهج الإعلامي للوزارة في صنع هوية وطنية، أو ثقافة معتدلة في الداخل، أو صورة سعودية حقيقية وجاذبة في الخارج؛ (3) أن معظم دول العالم المتقدم تتجه نحو إلغاء وزارات الإعلام كفكرة نشأت في بيئة سياسية تقليدية عفا عليها الزمن، كما مزقتها ثورة الإتصالات ووسائل التواصل الإجتماعي.
إتضح للمجتمع بعد حلقة “الصدمة” أن وزارة الإقتصاد والتخطيط هي خلف كل العبث الحاصل في الحكومة والمجتمع تخطيطاً وتزبيطاً. والعبث نعني به ثلاثة قضايا: سوء المعرفة؛ وسوء الإدارة؛ وسوء التقدير. (1) لم تتعرف الوزارة على حقيقة المجتمع السعودي بشكل صحيح، وإكتفت بما تمليه عليها الشركات الإستشارية وفي مقدمتها بالطبع “ماكينزي” سيئة الذكر، التي أخذت نصائح المؤسسات والمراكز الدولية كجوهر لخططها. (2) لم تتمكن الوزارة من إدارة التغيير بشكل يؤدي إلى إستيعاب المواطن والمجتمع كعناصر فاعلة ومحفزة للتغيير أو إدارة التوقعات. (3) لم تنجح الوزارة في تقدير العواقب وردة فعل المواطن في معظم ما طرحته من إجراءات أو وسائل تبرير وتمرير وآخر ذلك مضمون ما قيل في حلقة “الصدمة”. أما التزبيط، فإن عدم ظهور وزير الإقتصاد والتخطيط مع زملائه الوزراء والإكتفاء بنائب وزير الإقتصاد والتخطيط، أثار مزيد من الشكوك بالرغم من المحاولات التبريرية لمقدم الحلقة. الدراسة التي يجادل بها وزير الخدمة المدنية حول إنتاجية الموظف المتردية، إتضح أن الإخراج جاء من أدراج وزارة الإقتصاد والتخطيط. كما أن الإنذار بالإفلاس جاء، أيضاً، من دراسة عامة للبنك الدولي قبل أكثر من عام وخرج من جعبة وزارة الإقتصاد والتخطيط. بإختصار، يحذر الكثير من الدور الذي تلعبه الوزارة ووزيرها في التخطيط والتزبيط الذي أدى وسيؤدي إلى العبث ونتائج كارثية.
نشر عدد من الكتاب مقالات حول حلقة “الصدمة” وتبادل المجتمع الكثير من التغريدات وجميعها تحمل مؤشرات تصب في السخرية والسخط وتؤكد فقدان الثقة. كتب الأستاذ عبدالله المزهر مقال في صحيفة مكة، إنتشر بشكل لافت بعنوان “لقد كان الصمت حكمة..!” يقول فيه: “يمكن تلخيص الحوار في فكرة واحدة، وهي أن المواطن هو سبب الهدر المالي الذي عانت منه ميزانية الدولة … المواطن الذي لا يموت مبكراً ويرهق صندوق التقاعد، والموظف الذي يبلغ معدل إنتاجيته ساعة واحدة في اليوم”. أما جميل فارسي فقد كتب تغريدة تقول: “مطلوب أن تحترموا عقولنا: كيف مهددون بالإفلاس ونحن الذين نضبط وتيرة الاقتصاد العالمي، أيهم أصح؟” وأرفق مع التغريدة خبراً لصحيفة سبق يقول “في قمة العشرين الكبار.. السعودية ترسم معالم النظام الاقتصاد العالمي”. عبدالحميد العمري علق على هاشتاق “افلاس السعودية بعد ٣ سنوات” بأنها أكبر كذبة، بعد أن ذكر أن “ثروة السعودية (نفط، غاز) بأسعار اليوم تصل إلى 41.3 تريليون ريال دون إحتساب ثروة المعادن (ذهب، فضة الخ)”. ما ذكره نائب وزير الإقتصاد بأن “.. هناك مشاريع مترفة كالتوسع في الجامعات.” علق عليه د. حمد آل الشيخ في تغريدة “شيء غريب وعجيب ان التوسع في الجامعات مشاريع مترفة!! بينما شراء أوبير قرار غير مترف، وصرف مليارات على ماكينزي وبوسطن قروب؟؟”. أما أستاذنا الكاتب خالد الوابل فقد سخر في تغريدة: “اذا نحن دخلنا مجموعة العشرين وإنتاجية الموظف ساعة فقط فكيف لو كان 8 ساعات كان دخلنا عضو دائم في مجلس الأمن”. وفي تغريدة ثانية يتسائل: عندما تنقل الصحف الغربية تصرفات فردية من بعضنا نقول “تشويه سمعة” فماذا نسمي عندما يعُمم مسؤول ويتهم الجميع!”.
ماتفوه به الوزراء في حلقة “الصدمة” كان له أثر سلبي على الدولة والحكومة والمجتمع والمواطن والموظف في القطاع الحكومي والخاص وقطاع الأعمال على السواء. وأثار العديد من الإسئلة: كيف يثق المستثمر الأجنبي أو المحلي في إستثمار أمواله في دولة على حافة الإفلاس؟ كيف يطمئن موظف في القطاع الحكومي وهو يسمع أن صندوق التقاعد في مهب الريح؟ كيف يثق القطاع الخاص في توظيف المواطن مع إنتاجية لا تتعدى ساعة واحدة في اليوم؟ كيف يثق مواطن بحكومة أنفقت تريليونات الريالات على مدى عقود في مشاريع يقول عنها الوزراء أنها غير ضرورية أو نتاج فكر الترف؟ كيف يمكن لرؤية 2030 أن تمضي وتنجح إذا لم يثق فيها وفي إدارتها المواطن والمجتمع اللذان يشكلان البيئة الحاضنة؟ ماهي الضمانات التي يمكن تقديمها بأن لا يحدث في المستقبل ما حدث في الماضي؟ نجح وزير الخدمة المدنية في تخفيف الصدمة جزئياً في بداية الحلقة بعد أن شرح أن (25) فقط من البدلات والعلاوات والمكافاءات من أصل (156) تم تناولها، لكنه إستفز وأهان الجميع في مواضيع أخرى. لم يتطرق معالي وزير الخدمة المدنية فيما إذا كان لديه دراسات توصي بضرورة دمج وزارتي الخدمة المدنية والعمل في وزارة واحدة تعني بالموارد البشرية ضمن خطة إعادة الهيكلة والتقشف في الحكومة، وفي دولة تعتبر كل من موظف الحكومة والقطاع الخاص من أبنائها ومسئولة عنهم. أليس توفير نفقات وزارته أجدى، من تحميل المواطن عبء التقشف وحده؟
أخيراً، ما إقترحناه في الفقرة الثانية أعلاه ليس بديلاً بأي حال من الأحوال عن إجراء إصلاحات سياسية شاملة ضرورية وحتمية، بل هو حل عاجل وسريع لأزمة الثقة التي سببتها حلقة “الصدمة”. إعادة ثقة المواطن في الحكومة، أي حكومة، هو أشبه بمحاولات خبراء المال إعادة الثقة للأسواق المالية والعملة الوطنية بأسرع وقت، بل أهم منها. فتناقص ثقة المواطن التي تم بناءها على مدى عقود هو أمر خطير، ونجادل بأن إعادتها كما كانت امر عسير، لا يتم إلا بوسائل وسياسات وإجراءات تتخطى قوة تأثيرها وفاعلية إجراءاتها وسياساتها وسرعتها، قوة تأثير الشك والريبة وعدم المصداقية الذي سببته حلقة “الصدمة”. فبلادنا تواجه جملة من التحديات الداخلية والخارجية بعضها إرتفع لدرجة الأزمة، لكننا إقتصرنا على أزمة الثقة وأهمية التعجيل بمعالجتها لأن لها الأولوية القصوى. ختاماً، نقول لولاة أمرنا، وفقهم الله، إحذروا الوزراء فقد خذلوكم، ونقول لأمير الرؤية، أعانه الله، إذا أردت التخطيط فعليك بمئات المستشارين من الكفاءات الوطنية فلن يخذلوك أو يخذلوا الوطن، أما إذا أردت التزبيط فعليك بالفقرة الثانية أعلاه ولن تندم أبدا. أما نحن فقد طرحنا رأينا هنا بشكل مباشر وبكل شفافية فإن أصبنا ووافق رضى الله ثم ولاة الأمر فلله الحمد والمنة، وإن جانبنا الصواب فنعتذر ونستغفر الله ونحمده أن هيأ لهذه البلاد قادة يحمونها ويحملونها في عقولهم وقلوبهم، ومواطنين يفدونها بالنفس والنفيس في السراء والضراء. حفظ الله الوطن.
01:08 صباحًا EET
turadelamri@hotmail.com
@Saudianalyst
المصدر
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..