الاثنين، 19 يونيو 2017

أزمة قطر وإدارة الأزمة

       من يُشَكِّك في أن قرار المقاطعة الصارم والذي اتخذته المملكة ضد دولة قطر تأخر كثيراً فهو إما غيرُ متابع لما كان يحدث منذ عشرين عاما ولذلك فوجئ بما حصل ، وإما متماهٍ مع المشروع الذي
كانت دولة قطر تعمل عليه ضد السعودية وينتظر عواقبه بفارغ الصبر .
وأعتقد أن المخطط الأمريكي لتقسيم المملكة والذي تَعْرِف عنه السعودية جيداً ،ووجدت وزارة الخارجية الأمريكية نفسها مضطرة إلى الاعتذار من تسرب بعض نتائج اجتماعاتها حوله سنة ٢٠٠٢ فيما عُرِف فيما بعد بخريطة رالف بيترس والتي نشرتها لاحقا إحدى المجلات العلمية للجيش الأمريكي ضمن مقال بعنوان:حدود الدم [مترجم بالعربية وموجود على الشبكة الإلكترونية] وهي تطوير لفكرة برنارد لويس الشهيرة ؛ ومع أن الحكومات الأمريكية السابقة تؤكد أن هذه الدراسات والمقالات ليس لها أثر على قرارات الإدارة إلا أن التغيرات على الواقع تثبتُ العكس ؛ وسوف أتجاوز دِلالات الفوضى العربية التي أَسْمَتْها كونداليزا رايس "الولادة من الألم"وأقْصُر حديثي فيما يخص السعودية حيث كانت مُحَاصَرَةُ المكاتب الدعوية والجمعيات الخيرية السعودية واستمرار ذلك بالرغم من حصولها على أحكام براءة دولية ، ومن ثَمَّ إحلال النشاط الإيراني في كل البلاد التي كان العمل الدعوي والخيري السعودي ناشطاً فيها ؛ وكذلك دعم الحركات الصفوية في الفكر الانفصالي التكفيري الشيعي ، ودعم الفكر التكفيري الحروري ؛ وإيواء دول الناتو وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا للمعارضين السعوديين وإعطاؤهم منابرَ لذلك وتسهيل الدعم المالي لهم ؛ وتمكين الميليشيات الإيرانية المنتمية لإيران من المناطق الحدودية المتاخمة للملكة .
كل ذلك وأشياء كثيرة أُخَر لعله يأتي المجال للحديث عنها في مقالات تالية إن شاء الله، أدلة على نفاق الحكومات الأمريكية في زعمها عدم أخذها بهذه الأفكار .
ولعل الأكثر طرافة : أن الضباط الأمريكيين عَرَضُوا خريطةَ رالف بيترس في كلية ضباط الناتو العليا في روما سنة ٢٠٠٦ ؛ الأمر الذي أغضب الضباط الأتراك كون بلادهم قد تم العبث بخريطتها أيضا ،واعتذر رئيس الأركان الأمريكي من نظيره التركي بالعذر الواهي نفسه وهو :أن الخريطة لا تمثل رأي الإدارة .
والمؤسف أن دولة قطر ضالعة في كل ذلك ،وأعتقد أن من لم يصدقوا حتى الآن هم فقط من لايريدون التصديق ؛وقد تحدثتْ وسائلُ الإعلام عن كثير من الأدلة على ذلك ولستُ هنا بصدد تفصيلها ؛ لكنني سأتحدث عن أمر آخر أجد أن الحديث عنه ضل حتى هذا اليوم ضعيفاً .
بصراحة شديدة أقول : إن السعودية نجحت سياسياً ، لكنها فشلت إعلامياً ؛ وبصراحة أشد أقول : إن حكومة قطر حتى الآن فاشلة سياسيا لكنها ناجحة إعلامياً.
وبالمقاييس المعاصرة : الانتصار السياسي وحده لا يكفي .
السعودية منتصرة سياسياً لأنها أحسنت استغلال التَّغَيُّر في السياسة الأمريكية حيث من الواضح من مواقف ترمب في حملته الانتخابية وبعد توليه المنصب أنه غير مقتنع بسياسة تغيير الخرائط ؛ ربما [رأي خاص]يقبل بفكرة انفصال أكراد العراق باعتبارها أصبحت ناضجة ؛ لكنه غير موافق على المضي قدما في غيرها ؛ فقد صرح في حملته الانتخابية بأن غزو العراق سنة ٢٠٠٣كان أسوأ قرار اتخذته الولايات المتحدة ؛ ويرى أن بإمكانه جلب الأموال للولايات المتحدة دون حاجة للعبث بالعالم ؛ والسعودية ترى أن دفعها للأموال في صفقات تجارية وصناعية لأمريكا خير من صرفها كخسائر في مقاومة مشروع التقسيم والاستنزاف الاقتصادي ؛ ولم يكن اتخاذ السعودية قراراً كهذا في حق حكومة قطر لتسمح به الإدارات الأمريكية السابقة التي كانت تستفيد منها في عمليتَيٍ الاستنزاف والتحضير للتقسيم .
ويبدو أن قيادة قطر إما لم تفهم هذا التغير في السياسة الأمريكية ، وإما أنها لا تزال على أمل أن تنجح عشرات القضايا المرفوعة على ترمب في إسقاطه ؛ لأن استمرار مشروع الشرق الأوسط الجديد وما ينجم عنه من رعاية للفوضى وتسليط إيران على المنطقة لايزال مطلوباً كما يبدو ممن ينصبون أنفسهم حكومةَ العالم الخفية ؛ ولهذا السبب حضرت هيلاري كلينتون إلى مؤتمر بلدربيرغ الأخير ولم يحضر ترمب ؛ وكما يقول المراقبون فإن الذي يحضر هناك هو المرشح المدعوم ماسونياً .
وأعتقد أن مسارعة السعودية في اتخاذ إجرائها كان أيضا تحسباً لأي تغير يطرأ في الولايات المتحدة ؛ الخلاصة أن السعودية منتصرة سياسياً .
وأما فشلها إعلاميا فظاهرٌ من عجز الإعلام السعودي عن إيجاد اصطفاف نخبوي حول القرار ، وبالتالي -بل من بابِ أولى- لم يُوجِد جماهيرية للقرار في العالم الإسلامي.
والحقيقة : أننا تعودنا من إعلامنا عجزه عن الانتصار لقضايا بلادنا منذ عام ١٤١١ومع ذلك ففي أزمة الكويت وبالرغم من ضعف التقنية الإعلامية آنذاك إلا أننا بتلفزيوننا وصحافتنا كنا أفضل منا الآن ، فما هو السبب ؟
داخلياً: نجد أن أكثر الوسائط الإعلامية وبخاصة الصحافة وكثير من الكتاب الذين تولوا مسؤولية التهييء للموقف الرسمي قبل صدور القرار والترويج له بعده ،هم مِن أصحاب الخصومات مع المجتمع ، والذين لهم تاريخ في حفر الخنادق بين المجتمع والإعلام ، بل وبين المجتمع والدولة ؛ فمنهم من عُرِف بمهاجمة فتاوى فقهية عليها العمل أو مُسَلَّمات شرعية ،أو أعراف مجتمعية ،أو مؤسسات دينية ،أو المساهمة في حملات إعلامية ضد شخصيات مجتمعية أو دعوية محبوبة كأعضاء في هيئة كبار العلماء ؛وفي المقابل عُرِفُوا أيضا بالمناصرة والمطالبة بأشياء مما يمقتها المجتمع .
وأياً ما كان موقفنا الشخصي من هؤلاء الكتاب والإعلاميين إلَّا أن واقعهم هو عدم موثوقيتهم لدى أكثر المجتمع ؛ وهؤلاء واضح أن الإعلام منذ خمسة عشر عاماً قد حشدهم في داخله لأغراض معينة ، والحق أن هذه الأغراض قد اسْتَهْلَكَت شخصياتِهم حتى أصبحوا ضرراً على كل قضية يناصرونها ؛ ولذلك ظهر في أدائهم الكثير من الإسفاف والخروج عن نص وروح البيان المسؤول الذي أعلنت فيه الدولة قرارها السيادي ؛ وهو بيان والحق يقال صِيغ بدقة وعناية وكان حرياً بالإعلاميين أن لا يخرجوا عن الانطلاق من مضامينه في كل نقدهم لموقف قطر ؛ وهذا ما حدث عكسه حيث وصل الأمر من عدم مراعاة مضمون البيان إلى تقويل وزير الخارجية مالم يقله في ألمانيا بخصوص حماس والإخوان.
وأما إسلامياً فمنابر الإعلام المحسوبة على السعودية والتي تجندت لإيضاح القضية تحضى بنسبة مشاهدات كبيرة حقاً ،لكنها مع ذلك تحمل رسالة مجافية للرسالة الدينية والأخلاقية التي قامت عليها المملكة ؛ لذلك فارتباط قضايا الرأي العام العربي والإسلامي بهذه الوسائط يعطي المشاهد انطباعاً بأن المنطلقات التي تعتمد عليها السعودية في هذه القضايا يتفق مع المنطلقات الليبرالية والبراغماتية التي تصدر عنها رؤية هذه المؤسسات الإعلامية ، وبنت عليها قنواتِها؛ فجاءت للأفلام الأمريكية ، والمدبلجة الساقطة ، والدراما غير النظيفة وتلفزيون الواقع المبتذل ؛ فكان من المستحيل أن تُقنع مسلماً أن مؤسسات بهذه الإنتاجية يصح الرجوع لها في تحديد المسلم الوسطي من المتطرف ، أو الموقف السياسي الشرعي مما ليس كذلك .
هناك فرق كبير وشاسع جداً بين وسائط إعلامية قادرة على أن تُقَدِّم لك خبراً ، ووسائط إعلامية قادرة على أن تقدم لك قضية ؛ وللأسف فالإعلام الذي يقف اليوم مع السعودية هو إعلام ربما يستطيع أن يقدم خبراً ، لكنه يستحيل عليه أن يحمل قضية؛لأن إعلام القضية هو ذلك الإعلام الذي يأتي بقيمة متوافقة أو خادمة لِقِيَم الأمة التي يريد أن يوصل صوته إليها ؛ أما الإعلام الذي يأتي بِقِيَم يصارع بها قِيَم الأمة فلا يمكنه أبداً أن يحمل قضاياها .
إن الإعلام في عصرنا الحاضر هو الوجه الذي توصف به الدول والشعوب والحضارات ، وإن ارتباط السعودية وعدم نأيها بنفسها عن كل وسيلة إعلامية أو كاتب لا ينتمي إليها قِيَمِيَّاً وإن انتمى إليها جسداً ونسباً سيجعل الأمة الإسلامية تصف المملكة بكل مواصفات ذلك الإعلام الذي فهمت أنه وَجْهٌ لها ، وشيئاً فشيئاً سيؤثر هذا على المعنى العظيم الذي يُجِل المسلمون هذه الدولة من أجله وهي كونها آخر معاقل الدين الصحيح عقيدة وحكماً وأخلاقا.
       إن فشلنا الإعلامي في إبراز مكاننا من الحق في مواجهة أشقائنا في قطر يجعلنا نتوجس أن لا تستطيع مواجهة من هم أبعد عنا آصرةً ودينا وإقليماً ؛ هل سنعمل على الاستفادة من هذا الفشل الإعلامي ونجعله الأخير ؟
أرجو ذلك .
د محمد السعيدي
الأحد - 23 رمضان 1438 هـ , 18 يونيو 2017 م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..